في الإحباط الثّوريّ
فئة : مقالات
ما إن يتولّد الزّعم بأنّ ثورة ما قد نالت من نقيضها، عبر إسقاطه أو الانقلاب عليه أو تنحيته أو زحزحته عن مركز السّلطة، حتّى تنطلق موجات الإحباط من تعثّر حصول المنتظَرَات السّابقة، ويبدأ الواقع في الظهور على حال من الاستعصاء، وبأعتى ممّا توهّمته الأنفس الثّائرة، فإذا بالّذي بدا مُمكن النَّيْل بعِيدٌ بُعْد المصبّ عن منابع النِّيل، فهل تكون موجات الإحباط تلك شرط لزوم لكلّ نزوع أو إنجاز ثوريّ؟ هل نحن بصدد أمر محايث لكلّ ثورة سياسيّة؟ وإلى أيّ حدّ يمكن القول بإحباط ثوريّ مؤسّس؟
تسعى الثّورة إلى اختزال الزّمن إلى حدوده القصوى، فيُنظَر إلى الأحداث كما لو أنّها محض مطمح إراديّ، وأنّ الإرادة الثّوريّة هي ضربة القدر الوحيدة لصنع العزائم والغنائم، فإذا بالأحداث تفقد ارتباطها الشّرطيّ والظّرفيّ بالزّمن التّاريخيّ، فتبدو كما لو أنها هيّنة الصّنع، وتغدو المطامع - أيضًا - كما لو أنّها طيّعة الوضع.
الثّورة روح انقلاب وإسقاط؛ بل حتّى التذاذ بهدم كيان قائم؛ قاتم في منظور شعلتها الواعدة، وقبل أن تجد نفسها على موعد مع إحباطها، ذلك الّذي قد لا تعيه؛ فهي لا تدرك من حالها - حتّى ذاك الحين - سوى أنّها نتاج مسلسل إحباط قهريّ سابق دقّت ساعة إيقافه، بيد أن ما لا تعيه كثير من الثّورات هو أنّها ليست لحظة قطع مطلق مع واقع سابق - البتّة - إنّها انشداد إليه بنحو ما، ولعلّ ذلك ما تفيده دلالتها اللّغوية؛ حيث معنى "العودة إلى نقطة البدء" وكذا "الدّوران المرتَدّ"، وهو المعنى الّذي يتأكّد حتّى فزيائيًّا حين تدل الثّورة على دوران الجسم دورة كاملة حول محوره، أو حركة الجِرم الفلكيّ بعودته إلى نقطة من مداره[1].
ومتى شاع أنّ الثّورة السّياسيّة هي أمر مخالف للثّورة بالمعنى الفيزيائيّ الصّارم، الّتي لا تعني أكثر من العود على بدء؛ فإنّ ما يعدّ "انتقالًا عنيفًا ومفاجئًا من نظام سياسيّ إلى آخر"، (وذلك معنى الثّورة سياسيًّا)، هو - أيضًا - ليس قطعًا لا رجعة فيه، ولا يبرأ - بدوره - من حال حركة عود كتلك، وتلكم الحركة الّتي تتّخذ أشكالًا وألوانًا مراوغة، يكتنفها كثير من "اللّف والدّوران"، هي ما نسمّيه - بحال الإحباط الثّوريّ للثّورة - إحباطها المؤسّس الّذي يحايث حركتَها عينَها، وما لم تستوعب ما قد يعدّ شرطًا لها، فإنّ مصيرها التّهاوي في العبث أو الهوس الثّوريّ الدّائم لدى صانعيها؛ بل الانغمار في تكرار الانكسار.
1 - أي إحباط مؤسِّس؟
الحاصل أنّ ما تزعمه الثّورة تغيّرًا أو كسرًا في سير الأمور، قد لا يعدو أن يكون كسرًا مزعومًا، لأنّه لا يطال الانتظام الكلّيّ القائم للأشياء، فليس الأمر وقفًا على فاعلين يختَزَلون - غالبًا - في أشخاص ذوي إرادات صادقة؛ إذ ها هنا شبكات لحصول الفعل؛ شبكات تجسّدها الدّوائر والظّروف الموضوعيّة والذّاتية، التّاريخيّة والطّبيعيّة الّتي تدفع بحدوث الفعل على نحو ما، وكذلك الحال بالنّسبة إلى إدراكه أو قراءته، وفي الحقل السّياسيّ تنتظم تلك الشّبكات من إرادات حصاد المصالح ودفع المفاسد، من رغبات جلب المنافع ودفع المضار، من أهواء الهيمنة والاغترار بنفاذ القول والفعل في الآخرين وفق منطق (الأمر) السّلطويّ المكين، وكلّ ذلك يحدث في علاقة مع عناصر تاريخيّة قد لا تظهر على نحو صريح.
قد لا يعي الثّوار، خاصّة منهم التوّاقون إلى الإصباح على واقع جديد، هذا الإحباط المحايث لروح الثّورات والمتعلّق بالظّرف الخاصّ بالفاعلين (بمعناها الواسع أساسًا)، فيشرعون في نسبة حال الإخفاق إلى خصوم من صنعهم، ويُسقِط أسباب الفشل على أداءات وتصوّرات قد لا تعدو عن كونها محضّ ادّعاءات، وأحيانًا كثيرة ما ترتدّ إلى الأشخاص الصّانعين للثّورة، فتتحقّق المقولة الرّائجة: "تأكل الثّورات أبناءها".
ما لا ينتبه إليه؛ هو أنّ التّعثّر أو الاعتياض الّذي يعترض الثّورة لا يرجع - لزومًا - إلى إساءة الإدارة لأشواط الثّورة، أو انفراط اللّحمة الحماسيّة المبكّرة للنجاح لدى الثّوار، أو تربّص وكيْد القوى المضادّة؛ بل لعلّه العجز عن إدراك الامتناع الماكر للأوضاع بسبب عوامل نفسيّة تعتمل في النّفوس أكثر ما تعتمل في حيثيّات الظّروف، ومنها استعجال (الخير الثّوريّ)، وغياب الحنكة والصّبر السّياسيّين لحسن تصريف هذا الامتناع وفق سمك زمنيّ دقيق لا يولد الانطباع باليأس، ولا يجلب الرّيبة في الاختيارات الآليّة الأساسيّة لدى الثّوار أنفسهم، ممّا يفسح المجال للتّنازع والصّراع، وليرجع الأمر كلّه إلى عدم استيعاب واقع الإحباط المؤسّس، كواقع سيكولوجيّ.
ومثلما قد تُدخل الثّورات الواقعَ في موجات تغيير، فهي تولّد بالتّلازم موجات زاحفة نحو إحساس الإحباط، يبدو الأمر كما لو أنّه قانون لكل الثورات؛ بل كلّ التّغيّرات في أنظمة الحكم أو السّلطة، فما أن تتحقّق الانتصارات المزعومة حتّى تدخل الأوضاع في أجواء من الامتناع والتّوجّس والضّجيج الهادر بصدد عالم جديد قيّد الظّهور، لكنّه ينتصب عصي الميلاد وعسير النّشوء.
إنّ ميلاد العالم الجديد للثّورة ليس وليد ضربة هتاف جماهيريّ هائج، أو انطلاق إعصار نِقَم هائش؛ بل توجد من الأحوال ما يمتنع معه الحديث عن انبثاق ذلك العالم المأمول، وقد نبّه غرامشي (Gramsci) إلى أنّ واقع الثّورة حديثة العهد، هو واقع أزمة عميقة؛ حيث "لا يريد العالم القديم أن يموت، ولا يريد العالم الجديد أن يولد"، وغالبًا ما يكون موطن التّأزّم في الأنفس المأزومة، ولعلّ حال الاستعصاء تلك من صميم كلّ حال بشريّة؛ سياسيّة جمعيّة على وجه الخصوص؛ إذ لا يرتدّ الأمر إلى صلابة الواقع القديم فقط، الّذي قد يتلاشى بشكل من الأشكال؛ بل إلى امتناع العالم الجديد تحت تأثير التّعجّل في نيل الانتقال الذي "يتّسم تحديدًا بكثرة الأخطاء والانعطافات"، كما أكّد ذلك - أيضًا - صاحب (دفاتر السّجن).
تزعم الثّورات أنّها مخرج للأزمة، في حين قد لا تفضي سوى إلى تعقيد أكثر لواقعها، إن لم تفضِ إلى أزمات جديدة، وحين تظنّ الثّورة أنّ "الإرادة السياسيّة" هي الحجر الفلسفيّ أو الكيمياء النّفسيّة لكلّ عالم يريده النّاس، وأنّها كلّ شيء (هذا الرّأي الّذي لا يكفّ المعارضون للنظام القائم عن ترويجه)، فإنّها تهيّئ الشّرط الأوّليّ لحصول الإحباط الثّوريّ والتّعمية عن حقيقته؛ بل وحجب إمكان الوعي به، لذلك - غالبًا - ما يبدأ الثوار في تصفية بعضهم البعض اعتقادًا منهم أن الوضع يحتاج إلى إخلاص أقوى وطُهريّة ثوريّة قصوى في تجسيد تلك الإرادة، والحصاد المأمول لا ينفكّ يبتعد، وأحيانًا كثيرة ما يتجاوز نفَس الثوار.
تأخذ الحركة التّاريخيّة في التّباطؤ في وقت يظهر فيه التّاريخ متسارعًا، وما يبدو أنه قوى معاندة للإرادة، يصير منطقًا حاكمًا لها، والثّورة الخاطفة لا تصنع الواقع المختلف الخاطف؛ بل قد تضمحل إن لم تعِ منعطفات ذاك الإحباط المحايث الّذي يجد منْبَتَه ومَوْئِله في النّفوس أساسًا، وقد يعزّزه إحباط الرّهان على سلطة الدّولة الّتي يُعتَقَد - غالبًا - أن تملّكها هو مفتاح التّغيير الثّوريّ.
2 - إحباط الدولة المستبدة:
سواء كانت السّلطة (دولة) بين الأغنياء أو الفقراء (الّذين قد يغتنون بأثر ثوريّ فوريّ!) أو الأدعياء (ومنهم أدعياء الثّورات)؛ فإنها ذات سمة رجعيّة جوهريًّا، وما أن تحتضن السّلطةُ ثورة ما، حتّى تدخلها في زمن الاحتضار، وكأنّ السّلطة لعنة الثّورات، ثمّ حالما تتماهى مع جسم الدّولة حتّى تؤول إلى أحوال متوالية من الانكسار على درب الاندثار.
وبناءً على هذا النّظر؛ لعلّ الشّرّ المعاكس لخيرات الثّورة الموعودة؛ هو كيان الدولة عينها، خاصّة، تلك الّتي لم تتقيّد يومًا بمواثيق التّعاقد الاجتماعيّ الواعي والرّاشد، ونقول: (الواعي والرّاشد)؛ لأنّ أيّة شكلانيّة تعاقديّة من قبيل ما نجده في دول التّأخّر التّاريخيّ، لا يمكنها إلّا أن تجسّد استبدادًا مقنَّعا، والتفافًا ماكرًا على ما يمكن اعتباره إرادة مجتمعيّة عامّة، حتّى لا نقول: (إرادة ثوريّة شعبيّة)، والإحباط - هنا - متأصّل قد يتحقّق بوجوده الواقع المضادّ لكلّ الثّورات، وهو كيان سياسيّ سلطويّ طويل العمر، إنّه كيان الدّولة؛ إذ مهما بدا هذا الجسم مناصرًا لثورة ما، فقد يمثّل العدوّ الألدّ، والقناع السّميك المخادع الّذي يتستّر خلفه كلّ خصوم الثّورات وأعداؤها، قد تدّعي الدوّلة احتضانها لحراك ثوريّ، لكن من حيث أنّها التّجسيم المتمركز والمستبد للسلطة، فإنّها سرعان ما تطاوع نزوعها وتملّكها النّرجسيّ للسّلطة، تلك الّتي لا تقبل التّساوم)[2]، فأحرى أن يتقاسمها مع عناصر كانت منسوبة لثورة جمهور، محسوبة على عدوّ سابق للدّولة يناقض الثّورات جوهريًّا، إذن، كيف تعاكس الدّولة كلّ مسعًى ثوريّ؛ تحرريّ وجمهوريّ؟
حسب آرثر أرنولد: إنّ ما هو مدهش في فشل الثّورات، هو الاندهاش عينه؛ إذ "لا أمر مدهش سوى الدّهشة عينها"[3]، وأن يتأخّر نيل الطموحات أو يتكسّر، فذلك من صميم الإحباط المؤسّس المصاحب للثّورات، وهناك عطب أصليّ - حسب هذا الرّأي المناوئ للدّولة - مقتضاه أنّه إذا كان هناك من ثورة، فينبغي أن تواجِه كيان الدّولة أساسًا، لأنّها تجسيد لعيْن العطب متمثل في السّلطة وتمركزها، وكذا قابليّتها للتّحوّز والاختطاف من قبل أصحاب القوّة والثّروة والنّفوذ.
من شأن الدّولة أن تكون تكوينًا عقلانيًّا يسمح بتمركز السّلطة حتّى لا تبقى أو تقع في يد أحد أو جماعة، لكنّ المشكلة أنّ الدّولة تكاد لا تستقلّ بكيانها، خالصًا لها كمؤسّسة معنويّة ومادّيّة، فيكون بأسها وسلطتها مقتصرين على أدواتها القانونيّة والمؤسساتيّة، وتتمركز سلطتها في مؤسّسات تأخذ في العمل وفق انتظامات محكومة بمشروعيّة شعبيّة، فهي تتّسم بقابلية الاستحواذ والانتهاك والاختطاف من قبل أطراف قد تدّعي الانتصار لها، وكأنّ مصيرها أن لا تكون سوى (دولة) بين أيدي الأغنياء والأقوياء من النّاس، وباسم الأتباع الأغبياء أو الأدعياء منهم.
قد تكون "الدّولة: هي التّشخيص الحيّ للوطن، وحارس الميثاق الاجتماعيّ والوحدة الوطنيّة، وحامي المصالح المشتركة والأمن للجميع"[4]، ولعلّ ذلك ما يزعمه المنافحون عنها، لكنّ المشكلة أنّ الدّولة لا يستوي لها أمر إلّا بعد أن تتحوّل إلى دولة بين يدي الأغنياء والأقوياء، أو لنقل: بين يديّ التّحالف التّاريخيّ المتشكِّل من أصحاب المال والقوّة المادّيّة القاتلة "إنّها سلطة بيد البعض"[5]، وبهذا المعنى والمبنى ستكون نقيضًا أساسيًّا للثّورة، إنّها الاستبداد الذي لا يجتمع مع الحرّيّات، ولأنّ الثّورات تريد إقامة سيادة الشّعب، فإنّها ستصطدم بمن يريدون إقامة سيادتهم على الشّعب، ومن ثمّ سيادة الاستبداد، مصداقًا لقول آرثر: "تسمّى سيادة الشعب (الحرّيّة)، وتسمّى سيادة الدّولة (الاستبداد)"[6]، لذلك؛ "مهما اتّخذت الدّولة من اسم، فلن تكون - قط - دولة ديمقراطيّة بحقّ، ولا حتّى دولة ليبراليّة، بمعنى أنها خاضعة لإرادات الأمّة"[7].
إنّ هذا النّفس "الفوضويّ" الثّوريّ الّذي يقيم تناقضًا بين سيادة الثّورة وسيادة الدّولة، يعبّر عن أزمة عميقة تواجه جسم الدّولة كجهاز اصطناعيّ يُنتَظر منه تجسيد الإرادة الحقّة للشّعب، وهو تشخيص يتعدّى الأزمات والانعطافات الّتي تمرّ بها الثّورات السّياسيّة في أزمنتها الأولى، الّتي قد تتطلّب تسوية تكتيكيّة، ويتعلّق الأمر - هنا - بخلل بنيويّ، وليس بواقع مرحليّ، يحتاج إلى فهم سياسيّ يستطيع استيعاب أشكال الإحباط المتأصّلة الّتي تنتاب أنصار ثورة ما وصنّاعها، وقد يكون من ضمنها - أيضًا - وهم التمثيلية.
3 - إحباط التّمثيليّة الزّائفة:
لعلّ أحد أشكال التّأزّم البنيويّ المرافق للثّورات، هو المُرافِق للفوارق الّتي تفضي إليها الآليّة الانتخابيّة، كآليّة (ديمقراطيّة) لتمثيل الشّعب، وتلكم حالة أخرى تقدّم عنصرَ إحباط سياسيّ أساسيّ، لا يقلّ خطورة عن الدّولة، كيف ذلك؟
تنحو الثّورات السّياسيّة - ذات المطلب الديمقراطيّ - إلى إقامة مصداقيّة انتخابيّة، تريد بها تصحيح واقع التّمثيليّة، وتقويم عيوبها، لكن ما تكشف عنه الانتخابات هو قيام جهاز سياسيّ مواز للشعب؛ وهو جهاز ممثِّليه الّذين قد يمثّلون دور تمثيليّة في إطار تزييف سياسيّ ضمنيّ أو صريح.
بذلك يضاف إلى الإحباط المتولّد عن وجود الدّولة - كونها كيان استبداديّ يصادر ويستحوذ على السّلطات - إحباط التّمثيليّة الزّائفة، وهي معضلة كبرى تواجهها الآليّة الدّيمقراطيّة في الحكم، ذلك أنّ التّمثيليّة النّيابيّة تضع مقولة المشاركة السياسية على محكّ المصداقيّة، وليس بمقدور الاختزال الكمّي عبر نظام النيابة أو التمثيلية أن يجسّد التّعبير (الصّادق) عن صوت "الإرادة العامّة؛ إذ - غالبًا - ما يُستعاض عن المواطن بدل تمثيله أو النيابة عنه، ويحدث أن يُمثّل من قبل أناس ليسوا هو، لهم أفكار ومصالح أو غرائز متعارضة كليًّا مع أفكاره وحاجاته وإرادته، فلا يستسيغ كيف لهؤلاء الممثِّلين المزعومين للشّعب، ألّا يزعزعوا أسس النّظام الرّاهن إلّا بإسناده كلّما اهتزّ، ولا يقْلبونه إلّا بمدّ يد العون إليه كلّما تمايل"[8].
مادام هناك مسار تُفضي عبره التّمثيليّة إلى قيام سلطة؛ فإنّ تتويج الحالة الإحباطيّة يتجسّد في ظهور حكّام، بمجرد ما يحوزون تلك السّلطة حتّى يتحوّلوا إلى أسياد مطلقين بكامل القوى الحيويّة، وبكامل الموارد الوطنيّة، وهم لا يمتّون إلى الشّعب بصِلة[9]، ليظهر أنّ تلك الحالة وليدة انفصال - شبه تامّ - بين الشّعب وممثليه، "اللذين - ومنذ يوم انتخابهم - لا يخضعون سوى لضميرهم"[10]؛ بل يسهمون في إفراز - أو على الأقل - المشاركة في إقامة نظام استبداديّ، كتب آرنولد:
"يقوم كلّ نظام استبداديّ، وتسلّطيّ، وتحكّميّ - وهي ثلاث مترادفات - على الفكرة الخرقاء الّتي مفادها؛ إنّ الشّعب يمكن أن يُمَثَّل بآخرين كما يمَثّل بنفسه، والحاصل أنّ لا أحد يمكنه تمثيل الشعب؛ إذ لا أحد أفضل منه، ويمكنه معرفة حاجاته وإراداته"[11].
ويعود استعصاء تمثيل الشّعب - في نظره - إلى معطى نوعيّ يتمثّل في أنّ الشّعب تجريد، فيما يُنتَظر من الممثّلين المزعومين أن يمثّلوا مصالح محدّدة ومحصورة ومحدودة، ومما يتماشى مع هذا النّظر، ما شدّد عليه جان جاك روسو نفسه في حديثه عن تعذر التّمثيل للشّعب، فمن حيث إنّه (الشّعب) إرادة عامّة، فلا إمكان حينئذ لتمثيل السّيادة تمامًا، كما لا يمكن سلبها، لأنّها تقوم على أساس تلك الإرادة العامّة، ولا يمكن لهاته أن تُمَثَّل قط، فإمّا أن تكون هي عينُها أو تكون شيئا آخر، ولا وسط بين ذلك، ونوّاب الشّعب ليسوا ممثّلين له؛ بل ليسوا سوى مفوّضين، ولا يمكنهم البتّ القطعيّ في أيّ شيء، ثمّ إنّ القانون الّذي لا يصادق عليه الشّعب يبقى واهنًا، ولا يعدّ قانونًا البتّة[12].
تعدّ فكرة التّمثيليّة ذات صبغة حديثة، ويردّها روسو إلى الحكومة الفيودالية، وينوّه - بالمقابل - بالمستوى العالي للحرّيّة الّذي تمتّعت به بعض الشّعوب القديمة؛ كالرومان والإغريق، في ممارستها للسيادة المباشرة، وإننا نعلم كيف كانت الساحة العمومّية ساحة حقيقيّة للبث المباشر والفوريّ والحرّ في قضايا الشّعب، دونما حاجة إلى وسطاء، ممثِّلين كانوا أو مفوَّضين، فكلّ "ما كان على الشّعب القيام به يقوم به بنفسه"[13].
إنّ الرّهان - هنا - هو وجود الحرّيّة الشّعبيّة من عدمها، فإمّا أن يمارس الشعب سيادته كاملة أو ينعدم حقّه فيها، ومهما اختلفت الرّهانات، فإنّا نلفي التقاء بين موقف آرنولد وروسو بخصوص "آفة التّمثيل"، إنّها تتعارض مع حرّيّة الشّعب، وعلى هذا الاساس، "ما إن يتّخذ الشّعب ممثِّلين له، حتّى يفقد حرّيّته، ولن يكون حرًّا البتّة"[14]، وكم هو قاسٍ ذلك الإحباط الّذي يمكن تبيّنه لدى روسو بسبب زوال الحالة الطّبيعيّة.
يظهر أنّ الإحباط الثّوريّ هو حال محوريّة مركّبة تصاحب كلّ مشروع تحوّل ثوريّ، ويفيد مشاعر الانكسار والعسر والتلكّؤ الّتي تعترض الإرادة الثّوريّة، لكنّ الأمر يتجاوز المعطى السّيكولوجيّ الّذي يرغم الثّوار على معاودة الدّوران حول محور سابق، من قبيل زعم (خطوة إلى الوراء من أجل خطوتَين إلى الأمام)؛ بل نكون بصدد شكل للإحباط المؤسّساتيّ الّذي يتجسّد في الدّولة ذات السّلطة المركزيّة القابلة للتحوّز والانحياز، مثلما يتمظهر - أيضًا - في نظام التّمثيليّة الزّائفة، فلا تكاد الثّورات تستحصل هدفها حتّى تعاني مدًّا استبداديًّا للسّلطة قد تصير طليعتُها نفسُها صانعة له.
إذن، لا سبيل إلى تقبّل حال الإحباط الثّوريّ إلّا عبر الوعي به في بعديه النّفسيّ والمؤسّسيّ، وتبيّن أشكال حصوله.
والثّورة السّياسيّة - بمعزل عن كلّ حسّ فوضويّ يرهن نجاح الثّورة بالقضاء على نقيضها المتجسّد في السّلطة المركزيّة المستبدّة وفي صناعة المؤسّسات الزّائفة - ستبقى وعدًا دائمًا بالحرّيّة السّياسيّة والمساواة الاجتماعيّة، ولعلّ قدرها الإحباط المؤسِّس مادامت مطمحًا قوّيًا لإقامة واقع الاستقلال الذّاتيّ الحقيقيّ.
[1]- Collectif, Dic. La pratique philosophique AZ., Paris, Hatier, 2000, p 389.
[2]- كتب أرنولد (آرثر): "ليس الشّرّ أن تُحكم من قِبل هذا أو ذاك - مَلِك مطلق أو دستوريّ- جمهورية ذات رئيس أو بدونه؛ بل يكمن الشّرّ- أساسَا- في أنّ السّلطة لا تُقتَسم، والقوّة لا تُقتَسَم، وإذا كانت الدّولة تملك السّلطة، فإنّكم لا تملكونها، وإذا كانت الدّولة تملك القوّة، فإنكم لا تملكونها، والحال أنه "إذا كنتم لا تملكون سلطة ولا قوّة"، فماذا تملكون؟ لا شيء.
Arnold (Arthur), L’état et la révolution, France, Gémenos, Ed. Res- Publica, 2009, p.132.
[3]- Ibid., p 63.
[4]- Ibid., p 132.
[5]- Ibid., p 67.
[6]- Ibid., p.86.
[7]- Ibid., p.71.
[8]- Ibid., p p 64- 65.
[9]- Ibid., pp 65.
[10] -Ibidem.,
[11]- Ibid., p 72.
[12]- Rousseau( J.J.), Du contrat social, Paris, Ed. Bordas, 1985, p.168.
[13]- Ibid., p 169.
[14]- Ibid., p 170.