في الاعتراف بعنصريتنا الإثنو- دينية تحليلٌ مفاهيميٌّ أولـيٌّ


فئة :  أبحاث محكمة

في الاعتراف بعنصريتنا الإثنو- دينية تحليلٌ مفاهيميٌّ أولـيٌّ

في الاعتراف بعنصريتنا الإثنو- دينية تحليلٌ مفاهيميٌّ أولـيٌّ

من المألوف الحديث عن وجود ثلاثة مواضيع أساسيةٍ، على الأقل، تتمحور حولها التابوهات الأساسية في الثقافة العربية الإسلامية، عموماً: الدين، الجنس، السياسة[1]. وعلى الرغم من أنَّ المس بالتابو السياسي (العمل على التخلص من الاستبداد والدعوة إلى الديمقراطية وكشف فساد أفراد السلطة الحاكمة وسلبياتهم) يعرِّض الإنسان إلى أخطارٍ أكبر وأكثر عموماً، فإن التوظيف السياسي للقيم الأخلاقية والاجتماعية المتعلقة بالدين والجنس يجعل من يمس التابوين، الديني والجنسي، في مواجهةٍ ليس مع المجتمع والسلطات الدينية فحسب، بل ومع السلطات السياسية أيضاً. ويبدو التداخل بين هذه التابوهات الثلاثة، في صورةٍ نموذجيةٍ، في التابوهات المتعلقة بالدين والطائفة والإثنية. فالطائفية التي تبدو، للوهلة الاولى فقط، مرتبطةٌ أساساً بالدين وبوجود طوائف متعددة، هي (كما بين جوزيف ضاهر بوضوح في مقاله التحليلي المعنون «الثقافة الشفوية الشعبية والطائفية، تحليل مادي»[2] ظاهرةٌ سياسيةٌ وأداةٌ بيد الساسة أكثر من كونها ظاهرةً دينيةً أو ناتجةً عن الدين و/ أو التدين. وقد أظهرت الشهادات المنشورة في هذا الملف[3]، الصلة القوية بين التابوين الديني/ الطائفي والجنسي. فالصورة النمطية الموجودة لدى كل طائفة عن الطوائف الأخرى تتضمن عناصر جنسية سلبية غالباً: فهذه الطائفة تعبد الفرج، وتلك تقيم حفلاتٍ جنسيةً يمكن فيها للشخص أن يمارس الجنس مع أمه أو أخته أو ابنته، وطائفةٌ أخرى يمارس شيوخ الدين فيها الجنس مع تلاميذهم ومريديهم... إلخ.

في إطار الحرية التي امتلكها السوريون الذين ما عادوا خاضعين لسلطة تنظيم الدولة الأسدية، نتيجةً لنزوحهم أو لجوئهم إلى خارج سوريا، صار ممكناً لهؤلاء السوريين فتح ملفات التمييز الطائفي والديني والإثني والمناطقي... إلخ، ووضعِها موضع نقاشٍ علنيٍّ جديٍّ وصريحٍ، بعد سنواتٍ كثيرةٍ من التعرض إلى القمع والكبت الشديدين في هذا الخصوص. وعلى هذا الأساس، وعلى أساس ما يرى محمد ديبو أنه «انبعاث هائل للديني والطائفي والمذهبي والقومي» في سوريا وغيرها، يمكننا أن نفهم قيام موقع «حكاية ما انحكت» بفتح ملف الثقافة «الشفوية والهوية في سوريا»، والهادف إلى «فهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سوريا»[4].

في قراءتي للنصوص التي نشرها الموقع في هذا الخصوص (ثلاثة عشر نصّاً، بالإضافة إلى نص الإعلان عن الملف، ونص التحليل المادي للنصوص و/ أو لظاهرة الطائفية)، لن أسعى إلى تناولٍ مباشرٍ لظواهر العصبيات الطائفية والدينية والإثنية والمناطقية والعشائرية إلخ، بل سأركِّز على تحليل الفعل الذي يتناول هذه الظواهر في النصوص المنشورة. هل يمكننا فهم هذا الفعل على أنه بوحٌ و/ أو إقرارٌ و/ أو اعترافٌ أم كل ذلك معاً، أم لا شيء من هذا على الإطلاق؟ هل يساعدنا هذا الفعل على امتلاك فهمٍ أكبر لهذه الظواهر، أم إنه يكتفي، غالباً، بإبراز سلبياتها فقط؟ هل يخترق هذا الفعل المحظور فعلاً؟ وبأي معنىً؟ وما المحظور تحديداً في هذا الخصوص؟ وما الذي يمكن لهذا الفعل أن يخفيه في كشفه للمستور وفضحه للمحظور؟ وهل يمكن التمييز بين درجاتٍ و/ أو أنواعِ من فعل ارتكاب المحظور؟ وفي إطار مناقشة بعض الإجابات الممكنة عن مثل هذه الأسئلة، سأحاول التعبير عن بعض أهم الأفكار والانطباعات التي أثارتها في نفسي النصوص/ الشهادات المنشورة. وأود الإشارة إلى أن الأفكار والانطباعات التي سأعرضها هي قراءة للنصوص المنشورة، بوصفها كلّاً، من دون أن تكون قراءةً لأي نصٍّ مفردٍ بعينه منها. وحين أود الإشارة إلى ارتباط فكرةٍ ما بنصٍّ محدّد، سأقوم بتوثيق هذه الإشارة، لتوضيح هذا الارتباط.

1. كسر المحظور بوصفه اعترافاً؟

أصبح مألوفاً وشائعاً، إلى درجة الابتذال ربما، القول بأهمية الحديث الصريح عن كل أشكال العنصرية[5]الكامنة أو القائمة في سوريا و/ أو بين السوريين وفي فكرهم وسلوكهم. لكن ما ليس مألوفاً كثيراً، في السياق الحالي، الإشارة إلى أنَّ كسر المحظور الطائفي وفتح «الصندوق الأسود السوري» يمكن أن يحصل بطريقةٍ سلبيةٍ تفضي إلى نتائج قد لا تقل سوءاً (كثيراً) عن وجود المحظور أو التابو ذاته. ولهذا، فإننا سنولي عنايةً خاصة لطريقة كسر المحظور أو التابو في النصوص/ الشهادات، ومضمون هذا الكسر، وبعض دلالاته ونتائجه الفعلية و/ أو الممكنة. ونحن نقصد بالعنصرية هنا ليس مجرد إعطاء الشخص الأولوية لانتماءٍ عضويٍّ ما (الانتماء إلى جماعة إثنية أو دينية أو طائفية أو قبلية إلخ)، وإنما التنظير لهذا الانتماء وممارسته على أساس التمييز السلبي ضد الجماعات الأخرى المختلفة. وهذا التضاد مع فكرة الاختلاف وتعيناته هو المؤسِّس للفكر العنصري الذي يحوِّل الاختلاف المساواتي الأفقي إلى تراتبيةٍ قيميةٍ عموديةٍ، تحتل فيها انتماءات الذات المتبنية لهذا الفكر أعلى المراتب، فيما تقع الانتماءات الأخرى أو انتماءات الآخرين في أسفلها، بالمعنى القيمي للكلمة.

ويمكن القول إن النصوص/ الشهادات تتضمن بوحاً، أو هي بوحٌ، بالدرجة الأولى. هي بوحٌ؛ لأنها تكشف ما كان سراً، وتبيح ما كان ممتنعاً، وتفصح عما كان مكتوماً، وتجعل مباحاً ما كان محظوراً، وهي فضفضةٌ؛ لأنها حديثٌ عما تضيق أنفسنا به وبسببه. وإن ارتباط كسر المحظور بالبوح هو ما جعل محمد ديبو يشير، في تقديمه للملف، إلى أن المشاركة في الملف مفتوحةٌ لكل من «يجد القدرة في نفسه على البوح واختراق المحظور»[6]. وحسناً فعل، حين أشار، في السياق نفسه، إلى أن الكتابة، في هذا الخصوص، تتطلب الشفافية والوضوح والصدق، إذ لا يستقيم وجود البوح مع الكذب أو الكتمان والإخفاء أو التعتيم والضبابية.

لكن كسر التابو والحديث عنه، في السياق السوري، لا يقتصر على أن يكون بوحاً. إنه يتضمن ما هو أكثر من ذلك، إنه يتضمن إقراراً. فهو إقرارٌ بوجود هذه السلبية أو تلك، إنه إقرارٌ بما اعتدنا على إنكار وجوده. والإقرار صادقٌ، من حيث هو مجرد إذعانٍ للذات وتوقفها عن إنكار واقعةٍ مؤكدةٍ وحقيقةٍ موضوعيةٍ مثبتةٍ. ومن هذا المنظور، لا يبدو أن الحديث عن الطائفية وأسرارها يدهش الكثيرين؛ لأن هذا الحديث يتضمن، من وجهة نظر كثيرين، بوحاً وإقراراً بما نعرفه أو نتوقعه عموماً سلفاً.

إن كسر التابو من خلال البوح والإقرار هو ما يمكن أن نسميه اعترافاً. فالاعتراف هو ما يمكن أن يجمع تماماً بين هذين الأمرين. ولا تبدو الاعترافات المتعلقة بالعنصرية بعيدةً عن تلك التي نجدها لدى أعلام نصوص الاعتراف (اعترافات جان جاك روسو[7]، مثلاً وخصوصاً). وكما هو الحال مع مفهوم الإقرار، يتم استخدام مفهوم الاعتراف، في اللغة العربية، حين يكون هناك إفصاحٌ عن سلبياتٍ ما: اعترف بجريمته، اعترف بخطئه، اعترف بذنبه... إلخ. الاستثناء الطريف، والوحيد ربما، في هذا الخصوص، يكمن في أننا نربط عادةً بين التعبير عن مشاعر الحب والاعتراف، فنقول: «اعترف بحبّه»، أو كما يقول وائل كفوري: «بعترفلك إنّي بحبك....». ويبين هذا المثال الاستثنائي الصلة القوية بين مفهومي الاعتراف والبوح؛ فالاعتراف بالحب هو بوحٌ بمشاعر الحب، وإقرارٌ بوجود هذه المشاعر، يشبه الإقرار باقتراف ذنبٍ ما! وفي «المجتمع العنصري»، يبدو الشعور بالحب جريمةً كاملة الأركان، عندما يتوجه إلى شخص آخر ينتمي إلى «الجماعات الأخرى» عموماً. والاعتراف بالحب، حينها، اعترافٌ بجريمةٍ لا يمكن الصفح عنها في أحيانٍ كثيرةٍ[8]. السؤال الأساسي هنا: كيف (يمكن أن) نحبّ من يكرهنا ونكرهه أو ينبغي علينا أن نكرهه؟

2. نوعا الخطاب المنتهك للمحظور

إذا كان انتهاك التابو أو كسر المحظورات من خلال الكتابة هو فعل اعترافٍ، فما الذي نعترف به تحديداً؟ قلنا إن الاعتراف يتضمن إقراراً بذنبٍ ما أو بسلبياتٍ ما، فما السلبيات أو الذنوب التي نعترف بوجودها، في اعترافاتنا المنتهكة لتابو العنصرية؟ ولدى من تحديداً توجد هذه السلبيات؟ وهل كل الخطابات، التي تتحدث عن وجود العنصرية في سوريا، تنتمي إلى ما أسميناه «خطاب الاعتراف»؟

ما نعترف به عادةً، في هذا الخصوص، هو أن العنصرية موجودةٌ ومنتشرةٌ في سوريا، لدرجة كبيرةٍ وعلى مستويات عديدةٍ. هذا ما كان عليه الحال منذ مدةٍ طويلةٍ، لكنه ازداد كمّاً في الفترة التي تلت قيام الثورة، لدرجة جعلت محمد ديبو يكتب «مبالغاً»: «الديني والطائفي والمذهبي والقومي [...] بات يحتل كامل مساحة السياسة والحرب في سورية وغيرها»[9]. ويمكن للحديث عن هذه «العنصرية السورية» أن يتخذ شكلين رئيسين: «الخطاب العنصري» و«خطاب النقد الذاتي».

يتمثل «الخطاب العنصري» في القول بوجود نزعةٍ عنصريةٍ قويةٍ في سوريا، لكنها توجد، تحديداً أو خصوصاً أو فقط، لدى «الطرف الآخر» وليس لدينا «نحن». ووفقاً لهذا الخطاب، ومن ناحيةٍ أولى، يقرّ السني بوجود نزعة طائفية في سوريا، لكنه يرى أن مكمنها ومصدرها الأساسي أو الأهم يكمن لدى «الطوائف الكريمة» عموماً، ولدى العلوية والشيعة خصوصاً، وليس لدى السنة؛ ومن ناحية ثانيةٍ، يقر الكردي بوجود عنصريةٍ إثنيةٍ أو عرقيةٍ لدى السوريين، لكنه يرى أنها غير موجودةٍ، عموماً، لدى الكرد، بل هي تتجسَّد، تحديداً أو بالدرجة الأولى، في سلوك العرب (و/ أو الأتراك) واعتقاداتهم وأخلاقياتهم عموماً، وتجاه الكرد خصوصاً؛ ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، يشير المسيحي إلى وجود عنصريةٍ دينيةٍ، لكنه لا يرى هذه العنصرية إلا لدى المسلمين. ولا تختص جماعةٌ معينةٌ بهذا الخطاب، بل تتقاسمه كل الجماعات وتتساوى فيه كيفاً، مع وجود اختلافاتٍ كميةٍ ثانويةٍ فقط. ويبلغ هذا الخطاب العنصري ذروة سوئه وانحطاطه، عندما يتحدث عن وجود عنصريةٍ ماهويةٍ لدى الطرف الآخر. ويتجسد الخطاب العنصري الماهوي في القول إن عنصرية «الطرف الآخر» نابعة من طبيعته أو طبيعة اعتقاداته و/ أو ثقافته، فهي ليست ظاهرةً تاريخيةً عابرةً، ويمكن أن تزول، بل هي ماهيةٌ ثابتةٌ عابرةٌ للتاريخ، ولا- تاريخية أيضاً. فالمسلم متعصبٌ ومتخلفٌ دائماً، والكردي غبيٌّ وعنيدٌ بطبيعته، والشيعي حاقدٌ ومتعصبٌ بالضرورة... إلخ، وإذا كان هناك استثناءاتٌ، فإن استثنائيتها تؤكد القاعدة، ولا تنفيها.

هذا الخطاب ليس اعترافاً، من جهةٍ، وقد لا يكون، على الأرجح، كسراً للمحظور، من جهةٍ أخرى. فهو ليس اعترافاً، ولا حتى إقراراً أو بوحاً، بالمعاني التي أشرنا إليها؛ لأن الاعتراف يقتضي، بالضرورة، أن تكون الخطايا أو الذنوب أو السلبيات التي نقر أو نعترف بوجودها هي خطايانا وذنوبنا وسلبياتنا، نحن الذين نقوم بالاعتراف. أما الاقتصار على الحديث عن عنصرية الآخرين، فهو يشير إلى عنصريةٍ ما في هذا الخطاب، وإلى عنصريةٍ ما لدى صاحبه، أيضاً، على الأرجح. وفي هذه الحالة يبدو أن كلامنا يفضحنا أكثر من قيامه بفضح الآخرين؛ وهو يقولُنا أكثر مما نقولُه، ويعبِّر عنا أكثر من تعبيرنا به. وقد لا يكون بالإمكان تصنيف هذا الخطاب على أنه كسرٌ للمحظور غالباً، إذا علمنا أنه، من حيث المبدأ أو فعليّاً، ليس من المحظور أو النادر، لدى أي جماعةٍ، أن يتضمن الحديث، بين أفرادها، عن الجماعات الأخرى، إشارةً إلى سلبيات تلك الجماعات وعنصريتها ودونيتها وظلمها، في مقابل التشديد، تشديداً مباشراً أو غير مباشرٍ، على إيجابيات الجماعة التي ينتمي إليها هؤلاء الأفراد وانفتاحها ورقيّها ومظلوميتها.

ولا يقوم هذا الخطاب، غالباً، بدورٍ إيجابيٍّ (كبيرٍ) في عملية كسر المحظورات وانتهاكها. على العكس من ذلك، تماماً، إن عنصرية هذا الخطاب هي، غالباً، جزءٌ من التابو أو المحظور الذي ينبغي نقده وكسره واختراقه وتجاوزه. فهذه العنصرية تستثير خطاباتٍ عنصريةً مقابلةً، وتعزز، «في النهاية»، حضور الخطاب العنصري وتزيد من انتشاره. إن كسر المحظورات في خصوص الخطاب العنصري، يعني، فيما يعنيه، الكشف عن حضور هذا الخطاب في الصورة النمطية التي يشكلها كل طرفٍ عن الأطراف الباقية. وهذا ما حاوَلت فعله، عموماً، النصوص/ الشهادات، حيث بيَّنَت مدى العنصرية التي تحفل بها الصور النمطية التي تمتلكها «الجماعات السورية» عن بعضها بعضاً.

إن أكثر ما يهمنا، من فهمنا لهذا «الخطاب العنصري»، في السياق الحالي، هو أن كسر تابو العنصرية واختراق المحظورات، في هذا الخصوص، لا يحصل، أساساً أو بالدرجة الأولى، من خلال الحديث عن عنصرية الآخر وسلبياته، وإنما يحصل تحديداً أو خصوصاً، عندما يتخذ شكل الاعتراف: الاعتراف بعنصريتنا نحن الذين نقوم بالاعترافات. وهذا، تحديداً، ما يبدو أنه يحصل، عموماً، في الشكل الثاني من الحديث عن العنصرية، وهو الشكل الذي يتخذ صيغة «النقد الذاتي». لكن ما معنى النقد (الذاتي)، في هذا السياق؟ وما المقصود بالذات المنقودة تحديداً؟

يتمثل المعنى العام للنقد في كونه محاكمةً لظاهرةٍ ما، ومناقشة إيجابياتها وسلبياتها، وإبداء الرأي في خصوصها، انطلاقاً من هذه المناقشة المتوازنة التي لا تركز على الإيجابيات فقط، كما هو الحال في «المدح أو التمجيد»، ولا على السلبيات فقط، كما هو الحال في «الانتقاد»[10]. وقد اتخذ «النقد» في الشهادات شكل «الانتقاد»، لسببين اثنين.

يتمثل السبب الأول في أن ما يطلبه المقال الافتتاحي لهذا «الملف»، وما نشر فيه من شهادات، يبدو أنه، لوهلةٍ أولى أو أكثر، ينتمي، لا إلى النقد، من حيث هو الاهتمام بإيجابيات الظاهرة المعنية وسلبياتها، بل إلى النقد، من حيث هو انتقادٌ؛ أي إبرازٌ لسلبيات تلك الظاهرة. فالمطلوب، في الشهادات/ النصوص، هو الانتقاد الذي يتجسد في «فضح هذا 'الوعي' الذي تربينا عليه»[11]. وقد استجابت الشهادات لهذا التوجُّه، حيث ركزت، تركيزاً شبه كاملٍ، على التنديد بالعنصرية وإبراز سلبياتها.

السبب الثاني الذي جعل النقد، في شهادات/ نصوص هذا الملف، يتخذ صيغة الانتقاد، هو كون النقد المعني هنا هو «النقد الذاتي» الذي يميل «بطبيعته» إلى أن يكون انتقاداً. ويُمارَس النقد الذاتي، عادةً أو خصوصاً، عندما يكون هناك فشلٌ أو ما شابه، ويكون الغرض الأساسي حينها هو البحث عن السلبيات التي أفضت إلى، أو أسهمت في حصول ذلك الفشل، بوصف ذلك خطوةً ضروريةً في محاولة تجاوزها والتخلص منها أو الحد من تأثيراتها[12]. ويتأرجح النقد الذاتي غالباً بين قطبين أو منظورين متضادين: قطب التبرير والتسويغ، وقطب جلد الذات.

3. الاعتراف والنقد الذاتي بين قطب التبرير والتسويغ وقطب جلد الذات

يعترف الناقد، الذي يتبنى منظور التبرير والتسويغ، باقتراف الذات لهذا الخطأ أو ذاك، وباتسامها بهذه السلبية أو تلك، لكن هذا الاعتراف لا يكون إلا خطوةً ثانويةً أو شكليّةً تتوخى، قصداً أو عفواً، الإيحاء للذات و/ أو للآخرين بتحلي النقد بـ «الموضوعية». لكن سرعان ما يتبع هذا الاعتراف استدراكٌ خطيرٌ بـ «لكن». وتأتي «خطورة» هذه الـ «لكن» من كونها تَجُبُّ كل ما قبلها تقريباً، وتلغي أي معنىً مهمٍّ له، وغالباً ما يتبنى أصحاب هذا المنظور الآلية الدفاعية النموذجية التالية: «ثمة عنصريةٌ لدى جماعتنا، لكنها ليست إلا ظاهرةً عرضيةً وردّاً بسيطاً وخفيفاً ومسوَّغاً (إلى حدٍّ كبيرٍ) على عنصرية الجماعات الأخرى». «الكردي لديه عنصرية تجاه العرب والأتراك، لكن هذه العنصرية هي مجرد رد فعلٍ على عنصرية السياسة و/ أو الثقافة العربية والتركية تجاه الكرد، وهي طارئةٌ على الثقافة الكردية ولا تنسجم مع قيمها وأخلاقياتها السامية». هذا مثالٌ لما يمكن أن يقوله «كرديٌّ» في خصوص «عنصرية الأكراد»، انطلاقاً من منظور التبرير والتسويغ. ومن الواضح أن هذا المنظور أقرب إلى منطق «الخطاب العنصري» وقيمه وتوجهاته منه إلى منطق «خطاب النقد الذاتي» وقيمه وتوجهاته.

في قطب أو منظور «جلد الذات»، يُقصى منطق التبرير أو التسويغ إقصاءً كاملاً، حيث يتخذ النقد الذاتي الصيغة التالية: «نحن عنصريون (جدّاً)، ونحن (فقط) من يتحمل مسؤولية هذه العنصرية البغيضة». من الضروري الإشارة، هنا، إلى أن مصطلح «جلد الذات» ليس مرادفاً لمصطلح «النقد أو الانتقاد القاسي»، إذ يمكن للانتقاد أن يكون قاسياً و/ أو شديداً، من دون أن يكون جلداً للذات. المقصود بـ «جلد الذات»، هنا، هو الإفراط أو المبالغة أو السوداوية في الانتقاد، بطريقةٍ تُفقِد هذا الانتقاد موضوعيته وإيجابياته الممكنة، وتحوِّله إلى ما يشبه طقوس اللطم والنواح والندب[13]. والانتقاد الذي يتخذ شكل «جلد الذات» هو فعلٌ منفعلٌ أكثر مما هو فاعلٌ. صحيحٌ أنه من طبيعة الانتقاد أن يركز على السلبيات، لكن ذلك لا يعني بالضرورة إنكار وجود الإيجابيات أو المبالغة في وصف وجود هذه السلبيات وتضخيم دور الذات المنقودة أو المنتقدة، في هذا الخصوص. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن النقد الذاتي الذي يتجسد في صيغة «جلد الذات»، يصبح هو ذاته مشكلةً وعقبةً، بدلاً من أن يكون، وفقاً لغرضه المفترض، تشخيصاً لمشكلةٍ ما، وعاملاً مساعداً على حلها أو تجاوزها.

يتموقع النقد الذاتي بين هذين القطبين أو المنظورين، أو يتأرجح بينهما، من دون أن يتماهى مع أيٍّ منهما. من الواضح ضرورة تجنب تبني هذين المنظورين، من جهةٍ، وصعوبة ذلك، من جهةٍ أخرى. فليس هناك وسطٌ واضحٌ ومحدَّدٌ أو موقعٌ مناسبٌ للتموقع فيه دائماً، إذ تتفاوت شدة النقد المطلوب أو الضروري أو حضور التبريرات بين حالةٍ وأخرى، وبين سياقٍ وآخر. ومن الواضح، أيضاً، أن بروز أو ظهور أي منظورٍ أو قطبٍ يستدعي على الأرجح ظهور المنظور أو القطب الآخر. وفي صيغةٍ أعم نقول إن التطرف يُنتج التطرف المقابل، والمضاد له، على الأرجح. وهذا ما يُعبر عنه فيزيائيّاً بالقول: «لكل فعل رد فعلٍ يماثله في القوة ويعاكسه في الاتجاه». وفي الظواهر الإنسانية، يكون رد الفعل أكثر قوةً من الفعل، على الأرجح. وإن ظهور أيٍّ من هذين الاتجاهين لا يرتبط فقط بالظهور الفعلي للاتجاه الآخر، بل قد يأتي ظهور منظورٍ ما نتيجةً لمحاولة تجنب ظهور المنظور الآخر. فعلى سبيل المثال، يدرك كل من يحاول أن يقوم بـ «النقد الذاتي» أنه يمكن أن يقع بسهولةٍ في فخِّ «جلد الذات»، لهذا قد يكون أحد مرتكزات نقده الذاتي هو تجنب الوقوع في هذا الفخ. لكن هذه المحاولة قد تجعله يبالغ في وضع التبريرات والتسويغات، لدرجةٍ يظهر معها وكأنه يتبنى منطق «خطاب التبرير والتسويغ». والعكس صحيحٌ أيضاً، إذ يبدو طبيعيّاً أن يحاول من يقوم بـ «النقد الذاتي» تفسير وجود الظاهرة المنتقدة؛ وفي التفسير يوجد، غالباً على الأقل، شيءٌ من التبرير، المقصود أو غير المقصود. وإن إدراك طبيعية أو تلقائية هذه المحاولة، يدفع كثيرين، ممن يتصدون لمهمة «النقد الذاتي»، إلى العمل على تجنب منطق التبرير والتسويغ قدر المستطاع. وليس نادراً أن يقودهم ذلك إلى الوقوع في أحضان «جلد الذات».

ولا يكتمل توضيح مفهومي النقد و«النقد الذاتي»، من دون توضيح ما نقصده بمفهوم الذات في هذا السياق. فمن هي الذات المنقودة في هذا السياق؟ وما علاقة هذه الذات بذات الناقد؟ إن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة وما يماثلها يمكن أن تسهم إسهاماً كبيراً في توضيح مختلف أنواع أفعال الاعتراف ومستوياتها، بوصفها كسراً للمحظور وانتهاكاً للتابو.

إن الذات المقصودة في مفهوم «النقد الذاتي» ليست، في سياق نقد المحظورات العنصرية، ذات الشخص الذي يقوم بالنقد. فمن شبه المستحيل أن نجد من يقوم بنقد ذاته، معترفاً بعنصريتها. وتبدو جملة «أنا طائفيٌّ» ممتنعةً امتناع جملة «أنا ميتٌ». ويغيب هذا النوع من الاعترافات غياباً كاملاً تقريباً عن الشهادات/ النصوص المنشورة. وعندما يحضر شيءٌ من هذا القبيل فهو يحضر بوصفه منتمياً إلى ماضٍ مضى وانقضى أو لا- وعيٍ لا يتحمل صاحبه مسؤوليته. هذا ما نجده، على سبيل المثال، في الحادثة التي حصلت لمحمد ديبو الذي كان يظن أنه قد تحرر من الموروث، ليتفاجأ، لاحقاً، بخوفه من صديقه المنتمي إلى طائفةٍ أخرى، لمجرد كونه من طائفةٍ أخرى[14]. ويبدو سرد محمد ديبو للقصة مثيراً للاهتمام والتفكير. وسأكتفي، في السياق الحالي، بالإشارة إلى أن «الطائفية المعترف بها»، في ذلك النص، تنتمي إلى اللاوعي الموروث، من جهةٍ، وإلى الماضي وليس إلى الحاضر، من جهةٍ أخرى. وبالتالي، يمكن القول إن الشخص الذي يعترف بطائفيته مغايرٌ للشخص الذي يتسم بهذه الطائفية. ويذهب ديبو، في نفي طائفيته، إلى درجة الإيحاء بخروجه «من ميراث الطائفة والقوميات إلى الأبد». وبعيداً عن التشكيك في الصدق الأخلاقي للذات، هنا، فإنه ثمة أسبابٌ كثيرةٌ للتشكيك في الصدق المعرفي لهذه الجملة. فمن غير المناسب، معرفيّاً وواقعيّاً، الجزم في هذه المسائل، ليس في خصوص المستقبل فحسب (فمن ذا الذي يعلم ما يمكن أن يحصل له ومعه وفيه)، بل وفي خصوص الحاضر أيضاً. يضاف إلى ذلك، إن الحديث، هنا، يتعلق بما يجري في «أعماق النفس البشرية ودهاليزها»، ويصعب كثيراً أن يكون وعي الشخص الفرد قادراً على الجزم في خصوص ما يدور في هذه «الأعماق والدهاليز».

سأعود، لاحقاً، إلى التوسع في المسألة المتعلقة بمعرفة الذات والحكم في خصوصها. ما يهم، في السياق الحالي، هو التنبيه، مجدَّداً، إلى أن الذات التي ينتقدها الشخص، في نقده الذاتي، أثناء كسر التابوهات العنصرية، ليست ذاته الفردية على الأرجح. ويبدو أن العنصرية والاعتراف لا يلتقيان، فالعنصري لا يعترف بعنصريته، وإذا اعترف فهو، في اعترافه، غير عنصريٍّ؛ لأنه لا (يمكن أن) يعترف بعنصريته هو ذاته، وإنما بعنصرية «غيره». وهذا يعني أن العنصري لا يعترف بالضرورة، والذي يعترف يكون، من هذه الزاوية، غير عنصريٍّ بالمرة. تُذكِّرنا هذه المفارقة بالحل الأبيقوري للخوف من الموت، حيث يقول أبيقور، في هذا الخصوص: «ينبغي ألا يخاف الإنسان موته؛ لأنه لا يلتقي به مطلقاً». فحين أكون لا يكون الموت (موتي)، وحين يكون الموت (أي حين أموت) لا أكون. المفارقة، هنا، أنه على العكس من العلاقة بين الموت والذات، حيث تكون استحالة وجودهما معاً أمراً إيجابيّاً، فإنَّ الاستحالة، شبه الكاملة، لالتقاء طائفية الذات باعترافها، هي أمرٌ سلبيٌّ، وهي تابو فعليٌّ وقويٌّ جدّاً يصعب ويندر جدّاً انتهاكه وتجاوزه.

الذات التي يتم الاعتراف بعنصريتها في «النقد الذاتي» هي، إذاً، ذات الجماعة التي «ينتمي» إليها الفرد. وهذا ما نلاحظه، في الوقت الراهن، في خصوص أي نصوصٍ أو ملفات ندواتٍ مخصصةٍ لفتح «الصندوق الأسود العنصري السوري»، حيث يقوم كل شخصٍ بالتركيز تركيزاً أكبر على «فضح» الجماعة التي «ينتمي» إليها، نسباً على الأقل؛ فالعلوي يتحدث عن طائفية العلويين أو الطائفية لدى العلويين، والكردي يتحدث عن عنصرية الكرد أو العنصرية لديهم... إلخ. لكنْ إذا لم يكن نقد الناقد، في عملية انتهاك المحظورات في المسائل العنصرية، موجهاً إلى شخصه أو شخصيته هو ذاته (أيضاً)، وإنما (فقط) إلى الجماعة التي «ينتمي» إليها، فإلى أيّ حد يصح تسمية هذا النقد بـ «النقد الذاتي»؟

لقد جاء في تقديم الملف، أن الكتابة المنتهكة لتابو العنصرية «تتطلب الانسلاخ من الطائفة والقوم والعشيرة وإغضابهما لصالح الإنسان». وهذا يعني أن النقد في هذا السياق ليس نقداً ذاتيّاً. في المقابل، يتضمن التقديم إشارةً إلى ضرورة قيام من يتصدى لهذه المهمة أن يبحث «في داخله ودواخلنا، لفضح هذا 'الوعي' الذي تربينا عليه وشكل جزءاً من وعينا، كمحاولة لمحاكمة أنفسنا ومساءلتها»[15]. إن قيام الناقد بالبحث في داخله لمحاكمة هذا الداخل، يعني أن ذاته هو نفسه معنية أيضاً بهذا النقد. وبالتالي يصح تسمية هذا النقد بـ «النقد الذاتي».

4. التمييز بين نوعي الانتماء: «انتماء- بالنسب» و«انتماء- بالانتساب»

لتوضيح إشكالية الذات وعلاقتها بالجهة التي يُوجَّه النقد إليها، لا بد من التمييز بين نوعين من الانتماء: «انتماء- بالنسب» و«انتماء- بالانتساب»[16]. القيام بالنقد الذاتي يعني أن أقوم بتوجيه النقد إلى ذاتي الفردية أو إلى ما أنتمي إليه بالنسب و/ أو بالانتساب. وبـ «الانتماء- بالنسب» أعني الانتماء اللا-إرادي بحكم الولادة و/ أو الطبيعة و/ أو المجتمع إلى جماعةٍ ما؛ وكل الانتماءات الإثنو-دينية والمناطقية وغيرها من الانتماءات اللا-إرادية تدخل في هذا الإطار: الانتماء إلى جماعة الذكور أو إلى الإثنية العربية أو إلى الدين المسيحي أو الطائفة العلوية أو الجماعة الدرزية... إلخ. ومن الواضح أن نَسَبي إلى هذه الجماعة أو تلك يتقرّر بالولادة و/ أو بالمجتمع، ولا دخل لإرادتي في الموضوع؛ لأن القرار، في هذا الخصوص، ليس قراري. في المقابل، يكون الانتماء- بالانتساب أمراً مرتبطاً بقرار الفرد وخياراته الحرة، نسبيّاً وجزئيّاً على الأقل. ولا يتعلق انتمائي الإرادي بانتسابي الطوعي إلى هذه الجماعة الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية أو تلك فحسب، بل يمكن أن يتعلق أيضاً بالانتماء إلى جماعات انتسبت إليها مسبقاً بحكم الولادة أو المجتمع. فالعلاقة بين الانتماء- بالنسب والانتماء- بالانتساب يمكن أن تكون علاقة تطابقٍ أو علاقة اختلافٍ وتغايرٍ أو تضادٍّ. لكن الانتماء- بالانتساب إلى جماعةٍ مختلفةٍ عن تلك التي أنتمي إليها بالنسب، لا يلغي نسبي اللا-إرادي. فكوني ابن أو أب فلان، وسوري وعربي وإسلامي الولادة والنشأة والثقافة، جزئيّاً ونسبيّاً، لا يزول حتى في حال رفضت أبوة أبي، وتخليت عن ابني، واكتسبت جنسية دولةٍ أخرى، مع شعوري بالنفور من جنسيتي السورية، وتحدثي الدائم بلغةٍ أجنبيةٍ، وامتلاكي رغبة نسيان اللغة العربية، وتوقفي عن الإيمان بتعاليم الإسلام وأركانه الأساسية والفرعية، وانضمامي إلى جماعةٍ دينيةٍ أخرى أو لا-دينيةٍ أو معاديةٍ للدين (الإسلامي).

يُظهِر الانتماء- بالنسب حدود الإرادة، في هذا الخصوص، لكنه يظهر أيضاً قدرة هذه الإرادة على أن تتبنى موقفاً مناقضاً لانتمائها اللا-إرادي بالنسب إلى هذه الجماعة أو تلك. إن إدراك حدود الإرادة واستثمار قدرتها وإمكانياتها، في هذا الخصوص، هو ما ينبغي أن يكون أحد الأسس الوجودية والمعرفية والأخلاقية، وربما السياسية، التي ينبغي للنقد الذاتي المنتهك لتابوهات العنصرية أن ينبني عليها. ويأتي الأساس الوجودي للانتماء- بالنسب من كونه قدراً أو لا-إراديّاً؛ أي إن هذا الانتماء/ النسب هو جزءٌ من ماهية الفرد ووجوده. أما الأساس المعرفي، فيتعلق بكون النسب يوفر، غالباً، خبراتٍ معرفيةً كثيرةً وكبيرةً يمكن الاستناد إليها في عملية الاعتراف أو النقد الذاتي؛ وقد كان ذلك الاستناد واضحاً في معظم أو كل النصوص/ الشهادات. ويرتبط الأساس الاخلاقي بوجود روابط أخلاقيةٍ بين الفرد والأفراد الآخرين الذين يرتبط بهم بالنسب. وينبثق الأساس السياسي من أي تأسيسٍ أو توجهٍ سياسيٍّ، انطلاقاً من روابط النسب (أفكار الوطنية والقومية مثلاً).

5. التمييز بين خطاب الهت والتعيير وخطاب الاعتراف والنقد الذاتي

إن الأسس السابقة لا تعني أن الإنسان محكومٌ بنسبه، بطريقةٍ لا فكاك منها. فالتحرر، الجزئي والنسبي، من روابط النسب ممكنٌ دائماً، من حيث المبدأ على الأقل. ولا شك أنَّ كسر المحظورات العنصرية يتطلب درجةً ما من هذا التحرر، أو ما يسميه المقال الافتتاحي بـ «الانسلاخ». لكن هذا لا يعني إمكانية، أو حتى ضرورة، الانسلاخ الكامل. فبدون وجود حدٍّ أدنى من الشعور بالانتماء، وقبول هذا الانتماء أو حتى تقبله، لا يمكن لكسر المحظور أن يتخذ صيغة الاعتراف أو النقد الذاتي؛ والصيغة التي يمكن أن يتخذها، حينئذٍ، تتراوح، غالباً وعلى الأرجح، بين «الخطاب العنصري» وما يمكن تسميته بخطاب «الهت والتعيير»، أو تدمجهما معاً في خطابٍ واحدٍ. لقد شرحت، آنفاً، ما أعنيه بـ «الخطاب العنصري». يبقى توضيح المقصود بـ «خطاب الهت والتعيير».

في «خطاب الهتِّ والتعيير»، يكون الهدف هو فضْح من نتهمهم، وتعييرهم، والتشهير بهم، وإظهار انحطاطهم الكبير. ويسهل فعل ذلك نسبيّاً حين نقوم به مع من نرى أننا لسنا جزءاً منهم ولا هم جزءٌ منَّا. ولا يتوانى أصحاب هذا الخطاب عن إظهار نفورهم وتبرئهم ممن يقومون بهتِّهم وتعييرهم، بل واحتقارهم لهم؛ كما أنه ليس نادراً أن يقوموا بتضخيم سلبياتهم، والمبالغة السوداوية في وصفهم وتقييمهم. ويكون هذا الخطاب جلداً للذات أحياناً، بقدر اعتراف أصحابه بانتمائهم إلى ما ينتقدونه أو من ينتقدونهم. لكن ينبغي عدم اعتبار هذا الجلد والهت والتعيير نقداً؛ لأن النقد لا بد أن يتضمن بعداً إيجابيّاً ما، سواء من حيث الحكم التقييمي أو غاياته الإصلاحية التقويمية. ويغيب هذا البعد الإيجابي غياباً كاملاً أو شبه كاملٍ في «خطاب الهتّ والتعيير». وينبني «خطاب الهتّ والتعيير» أحياناً على انتماء فكريٍّ (مزعومٍ) لإنسانيةٍ عالميةٍ، يزدري هذه الانتماءات العنصرية الضيقة. لكن أصحاب هذا الخطاب لا يدركون أن خطابهم يتضمن إفراغاً للإنسانية الأخلاقية العالمية من معناها؛ إذ لا بد لهذه الإنسانية أن تتجسد في السياقات المتاحة، وإلا كانت مفهوماً مجرداً ليس له ماصدقات؛ أي ليس له أيّ تعينات في الواقع. ولا يلغي الانتماء- بالنسب فردية الإنسان، طالما أنه قادرٌ على الانتماء الإرادي الحر إلى جماعاتٍ أخرى و/ أو إعلان عدم انتمائه الإرادي إلى الجماعات التي سبق أن انتمى إليها بالنسب و/ أو بالانتساب.

في «خطاب الاعتراف والنقد الذاتي»، يتضمن كسر المحظورات العنصرية تماهيّاً، جزئيّاً ونسبيّاً، مع الجماعات والظواهر التي يتم الاعتراف بسلبياتها ونقدها أو انتقادها. ولا يتعارض هذا التماهي الجزئي والنسبي، في هذا السياق، مع الرؤية الإنسانية القيمية العامة التي ينبغي أن تكون أساس كل كسرٍ للمحظور، في كل الممارسات والخطابات الفكرية. فكسر المحظورات العنصرية يتجسد، تحديداً وخصوصاً، في إبراز الأولية أو الأولوية الوجودية والقيمية لإنسانية كل إنسان، في مقابل الثانوية الوجودية والقيمية لانتماءاته العنصرية المختلفة (الدين، الطائفة، القومية، القبيلة... إلخ). إن ثانوية الانتماءات العنصرية، مقارنة بالانتماء الأولي، وجوديّاً وأخلاقيّاً، إلى الإنسانية، لا يعني إنكار وجود هذه الانتماءات أو التقليل من أهميتها أو تقييمها سلباً، بالضرورة. فانتماءات النسب، كانت وما زالت، ذات دورٍ كبيرٍ في حياة الإنسان، ومن الضروري العمل على أنسنتها أخلاقيّاً، وجعلها طريقاً لإنسانيتنا الأخلاقية، لا عقبةً ينبغي التخلص منها، بالضرورة. وعلى هذا الأساس، نرى أنه بدلاً من أن نقول مع بديع الكسم «الإنسانية الصحيحة في القومية الصحيحة»[17]، ينبغي أن نقول «القومية الصحيحة هي في الإنسانية الصحيحة». وتبقى الجماعات التي ننتمي إليها، لا إراديّاً، جزءاً منا، ونبقى نحن جزءاً منها نسباً، حتى لو لم نعد جزءاً منها انتساباً. ولا يمكن لخطاب الاعتراف أو النقد الذاتي، في كسر التابوهات العنصرية، أن يهدف إلى التبرؤ من جماعات النسب أو إظهار تميز صاحب الخطاب، في هذا الخصوص. ومن الضروري الإشارة، مرةً أخرى، إلى أن القبول الضمني بالانتماء المشترك بالنسب، والابتعاد عن «جلد الذات»، لا يعنيان أن النقد أو الانتقاد ينبغي أن يكون، بالضرورة في هذه الحالة، خفيفاً أو ضعيفاً. فصادق جلال العظم الذي أشرنا آنفاً إلى «النموذجية» الجزئية والنسبية ل «نقده الذاتي»، كان شديداً وجذريّاً في نقده، مع إقراره، الصريح أو الضمني، بانتمائه، الجزئي والنسبي، إلى الثقافة التي ينتقدها، من ناحيةٍ، وإبراز انتمائه الإنساني العام، وكونه إنساناً كونيّاً أو كوزموبوليتانيّاً، من ناحيةٍ أخرى.

6. تمييزات معرفيةٌ/ منهجيةٌ إضافيةٌ مهمةٌ

ثمة مفارقةٌ ينبغي التنبه إليها، في عملية اعترافنا بعنصريتنا ونقدنا الذاتي لها. فلوهلةٍ أولى أو أكثر، يبدو للإنسان أنه أقدر من غيره على معرفة ذاته، الفردية أو الجمعية؛ وعلى هذا الأساس، تبدو معرفة الذات أسهل أنواع المعارف وفي المتناول عموماً، ويكون الشخص الذي يتحدث عن نفسه أو عن جماعته أو عن مجتمعه... إلخ واثقاً في أحكامه عموماً؛ لأنها، من وجهة نظره، قائمةٌ على الخبرة الحياتية والمعايشة التاريخية المباشرة والعينية طويلة الأمد. ثمة الكثير من الأسباب النظرية والعملية التي تدفع إلى تحدّي هذه البديهية الزائفة أو المزعومة. ويستدعي ذلك القيام بالعديد من التمييزات والتحليلات المفهومية.

ينبغي بدايةً التمييز بين المعلومة، من جهةٍ، وتحليل المعلومة و/ أو فهمها و/ أو تفسيرها، من جهةٍ أخرى. صحيحٌ أن كل فرد يملك غالباً معلوماتٍ عن ذاته وجماعاته ومجتمعه، قد لا تكون متاحةً لكثيرين غيره، لكن امتلاك هذه المعلومات لا يفضي، بالضرورة، إلى معرفةٍ أكبر أو أدق بمعناها، وإلى فهمٍ أفضل لدلالاتها. وعلى الرغم من أن بعض الشهادات/ النصوص مالت إلى الخلط بين هذين الأمرين وإطلاق الأحكام الجازمة، فإن شهاداتٍ/ نصوصاً أخرى أقرت، في بعض السياقات، بالاختلاف الجذري بين الأمرين، وبمحدودية قدرتها على البت والجزم في خصوص معنى ما تعرفه ودلالاته. فعلى سبيل المثال، أشار عبد الله أمين الحلاق إلى وجود إمكانياتٍ تأويليةٍ متعددةٍ، وإلى وجود الكثير مما لا يعرفه، في خصوص المثل «مثل قتلة النصيري بالسوق»[18]. وتحفل النصوص بتأويلاتٍ متعددةٍ ومختلفةٍ للقول أو المثل الواحد. فالمثل الشهير «تغدى/ تعشى عند السني/ العلوي/ المرشدي/ الدرزي/ اليهودي، ونام عند المسيحي»، موجود لدى معظم الطوائف، وورد ذكره في عددٍ من «النصوص/ الشهادات»[19]، لكن من الواضح اختلاف تحليل المثل وفهمه، كثيراً أو قليلاً، من شخصٍ إلى آخر. ومن هنا تأتي ضرورة الحذر من الركون الجازم إلى أي تحليل أو فهمٍ أو تأويلٍ أحاديٍّ. في المقابل يظهر نص بيروز بريك «عن صورة العرب في الموروث الشفاهي الكردي (7)»[20]، وردّ مهند الكاطع عليه في نص «رد: قراءة في مقال 'صورة العرب في الموروث الشفاهي الكردي' (8)»[21]، حجم المشاكل المعرفية، على الأقل، التي يمكن أن يفضي إليها الخلط بين امتلاك المعلومة (معرفة وجود هذا المثل أو ذاك مثلاً، وبعض سياقات استخدامه) وتحليلها و/ أو فهمها و/ أو تفسيرها. وقد أظهر رد مهند القاطع إلى أي حدٍّ يمكن أن يختلف الناس في فهم المثل الواحد وتفسيره وتأويله، على الرغم من امتلاكهم للمعلومات ذاتها عموماً.

وقبل الانتقال إلى التمييزات المفاهيمية الأخرى المتصلة بهذه المسألة، من المفيد والمناسب الإشارة إلى إشكالية الصلة بين وجود العنصرية ومعرفة أفراد الجماعات المختلفة لبعضهم بعضاً. فعمر قدور يجزم أن «المشكلة قطعاً ليست ناجمةً عن عدم معرفة الآخر، لتجد حلها بالمعرفة والتعارف بين المختلفين، إذ هناك شرخ قائم على معرفة كافية، وعن وعي وتصميم»[22]، في المقابل يرى محمد ديبو، كما هو واضح في عنوان نصه «من 'هذه البصلة سنية' إلى 'السنة طيبين متلنا' (2)»[23] وفي مضمونه، أن المسألة الطائفية ناتجةٌ عن الجهل، حيث يتم الانتقال، في نصه، من فكرة «هذه البصلة سنية» إلى فكرة «السنة طيبين متلنا»، عن طريق التجربة التي تسمح بمعرفة الآخر وبزوال أو تصحيح الصورة النمطية السلبية عنه. ويبدو لي ضرورة الحذر من تبني أحد هذين الموقفين المتناقضين. فعلى الرغم من الإمكانية المبدئية لأن يفضي التعارف، بين الأشخاص المنتمين إلى جماعاتٍ مختلفةٍ، إلى زوال عنصريتهم أو التخفيف من حدتها، كما تبين شهادة محمد ديبو وتجربته الشخصية وتجربة جدته، فإن التعارف أو توثيق معرفتنا بالآخر لا يكفي، غالباً على الأقل، لتجاوز العنصرية؛ لأن هذه العنصرية ليست مرتبطةً بمعرفة الآخر، وبمدى قوة أو صحة هذه المعرفة، فقط.

وإذا كانت معرفة الآخر صعبةً، عموماً، فإن معرفة الذات تبدو أكثر صعوبةً بكثيرٍ. ولم ترفع الفلسفة منذ انطلاقتها السقراطية شعار «اعرف نفسك»، بسبب أهمية هذه المعرفة فحسب، بل ولإشكاليتها الكبيرة وصعوبتها البالغة أيضاً. وإذا كانت المسافة التي تفصلنا عن الآخر هي أحد أسباب صعوبة معرفته، فإن انعدام هذه المسافة في علاقتنا بذواتنا هي التي تجعل من معرفة الذات أمراً بالغ الصعوبة، كما قال نيتشه. فصعوبة معرفة الذات لذاتها ليست ناجمةً، بالدرجة الاولى، عن وجود مستوىً أو بعدٍ لا واعٍ في هذه الذات، يفلت من الملاحظة المباشرة وإدراك الوعي ومعرفته، وإنما هي ناجمةٌ، تحديداً أو خصوصاً، من كون الطرف العارف والطرف المعروف متماثلين وغير منفصلين. وعلى النقيض من منطق «أظن بالناس كما أظن بنفسي» أو «أعرف الناس انطلاقاً من معرفتي لنفسي»، رأى العديد من الفلاسفة (بول ريكور مثلاً) أن معرفة الآخر هي الوسيلة الأنجع والطريق الأقصر لمعرفة ذواتنا.

وإضافة إلى التمييز بين امتلاك المعلومة، من جهةٍ، وتحليلها و/ أو فهمها و/ أو تفسيرها، من جهةٍ أخرى، ثمّة تمييزان وثيقا الصلة ينبغي إبرازهما. التمييز الأول هو بين الصدق المعرفي والصدق الأخلاقي، والتمييز الثاني هو بين الخبرة الفردية والأحكام العامة.

ثمة ضرورةٌ للتمييز بين الصدق بالمعنى المعرفي أو المنطقي والصدق بالمعنى الاخلاقي. فإذا كان الصدق المعرفي أو المنطقي يحيل على «تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان»، فإن الصدق الأخلاقي يحيل على التطابق بين ما يقوله الشخص أو يقصد قوله وما يعلمه، في هذا الخصوص. وتأتي ضرورة هذا التمييز من وجود اعتقادٍ ضمنيٍّ شائع يرى أن الصدق الأخلاقي للشخص، وكونه يتحدث عن أمور يعرفها «حقَّ المعرفة»، ولديه خبرةٌ مباشرةٌ بها ومعايشةٌ طويلةٌ لها، يعني بالضرورة صدقه المعرفي. ومن الواضح فساد هذا الاعتقاد، ليس لوجود إمكانيةٍ دائمةٍ، من حيث المبدأ، لوقوع الإنسان في الخطأ المعرفي، فحسب، بل أيضاً لأن امتلاك المعلومة لا يعني امتلاك فهمٍ صحيحٍ لها، بالضرورة، (كما أشرنا آنفاً)، ولأن امتلاك خبرةٍ فرديةٍ مباشرةٍ بالواقع لا يعني، بالضرورة، القدرة على إطلاق أحكامٍ عامةٍ، في خصوص هذا الواقع.

من الضروري الانتباه أيضاً إلى الاختلاف، في المعرفة عموماً وفي معرفة الذات خصوصاً، بين فرادة و/ أو فردية التجربة وسياقيتها وجزئيتها، من ناحيةٍ، والأحكام العامة أو التعميمات التي يمكن إطلاقها في خصوص موضوعها، من ناحيةٍ أخرى. وهذا الاختلاف بين الخبرة والحكم العام اختلافٌ أساسيٌّ؛ لأن الخبرة جزئيةٌ دائماً. وهذا التمييز الأخير يحثّنا على التأنّي كثيراً، قبل إطلاق التعميمات بناءً على خبراتنا الشخصية أو الصورة النمطية التي تكوّنت لدينا، انطلاقاً من هذه الخبرات. ففي خصوص الزواج المختلط بين أفراد الطوائف الدينية المختلفة، يقول أحمد الخليل: «لا يشكّل الأمر أيّة مشكلة لدى الطائفة الإسماعيلية»[24]. وعلى الرغم من شيوع، وعلى الأرجح صدق الرأي القائل إن (معظم) أفراد الطائفة الإسماعيلية أقل تزمتاً عموماً، في هذا الخصوص، فمن غير المناسب معرفيّاً إطلاق مثل هذا الحكم المطلق والجازم. وإذا كانت الخبرات الشخصية والمعرفة الوثيقة للكاتب بأحوال هذه الطائفة، عموماً، قد جعلته يصدر هكذا تعميمٍ، فلدى آخرون (وكاتب هذه السطور من بينهم) خبرات مختلفة تسمح لهم بالتحفظ الجزئي والنسبي على إطلاقية هذا التعميم وسمته الجازمة. وتجسد هذه التعميمات غير الدقيقة ميلنا القوي إلى التنميط.

على الرغم من أن الصورة النمطية الشائعة عن «التنميط» و«الصورة النمطية» تحمل معانٍ ودلالاتٍ سلبيةً غالباً، إلا أنه يمكن المحاججة بضرورة التنميط و/ أو امتلاك الصور النمطية، من ناحيةٍ، وبإمكانية أن يكون هذا التنميط أو ذلك الامتلاك مفيداً أو إيجابيّاً، وليس ضارّاً أو سلبيّاً، من ناحيةٍ أخرى. ويمكن توضيح الضرورة، الجزئية والنسبية، للتنميط والصورة النمطية، بالتشديد على أن الفهم أو فهم الآخر (كما أوضح أعلام الفلسفة الهيرمينوطيقية) لا يمكن أن يبدأ من الصفر أو العدم، بل ينطلق، دائماً (تقريباً)، من فهمٍ مسبقٍ ما. وتوفر الصور النمطية نقطة بدايةٍ مفيدةٍ، جزئيّاً ونسبيّاً. ولا تكون صورة الآخر النمطية سلبيةً، بالضرورة، ويمكن مقارنة وظيفتها، أحياناً وجزئيّاً ونسبيّاً، بالأنماط المثالية «ideal-types» التي يمكن أن تساعد على فهم الواقع، بدون أن تعكس هذا الواقع أو تتطابق معه. والحديث عن ضرورةٍ ما للصورة النمطية، بوصفها فهماً مسبقاً، لا يعني الركون إلى هذه الصورة والجمود عندها معرفيّاً. فثمة ضرورةٌ لعمليات تصحيحٍ وتطويرٍ دائمةٍ لهذه الصورة، بما يسمح بالحد من سلبياتها، ويساعد على تعزيز إيجابياتها. وينطبق هذا الأمر على الصورة النمطية التي نملكها عن مفهوم «الصورة النمطية»، عموماً، وعن الصور النمطية التي يمتلكها أفراد الجماعات العنصرية المختلفة عن بعضهم بعضاً، خصوصاً. ولا تقتصر الصور النمطية التي تتضمنها النصوص/ الشهادات، على تلك التي يمتلكها أفراد الجماعات المختلفة عن بعضهم بعضاً فحسب، بل تمتد أيضاً إلى الصورة النمطية التي يمتلكها (بعض) كتّاب هذه النصوص عن الجماعة أو الجماعات التي ينتمون إليها، والصورة النمطية التي لديهم عن الجماعات الأخرى، أيضاً. ومن الضروري فهم هذه المستويات المتعددة والمتشابكة من الصور النمطية في كل عملية تحليلٍ وفهمٍ للنصوص التي تتضمن كسراً للتابوهات العنصرية.

7. انتهاك التابو بالكتابة

وفي خاتمة هذه التحليل المفاهيمي الأولي لبعض المفاهيم المرتبطة بفعل الاعتراف بعنصريتنا الإثنو-دينية، أود أن أشير إلى بعض أهم الجوانب التي تجسد انتهاك النصوص أو كسرها للمحظورات العنصرية في «ثقافتنا» و/ أو «مجتمعنا». من الواضح أن مجرد محاولة مناقشة هذا الموضوع (العنصرية الإثنو-دينية لدى السوريين)، مناقشة جدية وصريحة، يعتبر تجاوزاً للخطوط الحمور المألوفة في هذا الخصوص. لكن هذا التجاوز أصبح شائعاً، أكثر فأكثر، منذ قيام الثورة السورية. والشيوع، الجزئي والنسبي، لكن المتزايد، لهذا التجاوز يغيّر من لون الخطوط التي يتم يتجاوزها، حيث يمكن القول إنها لم تعد قوية الاحمرار كما كانت في السابق. ولا يقلل ذلك من أهمية الملف الذي فتحه موقع «حكاية ما انحكت» في هذا الخصوص. على العكس من ذلك تماماً، لقد أصبح التناول البحثي العميق والهادئ لهذه المسألة ممكناً أكثر، بعد «الأحاديث الأولى» التي كان من الطبيعي أن تكون أقرب إلى الانفعالية والسطحية غالباً.

ولا يكمن انتهاك «المحظورات السورية»، في هذا الخصوص، في تقديم معلوماتٍ جديدةٍ وصادمةٍ تثير استغراب السوريين ودهشتهم. فمعظم المعلومات التي تضمنها الملف معروفةٌ، عموماً، لكثير من السوريين. الجديد الذي يتضمنه كسر التابو في هذا الخصوص كان على صعيد الأفكار، وتجسَّد في تقديم بعض التحليلات لهذه المعلومات بطريقةٍ تعبِّر عن الصورة النمطية التي يمتلكها كتاب النصوص، من ناحيةٍ، وتساعد على فهم بعض أبعاد الصور النمطية التي يملكها أفراد الجماعات السورية المختلفة عن بعضهم بعضاً، من ناحيةٍ أخرى. وإضافة إلى تطبيع العلاقات مع موضوع العنصرية السورية الإثنو-دينية، فإن الصيغة الأبرز لكسر التابو، في هذا الملف، تمثلت في أن تناول هذا الموضوع جاء في نصوصٍ مكتوبةٍ، وليس في خطابٍ شفهيٍّ عابرٍ. فالشهادات تتضمن نقاشاً فكريّاً جديّاً والكثير من الأفكار والتحليلات المهمة والمثيرة للتفكير. لكن الأهمية، الأكبر ربما، والخاصة أو الميزة بالتأكيد، لهذا الملف، تكمن في أنه ينقل إلى ساحة المكتوب ما كان معروفاً وسائداً أو متداولاً على المستوى الشفهي فقط[25]. إن هذه النقلة (لانتهاك التابوهات)، من الشفهي إلى المكتوب، تشكِّل، في حدِّ ذاتها، انتهاكاً لتابو من نوعٍ خاصٍّ، سائدٍ عموماً في الثقافات «غير الكتابية»، وهي ثقافاتٌ تعترض، أحياناً، على الجهر باقتراف «المعاصي» اعتراضاً يفوق في قوته غالباً اعتراضها على فعل الاقتراف ذاته[26].

أخيراً وآخراً، من المهم التنبيه، مرّةً أخرى، إلى أن انتهاك المحظور لا يكون إيجابيّاً إلا عندما يتأسس على قيمٍ مختلفةٍ عن تلك التي يُفترَض به كشفها وفضحها وتجاوزها. فمن دون قبول الاختلاف وتقبله، والانفتاح على الآخر واختلافه، والتبني الفعلي لخطاب المساواة بين الناس على مستوى الكرامة والحريات والحقوق الأساسية، لن يكون الخطاب المنتهك للمحظورات العنصرية إلا خطاباً عنصريّاً، عنصريةً مباشرةً أو غير مباشرةٍ. فانتهاك المحظور العنصري ليس إيجابيّاً، عندما يتخذ صيغة الخطاب العنصري الذي يعزز من العنصرية في الواقع، بدلاً من كشفها بطريقةٍ تجعل فهمها وتجاوزها أمرين ممكنين، جزئيّاً ونسبيّاً. وفي الخطابات التي تحاول فضح عنصرية الجماعة أو الجماعات الأخرى، ينبغي معرفة ما القيم التي يتبناها الخطاب، ويتأسس عليها، ويحاول التأسيس لها والدفاع عنها، لفهم ما يهاجمه الخطاب أو يفضحه تحديداً. فمهاجمة «العنصرية الكردية تجاه العرب» وفضحها، قد يتأسس على «عنصريةٍ عربيةٍ» مضادةٍ لا تقل عنها سوءاً، بل يمكن أن تزيدها سوءاً، في أغلب الأحوال. وهذا هو حال كثير من الخطابات الرائجة حاليّاً التي تريد أن تفضح عنصرية هذه الجماعة أو تلك. فمعظم الخطابات، التي تريد لنفسها أن تكون فاضحةً لعنصرية الآخر، هي، في الواقع، خطابات- فضيحةٌ ومفضوحةٌ، وتحتاج إلى مزيدٍ من الفضح غالباً.

[1] - لأسبابٍ عديدةٍ، قد يكون من بينها أحياناً قوة التحريم أو الحظر، والخوف من مخالفته، أو محاولة الالتفاف عليه، يتم أحياناً الإشارة إلى أقطاب هذا الثالوث بأسماء مختلفة. وهذا ما نجده، على سبيل المثال، عند بوعلي ياسين، الذي يحل الصراع الطبقي محل السياسة في دراسته لـ «الثالوث المحرم». انظر: بوعلي ياسين، الثالوث المحرم. دراسات في الدين والجنس والصراع الطبقي، ط1 1973، (بيروت: دار الطليعة، ط2 1978)؛ لكنه يشير لاحقاً إلى تلك المحرمات بأسمائها التي أوردناها (الدين والسياسة والجنس). انظر: بو علي ياسين، بيان الحد بين الهزل والجد (دراسة في أدب النكتة)، (دمشق: دار المدى، 1996)، ص 343

[2] - جوزيف ضاهر، «الثقافة الشفوية الشعبية والطائفية، تحليل مادي (14)»، موقع حكاية ما انحكت، 30 تشرين الأول/ أكتوبر، 2018

[3] - انظر: ملف «الثقافة الشفوية»، موقع حكاية ما انحكت.

[4] - محمد ديبو، «الثقافة الشفوية والهوية في سورية (ملف)»، موقع حكاية ما انحكت، 15 آيار/ مايو، 2018

[5] - عندما أتحدث عن العنصرية أو التمييز بدون أي صفة أو تخصيص، فأنا أقصد، في السياق الحالي، كل الأشكال الممكنة من العنصرية الإثنو-دينية والتمييز السلبي بين الناس على أساس الطائفة أو الدين أو الإثنية أو الجنس أو اللون او المنطقة أو العشيرة والقبيلة... إلخ.

[6] - محمد ديبو، «الثقافة الشفوية والهوية في سورية (ملف)».

[7] - جان جاك روسو، اعترافات جان جاك روسّو، ترجمة حلمي مراد، (دمشق/بيروت: دار البشير، د. ت.).

[8] - انظر، في هذا الخصوص: ياسمين نايف مرعي، «كيف سيكمل 'علوي' و'سنية' طريق الحب؟ (11)»، موقع حكاية ما انحكت، 15 آيار/ مايو، 2018

[9] - محمد ديبو، «الثقافة الشفوية والهوية في سورية (ملف)».

[10] - انظر: حسام الدين درويش، «في التمييز بين النقد والانتقاد: فكر صادق جلال العظم أنموذجاً»، مجلة قلمون، العدد الأول، أيار/ مايو 2017، ص 27-58

[11] - محمد ديبو، «الثقافة الشفوية والهوية في سورية (ملف)».

[12] - يبدو ذلك واضحاً خصوصاً في موجة النقد الذاتي التي برزت بعد هزيمة 1967. انظر، تحديداً أو خصوصاً: صادق جلال العظم، النقد الذاتي بعد الهزيمة، ط1 1968، (بيروت: دار الطليعة، ط4 1970).

[13] - لعل النص/ الشهادة الذي اقترب كسر المحظور فيه من أن يكون جلداً للذات هو نص رافيا سلامة، «الشوام وما أدراك ما الشوام (9)»، موقع حكاية ما انحكت، 15 أيار/ مايو، 2018. يصح هذا الحكم، في حال كانت كاتبة النص تعتبر ذاتها في النص منتميةً إلى الجماعة التي «تفضحها». او يمكن القول إن خطابها أقرب إلى الخطاب العنصري أو خطاب الهت والتعيير الذي سيتم شرح سماته لاحقً. وتبدو مسألة اعتقاد رافيا سلامة في نصها بانتمائها إلى الجماعة التي تنتقدها، إشكالية في النص.

[14] - انظر: محمد ديبو، «من 'هذه البصلة سنية' إلى 'السنة طيبين متلنا' (2)»، موقع حكاية ما انحكت، 24 أيار/ مايو، 2018

[15] - محمد ديبو، «الثقافة الشفوية والهوية في سورية (ملف)».

[16] - انظر: حسام الدين درويش، «في الانتماء والاعتراف»، نصوص نقدية في الفكر السياسي العربي والثورة السورية واللجوء. (بشارة وباروت نموذجاً)، (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2017)، ص 216-220

[17] - انظر: بديع الكسم، بديع الكسم، إعداد وتقديم: عزت السيد احمد، (دمشق: وزارة الثقافة، 1994)، ص 165-168

[18] - عبد الله أمين الحلاق، «أنا من السلَمية... لكني لست ممن في هذا المقال (5)»، موقع حكاية ما انحكت، 18 حزيران/ يونيو، 2018

[19] - للاطلاع على التأويلات المختلفة، انظر، على سبيل المثال: محمد ديبو «من 'هذه البصلة سنية' إلى 'السنة طيبين متلنا' (2)»، موقع حكاية ما انحكت، 24 أيار، 2018؛ أحمد الخليل، «صورة الآخر في الثقافة الشفوية السورية (3)»، موقع حكاية ما انحكت، 07 حزيران، 2018؛ محمد أبو حجر، «طائفيتنا التي لم ينتجها النظام (4)»، موقع حكاية ما انحكت، 14 حزيران/ يونيو، 2018

[20] - بيروز بريك، «عن صورة العرب في الموروث الشفاهي الكردي (7)»، موقع حكاية ما انحكت، 03 آب/ أغسطس، 2018

[21] - مهند الكاطع، «رد: قراءة في مقال 'صورة العرب في الموروث الشفاهي الكردي' (8)»، موقع حكاية ما انحكت، 03 آب/ أغسطس، 2018

[22] - عمر قدور، «عندما لا يكون يزيد شريراً أو خيّراً! (1)»، موقع حكاية ما انحكت، 03 آب/ أغسطس، 2018

[23] - محمد ديبو، «من 'هذه البصلة سنية' إلى 'السنة طيبين متلنا' (2)»

[24] - أحمد الخليل، «صورة الآخر في الثقافة الشفوية السورية (3)»

[25] - هذا ما يفسر قول ياسين الحاج صالح: «الطائفية مجالها الشفاهة وليس الكتابة، وحين تكتب نفسها تنتحل قناعاً وطنياً أو علمانياً دولانياً». انظر: ياسين الحاج صالح، «إشكالية الاستيعاب وما بعدها»، موقع الجمهورية، 14 تشرين الثاني/ نوفمبر، 2018

[26] - أشار صادق جلال العظم إلى اتسام هذا النقل للشفهي إلى المكتوب بسمات التابو وانتهاك المقدس، بالقول: «في الثقافات الكتابية كليّاً تفقد الكتابة هامشيتها وقدسيتها في وقت واحد بعد تحولها إلى ملك عام ومشاع للجميع. وبما أن الثقافة العربية المعاصرة تقع في منزلة بين المنزلتين على طريق الانتقال من الأمية - الشفوية إلى الكتابية ما زال يظهر لها، على ما يبدو لي، نقل الشفوي، وخاصة أجزاء منه، إلى الكتابي وكأنه اعتداء صارخ ليس على قدسية المكتوب، بمعاني المكتوب كلها، فحسب، بل على قدسية المقدس نفسه». العظم، ما بعد ذهنية التحريم. قراءة «الآيات الشيطانية»، رد وتعقيب، ط1 1997، (بيروت: دار المدى، ط2 2004)، ص 16. للمزيد في هذا الخصوص، انظر: ما بعد ذهنية التحريم، ص 12-16؛ عبد الرزاق عيد، ذهنية التحريم أم ثقافة الفتنة. حوارات في التعدد والتغاير والاختلاف، (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2009)، ص 72؛ بو علي ياسين، بيان الحد...، ص 8-10