في الحاجة إلى خطاب فلسفي عقلاني
فئة : مقالات
شكّل الربيع العربي حدثاً تاريخياً غير مسبوق في العالم العربي، تناسلت معه نقاشات ما تزال مستمرة رغم مرور خمس سنوات شملت مختلف المجالات السيّاسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة...، ونادت أقلامٌ عدَّة بإصلاحات سياسيّة واقتصاديّة في المَقام الأول، في حين أنّ القليل من النُخبة الفاعِلة في هذه الرقعة الجغرافيّة انتبهت للحاجة إلى إصلاح ثقافي ونهضة فكريّة لا محيد عنها لحصول تغيير حقيقي قوامه: الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة.
لا تنفك الفلسفة بدورها عن بلورة رؤى وأفكار مسايرة لديناميّة الشارع وتنصت لنبض المجتمع، بحيث طُرحَت نقاشات في صفوف المشتغلين بها حول علاقة الفلسفة بالثّورة والحراك العربي والفضاء العام والتنوير والحداثة والديمقراطيّة والمساواة والحريّة...، ونُظِّمت ندوات وأيام دراسيّة وورش فكريّة ومحاضرات حول دور الفلسفة ومكانتها في ما يجري في الميادين العموميّة من ديناميّة سيّاسيّة غير مسبوقة، لكن سرعان ما تحول النقاش من تفاعل مع تلك الديناميّة إلى نقاش حول العنف والدين والسّلطة والرأسماليّة والهويّة بحكم ما جرى في ليبيا وسوريا والعراق ومصر...، ممّا يدل على أنّ سيرورة التمرد والانتفاضة الشعبيّة ضد بنيات التّسلط والاستبداد والقمع تفرض التريّث في الحكم على مآلات الأنظمة السياسيّة التي أبانت في بعض التجارب عن تجذُّرها وتغلغلها في أعماق الشعوب بميكانيزمات تشي بتراكمات خبرة عقود وأحياناً قرون من الزمن، كما تفرض التحلِّي بالنفَس الطويل، لأنّ الإصلاح السيّاسي يلزمه إصلاح ديني وثقافي واجتماعي.
1- الرأسمالية والحاجة إلى الفلسفة
من بين المقاربات النادرة جداً تلك التي ربطت بين أزمة الرأسماليّة العالميّة وتفجُّر النضال الشَّعبي بالعالم العربي، حيث ذهب سمير أمين إلى أنّ هذه الأزمة ما هي إلا تنفيس لأزمة الرأسماليّة العالميّة، والتي لا محالة ستنتقل إلى الدول الصناعيّة بفضل التحولات الجارية على كلّ المستويات مع موجة النيوليبراليّة التي أدت إلى تفقير فئات عريضة من الساكنة النّشيطة، ناهيك عن تدهور أوضاع الطّبقات الوسطى التي تضمن الاستقرار السيّاسي، بحيث إنّ سلسلة الإصلاحات النيوليبراليّة الجاريّة التي مسَّت الخدمات الاجتماعيّة العموميّة: أنظمة التقاعد، الصحة، التعليم، الحماية الاجتماعيّة، السكن، الهجرة...، ستعمّق حدة التناقضات الطبقيّة بين المالكين لوسائل الإنتاج والمقصيِّين من دائرة الإنتاج، لأنّ درجة الاستبعاد الاجتماعي ما تنفك تتسع يوماً بعد يوم. وعلى هذا الأساس يشدِّدُ سمير أمين على أنّ انتفاضات الشعوب العربيّة ما هي إلا تجلٍّ أوّل لتلك الأزمة وتصريف لها على مستويات الهامش.
كما ذهب جلبير الأشقر إلى الطرح نفسه داعياً إلى ضرورة استكمال مهام الثورة الدائمة من خلال تعزيز المقاومة الأمميّة في كلّ مكان، وقد ربط في هذا السيّاق بين صعود الرأسماليّة وصعود تيارت السّلفيّة الرجعيّة التي تمثل جناحاً برجوازياً بامتياز، يمكنه أن يخدم مصالح الإمبرياليّة العالميّة في هذه الفترة بالذات.
لم تعد أزمة الرأسماليّة تقتصر على المستوى الاقتصادي وحده، بل هي أزمة بنيويّة شملت مختلف المجالات: البيئة، الأسواق الماليّة، الأمن الغذائي...، وتظهر حدّتُها في مجموع المشكلات التي تواجه الكوكب الأزرق برمّته من كوارث طبيعيّة نتيجة اختلالات النظام البيئي الذي تسبّبت فيه بالدرجة الأولى الدول الصناعيّة، إلى جانب مشكلات الهجرة، والحروب، والتعديل الوراثي الذي يمسّ سلامة ومستقبل البشريّة، والتحول الجنسي، وإدخال التقنيّة إلى جسم الإنسان، وعودة الأمراض والأوبئة والمجاعات بشكل غير منظور.
يجري هذا أمام أعين الجميع، ونعيشه يومياً بالحدّة نفسها، إلا أنّ الأصوات الداعيّة إلى عولمة بديلة ما تزال ضعيفة جداً مقارنة مع لا مبالاة الغالبيّة العظمى من ساكنة العالم، ورغم ذلك ثمّة أصوات قليلة تقاوم هنا وهناك للتحسيس بالنتائج الكارثيّة التي أدت إليها الرأسماليّة على مختلف الأصعدة. ومن هذا المنطلق نرى أنّ الفلسفة بما هي فكر نقدي ممانع عليها ألا تسكت عن هذا، بل عليها أن تفكر في مجمل المشكلات، وأن تحث على التفكير في اليومي بما هو مظهر جوهري لكوارث العالم، لذلك نتساءل: كيف السبيل إلى تعزيز دور الفلسفة في النقد اليومي؟ هل يمكن للفلسفة أن تكون حقاً فكراً ممانعاً لشتى مظاهر الإجهاز على الوضع الطبيعي للبشر؟ كيف تفكر الفلسفة في مرحلة ما بعد الإنسانيّة كما سمّاها بيتر سلوتردايك؟ هل يتوجب أن تكون المقاومة شاملة وأمميّة بالضرورة، أم المقاومة تبدأ من كلّ نقطة وفي كلّ رقعة؟ كيف السبيل إلى بلورة بدائل فعّالة لمواجهة مصير الإنسان والكوكب معاً؟
2- الهويّة والعنف
قيل الكثير عن سؤال الهويّة والعنف. وممّا لا شك فيه أنّ تعميق أزمة الهويّة قد ترافق مع موجة النيوليبراليّة التي فرضت أنماطاً أحاديّة في التفكير والاستلاب وطرق العيش، من جهة أنّ العولمة النيوليبراليّة عمّمت قيماً وثقافة أحادية الاتجاه تتجه نحو محو بعض الثقافات المحدودة التداول والانتشار. وفي الوقت نفسه عزَّزت من اندلاع بؤر توتر حقيقيّة في مناطق مختلفة من العالم بفضل تجارة السّلاح والصناعات الحربيّة، بحيث لا تكاد تتوقف حرب جزئيّة حتى تندلع أخرى.
لا يتعلق الأمر بحروب مشروعة بين خصوم حقيقيين، بل بحروب شعواء ومدمّرة تشمل مختلف أنماط الوجود البشري: حروب طبقيّة هنا وهناك، تنتشر كالنار في الهشيم بفعل توجه الشركات متعددة الجنسيّات نحو محو أثر الرساميل في طور النمو، لأنّ منطق التراكم الرأسمالي يشرعن عمليات الاحتكار والابتلاع والسرقة غير المبرّرة. شهدنا في نهاية التسعينيات من القرن الماضي انهيار بورصة أندونيسيا (97) وقبلها المكسيك (96)، وتناسلت الأزمة الماليّة في أمريكا وأوربا منذ 2007 وما تزال مستمرة بطرق خفيّة لا تظهر للعيان، ولكنّها موجودة ويتمّ تصريفها بطرق مختلفة هنا وهناك.
انتقلت الحرب من حرب بين معسكرين إلى حرب بينذاتية، حيث تناسلت الحروب الأهلية التي تقنعت بدعوى امتلاك الحقيقة، وتلبَّست بلباس ديني وعقدي وثقافي. فهل تكفي أزمة الهويّة والانتماء ومستقبل الأمّة والجماعة والقبليّة والعرق واللغة لتفسير هذه الحروب، وهذا السّيل الجارف من العنف؟ هل العنف هو قدر توارثناه منذ الخطيئة الأولى، وبالتالي صار شراً لا بدّ منه؟ أليس وراء العنف المنتشر في العالم مصالح مباشرة لكمشة من مالكي وسائل الإنتاج؟ ما الذي يبرّر وقوف آلات إعلاميّة جهنمية وراء تدويل العنف على الناشئة؟ أليس من سبيل لتعميم ثقافة السلام؟ هل يسعف الخطاب القيمي الفلسفي في التصدي لواقع العنف والدمار الذي يشمل هويّة الأفراد؟ فيمَ تفيد الفلسفة تجاه سؤال الهويّة والعنف؟
3- العَلمانيّة والحداثة
تناسل النقاش في العالم الغربي بعد أحداث 11 شتنبر 2001 حول ضرورة إعادة النظر في أسس الليبراليّة السيّاسيّة لإعادة تنظيم العلاقة بين الفعل الديني والفعل السياسي، ونتج عن ذلك إعادة التأكيد على حياديّة الدولة تجاه رؤى العالم، مع الإقرار بضرورة اقتحام الفاعل الديني للمجال السيّاسي العمومي بقواعد جديدة وصارمة اعتقاداً أنّ من شأن ذلك امتصاص حدة التّطرف وتنامي الخطاب الأصولي، غير أنّ هذه المراجعة لم تحظَ بالقبول الكافي في نظر بعض الفلاسفة المعاصرين، وعلى الأخص يورغن هابرماس (فيلسوف الاتحاد الأوروبي) الذي شدّد على ضرورة تجاوز المجتمع العلماني نحو مجتمع ما بعد علماني عنوانه العريض التسامح مقلوباً: تسامح العَلمانيّين مع المؤمنين والاعتراف بحقهم في التداول والمناقشة العموميّة شريطة تبادل حجج مقبولة وتستجيب لخطاب ما بعد الفكر الميتافيزيقي، أي ضرورة ترجمة الخطاب الدّيني إلى خطاب دنيوي واقعي يرقى إلى مستوى الحجّة المقبولة في التداول السيّاسي.
من المؤكد جداً أنّ سيرورة العلمنة الجارية في بعض التجارب الدوليّة اتخذت اتجاهات مختلفة، ولكنّها على العموم مشروطة بحداثة غير مشوّهة وبتحديث صارم لمختلف مجالات العيش المشترك، غير أنّ البلدان العربيّة ما تزال غارقة في مشاريع مجتمعيّة ماضويّة تنعشها أصوليّة متطرفة وتيارات محافظة تمسك بالفعل السيّاسي وتسدُّه أمام دعاة التنوير والفكر الحداثي وأمام نخب العَلمَنة.
نعتقد أنّ العَلمَانيّة ليست مجرد خيار سيّاسي، بل هي أساس تنظيم الحياة البشريّة لترسيم قواعد عيش مشتركة تنبني على أسس القيَم الإنسانيّة عموماً: كيف يمكن الدفع بالخطاب الحداثي نحو ترسيخ علمنة غير منقوصة؟ هل يمكن للدرس الفلسفي أن يعمّم خطاب التنوير ويعلي من القيم الحداثيّة؟ ألا يتعلق الأمر بممارسة يوميّة مطلوبة من كلّ الحاملين لمشروع التنوير وقادرة على الممانعة ومواجهة الفكر المحافظ؟
4- الدِّين والسُّلطة:
كثيرة هي الخطابات السّوسيولوجيّة والإنثربولوجيّة والسيّاسيّة التي وقفت على تحليل وتفكيك العلاقة بين الدِّين والسُّلطة السيّاسيّة، خاصة في العالم العربي حيث التماهي المطلق بين مجال السيّاسة ومجال الدِّين، وذلك راجع إلى استغلال أنظمة الحكم للسلطة الدينيّة لشرعنة وجودها وتسلطها وانفرادها بالثروة العموميّة، لكنّ هذا لا يمنع من وجود خطاب فلسفي يحاول فهم طبيعة التداخل بين الدين والسلطة.
نشهد على طول خريطة هذا العالم تنامي وصعود تيارات السلفيّة الرجعيّة بحدّة، وقد حاولت التّسلل إلى ميادين التحرير وإلى فضاءات المقاومة الاجتماعيّة والسيّاسيّة لفرض مشروعها الثيوقراطي الماضوي: ألا يشكّل هذا المشروع الظلامي خطراً على هذه المجتمعات؟ هل ثمّة فرق بين خطاب هذه التيارات وخطاب الاستبداد؟ ألا يهدّد المشروع الماضوي لهذه التيارات سعي مجتمعاتنا إلى الانعتاق من نير الاستبداد والظلم والتهميش؟