في الحاجة إلى النّقد: من الهدم إلى منطق الخلق والتّداول
فئة : مقالات
لماذا هذا الخوف الوجودي من النّقد؟
دوماً كان الاقتراب من فهم الذّات، والخوف من تحطيم أصنامها، أو ما خالَه العقل يوماً من ثوابتها، أو خطوطها الحمراء مصدر الفزع الأكبر. نعم، إنّه الخوف من الاقتراب من المساحات المسكوت عنها، أو المساحات التي يراد أنْ يسكت النّاس عنها، أو هو الحظر المضروب على كلّ عقل يأبى التّسليم، ويستعيذ من كلّ عقل يقنع أو يشبع من السّؤال. لم يكن هذا يتمّ بمعزل عن استراتيجيات، وآليات الضّبط والقمع الفكري، وعلى قمّتها الخوف؛ أيْ الخوف من المجهول، أو الخوف من الأفق الذي يحرّكه التّغيير، والتزحزح عن مناطق أماننا. لا شيء يحول بيننا، وبين ما نصبو إليه غير الخوف. إنّه في كلّ مكان، وفي أيّ زمان، تتغيّر وسائله، وتقنياته، ودواعيه، ومبرّراته، ويبقى وجهُه مطلاًّ يحرُمنا أمل كلّ وصول. هو الخوف أو ذاك الشّعور الذي يلازمنا دون أنْ نتعرّف على كنهه أو ماهيته، سوى أنّه المحطم للآمال، أو الدّافع الخفيّ لكلّ المشاعر السّلبية، أو الهادر لوجودنا الذّاتي والجماعي. لا نحتاج لكثير من العبارات لكي نفهمه أو نشرحه ونحن نعيشه في كلّ لحظة، وفي كلّ سقطة، وصوب كلّ هدف، إنّه: "ليس شيئا نملكه بل هو أمر نقوم به"[1]. كما عرّفه جوزيف أوكنور، ويمكنني أنْ أضيف أنّه ليس شيئا نملكه فنتحكّم فيه، ولكنّه شيء نمارسه ليتحكّم فينا وهنا المفارقة.
هكذا تعلَّمْنا، وهكذا نشأْنا في بيئة تؤبّد فِعل الخوف والتّخويف، ليصير عقيدة في عُرف من استحال التّفكير لديهم إلى طابوهات ومحرّمات لا يمكن المساس بها. هو المسار نفسه يتكرّر ويتكرّر، لا شيء ينذر بقرب نهاية المشهد، بل كلّ ما هنالك هو تأبيدٌ هذا الفعل من أجل المزيد من الهدر الإنساني على جميع المستويات، والمحافظة على الوضع القائم ثقافياً بتجريم وتحريم وتأثيم النّقد، غير مدركين بأنّ النقد مهما قسا، فهو عملية تطهير شامل تؤلِم ولكنّها تريح. لم يكن سيوران واهماً وهو يشير إلى أنّ النّقد هو تفسير خاطئٌ ومعكوس: ينبغي أنْ تتمّ القراءة من أجل فهم الذات، لا من أجل فهم الآخر. ربّما يشير سيوران إلى أزمة المعنى، فكلّ ما يشير إليه النَّقد في ثقافتنا، يكون في اتّجاه الآخر، متناسين ذواتنا، وأشيائنا وأفكارنا، وما نشأْنا فيه ومنه بفعل القهر الاجتماعي. لهذا، ونحن نستلهم ما قاله سيوران نقترح أو بالأحرى نتساءل ماذا لو انسحبنا إلى دواخلنا، أو عكَسنا نظرتنا للآخر في اتّجاه عيوبنا أو خيباتنا أو نواقصنا؟. نقد الآخر، عبر الطُّرق الأخلاقية، والنُّصح، والنّقد ليس سوى ذلك اللّباس الذي يتنكَّر فيه البؤساء. نعم، نحتاج للأخلاق. لكنْ وجب التّذكير كما أشار أندريه كونت سبونفيل[2] أنّ السّؤال الأخلاقي هو ماذا يجب عليَّ أنْ أفعل que dois-je faire؟ وليس ما يجب على هذا أو ذاك que dois faire tel ou tel؟ بمعنى أنّ الأخلاق ليس لها شرعية إلا في ضمير المتكلّم "أنا". أمّا بالنسبة للآخرين، فالقانون والرحمة تكفي.
نحن لا نخاف النّقد، لأنّنا موقنون بأنّ ما عليه ثقافتنا يكتسب طابع الإطلاق واليقين والثّبات، بل فقط لأنّ الخوف والتردّد من ملامسة المسكوت عنه مهمّة صعبة في واقع ثقافي مغلق، يعكس بجلاء حجم الهوة السّحيقة التي وضعتنا فيها الثقافة، وكذلك يكشف الممارسات المكشوفة والخفية التي تمارسها الثقافة لضمان استمراريتها وبسط نفوذها على هذا الكائن الإنساني، في رغبة ملحَّة وأبدية هدفها التّكرار من أجل الاستمرار. ولا ضير ما دامت وظيفة كلّ فكرة مغلقة، هي أنْ تنزَع بالإنسان، ليكون فردا ضمن قطيع، أو فردا يفضل الطّاعة على التّفكير، والخضوع على بديهيات وأولّيات الفعل الإنساني.
كلّ فكرة تموت لحظة التوقّف؛ أي لحظة غياب النّقد، أو على الأقل عدم استحضار أهميّته. لهذا ليس هناك حياة بعيدة عن النّقد الذاتي كما أشار إليه سيوران بوصفه عملية تفسير معكوسة تّجاه الذات أولا؛ فنحن نحيا وسط ألغام ثقافية لا يراد لها أنْ تكشِف محنتنا، أو مواطن تزييف الوعي فيها، وتلك آفة تفكيرنا. فالخروج من دائرة المغلق هي المهمّة المستحيلة في نظر البعض، وفي الوقت ذاته هي الأمل المرجوّ للكتابة، باعتبارها البداية للبحث عن هوامش الانفلات من القبضة المحكمة التي تفرضها سطوة العقل الجمعي على مفاصل تفكيرنا. فالنقد هو الاقتراب من كشف بعض خبايا الفم المقموع كما يسميه جمال علي الحلاّق[3]، وليس فقط قراءة التّاريخ وفق ما تناقله الفم النّاطق. لكن لا بدّ من الانتباه أنّ ممارسة النّقد لا يعني بحال أنّك بدأت تتلمّس الطّريق، بل فقط أنت في الخطوة الأولى لتذوّق لذّة الحيرة والتيه، مخطئ من يرى أنّ التّفكير هو شهوة، أو لحظة، أو فرصة. إنّه حياة يبدأ، لكنَّه قد يتوقّف، وهذا يذكّرنا بما قاله إنجلز مودِّعا صديقه ماركس بعد وفاته، حيث وقف إنجلز للتّأبين، وقال: "الآن فقط توقّف هذا الرأس عن التفكير"[4]. معلِناً بذلك ومن خلال عبارة "الآن فقط" أنّ التّفكير حياةٌ وليس لحظة.
لكن لماذا يجب أنْ نعزّز من ثقافة النقد؟
هذا ما سنحاول التعرّف عليه:
1- نقد النصّ: هدمٌ له أم إقامة علاقة جديدة معه؟
على الرّغم من المكانة التي يمكن أنْ يضعها البعض للتعقّل، واستخدام التّفكير والنّظر بما في ذلك الأصوليون أنفسهم، لا زال الفكر الديني عموما لم يطبِّع بعدُ مع الاستخدام اللاّنهائي للعقل، بالرّغم من محدوديته، ويمكننا الكشف عن ذلك من خلال تقديم النصّ على العقل عند أغلب الاتِّجاهات المحافظة، على اعتبار أنّ النصّ هو وحده الحامل للحقيقة، والنّاطق بها دون أنْ تكون هذه الحقيقة هي ما يخلقه النصّ نفسه، بدليل أنّ النصّ نفسُه أو غيره يكشف عن حقائق أخرى لدى تيارات ومذاهب وطوائف أخرى. ولعلَّ ما أشار إليه علي حرب[5] يفيدنا في هذا الصّدد. فنقدُ النصّ هو إقامة علاقة جديدة مع الحقيقة، وليس إلغاءً لهذا النصّ، أو بتره، أو رفضه. وما يهمّ في هذه العلاقة هو أنّها من شأنها أنْ تغيّر مفهومنا للحقيقة، وأنْ تبدِّل طريقة تعامُلنا معها. فالنّقد لا يؤمن بأنّ الحقيقة متعالية، أو بعيدةٌ عن الخطاب الذي أنشأها، أو تتعالى عن الشُّروط المنتجة لها، وإنّما الحقيقة هي ما يخلقه النصّ نفسُه. وماذا يعني هذا الكلام في سياقِ ما قاله علي حرب؟. إنّه يحيلنا إلى معطىً مثير يتمّ التغافل عنه، أو إغفاله عمداً، وهو أنّ النّقد ليس بالضَّرورة أنْ يكون عملية نقضية، تقويضية لنصوص أو أعمال على طريقة ما فعله الغزالي، في التّهافت وغيرها من الأعمال، بدليل أنَّ ما يتمّ نقدُه من أعمال الفارابي وابن سينا لا يزال يكشف حتى في زماننا عن أسرار وخبايا، وربّما قد تكون الحاجة إليه أكثر من الحاجة إلى غيره. وقِس على ذلك وصولاً إلى النّصوص الدّينية خاصّة الرّوائية، فهي لا تحمل الحقيقة في المتون التي تحمِلها، أو المضامين التي تشير إليها. ولكنّها تكشف عن العقل الذي أبدعها، وأنشأها، والآليات المتَّبعة في إنشاء المعنى، أو التّعبير عن الحقيقة في زمان أو مكان معينين.
إنّ الخوف من النّقد ناتج عن هذا النّمط في التفكير، الذي يرى أنّ نقد النّصوص هو هدمٌ لها، أو نسف لها، أو مؤامرة عليها ما دامت النّصوص تحمل الحقائق في ماهيتها كما تتبدّى في هذا العقل. من هنا نفهم كيف حوربت كلّ الاتّجاهات العقلانية، والنقدية، وكل المحاولات الرامية إلى الاشتغال على نقد النّصوص، والكشف عن أبعادها، وخباياها، وأسرارها. وظلّ الصراع قائما بين ثنائية العقل والنّقل، ليأخذ أشكالا من التصفيات عبّر عنها هذا التّاريخ الطويل من القمع والترهيب للأصوات النّاقدة[6]، كما فعلوا بالجعد بن درهم فيما يرويه ابن كثير أن: "خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك أن خالدا خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ! ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر"[7].
2- النصّ وأزمة المفهوم:
ولعلّ منشأ الخطأ هنا هو في تحديد معنى النص نفسه، وأيضا في توسيع دائرته، حيث، لم تعد ثنائية (قرآن/ سنة) هي النصوص المقدسة وحدها، بل تعدّت ذلك لتدخل كلّ الأمور المرتبطة بها حيز المقدس. فكلّ النّصوص الهامشية؛ أي التي كتبت على هوامش المتن الدّيني، اكتسبت هي أيضا هذه القداسة، ويكفي أنْ نشير هنا إلى علوم التّفسير والفقه والحديث والأصول، ليتبيّن بأنّ النصّ الأصلي لم يعد هو مركز الفهم، ولم يعد هو الأصل الأوّل، بقدْر ما حلّت محلّه قواعد هذه العلوم والمعارف الدّينية. وهنا سنتوافق مع رؤية برهان غليون، الذي يرى بأنّ على العكس ممّا يتصوّره التّراثيون، فالشّعور بأهمّية التّراث، والرّجوع إليه ودراسته وتدقيقه وإحيائه- تزداد كلّما ازداد الشّعور بالفعالية الذّاتية والثّقة بها، دون أنْ يتنافى ذلك مع الإبداع والتّجديد[8].
كلّ هذه المعطيات والمؤشّرات توحي بأنّ النّص التّأسيسي في ثقافتنا الدينية، لم يعد هو المتحكم الأول، بل صودر هو أيضا لصالح قراءات، وتأويلات حرّمت النقد، وأحلّت محلّه التّسليم والإيمان، على اعتبار أنّ النصّ كما تمّت الإشارة إلى ذلك هو حامل للحقيقة، بعيدا عن تجلّياتها وشروط إنتاجها. ولو تأمّلنا قليلا، لوجدْنا بأنّ هناك فاصلا بين النّص والقراءة، وبالتّالي صعوبة امتلاك الحقيقة المطلقة. ليس هذا طعْناً في جانب المؤوّل أو المفسّر[9]، أو المتعاطي والمتفاعل مع النّص الدّيني بشكل عام. ولكنّ لأنه: "لا تطابق ممكن في الأصل بين القارئ والمقروء، إذ النّص يحتمل بذاته أكثر من قراءة. وأنّه لا قراءة منزّهة مجرّدة، إذ كلّ قراءة في نصٍّ ما، هي حَرْفٌ لألفاظه وإزاحة لمعانيه."[10].
تعد ثقافة النصّ أحد أوجه تشكّل هذا العقل، الذي لا يرى الحقّ إلا في ما قاموا بتصحيحه، وفق آليات وقواعد انطلقت من سقفهم المعرفي، لتصل إلينا بمنظور مطلق لا يقبل النّقد أو التّشكيك والمراجعة. ويكفي أنْ نستحضر هنا مقولة "لا اجتهاد مع النصّ"، ليتضح لنا نوعية التفكير الذي يصدر عنه هؤلاء، حيث لم يعد في ثقافتنا النصّ يعني سوى (قرآن، سنة)، عمل الصحابة، الإجماع. والواقع أنّ إلحاق المكوّنات الأخيرة (عمل الصحابة/الإجماع) بالنّص الأصلي المتمثل في النّص القرآني هو كما يرى المنصف بن عبد الجليل "بأنّ الفكر الإسلامي لبَّس النّص الموحى بالمُحْدَث الثقافي، لأنّ للثقافي سيادة تحتاج إلى شرعية مُلزِمة".[11] وهنا نتوافق مع رؤية عبد الجواد ياسين في اعتباره عدم وجود إسلام قبل النصّ، ففي البدء كما قال كان النصّ، ولما كانت وظيفة هذا النصّ هي العمل في واقع الحياة كان من الطّبيعي أنْ ينشأ الفقه، أيْ مجموعة الأحكام النّاجمة عن احتكاك النصّ بالواقع[12]. أمّا منشأ قداسة النصّ، فيأتي كما بيَّن ذلك هادي عبد الرحمن من: "أنّ بتقديس النصّ القرآني سادت روحٌ تقديسية للكلمات الدِّينية عموما، وهو ما أضفى على أحاديث الرّسول والصّحابة نفسُ الروح، فأخذت هي الأخرى منزلة عظيمة في تكوين العقلية الإسلامية".[13]
إنّ التّأسيس لسلطة النصّ في الثّقافة العربية الإسلامية كان منشؤه رسالة الشّافعي، وكان الهدف حينذاك محاولة استيعاب كلّ المستجدّات التي يمرّ منها العالم الإسلامي وربطها بالنصّ، وإيجاد علائق معيّنة معه. ولم يكن بعيدا هذا التشكّل العقلي عن السّلطة السّياسية التي ساهمت بدورها في حسم محاولات الاختلاف الذي يمكنه التّشكيك بمصداقيتها المبنية أساساً على النصّ، درءا للفتنة على حدّ زعمها، وفرض الخطاب الإيديولوجي الواحد للسّلطة. وهنا برز العمل الذي قام به الشّافعي من خلال رسالته، إذ لا يمكن فهمها إلا فرْضاً لهذا الخطاب السّياسي، بما أقرّه من اختيارات تفضي إلى سيطرة مدوّنة نصّية محدّدة على الواقع في جميع أبعاده، ولا تعدو هذه المدوّنة النصّية أنْ تكون قراءة للنصّ بكلّ ما تخفيه عملية القراءة من مؤثِّرات غير نصّية على حدّ قول ناجية الوريمي[14].
إنّها الملاحظة نفسِها التي سعى علي مبروك إلى تثبيتها، فلقد أكّد هو الآخر عن المنحى الذي بلْوَرتْه رسالة الشّافعي في العقل الفقهي الإسلامي، إذ إنّ سمة أيّ فِعل تأسيسيّ هو القطع على نحو ما مع ممارسة تسبق تبلوُره داخل حقله، لِذا فتأسيس الشّافعي لعلم الأصول قد ارتبط جوهريا بالسّعي الحثيث إلى القطع كلِّياً مع الاختلاف، وإقصائه، ومعه الرّأي من الحقل الفقهي[15]. وهكذا ابتدأت سيرورة التقديس بوصفه خطاباً يسعى إلى تثبيت سلطة الأصل، بعد أنْ كان مجرّد ممارسة في السّياسة تستهدف تأبيد حضور السّلطان- الأب[16].
ما يمكن أنْ نستشفه من خلال ما سبق هو أنّ الآلية التي تمّ اعتمادها في إنتاج الأصل، هي تماما كآلية التّداول النّقلي للنصّ المؤسِّس (القرآن)، والتي لم تكن بدورها من إنتاج النصّ، بقدر ما كانت من إنتاج الثّقافة. ولتحقيق غاية تحويل رسالة الشّافعي إلى مُسَلَّمة لا يرقى إليها الجدل، بنى هذا الأخير خطابه على معطيات مقدّسة في الضّمير الجمعيّ مدارها التّرجمة عن إرادة الله والرّسول بعيدا عمّا هو بشري. وقد كانت أولى هذه المُسَلَّمات تثبيت سلطة الحديث كنصٍّ موازٍ للقرآن، والقطع مع أحكام تخالف المدوّنة النصّية المقرّرة؛ أيْ لا اجتهاد خارج النصّ، فالاجتهاد عنده قياسٌ لا غير[17].
إن مقولة: "لا اجتهاد مع النّص" تندرج ضمن هذا الإطار، حين يصبح النّص مفارقاً للتّدخّل البشري، في حين أنّه جزءٌ لا يتجزّأ من هذا التّفاعل، مع أنّ هذا النصّ لا يمكن أنْ يتجلّى إلا من خلال العنصر البشري[18]. فرغم هذا البيان المنطقي في ربط معاني ما يعتبر نصّاً، والتدخّل البشري بمستوياته المتعدِّدة، فإنّ النّسق الفكري في شِقِّه السَّلفي، يرى ثبات المعاني والمفاهيم والأحكام، ولا يؤمن بتاريخية الفهم المتولِّد عن هذه النّصوص، باعتبار هذا المنهج هو أحد روافد التّفكير الماركسي للإسلام.
يتشبَّث المدافعين عن القاعدة السّابقة بمجموعة من المغالطات المنطقية والعقلية، لعلّ أهمّها الاختلاف في مفهوم النّص. هل النّص في سياق هذه القاعدة يقصد به النّص قطعي الثّبوت وقطعي الدلالة؟ أم هو النّص ظنيُّ الثّبوت وظنيُّ الدلالة؟. فلو سلَّمنا جدلاً بأنّ المقصود هنا هو القطعي الثّبوت والقطعي الدّلالة؛ بمعنى أنّ قطعي الدّلالة هو ذلك النّص الواضح الذي لا يحتمل تعدُّد المعاني، واستبدلْنا العبارة "لا اجتهاد مع وجود نصّ" بعبارة "لا اجتهاد مع وجود نصّ قطعي الدّلالة"، فإنّنا حينها سنحوِّل كما يقول عادل ضاهر العبارة الأصلية إلى مجرّد تحصيل حاصل، مؤدّاه أنْ لا اجتهاد مع وجود نصّ لا يحتاج إلى اجتهاد. والعبارة الأخيرة لا شكّ لا تقول شيئا.[19]
كما يحتجُّ البعض بمسألة معيار اتّفاق العقول، وهي قاعدة مفادها أنّ العقول تتّفق على معنى النّص؛ أيْ بصورة أدقّ اتّفاق العقول حول الحكم المقصود من النّص. ويشترط لتحقيق هذا المبتغى، أنْ لا يكون النّص قطعي الدلالة في الماضي والحاضر والمستقبل مثار خلاف بين النّاس، أو بين منْ توفّرت فيه شروط النّظر في النّصوص الشّرعية. فإذا تأمَّلنا في هذا المعيار وجدناه مخالفا للمنطق، لأنّ المستقبل مفتوح والوقائع متجدّدة، ولا يمكن أنْ يعرف الإنسان إمكانية استخراج معاني نصوص، بالحكم بثبات الفهم والمعنى وحبس الاجتهاد.
المغالطة الثالثة التي تحملها قاعدة "لا اجتهاد مع وجود نصّ"، هي اعتبار النّص القطعي الدّلالة، هو ذلك المرتبط بشقّ الشّريعة خاصّة مسألة الحدود. ويكفي أنَّ النّصوص نفسها التي تُعدّ عند فريق قطعية الدّلالة لا تحتاج إلى اجتهاد، هي عند فريق آخر خاضعة للتَّأويل والتّفسير، ليسقط هذا البناء النّظري غير العقلاني في بنية المؤسَّسة الدّينية التقليدية، التي أغلقت باب الاجتهاد بقواعد خلقتْها وأنْتجتها، وسيّجت من خلالها عملية الابتكار والإبداع في مجال المعرفة الدينية.
3- نقدُ النّقد أو علي حرب قارئاً دوغمائيات المثقّف:
لاكتشاف معالم الأزمة في خطاب المثقف، وفي نظرته لذاته ومجتمعه يعدّد علي حرب مجموعة من الأوهام التي يعيشها المثقّف، ويحصرها في خمسة: وهي وهم النّخبة، وهم الحرية، وهم المطابقة، وهم الهوية، وهم الحداثة. هذه أصول الدّاء في فكر المثقف، وفي علاقته بالآخر، والمحيط، وجب تفكيكها، وتعرية المسلَّمات التي تقف وراءها:
وهم النخبة: بهذا الوهم وجد المثقّف نفسه أمام مسؤولية جسيمة، فهو الذي طالما سعى إلى تنصيب نفسه وصيّاً على النّاس، وقائدا ملهما للجماهير. ولقد كانت الإخفاقات المتوالية لهذه الفئة تعبّر دوما عن جروح نرجسية، يعاني منها كلّ من حاول الانتماء إليها، حيث "طالبوا بالوحدة فإذا بالواقع ينتج مزيدا من الفرقة، وناضلوا من أجل الحرية، فإذا بالحريات تتراجع، وآمنوا بالعلمنة، فإذا بالحركات الأصولية تكتسح ساحة الفكر والعمل".[20]
لا مناص بأنّ هذا الواقع لا يمكن أن ينتج إلا عقلية تعاني من جروح نرجسية لا يكفيها أن تخفي عيوبها بالتستّر، وهو واقع ساهم فيه بشكل كبير المثقّف نفسه من خلال نظرته إلى ذاته، ولو أنّه دوما كان يتحجّج بواقعه، وبنظرية المؤامرات التي صنعها وصدّقها إلى حدّ التماهي معها. إنّ نرجسية المثقّف هي في تعامله مع نفسه من أفقٍ اصطفائي نخبوي، فهو القائد، والرّسول، والمبشّر، والحارس للأفكار، والموجّه، والمرشد. وكان ثمن هذه العقلية، وهذا النّمط في التفكير عزلته عن النّاس، والوقوع أسيراً لأفكاره، ومخططاته، ومشاريعه. فتحوّلت كل أفكاره إلى أضدادها.من هنا كان لزاما على المثقف أنْ يعيد قراءة ذاته، ويقرّ باليقين أن مشكلته في أفكاره، وأن مأزقه في نخبويته وعزلته؛ إذ إن مسؤولية التّغيير لا تقف على فرد مع أهمية ذلك، ولكنّ التغيير عملٌ جماعي، وكلّ واقع هو إفراز طبيعي لمن يعيشونه، ويفكرون به وفيه.
وهم الحرية: ينبثق هذا المعطى من أنّ المثقّف يعتقد واهماً بأنّ بإمكانه تحرير المجتمعات والشّعوب من القهر والعبودية والظلم. وقد شكّل هذا الوهم عائقا أمام المثقّف على الاضطلاع بمهمّته الأولى، وهي الإنتاج الفكري، ومعرفة الإنسان، ومتطلباته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا يمكن أنْ يكون المثقّف منتِجاً في مجاله الطّبيعي إلا بافتتاح منطقة للتّفكير، واجتراح طريقة لها، تتيح إدارة الأفكار على نحوٍ يجعلها أكثر واقعية وفاعلية. ولعلّ المدخل الأساسي لهذه العملية، هو النّقد بوصفه الوسيلة المثلى لتصويب الفكر، وطرح البدائل الممكنة، وتفكيك الأنساق بغية تجاوزها، أو الحفاظ على مناطق الاستنارة فيها.
ومن هذا المنطلق، يجد المثقّف نفسه ملزَماً بطرح التّساؤلات النّقدية حول ما يفهمه عن مفهوم الحرية: "لماذا يزداد انتهاك الحرية في عصر التحرّر وعلى يد دعاة التحرّر أنفسهم؟ أو لماذا تتراجع الحريات الديمقراطية على أرضها بالذات؟". هكذا تكون النتيجة لمن لا يسأل ولا ينتقد، ولا يقرأ ذاته بعيدا عن أناه، إذ من لا ينتج معرفة بالمجتمع، لا يستطيع المساهمة في تغييره، ومن لا يبدع فكراً هو أعجز عن أن يؤثر في مجرى الأحداث وتطوّر الأفكار. وهذا هو مأزق المثقف، وتلك هي إشكالية أزماته.
وهم الهوية: وتعني أنّ المرء يعتقد بأنّ بإمكانه أنْ يبقى هو هو، بالتطابق مع أصوله، والالتصاق بذاكرته، أو المحافظة على تراثه. وهذا هو مكمن الأزمة في فكر المثقف، فهو أيضا يعتقد بأنّ الهوية شيء ثابت، لذلك نصّب نفسه حارساً للأفكار، ناطقا باسم ما يحمله من هوية، جامدا في مكانه، بعيدا عن الانخراط في التحوّلات المتسارعة التي يعيشها العالم المعاصر. وبدل أنْ يشتغل بإنتاج الأفكار، والعمل على تطويرها، لأنّها مهمته الأساسية، آثر التقوقع على الذّات، والحفاظ على الهوية، والانتماء إلى عوالم العقيدة والقبيلة والتراث، بدل عالم الفكر.
وهم المطابقة: مفاد هذا الوهم أنّ الحقيقة جوهر ثابت، سابق على التجربة، متعالٍ على الممارسة، يمكن القبض عليه عبر التصوّرات، والتّعبير عنه بواسطة الكلمات. ومن ثمة ترجمته في الحياة العملية، والممارسات التطبيقية. لكنّ هذا الاعتقاد كثيرا ما آل إلى إحباطات كبيرة: "فالذين أملوا بالسّلام لم يحسنوا سوى صناعة الحرب، والذين فكّروا في زوال الدّولة لم يؤسسوا مملكة للحرية، بل انتجوا دولة كلّانية سحقت الفرد، وابتلعت المجتمع المدني ومؤسّساته ...".
وكذلك الأمر في علاقتنا مع الدّيمقراطية، وفشل تجربتها بمجتمعاتنا، فالكثيرون ظنّوا بأنها مجرّد فكرة يتمّ اقتباسها، وإنّما هي عمل شاق ومتواصل يقوم به المجتمع على نفسه، وهو ما يحيلنا إلى ما سمّاه جورج طرابيشي بإشكالية المفتاح والتّاج، حيث يبتدئ طرابيشي[21] مقاربته لهذه الإشكالية، بسؤال يحمل هذه الطّبيعة: هل الدّيمقراطية هي المفتاح السّحري الذي نفتح به جميع الأبواب المقفلة، أمْ إنّ الديمقراطية هي على العكس من ذلك، التّاج الذي يتوِّج التطوّر العضوي للمجتمع المعني، وينهض مقياساً على مستوى تطوّره؟. وما أراده الكاتب من خلال هذه الإشكالية هو ضرْبُ الإيديولوجية الخلاصية، التي تعتمل في المخيِّلة الجمعية للإنسان العربي. فالدّيمقراطية هي مسارٌ اجتماعي، وتتويج لحركة اجتماعية، وليستْ مفتاحاً سحرياً، ينقُل المجتمع من طور التخلف، إلى طور التقدّم. ولنا في النّماذج الأمريكية والفرنسية خيرُ مثال على ذلك.
وهم الحداثة: ويعني به علي حرب تمسّك الحداثي بحداثته كتمسّك اللاّهوتي بأقانيمه، أو المتكلّم بأصوله، أو المقلّد بنماذجه، وهكذا فنحن بإزّاء سلوك فكري يتجلّى في تقديس الأشخاص، وعبادة النّماذج، والتعلّق الماورائي بالأسماء. وهكذا فالكلّ يفكر بطريقة نموذجية في أبعادها ومآلاتها، مهما تعدّدت النّماذج. فالحداثة لا تصنع بالتّقليد، شأنها شأن الديمقراطية كما أشرنا سالفا، لكنّ الحداثة مسار شاق وطويل يصنع بالخلق والإبداع، والخروج من ضيق القوالب الفكرية. إنها طفرة في الوعي والإدراك والفكر.
[1]- جوزيف، أوكنور. حرر نفسك من الخوف. ترجمة سهى نزيه كركي. العبيكان، 2008، ط2. ص 30
[2]- andre comte sponville, présentation de la philosophie. Albin michel. Fichier pdf. P8
[3]- الحلاّق، جمال علي. مسلمة الحنفي قراءة في تاريخ محرّم. بغداد، منشورات الجمل، ط1، 2008. ص 6
[4]- الحلاق، جمال علي. تأجيل اللذة. دار مقهى للطباعة والنشر. ط2، 2012. ص 25
[5]- حرب، علي. النص والحقيقة II. نقد الحقيقة. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1993، ط1. ص 15
[6]- انظر شذرات من هذا التاريخ الدموي كتاب. الهادي، العلوي. (1999). فصول من تاريخ الإسلام السياسي. (ط2). مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي.
[7]- ابن كثير، إسماعيل الدمشقي، البداية والنهاية، دار الحديث، ط5، 1418/1998، ج 9، ترجمة الجعد بن درهم.
[8]- غليون، برهان. اغتيال العقل. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2006، ط4. ص 135/136
[9]- يرى بنسالم حميش أن الاختلاف في تأويل رسالة الله مع أنها واحدة، لا يعود إلى ذوات المؤولين فقط، ولكن كذلك إلى طبيعة المادة المؤولة من حيث قابليتها واتساع فضائها لعمليات التأويل. انظر: حميش، بنسالم، التشكيلات الإيديولوجية في الإسلام. تقديم ماكسيم رودنسون، ومحمد عزيز الحبابي. بيروت: دار المنتخب العربي، 1993، ط1. ص 13
[10]- حرب، علي. النص والحقيقة II. نقد الحقيقة. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1993، ط1. ص 6
[11]- المنصف، بن عبد الجليل. (1990). في قراءة النص الديني. (ط2). المنهج الأنثروبولوجي في دراسة مصادر الإسلام. الدار التونسية للنشر. ص 44
[12]- ياسين، عبد الجواد. السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ. بيروت. المركز الثقافي العربي، 2000، ط2. ص 33
[13]- عبد الرحمن، عبد الهادي. سلطة النص. سينا للنشر، ومؤسسة الانتشار العربي، 1998، ط1، ص 71
[14]- بوعجيلة، ناجية الوريمي. في الائتلاف والاختلاف: ثنائية السائد والمهمّش في الفكر الإسلامي القديم. دمشق، دار المدى للثقافة والنشر، 2004، ط1. ص 123/124
[15]- مبروك، علي. ما وراء تأسيس الأصول: مساهمة في نزع أقنعة التقديس. القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2007، ط1. ص 72
[16]- المرجع نفسه. ص 75
[17]- بوعجيلة، ناجية الوريمي. المرجع السابق ص 124
[18]- أبو زيد، نصر، حامد. (1994). نقد الخطاب الديني. (ط2). مصر. سينا للنشر. ص 125
انظر التيزيني، طيب. (1997). النص القرآني بين إشكالية البنية والقراءة. دمشق. دار الينابيع. ص 16
[19]- ضاهر، عادل. أولية العقل: نقد أطروحات الإسلام السياسي. لبنان: بيروت. دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، 2001. ص 305
[20]- حرب، علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2004، ط3. ص 98 وما بعدها.
[21]- طرابيشي، جورج. هرطقات عن الدّيمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية. بيروت: دار الساقي ورابطة العقلانيين العرب، 2006. ص 10