في الحرية الإنسانية
فئة : ترجمات
في الحرية الإنسانية[1]
(I)[2]
1. يقال غالبا إن مشاكل الفلسفة أزلية، فقد نوقشت عبر الأزمان، لكن أبدا لم يتم حلها، وهذا ما يؤول أحيانا بكونه علامة على أن الفلسفة لا تعرف أي تقدم أو على الأقل إن متابعة الفلاسفة غير مثمرة، فكل هذا هدر.
ليس صحيحا بالمرة كون المشكلات الفلسفية أزلية، على الأقل فإن موقعها من النقاش -سواء كان في المركز أو الهامش- متحول، حيث تعكس هذه التحولات التغيرات العميقة في الثقافة الفكرية لحقبة ما. مثال ذلك، مشكلة وجود العالم المادي أو العالم المفارق (الخارجي)، ومشكلة «حرية الإرادة» مثال آخر. بالنسبة إلى المشكل الأول لا يمكننا القول بوجوده في الحقبة القديمة والقروسطوية من التفكير الأوروبي. أما بخصوص المشكل الثاني، فلم يتم استيعاب الفلسفة الإغريقية بشكل كاف. لقد حصل كلا الإشكالين على تطورهما الحديث تحت ضغط الانطباع الناتج عن النظرة الآلية للعالم، والتي تولدت عن الثورات في مجالات الفلك والفيزياء في أواخر عصر النهضة والحقبة الباروكية، بالتالي يمكن القول إنهما "تبلورا" في الفلسفة النسقية الديكارتية.
غالب الظن إن ذلك صحيح جدا، فالإشكالات الفلسفية لم «تحل». ويبدو عبثيا القول إن جـ. مور G. E. Moore قد «أثبت» أخيرا إن هناك عالما خارجا عن فكري –رغم إنه لا يمكننا أن نجد أي خطأ في حجته، فقد نجح Moore في الغالب في اختصار النقاش لبعض الوقت، لكن يمكن للمرء أن يتوقع إحياء النقاش مجددا، ورغم إنه لا يمكن أن يكون متأكدا إلا من إن ما يعتقده يعد مهما؛ إذ إن الكثيرين سيعتبرون إن لا «إشكال» هناك على الإطلاق، أو ليس هناك أي إشكال[3] بعد.
أحد الملامح المهمة لهذا التغيير في الفلسفة يتعلق بالطريقة التي صيغت بها الإشكالات. إشكال الحرية الذي هو موضوع قراءات متعددة يعد مثالا جيدا، ولوقت طويل كان أمرا عاديا التفكير كون الأفعال الإنسانية بما هي تمظهرات علنية للسلوك ناتجة عن شيء اسمه الإرادة أو أفعال الإرادة. يقال عادة، إن الحرية الإنسانية تتشكل فقط من أفعال الفاعل التي تحددها إرادته وليس من قوى خارجة، والتي ليس له سيطرة عليها أو تحكم فيها. هذه كانت كيفية المصالحة بين الحرية والحتمية، فقد كان يعتقد أن ذلك مهم ما دام أن العلم يغذي ويوافق على النظرة الحتمية للعالم، لكن الصعوبة كانت كامنة في الخلفية.
نسلم إن الفعل حرّ حين يكون متوافقا مع إرادتنا، لكن ماذا عن الإرادة نفسها؟ هل نحن أحرار في إرادة ما نريد؟ أم إن الإرادة محددة بشيء آخر؟ إذا لم تكن الإرادة حرة، على ما يبدو، فالفعل المحدد بواسطة الإرادة يمكن أن يكون على الأكثر حرا بمعنى نسبي.
أسئلة مثل هذه تشكل ما أقترح تسميته بالمشكلة "الكلاسيكية" للحرية والإرادة، وأظن أنه من الصواب القول إن هذا المشكل بالذات يتراجع تدريجيا نحو الزوال.
ليس هناك شيء يعتبر إرادة "مجردة"، فالإرادة ذات موضوع، إنها إرادة شيء ما. نفس الشيء ينطبق على النية، الرغبة، والتمني. نادرا ما نفسر فعلا ما عبر القول إننا أردنا أو رغبنا فيه فقط. فتقديم هذا الجواب هو أقرب إلى تنحية جانبا السؤال لماذا فعلنا ذلك - كما لو إننا نقول "ليس من شأنك الاستفسار حول دوافع فعلي". إن السبب وراء فعلي شيئا ما قد يكون الطمع أو الرغبة في شيء آخر أظن إن الفعل يوصل إليه. هذا الشيء الآخر إذا هو موضوع إرادتي، والإرادة كانت السبب أو المدعى لفعلي، والذي دفعني للقيام بما قمت به[4].
يمكن أن نقول إن الطريقة "الكلاسيكية" في وضع مشكلة الحرية تحجب العوامل التي عادة ما تحدد أفعالنا، أي الأسباب التي تجعلنا نقوم بها. بعد هذه الملاحظات لا يجب أن أضيف أي شيء هنا بخصوص المشكلة التقليدية لحرية الإرادة.
هناك طريقة ثانية يمكن من خلالها طرح مشكلة الحرية، حيث تستحق هي أيضا لقب "كلاسيكية"؛ لأنها مرتبطة أساسا بالأفكار التقليدية حول الحتمية في العلم، وهي كالآتي:
كل فعل إنساني يمكن أن يتسم بملمح فيزيائي (جسمي، جسدي) يتألف من نشاط عضلي أو عصبي وحركة مختلف الأطراف، ومن خلال هذا، غالبا أيضا ما تحدث بعض التغييرات في المحيط الفيزيائي. هذا الملمح الجسدي للفعل عبارة عن حدث، أو تسلسل من الأحداث، على سبيل المثال، في الطبيعة في المكان والزمان. مثل هذه الأحداث المحتملة لها أسباب (علل) في الجهاز العصبي، وهو ما يسميه البعض بـ "أعصاب العضلات". هذه الأعصاب بدورها يمكن أن تتولد عن تغيرات جسدية سابقة، ربما ناتجة عن محفز من خارج الجسد. إذا كانت كل الأحداث الطبيعية مسببة من طرف أحداث طبيعية سابقة، بالعودة إلى الخلف قد نسقط في سلسلة لانهائية إلى "بدء الخليقة"، أو ليست ملامحنا الجسدية والمحددة لأفعالنا سلفا بطريقة لا يمكن التوفيق بينها وبين الحرية المزعومة للفاعل فيما يتعلق بما فعل؟ لقد كان هذا تحديدا السؤال الذي أقلق كانط، فكأي طفل في عصره لم يكن كانط يشكك في الصلاحية الكونية لقانون السببية في عالم الظواهر من الأحداث في الزمان والمكان. لكن الإنسان بما هو فاعل، يفكر، إنه أيضا مواطن في عالم النومين، حيث «الأشياء في ذاتها"، كما إنه حر مسؤول عن أفعاله. ومع ذلك، إذا كانت الحياة الجسدية للإنسان مسيرة بواسطة «قوانين صارمة» للضرورة السببية، فكيف يحدث أن تتحرك أطرافه، بشكل عام، حيث «تتوافق» مع أفعال الفاعل بما هي أفعال حرة؟ إن السؤال غامض. إن طريقة الجواب، على ما أظن، تكمن في محاولة صياغته بطريقة واضحة- بالتالي سنرى أن لا سؤال هناك يحتاج الإجابة على الإطلاق. يجب أن أسمي هذا مشكل التطابق؛ وذلك عبر تبني مصطلح مقترح من طرف البروفيسور فريديريك ستوتلاند Frederick Stoutland، وهو ما يجب علي الاعتناء به في القراءة الثانية[5].
2. أحد جوانب ما يعنيه أن تكون حرا، هو أن يكون المرء قادرا على القيام بالفعل، فعل أشياء مختلفة. بالتالي، فمن الطبيعي مقاربة مشكل حرية الإنسان من اعتبارات من قبيل القدرة وضدها؛ العجز. في الواقع ستكون نقطة انطلاقي هي النقطة الأخيرة، لنفترض أن رجلا سئل عما إذا كان يستطيع فعل شيء معين، وأجاب بالنفي إنه لا يستطيع فعل ذلك، ماذا يمكن أن تكون أسبابه لهذه الإجابة؟ هناك العديد من الاحتمالات:
لا يمكنني سياقة دراجة نارية – لم أتعلم ذلك أبدا، ولا أعرف كيف أفعل ذلك، لا يمكنني حل هذا المشكل أو ذاك- إنه صعب جدا بالنسبة لي، وأيضا أشك في أن أتمكن يوما من تحصيل المهارات الضرورية لذلك. لا أستطيع اقتناء سيارة جديدة – ليس لدي الإمكانات المالية، لا يمكنني الوقوف هنا –ليس مسموحا لأحد بذلك (يفترض)، لا أستطيع السماح لك بالدخول – لست مخولا ذلك، ليس لدي الحق في فعل هذا. لا يمكنني أكل الأمعاء – أشعر بكره شديد لها (أكرهها بشدة)، لا يمكنني حضور هذه المسرحية في هيلسنكي –ليس هناك إمكانية، لا يمكنني القدوم غدا-ليس لدي وقت، لا يمكنني الرد على الهاتف- قدمي المكسورة تمنعني من مغادرة السرير[6].
إذا لم يكن في مقدوري القيام ببعض الأشياء؛ لأنني لم أتعلم القيام بها أو لأني لا أعرف كيف أقوم بها، فإن عجزي متعلق في الغالب بفعل من نوع أو نمط لا أستطيع القيام به. يجب أن أسمي هذا الفعل بالفعل العام في مقابل الفعل الفردي الذي أقوم به أو أغفل عنه حسب الوضعيات المتاحة. من زاوية أخرى حين لا يمكنني القيام ببعض الأشياء؛ لأنني ممنوع من ذلك أو لم أتحصل على الوسائل الضرورية للقيام بذلك، فإن عجزي (المنع) متعلق بقدرة فردية خاصة بفعل أو نمط من الفعل أنا قادر على القيام به. في مثل هذه الحالات، أنا أستطيع ولا أستطيع القيام بكل الفعل المقصود. لا أستطيع القيام به الآن، لكن كان في مستطاعي أن أفعله لولا الموانع، ما دام من نوع الأفعال التي أستطيع القيام بها. إنه لا معنى للقول إنني ممنوع من القيام بفعل شيء الآن إذا كان الأمر متعلقا بشيء لا أعرف كيف أقوم به. وعلى نفس الشاكلة، لا معنى للقول إنه يمكنني القيام بشيء، إذا كنت فقط أعرف كيف أقوم به. لكن القول إنني سأفعل ذلك لا يعد هراء (لا معنى). بشكل عام نقول: إن العجز عن القيام بفعل فردي (مفرد) يفترض القدرة على القيام بالفعل العام الذي يحيل عليه[7].
فهل تستلزم القدرة على القيام بالفعل المفرد (الجزئي) القدرة أيضا على القيام بالفعل بشكل عام؟ بالتالي يجب على المرء أن يكون حذرا في الجواب. أحيانا ينجح المرء في القيام بشيء، على سبيل المثال، إصابة هدف ما، وهو ما لا يدعي المرء القدرة على القيام به «بشكل عام». أحدهم كان محظوظا، أو إن الظروف جعلت الأمر سهلا. وهذه الحالة استثنائية. مع ذلك، عادة ما أستطيع فعله في مناسبة مفردة هو فعل ينتمي لنمط من الأفعال التي أستطيع القيام بها.
يبدو إذن، أن العام هو الأساسي بالنسبة إلـى"الاستطاعتين" معا، حيث يمكن أن يحتفظ المرء بمصطلح «استطاعة» لهذا الغرض. ويمكن للبعض أن يعارض «استطاعة القدرة» بـ «استعداد النجاح في الفعل»، وهذه مصطلحات مفيدة لبعض الأغراض.
فما معنى أن تكون قادرا على القيام بفعل ما؟ طريقة معالجة هذه المسألة هي طرح السؤال: متى نقول، في الخطاب العامي، إن شخصا يستطيع القيام بفعل أو نوع أو نمط من الأفعال، مثلا القفز عبر خندق دون تبليل قدميك بالماء؟ نقول هذا، إذا كان في العادة أو في أكثر الحالات يقوم بالفعل وينجح في إنجازه حين يتعهد بذلك. بدلا من «التعهد بالفعل» يمكننا القول «يختار أن يفعل» أو «يحضر نفسه كي يفعل»؛ أحيانا أيضا، اعتمادا على طبيعة الفعل، هناك «أن يحاول الفعل»[8].
لكن ألا يمكن للمرء أحيانا أن يقول، صادقا، عن شخص إن في استطاعته القيام بفعل أو نمط من الأفعال، رغم إنه لم يحاول قط ذلك أو لم يقم به أبدا؟ نعم – شريطة أن يكون الفعل مثل أي فعل آخر عام والذي تحددت قدرته عليه سلفا. ربما لم يقفز رجلنا قط هذا الخندق، أو أي خندق آخر على الإطلاق، لكنه كان رياضيا مميزا. بالتالي، وبشكل مرتجل، يمكنه التصريح باستعداده للقيام بهذا الفعل الخاص أيضا.
ماذا عن الأفعال من قبيل تلك التي يقوم بها الفاعل دائما؟ في العادة، إذا كان في إمكاني القيام بفعل من نوع معين، فأنا أفعله في بعض المناسبات التي توفر هذه الفرصة لأجل القيام به، وعدم القيام به (الامتناع) في مناسبات أخرى. ومع ذلك، هناك بعض الأفعال التي يمكن أن أقوم بها كلما أتيحت لي الفرصة. بالتالي هناك في الغالب سبب لماذا أقوم بها دائما – مثلا، القيام بها يعطيني لذة عظيمة، أو أنني خاضع لإجبار لفعلها. ربما يكون الفعل أحد الأفعال المقدور عليها، لكن لم تتح فرصة القيام به غالبا – مثلا من قبيل الذهاب لمشاهدة مسرحية، والتي تلعب على مدى ممتد، حيث أعيش. ومع ذلك وإذا كنت أقوم بفعل ما كلما أتيحت لي الفرصة؛ وذلك لأني تعلمت القيام به دون سبب خاص (محدد)؛ بمعنى أقوم به بشكل "آلي" تقريبا، يمكن لأي كان أن يبدأ في الافتراض رغم كل هذا أن الفعل لا يزال "فعلا حرا". ربما يقول المرء إن الفعل صار "استلابا" بالنسبة لي، أو يسميه مرضا (على سبيل المثال هوس السرقة kleptomania). والأفعال التي تعلمت كيف أقوم بها، والتي لا يمكنني الامتناع عن القيام بها هي أقرب إلى «الانفعالات» منها إلى «الأفعال» الخاصة بي. (عموما، فإنها تظل رغم ذلك أنماطا من الفعل). إنها ردود أفعال، كما يمكن لأي كان القول، إنها راجعة للمحفز الذي يتيح فرص القيام بها.
إن "نقيض" القيام بفعل ما هو الامتناع عنه (عن إنجازه). إن الأفعال التي لا يمكن القيام بها (لا يوجد استعداد لها) لا يمكن حذفها أو إلغاؤها؛ الأفعال التي لا يمكن للمرء إنجازها كذلك لا يمكنه الامتناع عنها. يكون المرء "مجبرا" أو "مكرها" على ترك القيام بها بسبب عجزه– لكن ذلك لا يعني إنه "امتنع" عن القيام بها. هكذا، علي استعمال مصطلح «امتنع» هنا بكيفية، حيث يصبح الامتناع منطقيا افتراض ممكن الفعل (منطقيا فعل ممكن).
فهل يمكن أيضا للمرء أن يكون عاجزا عن الامتناع عن فعل ما؟ [الجواب] بالتأكيد. هذه ليست سوى طريقة أخرى لقول إن شخصا يجب (مجبر على) أن ينجزه. (باستثناء حين يعني ذلك أن المرء غير قادر [أيضا] على القيام به - لكن هذا سيكون استعمالا محرجا لـ«لا يستطيع الامتناع»). يمكن التمييز هنا بين حالات مختلفة:
لا يمكنني الامتناع عن فعل فردي، الذي، أنا مجبر عليه فيزيائيا لو جاز التعبير. فما هذا؟ شخص ما يمسك ذراعي ويدفعها للقيام ببعض الحركات، ربما يرسل بها بعض الإشارات. أحاول أن أقاوم لكن لا أستطيع، فأنا ضعيف جدا. هل كان ذراعي أثناء قيامه بتلك الحركات ينجز فعلا من طرفي؟ أظن يجب علينا الإجابة بـ «النفي». فالفعل كان من طرف الشخص الذي حرك ذراعي، وليس من طرفي. هذا النمط من "الإكراه البدني" يفضل تسميته بـ «العنف». لا يستطيع المرء، بصريح العبارة، أن يكون مكرها جسديا على القيام بفعل، أو ممنوعا جسديا عن الامتناع عنه، وهو ما يعني نفس الشيء. لكن المرء يمكن أن يكون مكرها فيزيائيا على القيام بفعل ما- مثلا، الشخص الذي يمسك ذراعي، ويحتفظ به ثابتا حين أكون على وشك تحريكه. بالتالي يكره المرء فيزيائيا على الامتناع عن الفعل[9].
يجب أن يفهم المانع الفيزيائي (المادي)؛ بمعنى إنه منع من القيام بفعل فردي، والذي كان يمكن للفاعل القيام به لو أتيحت له فرصة القيام به دون أن يتعرض للمنع. ربما يحضر نفسه للفعل ثم يدرك العائق فقط أثناء محاولته الإنجاز، أو أن يحدث العائق أثناء محاولته، أو إن العائق كان هناك قبل محاولة الفعل وإن الفاعل كان على علم بذلك، ولذلك امتنع عن الفعل الذي لولا ذلك لكان في مقدوره إنجازه. ومع ذلك، إذا لم يحاول الفاعل القيام بالفعل، بصرف النظر عن وجود عائق يحول دون إنجازه إياه أم لا، فلسنا نقول إنه مُنع من الفعل، أو إن حريته في هذه الحالة قد انتهكت.
هناك حالة حقيقة من عدم القدرة على الامتناع (الإكراه على الفعل)؛ وذلك حين يتصرف المرء تحت تأثير، مثلما نقول، رغبة لا تقاوم أو إغراء تحت خوف التهديد. "لا يمكنني تحمل هذه الرائحة، علي الابتعاد". "لا يمكنني رفض تسليمه محفظتي تحت تهديد السلاح". قد يقول أحدهم إنه كان يمكنني أن أسمح لنفسي بالتعرض لإطلاق النار، أو فيما يخص الحديث عن الرائحة، كان في إمكاني التحكم في نفسي.
هل يمكنني ذلك حقيقة؟ إن الموافقة على عدم القدرة (الامتناع عن الفعل) يشبه القول إن ما قمت به لم يكن «حقيقة» فعلي الخاص، بل أقرب إلى «رد الفعل» أو سلوك تحت إكراه مادي، لكن إذا كان سلوكي ليس فقط صرخة أو رعشة أو فرارا من شيء ما، والذي "كنت أعرف كيف أقوم به" أو المغزى الذي تعلمته، بالتالي فما قمت به كان أيضا وبالتأكيد فعلي الخاص.
حالة أخرى متعلقة بعدم القدرة على الامتناع؛ وذلك حين يكون المرء مجبرا على القيام بشيء قصد بلوغ وضع نهائي أو ما يجب القيام به؛ لأنه أحد الواجبات المنصوصة. على الرغم من إننا في كثير من الأحيان، دون تشويه الأشياء، نقول عن مثل هذه الأفعال إنه لا يمكننا الامتناع عنها، بين كذلك إننا في العادة لا نتحدث عن الإكراه فيما يخصها. إن الهدف المحدد شيء تم اختياره بحرية، والواجب المنصوص عليه شيء نقبله بحرية. كلاهما يوجدان بوصفهما نتيجة تحديد-ذاتي للفاعل، أيضا يتبدى هذا جيدا حين يتوافق مع ما يعد واجبا منصوصا كالعادات والتقاليد أو المنصوص عليه من خلال النظام الشرعي للمجتمع.
3. إذا كنا نفهم من القدرة معنى "القدرة العامة"، بالتالي فإنه يمكن للمرء القول إن مدى الحرية الخاصة بفاعل أكبر أو أصغر حسب عدد أنماط الأفعال التي يستطيع القيام بها. لهذا فإن التربية؛ تعليم القيام بأشياء، اكتساب الخصائص اعرف-كيف، هي العامل الذي يعزز حرية الإنسان. إن إبقاء الناس في حالة جهل؛ وذلك لأجل حرمانهم من فرصهم لاكتساب مهارات وتحسينها من خلال التدريب هو إحباط للحرية. الحرية بهذا المعنى، يمكن أيضا أن تسمى حرية ممكنة/ محتملة[10].
أن تكون حرا (قادرا) على القيام أو الامتناع بـ/عن فعل فردي يمكن، على النقيض من ذلك، أن تسمى حرية راهنة. ويترتب عن ما قيل سلفا أن اللاحرية الراهنة بمثابة قيد على حرية محتملة؛ لا يستطيع الفاعل، بمناسبة خاصة القيام بشيء، يمكنه القيام به بالمعنى العام. بالتالي، إن الحرية الراهنة للفاعل، أكبر أو أقل اعتمادا على عدد الموانع (العوائق) التي تحول دون حريته المحتملة.
مثل هذه الموانع يمكن أن تكون داخلية أو خارجية. إضافة إلى ذلك، فالموانع من أي نوع كانت إما موانع وقائية أو قهرية، وأفراد الزوج الثاني قابلة للتعريف. أن تكون مرغما على الفعل معناه أن تكون ممنوعا من الامتناع عن الفعل، وأن تكون مرغما على الامتناع (المنع، الحظر) معناه أن تكون ممنوعا من الفعل (التصرف).
يجب أن تقسم الموانع الخارجية للحرية إلى موانع جسدية وموانع معيارية (أو أخلاقية/ إلزامية)، لقد بينت سلفا أنه بينما يكون المرء وبسبب عائق فيزيائي (مادي) ممنوعا من القيام بمجموعة من الأشياء، مثل تكبيل سجين خشية الهرب، وبالتالي يكون مضطرا للصبر، لا يمكن القول حقا إنه ممنوع بدنيا من القيام بأي شيء، وبالتالي لا يمكن منع المرء جسديا من تحمل أي شيء آخر. إن هذا اللا تماثل المتأصل جدير بالتنصيص عليه فيما يخص مفهوم الفعل الحر.
إن الموانع المعيارية الخارجية التي تطال حرية الفاعل هي تلك المحرمات ذات الخاصية الشرعية أو الأخلاقية والمؤسسة في النظام الاجتماعي، أو الأنظمة، الذي ينتمي إليه الفاعل. نلاحظ بشكل عفوي أن مصطلح «حظر» يستعمل عادة للدلالة على الأفعال التي يحظر القيام بها. ومع ذلك، في هذه الحالة، تنطبق المحظورات بشكل مماثل على الامتناعات OMISSIONS أيضا، والتي غالبا يطلق عليها اسم «إجبارات/ إلزامات». (حظر الفعل= إجبار الامتناع عن الفعل؛ إجبار على الفعل = حظر الامتناع).[11]
يمكن تقسيم الموانع الداخلية للحرية إلى موانع سيكولوجية، وأخرى معيارية (أخلاقية). أفهم من الأول «القوى العقلية» من قبيل الرغبة والإغراء، الخوف أو النفور الذي، حسب القول السائد، إما يجبروننا على القيام ببعض الأفعال بشكل لا يقاوم أو يقيمون عوائق لا يمكن التغلب عليها حين نشرع في القيام بها. قد يكون الإكراه النفسي (مثل التصرف تحت تهديد) في بعض الأحيان شبيها بالإكراه البدني بذلك فإنه من المشكوك فيه ما إذا كان يجب تصنيف السلوك الإجباري على أنه "فعل" (انظر أعلاه، ص 114). أما إذا وصلنا إلى الاعتقاد بأنه لا يمكن اعتبار إننا لا ننسب المسؤولية عنها للفاعل. بالتالي، فإننا لا ننظر إليه باعتباره «حرا» أو بوصفه «فاعلا» في علاقة بهذا السلوك الخاص، لكن ليس صحيحا في كل حالة القول «لم يستطع الامتناع» أو «لم يتمكن من دفع نفسه للفعل» من هذه الخاصية. أغلب الحالات ليست كذلك، وبالنسبة إلى أولئك الذين سيكون من الأفضل بالنسبة إليهم القول إن مفاهيم الامتناع والفعل غير مطبقة عليهم[12].
إذا كان الإكراه والمنع مرتبطين بفعل عام، ثم يحد من القدرة (الاستعداد) لا يعد تقييدا لاستعداد موجود لدى الفاعل. في حالة الإكراه فذلك يعني أن الفاعل غالبا، كلما أتيحت الفرصة، يقوم بالفعل. إنه لا يمتنع عن ذلك أبدا. هذا النمط من الإكراه الذي يحد من القدرة (يمنع) شبيه بالمرض أو الاستلاب الذي يستحوذ على الفاعل بعد أن تعلم مرة سابقا القيام بشيء ما. المنع الذي يحد من القدرة (على الفعل) هو الأكثر شيوعا. وفي الغالب يسمى "الكبت". فببساطة لا يستطيع الفاعل دفع نفسه للقيام ببعض أنواع الفعل. ربما كان في مقدوره سابقا القيام به، لكن لاحقا اكتسب "نفورا لا يتجاوز". بالتالي هو ليس فقط لن يقوم بالفعل أبدا مجددا، بل أيضا لن يمتنع عن ذلك أيضا أبدا. لا يمكنه القيام به، وبالتالي لا يمكنه الامتناع عن القيام به أيضا.
إن القيود المعيارية الداخلية لحرية الفاعل هي الموانع التي يقرها الفاعل بوصفها واجبه الذي عليه الانتباه له. يمكنه أيضا تسميتها الموانع المفروضة-ذاتيا، لكن يجب التنصيص إن العديد من الواجبات هي معايير اجتماعية استبطنها الفاعل؛ بمعنى تبناها بوصفها غايات قصوى لأفعاله أو امتناعاته. هذا يعني أنه يراعي الموانع؛ لأنه يظن إنه يجب عليه ذلك وليس، على سبيل المثال، بسبب هاجسه في أن يتجنب الوقوع في المشاكل مع السلطات المعيارية. قد يقال إن الواجبات المفروضة-ذاتيا (محرمات، وإجبارات) هي في الحقيقة، معايير في الأصل مستدمجة (مستبطنة) من الخارج. فالواجب الذي «يخترعه» الفاعل لنفسه، إن صح القول، ليس واجبا «حقيقيا» بل قرارات أو تعهدات resolutions عليه تبنيها بوصفها قاعدة لأجل سلوكه الشخصي. بعض هذه القرارات يمكن أن يكون مثل العادات (مثلا، الخروج للمشي بعد العشاء).
4. ربما لا أحد حر «مطلقا» بمعنى إنه لم يكره على فعل أو يمتنع عن فعل أي شيء يمكنه القيام به بالمعنى العام، لكن لنتوقف للحظة للنظر في ماذا يعني رجل «حر»، إذا ما وجد، كيف سيكون؟.
أولا وقبل كل شيء، يجب أن لا يقابل أبدا أي عوائق فيزيائية التي تمنعه عن القيام بشيء يستطيع القيام به، بمعنى، لقد تعلم أو يعرف كيف يقوم به، وهل يجب أن يختار القيام به. إن هذه الحالة مسألة حظ بالنسبة لهذا الشخص– لكن يمكن أن تكون راجعة أيضا لتجنبه العراقيل الغريزية أو المتعقلة.
ثانيا، سيكون معدا بحيث «لا يقاوم أي «إغراء، ولا أي نفور أو كبت أقوى من كونه لا يستطيع التغلب عليه.
ثالثا، لن يشعر أبدا إنه مكره على التصرف تحت ضغط المعايير. وهذا يعني أمرين؛ الأول، عليه أن لا يراعي أبدا المنع المنصوص عليه من طرف سلطة ما؛ لأنه خائف من نتائج رفض الامتثال. الثاني، وهو ألا يعتبر إن واجبه اللامشروط الامتثال للقاعدة، سواء كانت مفروضة-ذاتيا أو معطاة.
يمكن اعتبار قوة التغلب على النفور ومقاومة الإغراء ميزات جديرة بالثناء في شخصية الإنسان وأيضا بوصفها علامة على «الحرية»، لكن كيف يمكننا التفكير في شخص لا تتقيد أفعاله مطلقا بالمعايير؟ ربما ليس محط ثناء، لكن هل يعد حرا كذلك؟
في محاولة الجواب عن هذا السؤال، ليس علينا أن نرفض أن يسمح أحدهم لنفسه بأن يكون مجبرا على اتباع القواعد التي لا تمنع أن تكون أفعال الفرد في توافق مع المعايير الاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها[13].
قد لا يكون الفاعل أبدا في وضع، حيث يكون لديه أسباب للتجاوز- أو إذا كان في مثل هذه الوضعية فقد يكون لديه سبب مهيمن أقوى للفعل في توافق مع المعيار، لكن لا يجب أن يحس أبدا أنه «مقيد» بالمعيار، سواء بمعنى كونه يشعر إنه مكره على الانصياع لإرادة السلطة-المعيارية، أو بمعنى كونه خاضع لمعيار الواجب المفروض-ذاتيا.
تعتقد السلطة المعيارية أحيانا إن "الحرية الحقة" لرعاياها قائمة في التصرف الموافق للمعايير، كما يعتقد أيضا إن التصرف الوحيد الذي يوافق الواجب المفروض ذاتيا هو "الفعل الحر حقا".
إن أفكارا من هذا القبيل لا يلزم أن تكون محض لا معنى أو نفاقا، يمكن للمرء محاولة تحمل هذه الأفكار بواسطة الحجج العقلية. مثل هذه الحجج يجب أن تعالج في مجال الأخلاق بدل مصطلحات المنطق المعيارية. يزود المعيار الشخص الذي توجه إليه بسبب لأجل الفعل بكيفية معينة. ومع ذلك، يمكن تصنيف الأسباب إلى فضلى أو سيئة، يمكن للمرء أن يجعل من صلاحية الأسباب مقياسا لدرجة حرية الفعل. إذا ما أراد المرء أن يجادل كون الحرية الحقة تقوم في الحدود المعيارية للفعل، فعليه أن يجادل كون الأسباب المستخلصة من المعايير من نوع معين، سوءا كانت قوانين الدولة أو قوانين الضمير الأخلاقي، هي أفضل الأسباب التي يمكن للمرء أن يتصرف وفقها. إن إيجابيات وسلبيات مثل هذه الحجج، كيفما كانت، لن تفحص في هذا العمل.
5. غالبا ما يعتقد إن العلامة الدالة على كون الفعل قد أنجز بحرية؛ إنه كان يمكن الامتناع عنه، وبشكل مساوق، إن الامتناع كان حرا إذا كان في إمكان الفاعل القيام بالفعل الممتنع عنه. كلما أمكنني حقا القول «كان يمكنني التصرف بكيفية مغايرة» فما فعلته في الواقع فإني فعلته بحرية. لا شك في إن هذه الفكرة تمس نواة الحرية الإنسانية. ليس لدينا أي مبرر للشك في صحته لكن على ما أظن، لدينا صعوبات جمة في فهم ما معنى ذلك بدقة[14].
في الفصل الشهير المحتفى به حول حرية الإرادة في كتابه الأخلاق Ethics، اقترح مور Moore الآتي: إن عبارة «كان بإمكاني السلوك بكيفية مغايرة» تعني إنه كان علي أن أفعل بكيفية مغايرة عن تلك التي اخترت أن أفعله بكيفية مغايرة. بذلك يكون قد غرز إسفينا بين حرية الفعل وحرية الاختيار. أيضا إذا كان اختياري حرا، فيمكنني افتراضا أن أختار بكيفية مغايرة. حين نواجه السؤال ماذا يعني ذلك، يقترح مور أمرا واحدا وهو «كان في إمكاني الاختيار بكيفية مغايرة» تعني كان يجب أن أختار بكيفية مغايرة ما اخترت أن أختاره بكيفية مغايرة. بذلك فقد تمت العودة بمشكلة خطوة واحدة إلى الوراء فقط. وبغية الفرار من تراجع لانهائي لجأ مور إلى تعديل ابيستيمي؛ لم أكن أعرف على اليقين بشكل مسبق على أي اختيار سوف أقدم، وبهذا المعنى لـ «عدم المعرفة المسبقة» كان ممكنا أن أختار بشكل مختلف، ربما أختار بشكل مختلف.
ومع ذلك، لم يكن مور Moore متيقنا ما إذا كانت الهوة التي وضعها بين حرية الفعل والاختيار ضرورية لحل مشكلته؛ فقد «اعترف» إنه لم يتمكن من الشعور باليقين إن حقيقة الوضعية كونه كان يمكننا أن لا نقوم بما قمنا به، في حالات كثيرة، هي "كل ما نعنيه غالبا ونفهمه من التأكيد إننا نمتلك حرية الإرادة". إذا، لنضع جانبا مشكلة الاختيار ولنركز على العبارة "أمكن أن يتصرف بكيفية مغايرة".
للقول إنه أمكنني الفعل بكيفية مغايرة (الامتناع عن الفعل الذي أنجزته) هو تأكيد إن فعلي كان مشروطا، لكن بأي معنى كان فعلي "مشروطا"؟ لا أحد يمكنه القول إن الفعل الذي أنجزته ضروري منطقيا. وبالتالي فكل فعل، بحكم الواقع، مشروط منطقيا. إنه معنى لـ"يمكن أن يفعل بشكل مختلف"، لكن أحد المعاني المهمة جدا. مع ذلك، وضعية أن لا فعل ضروري منطقيا ليست واضحة وغير مثيرة للجدل كما تبدو للوهلة الأولى[15].
بالنظر إلى نوع أو نمط الفعل الذي يمكنني إنجازه، وبالنظر لفرصة إنجازه، اعتبارا للضرورة المنطقية، يجب علي أقوم به أو أمتنع عنه في الوقت المناسب. إن احتساب الامتناع نمطا من الفعل اعتبار جيد. بالتالي لم لا احتساب الفصل «افعل أو امتنع» نمطا من الفعل أيضا؟ بالتالي سيكون هذا «فعلا تحصيليا» سيقوم به الفاعل بالضرورة، شريطة أن تتوفر لديه القدرة المطلوبة وأن تتوفر الفرصة المناسبة للقيام به. بالنظر إلى هذه المقتضيات القبلية، فإنه لا يستطيع "أن يفعل بكيفية مغايرة"؛ فمثل هذه الأفعال ليست «حرة»، لكنها أفعال من نوع خاص جدا، وسيكون أمرا معقولا رفض تسميتها «أفعالا» بإطلاق.
لقد قررت القيام بشيء ما. ليس هناك شك بخصوص قدرتي على فعل الشيء المقصود. فأنا لا أعاكس قراري، ولا شيء يحول دون ذلك، فالفرصة موجودة. أليس بالتالي، ارتباطا بهذه الافتراضات، ضروري منطقيا أن أنجز الفعل؟ إذا كان المرء مستعدا لأن يعزو كل فشل متصور في الإنجاز، سواء إلى بعض الموانع المتدخلة أو إلى تقلب القرار ("تغيير الفكرة")، فإن الجواب هو «نعم». لكن الضرورة (المنطقية) للفعل مرتبطة بالتالي بالافتراضات المشروطة (منطقيا) هي الأخرى. بساطة الفعل شرط منطقي، هذا أمر تافه؛ فنحن نشعر حدسا إن معنى «يمكن أن يفعل بشكل مختلف» أكثر أهمية من هذا. لكن بأي معنى؟
لنعتبر فعلا من النوع أو من النمط الذي تعلمت أو أعرف كيف أقوم به بكيفية مغايرة. والذي عادة، حين أحضر نفسي (أختار، أتعهد) للقيام به أوفق في إنجازه. ومع ذلك، عادة لا أنجز الفعل كلما أتيحت الفرصة، لكن أحيانا فقط. إنه دليل على إن إنجاز الفعل مشروط – تماما مثل واقعة هطول المطر أحيانا وعدم هطوله أحيانا أخرى، فهي دليل كون واقعة هطول المطر مشروطة.
هل هذه الحقائق بخصوص القدرة أسباب كافية للقول إن الفاعل الذي ينجز في بعض المناسبات نوعا من الفعل يمكنه أيضا الامتناع عنه، "يمكن أن يفعل بشكل مختلف"؟.
يمكن للمرء أن يتمنى الإجابة بـ «لا» عن هذا السؤال. إن الفعل الذي أنجزته كان حرا بمعنى استطعت بالتالي، في مناسبات عديدة لإنجازه أن أمتنع عنه. كيف يمكنني معرفة ذلك؟ حقيقة إنه في بعض المناسبات أمتنع عن فعل مماثل (من النوع العام) ليس دليلا. ما يعني إني استطعت بالتالي أن أمتنع عنه، أن أفعل بكيفية مغايرة؟
إن المقارنة بهطول الأمطار مفيدة هنا؛ فحقيقة أن ("يحدث أن يكون") يهطل المطر هنا والآن مشروط بقيمة حقيقة إنه أحيانا يهطل وأحيانا لا يهطل هنا. لكن هذا مطابق كلية لإمكانية إنه كلما هطل المطر، فإن ذلك معزو لبعض الأسباب التي تجعل المطر يهطل ضرورة (فيزيائية) بالنظر لقانون الطبيعة. بشكل مماثل، ربما لا تكون الحقيقة إني أحيانا أفعل، أحيانا أمتنع، الفعل الذي يمكن أن يكون موافقا للإمكانية؛ ذلك أنه في هذه المناسبات حين أفعله لا أستطيع أن أمتنع عنه – وفي هذه المناسبات حين أمتنع عنه لا أستطيع القيام به؟ إذا كانت القضية كذلك، فهل يمكن للفعل إذا أن يكون حرا؟ قد يحاول البعض الإجابة بـ "لا".
لنفترض إني أنجزت الفعل لسبب ما، ربما كنت أنفذ وعدا. فواقع إني قدمت وعدا كان السبب في قيامي بالفعل، أو ربما كنت بصدد الاستجابة لأمر أو طلب. حقيقة إني تلقيت أمرا أو طلبا للقيام بشيء ما يمكن إذا أن يكون السبب إنني قمت بذلك. (لنفترض إن الأسباب التي لأجلها فعلت حاليا كما هي منصوصة. وهذا لا يجب أن يكون كذلك، بما أن، على سبيل المثال، السبب «الحقيقي» الذي لأجله وفيت بالوعد لا يستوجب أن يكون ذاك الذي وعدته، لكن يمكن أن يكون شيئا آخر".
كون الفاعل يفعل (يتصرف) لسبب معين عادة يعني إن شيئا، بالنسبة إلى هذا الفاعل، كان سببا لأجل فعل شيء وهكذا حضر نفسه (الاختيار، المباشرة، ربما الدخول في مشاورات) للقيام بذلك الشيء لأجل ذلك السبب. أن نقول هذا، معناه، في الواقع، إنه يستطيع أن يفعل بكيفية مغايرة. كان يمكن أن يهمل السبب وأن يمتنع عن الفعل. أو كان في إمكانه إنجاز الفعل لسبب آخر، والذي يحدث أن يقع أيضا، أو أخيرا، كان يمكنه أن ينجز أو يمتنع عن الفعل لكنه فعل ذلك دونما سبب على الإطلاق ودونما أي سبب كان لديه. عادة، كما يقال، الأمر "متروك للفاعل" لكي يفعل أو لا يفعل بناء على أسباب معينة؛ الفعل من أجل أسباب هو تحديد-ذاتي.
لكن إذا كان حقا لم يهمل بعض الأسباب بل سلك وفقها، فكيف إذا يمكنه أن يفعل بكيفية مغايرة؟ إذا كانت كلمة «إذا» مفهومة على هذا النحو، فإن صح التعبير، فإنه «يشمل» حقيقة أنه فعل (لأجل هذا السبب)، إذا أمكنه، أن لا يمتنع عن الفعل. نفس المناسبة لا تتيح «مساحة منطقية» لأجل القيام بالفعل أو الامتناع عنه. "ما هي الضرورة، متى تكون" حسب ما يقوله أرسطو. لا شيء يمكن أن يكون بكيفية مغايرة لما هو عليه. لكن ربما يمكن أن يكون مختلفا (عما هو عليه). وهذه تحديدا هي الوضعية التي نطالب بها مع أغلب الأفعال. (عبر الإلحاح على «إذا» «في الجملة» "يمكنه أن يفعل بشكل مختلف إذا" يستطيع المرء تقديم نمط من «التشنجات» أو «الشطحات» الفلسفية التي تعمي المرء عن التمييز بين "كان يمكن أن يكون" و"يمكن أن يكون (يوجد)"[16].
لكن ألسنا نقول أحيانا إن الأسباب كانت قاهرة، وبالتالي لم أستطع أن أفعل بكيفية مغايرة. وكما نقول: "لم يكن لدي اختيار". تم تقييد حريتي، وتم القضاء على حريتي على «العكس».
لقد كشفت سرا تحت التعذيب. قد يكون السبب في قيامي بذلك هو أنني لولا ذلك لما استطعت التخلص من الألم الفظيع، في وصف سبب الافتراض المسبق أنني عانيت من الألم، أردت التخلص منه، وكنت أظن (أو كنت أعرف). إنه بغية إنهاء ذلك علي الاعتراف بالسر. الألم بهذا الشكل ليس هو سبب فعلي. فدوره بالأحرى هو دور العلة cause. إنه «يجبرني» أو «يرغمني» على الفعل لهذا السبب المشار إليه. هل كان فعلي «حرا» إذا، بمعنى، هل «كان الأمر يعود لي» للفعل أو عدم الفعل بالطريقة التي فعلت بها؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال فقط من خلال اعتبار سياق واسع بدل هذه المناسبة الواحدة فقط. إذا كنت، في مناسبات أخرى أو ربما في العديد من المناسبات الأخرى أستطيع تحمل (في كل المظاهر) ألم مكافئ أو ربما حتى أعظم، إذا يمكننا (احتمالا) التفكير في فعلي بوصفه حرا. يمكن للمرء القول إنني أستطيع تحمل ألم بهذه الشدة – "أستطيع" تعني الآن إني أمتلك القدرة المطلوبة (المعنى العام لـ «يستطيع الفعل» المشار إليها أعلاه، ص 113). ولما كان الأمر كذلك، فقد كان الأمر «رهينا بي» للفعل بناء على السبب «القاهر»؛ فاعترافي كان نتيجة تحديدي الذاتي. كان يمكنني أن أفعل بكيفية مغايرة، لكن إذا كنت سيئا في تحمل الألم كما هو ملحوظ، فيمكن الحكم على القضية (الحالة) بشكل مختلف. ومع ذلك ليس بالضرورة. فأشخاص آخرون معروفون إنهم صمدوا لألم أعظم؛ بعضهم تحمل التعذيب حتى الموت. هل أنا مختلف عنهم بشكل كاف لأبرر الحكم كوني لم أكن أستطيع التصرف بكيفية مختلفة؟ سيعتمد الجواب على مزيد من الحقائق بخصوصي (وبخصوص هؤلاء الناس الأكثر بطولة). ربما عدد كاف من هذه الحقائق معروف أو يمكن التيقن منه حتى نتمكن من الإجابة عن السؤال بطريقة أو بأخرى. لكن قد يكون أيضا، إنه لم يمكن إنشاء أساس واقعي لإجابة جيدة التأسيس. من ثم ببساطة، لا يمكننا القول سواء كان فعلي حرا، سواء كان في إمكاني أن أفعل بشكل مختلف، وسواء كان الأمر «رهينا بي» للقيام بالفعل أو الامتناع عنه[17].
أخافني ثور وصرخت، إذا ما صرخت بغرض استدعاء النجدة أو بغرض إخافة الثور كي يبتعد عني، فإني فعلت لسبب. أستطيع بالتالي أيضا كبت الصراخ والقيام بشيء آخر بدلا عنه، لكن صرخة الخوف يمكن أن تكون «آلية» «ميكانيكية» «غير متحكم فيها»، «رد فعل». إذا، رد فعلي؛ الصراخ، ليس فعلا. وهنا بالتأكيد كما هو حال ردود الأفعال «البدائية» من الخوف وأيضا من البهجة.
أحيانا يقوم الفاعل بفعل دون سبب خاص. إننا متفقون كونه فعل؛ لم يتم فعله بـ«الخطأ». لنفترض أن الفعل من النوع الذي لا يقوم به الفاعل في الغالب، كلما أتيحت الفرصة، «ميكانيكيا»، مثل رد الفعل. بالتالي، وبمعنى ما، فإن إنجازه كان مشروطا؛ ربما لم يفعل ذلك في ذلك الوقت، في هذه المناسبة. لكن القول إنه كان يستطيع الآن، في هذه المناسبة، أن يفعل بشكل مختلف معناه أي شيء إضافة إلى أننا لا نعرف لماذا فعل الشيء المشار إليه إذن (ولا لمَ لمْ يفعل)، لكننا نعرف (وكذلك هو) إنه في بعض المناسبات يفعله، وفي أخرى لا؟ ليس لعبارة كان حرا أو لم يكن حرا، لأن يفعل بشكل مختلف في هذه المناسبة تحديدا. وذلك صحيح فقط؛ لأن فعله ليس له سبب، لقد كان «صدفة fortuitous. ومع ذلك، إذا كان ما قام به شيء ممل أو مزعج علينا أن نسأله أن «يتحكم» أو «يراقب» نفسه بشكل أفضل في المستقبل – وبذلك علينا إعطاؤه سببا لكي لا يفعل الشيء المقصود «دون سبب مخصوص» في مناسبات أخرى.
إن حالات أفعال الصدفة ربما ليست متكررة جدا، لكن لنفترض أنها تصير متكررة جدا مع فاعل فيما يتعلق بفعل أو أنواع متعددة من الفعل. في الغالب يقوم ببعض الأشياء دون تشاور قبل الإقدام عليها ودون أن يكون قادرا على ربطها بأي سبب حين يواجه تحدي التفكير فيها لاحقا. لا يمكنه تفسير أفعاله هذه. فهل يمكن أن يكون «مسؤولا» عنها؟ هل كان حرا أن يفعلها أو الامتناع عنها؟ ربما علينا بعد كل شيء ترتيبها مع «ردود الأفعال» بدلا من اعتبارها «أفعالا»؟ مثل هذه الأسئلة يمكن أن تكون هامة للنظر –أحيانا لأنها تتحدى أسئلة الصحة والمرض العقليين- لكن يمكن للمرء مقاومة محاولة «فرض» إجابة واضح clearcut عنها.
تجميعا لما سبق؛ إن الجملة "كان في إمكانه أن يفعل بشكل مغاير"، تعني، كان في إمكانه الامتناع عما قام به أو فعل ما امتنع عنه" ليست لها معنى واحد، بل متعددة المعاني. في الدلالة الأضعف، الجملة صحيحة بخصوص أي شيء يمكن تسميته حقا فعلا (أو امتناعا) وتعني ببساطة أن الإنجاز والامتناع عن الأفعال مشروط منطقيا. في المعنى الأقوى، الجملة صحيحة بخصوص الإنجاز والامتناع عن أي فعل (عادي) الذي يستطيع الفاعل القيام به (تعلمه، يعرف كيف يقوم به) أو الامتناع عنه. إذن، فهذا يعني أن هناك مناسبات، حيث ينجز الفاعل الفعل ومناسبات أخرى، حيث يمتنع عنه. في معنى أقوى تكون الجملة صحيحة حين ينجز (يمتنع) الفاعل لسبب ما فعلا فرديا من النوع الذي يستطيع إنجازه (بشكل عام) لكن أيضا الامتناع عنه. بالتالي، فالفعل (الامتناع) ينبع springs من التحديد –الذاتي للفاعل. ومع ذلك، بالنسبة إلى كثير من هذه الأفعال، العبارة «لم يكن يستطيع أن يفعل بشكل مختلف»، هي أيضا صحيحة –وتعني إن السبب الذي تولد عنه الفعل قسري، إذا صح التعبير. بالتالي فحرية الفاعل تم تقييدها. في حالات هامشية يكون التقييد أكثر حدة حتى إننا نحكم إنه من المستحيل بالنسبة إلى الفاعل أن يفعل بكيفية مغايرة. يحدث هذا حين، غالبا على أساس التجربة في مناسبات مماثلة- نعمل على إنكار أن تكون للفاعل القدرة على الامتناع عن الفعل الذي قام به في هذه المناسبة الفردية. ختاما، في هذه الحالات، حين يحدث فعل ما ظاهريا دونما سبب، فإننا أحيانا نبحث عن الأسباب (الفيزيائية) ونتردد في تسمية السلوك "فعلا" (كامل الأركان). إذن، فإن سلوكنا مرتهن بشدة تردد وخاصية هذا السلوك «الاعتباطي»- وبكيف نقيمه أخلاقيا. فليس يقينا إن علينا وسم مثل هذه الأفعال بـ«الحرة» حين تحدث[18].
6. عادة ما نقول، إن الأمر «رهين بالفاعل» سواء سيفعل من أجل هذه الأسباب أو تلك، والتي توجد بالنسبة إليه من أجل الفعل بمقتضاها أو لا. لكن هل الأمر أيضا «رهين بالفاعل» أن تكون له الأسباب التي حدث أن كانت لديه؟ إذا كان «رهينا بالفاعل» تعني إن الفاعل يستطيع الاختيار، في مناسبة معطاة، أي الأسباب تكون له من أجل الفعل، فالجواب هو "لا". مثل هذا الاختيار ببساطة لا معنى له. أما إذا كانت العبارة تعني إنه، عادة، يمكن أن يختار الأسباب التي يفعل لأجلها (من بين تلك التي لديه)، فالجواب هو "نعم".
إن الأسباب التي يفعل لأجلها الفاعل، في مناسبة معطاة، غالبا هي «معطاة» له باستقلال عن فعله الخاص (السابق). قد يكون الأمر مثالا – لكن كذلك شيء «داخلي» من قبيل أمنية طارئة من أجل القيام ببعض التمارين الرياضية أو سماع الموسيقى.
يريد الشخص ويتجنب، يميل ويرغب، يكره ويخاف بعض الأشياء ويعرف، أو يظن إنه يعرف، طرقا يؤمن بها لنفسه ما يريد ويتجنب ما لا يرغب. اعتبارا لذلك، فإن لديه (نال) الأسباب لأجل وضد بعض الأفعال الخاصة به. إضافة إلى ذلك، فقد نشأ على معرفة ما يتوقع منه في محطات متعددة وحيث تم وضعه (موقعته)، أو وضع نفسه، في وضعيات مرتبطا بالواجبات والحقوق وفي علاقة بإخوانه البشر. إن تورطه في البناء المجتمعي المستمر يوفر له الأسباب التي لأجلها أو ضدها يقوم ببعض الأفعال.
وجود أسباب الفعل بكيفية ما بالنسبة إلى الشخص هي حقائق بالنسبة إليه. إنها ليست من صنعه بنفس المعنى، حيث يمكن أن يقال عن أفعاله لأجل هذه الأسباب أو تلك إنها من صنعه؛ بمعنى، نتاج تحديده الذاتي، بل أغلب الأسباب التي للفاعل لأجل أفعاله لها نفس النتيجة والحاصل بالنسبة إلى الفعل الإنساني، بما فيها الأفعال التي يقوم بها الفاعل بتقديره الخاص. لقد فعلت له الأشياء؛ مثلا فقد تلقى تربية ما وتدريبا أو، على العكس من ذلك، تم إقصاؤه من التربية والتدريب، كذلك «ذوقه» بخصوص أشياء متنوعة تمت تربيته، جزئيا بواسطة الآخرين، وجزئيا من طرفه شخصيا، كما إن لديه بالولادة مكانة في النظام الاجتماعي، وهذه المكانة تتغير أثناء مسار حياته، جزئيا هو مرتهن بما يفعل، وجزئيا مرتهن بها. إلى حد إن الأسباب التي للشخص بخصوص أفعاله مرتهنة بأفعاله الخاصة في الماضي، حيث يمكن لأحدهم القول إن الأمر «كان رهينا به» للقيام بها أو لا.
في هذه الوقائع حول الأسباب تنعكس الطريقة التي يرتب بها شخص ما حريته الحالية، بمعنى، بالنسبة إلى الأشياء التي سوف يقوم بها إذا ما اختار القيام بها، سوف تتضاءل وتتلاشى نتيجة ما يحدث له أو كيف «يبني» حياته الخاصة، أيضا يمكن القول إنه كلما كان للفاعل أسباب أكثر لأجل أو ضد الأفعال التي يمكنه القيام بها، كلما كانت حريته أعظم في الفعل (الاختيار)، لكن الحرية الأكبر يمكن أيضا أن تضمر صعوبات أكبر وشكوكا في اتخاذ القرارات – وبهذه الكيفية فحرية الاختيار يمكن أن تكون مانعا للفعل[19].
7. تحيل مفردة السبب في الإنجليزية على الملكات العقلية للشخص؛ فسبب الفعل هو الشيء، للوهلة الأولى، العقلي أو المعقول الذي نفعل لأجله. الصفتان معا، عرضا، لا تستعملان بوصفهما مترادفتين في الخطاب العادي. تحمل صفة "معقول Reasonable" قيمة توليدية أقوى من صفة "عقلي rational ". بالنسبة إلى بعض الأفعال التي تتحقق لسبب ما يمكن لأحدهم القول إنها عقلية لكن ليست معقولة (جدا).
يمكن تسمية سبب الفعل أيضا الأساس ground. في اللغة الألمانية، يسمى السبب Grund، أو أحيانا Vernunftsgrund وتعني السبب، والتي ترتبط بملكة العقل. في اللغة السويدية، إضافة إلى الكلمة Grund هناك كلمة skäl التي تعني السبب. لكليهما معا يمكن إضافة «المبدأ» förnufts prefix، والذي يعني (من السبب). إضافة «المبدأ» في اللغة الألمانية أو السويدية يخدم الغاية في تمييز السبب (Grund) بما هو سبب عن السبب بما هو علة cause، لكن التمييز السبب -العلة ليس بالوضوح الكافي – سواء في اللغة أو على مستوى المفاهيم.
فما هو إذن سبب الفعل؟ يمكن للمرء أن يجيب إن السبب هو أي شيء ينطبق عليه الفعل كاستجابة، لكن ما معنى ذلك؟.
يمكن أن يكون السبب معطى للفاعل في شكل تحدي المعنى أو هدف على الفاعل التصرف إزاءه بطريقة معينة. الاستجابة متوقعة، ربما حتى مطلوبة أو إلزامية. على سبيل المثال؛ أفعل شيئا ما. لماذا؟ الجواب إني وعدت بفعل ذلك الشيء. الشخص الذي قدمت له ذلك الوعد يتوقع هذا الفعل مني. إنه واجبي (إلزام/ إجبار) تجاهه أن أنجز الفعل. أو، أوقف سيارتي قبالة الإشارة الضوئية الحمراء. لماذا؟ أولا لأنه ممنوع، لا يفترض السياقة أثناءه.
يجب التنصيص على حقيقة أن التحدي يظهر نفسه في «العالم» (الأمر الصادر، الإشارة الضوئية الحمراء التي تظهر قبالة السيارة) ليس، في ذاته، سببا لأجل أي فعل. إنها تصير سببا بالنظر إلى حقيقة إن الفاعل الذي توجه له منتبه ويفهم التحدي، بمعنى، يعرف كيف يتفاعل معها بشكل مناسب، سواء كان له رد فعل أو لا فتلك قضية أخرى.
إن عرض التحدي، إن صح التعبير، يجب بالتالي أن يكون قد عرض لغربلة الفهم من أجل أن يصير سببا للفاعل.
في الغالب يَمْثل السبب أيضا في شكل شيء يطمع فيه الفاعل أو يريده (أن يكون، أن يفعل، أن يحصل عليه، أن يمتلك أو يطور) في تركيبة مع وجهة نظره بأن بعض الأفعال تفضي إلى أو بكيفية مغايرة صالحة لبلوغه هدفه أو «نهاية فعل». الفعل الذي يتحقق لهذا السبب يمكن أن يكون شيئا بسيطا جدا ومباشرا مثل فتح النافذة للحصول على هواء نقي، أو يمكن أن يكون شيئا معقدا وبعيدا من قبيل التسجيل في دورة تعليمية بغية تطوير التكوين.
نهايات الفعل غالبا ما تعتبر دالة على بعض النهايات البعيدة. امتلاك نظرة بعدية هو السبب في متابعة ما سبق. إن الغاية القصوى هي أشياء يعتز بها الشخص بوصفها خير في ذاتها. إنها "خيرات سامية" أو "قيم عليا"، الأشياء التي، كما يقال، تعطي «معنى» لحياته. ما هي وكيف سيعمل الشخص على تتبعها مسألة تختلف من شخص لآخر. إنها ليست بالضرورة أشياء نتفق حولها جميعا كونها نبيلة وجديرة بالثناء.
قد يقال إن الفاعل العقلاني المثالي هو من لديه دائما أسباب للفعل، والتي تتنزل في الغايات النهائية. ربما لا أحد يستطيع الحياة في هذا المستوى المثال؛ فكم منا يستطيع أن يقول ما هي غاياتنا النهائية (الخيرات، القيم) في الحياة؟ لكن أقصى شيء يمكننا الدفع به هو الجواب عن السؤال لماذا نشرع في فعل ما نفعل، والأفضل أن تكون أسبابنا للفعل تستحق أن تسمى عقلانية.
إذا كنا نعني بـ«الخير الظاهر» للفاعل كل ما يقيمه بوصفه خيرا في ذاته، بالتالي يمكننا القول، حسب النموذج الأمثل، إن أسباب الشخص للفعل يجب أن تكون هي تلك الأشياء التي تجعل أفعاله عقلانية من وجهة نظره في الخير الظاهر. علاوة على ذلك، إذا ميز أحدهم بين ظاهر الشخص وبين خيره الحقيقي، يمكنه الذهاب أبعد من ذلك، والقول إن الشخص العقلاني (حقا) هو الشخص الذي تقوم أفعاله على الاهتمام بخيره الحقيقي.
قد يرغب المرء أيضًا في أن يقول عن مثل هذا الرجل العقلاني المثالي إنه وصل إلى أعلى درجة من الحرية، لكن علي أن لا أتابع هنا هذا التفكير الأخلاقي حول الأسباب والعقلانية والحرية والخير[20].
أحيانا نقول إن السبب الذي لدى الشخص من أجل فعل ما بالنسبة إليه ليس سببا حقيقيا يستدعي أن يفعل لأجله. وهذا يمكن أن يعني أشياء عديدة. فقد تعني، على سبيل المثال، إن هذا الرأي (المعتقد) بخصوص مواءمة بعض الأفعال لبعض الغايات خادع (خطأ، "خرافة"). عبر جعله «يعرف أفضل» روابط الوسيلة –الغاية تستطيع التأثير في أسبابه- وكذلك في أفعاله أيضا، لكن يمكن أن يعني كذلك إن ما هو بالنسبة إليه سبب للفعل لا يجب أن يكون سببا بالنسبة لنا؛ على سبيل المثال، لأننا نعاتب ولا نوافق على شيء يطمح إليه ونتمنى تغيير تقييماته –ليس رأيه بخصوص الوسائل، بل سعيه للغايات.
8. يمكن للمرء التمييز بين الأسباب والدوافع (لفعل ما)، الخطاب العادي لا يتمسك كثيرا بهذا التمييز بشكل واضح جدا. فالأسباب غالبا ما ترد بوصفها دوافع، والعكس صحيح. قد يكون أحدهم متحذلقا بصدد استعمال الكلمات، لكن قد يتم استدعاء بعض الملاحظات المفهومية في هذا التمييز. فالدوافع ليس لها نفس الرابط مع الملكات العقلية التي للشخص مع الأسباب. فالدوافع قد تكون لا عقلانية، كما إن الدوافع اللاعقلانية يمكن أن تدفع الشخص إلى الفعل المكتمل العقلاني لأسباب، سأحاول تفسير: فئة مهمة من الدوافع المشكلة من «الأهواء» من قبيل الغيرة، الكراهية، الجشع؛ تنزع بالناس «للتحرك» نحو الفعل؛ وتحت تأثيرها يفعل الناس أشياء متنوعة. على سبيل المثال، أن يكره شخص شخصا آخر يتمظهر ذلك عادة في حد ذاته في «غايات» متنوعة من الفعل الذي يسعى إليه. ربما كان يريد إحداث ضرر بالشخص موضوع كراهيته. أن يكون لديه مثل هذه الأهداف ليس «نتيجة» أكيدة لأهوائه كما لو أنها شيء «متشكل» منها؛ فأهدافه هي «معيار» أساس والذي نلحقه بأهوائه المقصودة. الآن إذا كان هناك شخص له مثل هذه الأهداف يظن إن فعلا معينا سيكون مفيدا في تحقيقها –نقول، يلحق الضرر بالشخص الذي يكرهه- في حين حقيقة إن هذا الهدف والرأي بالنسبة إليه سيشكل سببا لأجل الفعل المقصود. لمثل هذه الأسباب نقول أحيانا إنه «ليس هناك سبب» في الأساس (الأصل) الذي يجعلنا نرفض الهدف والإحساس الذي يتمظهر من خلاله. "أنا أتفق إنك تكرهه وفعل ذلك به يمكن أن يؤذيه؛ لكن ليس هناك أي سبب لأجله يجب أن تفعل ذلك. تبين لي إنك تكرهه لاعتبار ما فعله بك، لكن حاول أن تفهمه وستجد لديك إحساسا بالشفقة والرحمة عليه بدل كراهيته".
إن الأهواء «الخيرة» هي دوافع للفعل كذلك؛ في أعلى القمة يوجد الحب. فالمحب سيفعل أشياء لأجل هذا السبب، والتي يعتبرها مولدة للسعادة والوجود الأفضل لمحبوبه. فأفعاله محفزة بالحب، لكن في العادة يمكن لأي كان أن لا يسمي حبه «سببا» لما فعل.
هناك طرائق أخرى كذلك، والتي يمكن للمرء أن يلاحظ فيها تمييزا بين الدوافع والأسباب. أن يكون لديك سبب يتضمن فهم شيء ما؛ على سبيل المثال، معنى الممارسة (الوعد، الإجابة عن أسئلة) أو علاقة سببية بين الوسائل والغايات. قد تكون الدوافع أحيانا «عمياء» مثل الحب والكراهية، أو من خاصية حيوانية من قبيل الجوع والعطش.
ومع ذلك، لسنا نحتاج هنا أن نتمسك بفصل حاد بين الدوافع والأسباب. يجب علي أن أفهم إن الخلفية الدافعة لفعل ما هي شبكة مركبة من العوامل (دوافع، أسباب) التي نستند إليها حين نفسر لماذا فعل شيء ما أو امتنع عن فعله أو التي نقول عنها إنها أدت إلى الفعل أو ساهمت في تطويره أو جعلت الفاعل يفعل أو حركته نحو الفعل.
9. في عدد من قضايا الأفعال البسيطة، يكون للفاعل سبب واحد فقط للفعل أو الامتناع، لكن في حالات أخرى تكون الخلفية الدافعة للفعل معقدة. قد يكون هذا التعقيد إما واحدا من حيث العدد أو واحدا من حيث قوة الأسباب. الحقيقة التي أسميها تعقيد الدافعية معروفة جيدا عند الأخصائيين النفسيين والمحللين النفسيين. بقدر ما يمكنني أن أرى، فهذه الحقيقة لم يتم التنصيص عليها (ملاحظتها) في النقاشات الفلسفية المتأخرة عن الفعل وتفسير الفعل. إنه تحديد يجب محاولة تجاوزه.
يمكن أن توجد مجموعة من الأسباب التي تلزم الفاعل بفعل ما فعل. على سبيل المثال، يقوم الفاعل بالشيء الذي وعد أن يفعله[21].
لكنه أيضا يتوقع مكافأة أو خدمة مقابل وعده. هل كان سيوفي هذا الوعد لو لم يكن لديه هذا التوقع؟ أحيانا هناك أسباب لصالح ولكن أيضا ضد فعل ما، (السبب ضد فعل شيء ما هو سبب للامتناع عنه.) على سبيل المثال؛ الشيء الذي وعد الفاعل بفعله، والذي مقابله يتوقع خدمة ربما شيء غامض، سيء السمعة، أو ربما حتى إجرامي. في هذه الوضعية يجب على الفاعل أن "يقيم توازنا": عليه «موازنة» «المجموع الكلي» للأسباب التي لصالح، والتي ضد الفعل. كيف سيتصرف بعد ذلك يُظهر أيا من (مجموع) الأسباب كانت أثقل (أقوى). أيضا من بين الأسباب، في حال كانت الأسباب متعددة، والتي كلها لصالح (أو كلها ضد) الفعل بعضها يمكن أن يكون أقوى من الأخرى. وقوة سبب خاص يمكن أن تتأثر بحضور الأسباب الأخرى في الخلفية الدافعة أو ضد الفعل. على سبيل المثال؛ اعتبارا لخاصية السمعة السيئة للفعل ولمعرفة الفاعل بهذا، فحقيقة كونه قدم وعدا بالأحرى سبب ضعيف لقيامه بذلك ("بعد كل ذلك")، لكن توقع المقابل قد يشكل بالنسبة إليه سببا قويا لأجله يقوم بالفعل. ربما لم يعر أي وزن بإطلاق لحقيقة إن فعله هو وفاء بالوعد بوصفه السبب وراء فعله. ("أعرف تماما أن هذه الوعود لمثل هذه الأفعال يجب أن توفى".) لكن حقيقة إن هذا الفعل كان وفاء بالوعد وقد يكون غالبا سيء السمعة بسبب ارتباطه بالتوقعات والمقابل. ("إذا ما وعدت بالقيام بهذا الخداع المضلل لمصلحته، أنا متيقن إنه سيكافئني").
حين تتم موازنة الأسباب بعضها مقابل بعض، فإن بعضها يكون أكثر ثقلا من الأخرى، الأسباب المتعارضة، فيقال إن الأول مهيمن في علاقة بالثاني. السبب المهمين ليس بالضرورة سببا من نوع الأسباب التي نسميها قهرية (قسرا)، والعكس ليس صحيحا. يمكن الحكم على سبب بأنه قسري أيضا في غياب أي سبب معارض. غالبا على الأقل، بتسميتهم أسبابا قهرية، فإنه يتم إقصاؤها من المداولة. إنها لم تترك أي خيار أمام الفاعل[22].
أثناء التداول أو استحضار الماضي، وحين يتم تصنيف الأسباب بسبب قوتها والتي غالبا توسم خيرة أو قبيحة، فاضلة أو سيئة، لكن تصنيف الأسباب لأجل الصلاح يمكن أيضا أن يكون تقييما أخلاقيا لها. وغالبا ما يعتبر الموجه الأخلاقي للسبب من أجل الفعل «قويا». لكن القوة التي في الأخلاق أو في أساس آخر نصف به الأسباب يجب أن تكون متميزة عن قوتها (الحالية) في دفع الفاعلين أو امتناعهم.
10. عندما تكون خلفية الدافع معقدة، لا يمكن للمرء عادة الإشارة إلى أي سبب واحد عند محاولة شرح سبب إنجازه للفعل أو امتناعه عنه، ربما يمكن أن نحتاج الوصف الكامل للخلفية من أجل بلوغ الفهم الذي نريد. سيتضمن هذا الوصف أيضا بعض التقديرات للقوة النسبية إلى الأسباب المعروفة إنها كانت موجودة. يظن أن بعض أسباب الفعل ساهمت أكثر، بينما أسباب أخرى ساهمت أقل في إنجازه الفعلي؛ بعضها يمكن أن يكون «غير فعال» بالمرة، أسباب أخرى أكثر قوة، حيث وهي وحيدة وفي غياب كل الأسباب الأخرى، قادرة على الهيمنة والتجاوز، والحد من تأثير الأسباب الممكنة ضد الفعل. من ثم نقول إن الفعل محدد أكثر من اللازم.
إن وجود أسباب من أجل الفعل مفهوم ملتبس. حين يحاكم فعل ما من «خارج»، بمعنى من طرف شخص آخر غير الفاعل نفسه، فغالبا ما يقال إن هناك أسبابا (جيدة) كانت تستدعي أن لا ينجز الفاعل الفعل، لكن الفاعل لم يأخذها بعين الاعتبار. لم يكن منتبها لوجودها أو إنه لم يفهم دلالتها. أحيانا نلوم فاعلا بسبب مثل هذا الجهل. "كان عليه أن يعرف ماذا يعني ذلك" (مثلا صيحات البوق).
علينا القول إن أسبابا من هذا النوع، ليست حاضرة بالنسبة إلى الفاعل (لا «توجد لأجله») أثناء قيامه بفعله. قد تكون، وبأشكال مختلفة، مرتبطة بتقييم (اللوم أو المدح) الفعل، لكنها ليست مرتبطة بتفسيراتها منذ اللحظة التي لم تعد تنتمي للخلفية الدافعة للفعل؛ وذلك صحيح كذلك بالنسبة إلى الأسباب الحاضرة لدى الفاعل، والتي تنتمي للخلفية الدافعة، لكنه اختار تجاهلها. في الغالب نلوم الفاعل؛ لأنه لم يأخذها بعين الاعتبار.
لننظر في هذا المثال، أنا مدعو لحفلة، أرفض الحضور، مقدما سببا للرفض أن لدي التزاما آخر. ردة فعلي (رفض الدعوة) هي الاستجابة المناسبة تماما بالنظر لهذه الواقعة. إنه اعتذار مقبول. لكن هل هو سبب الرفض؟ الحفل كان سيكون مملا بالنسبة لي. أنا خجول – وأكره أن أكون في حضور عدد من الناس، ربما قد ألتقي س في الحفلة، وأنا لا أستلطفه نهائيا، أنا في الحقيقة خائف من لقائه.
كل ما تمت الإشارة إليه هي أسباب لأجل رفض الدعوة، لكني لم أثر أيا منها حين طلب مني تفسيرا لماذا أرفض، ربما لم أفكر فيها جيدا، ما دام أن لدي اعتذارا مقبولا، ربما لم يحدث أن مر بذهني إنه يمكنني أن أقابل س في الحفلة. وإذا كان الأمر كذلك، بمعنى إنه لم يدر بخلدي ذلك، بالتالي فحقيقة إني كنت خائفا من لقائه لم يكن واحدا من الأسباب الحاضرة بالنسبة لي، لكنه هل من المؤكد إن هذه الإمكانية لم «تحدث» لي؟ أكيد كنت أعرف كون س صديق كبير للعائلة الذين وجهوا لي الدعوة؛ ذلك أنه يزورهم باستمرار. وما دمت أعلم ذلك، فإنه علي، «بشكل لا واع»، أن أعرف كذلك إنه كان من المحتمل أن ألقاه هناك؛ فمن سيخبرني؟
يتعين علينا الآن أن نفصل أكثر بخصوص مثل هذه القضايا. نلاحظ هنا فقط أمرين اثنين كالآتي؛ أولا، ليس دائما واضحا وسهلا القول ما هي الأسباب التي مع أو ضد بعض الأفعال التي يجب اعتبارها منتمية للخلفية الدافعة للفاعل، والثاني، إن الأسباب التي تنتمي بلا شك إلى هذه الخلفية – على سبيل المثال إني شخص خجول وإني لا أحب الحفلات الكبيرة- ليست «تساهم» بالضرورة في سلوكي الحالي. بعبارة أخرى، مهم جدا التمييز بين الأسباب الموجودة بالنسبة إلى الفاعل والأسباب التي تؤثر في فعله – بين وجود الأسباب وبين الأسباب الفعالة. وجود سبب لكنه ليس فعالا يمكن أن يخدمنا بوصفه اعتذار (تعلة) عن عدم القيام بشيء ما، لكنه ليس جزءا من التفسير. إننا فقط من أجل الأسباب الفعالة علينا القول إن الفاعل فعل لأجل هذه الأسباب أو بسببها[23].
11. لتفسير فعل مفرد يجب الإجابة عن سؤال لماذا أنجز هذا الفعل، وبالمقابل لم الامتناع عنه. في شكلها العام تغطي الصيغة أعلاه العديد من أنواع تفسيرات الفعل. النوع الوحيد الذي سوف يناقش هنا هو التفسيرات بمصطلحات الأسباب؛ هذه التفسيرات يجب علي تسميتها تفسيرات الفهم.
نوع آخر من التفسير هو التفسير الطبي؛ تفسير من هذا النوع يميز الفعل، أو الفشل في الفعل، بتشخيص مرضي أو غياب راجع ربما لشيء "جسدي"، وبالتالي إلى «علة» بدلا من "سبب". هناك نوع آخر من التفسير السوسيولوجي، والذي يتعلق بالقدرات، أو نقص القدرات، بدلا من الأفعال الفردية. إنه يفسر، على سبيل المثال، لماذا يستطيع فاعل أو لا يستطيع فعل بعض الأشياء بسبب الوضعيات الاقتصادية، التربوية، أو الاجتماعية.
تفسيرات الفعل من النوع المسمى «طبي» و«سوسيولوجي» هي بمعنى ما تفسيرات علمية. إن لها في الغالب خلفية في بعض النظريات حول الإنسان أو حول المجتمع. هدفها في الغالب معالجة الفاعل من بعض الأعراض أو إزالة بعض عوائق تطوره؛ الأسباب التي تقدم تفسيرات، على النقيض من ذلك، ليست تحديدا ما يمكن أن نسمه «علمي»، فالهدف الذي يخدم في الغالب تقييمي؛ فهل يستحق الفاعل اللوم أو التنويه لما قام به؟ الجواب مرتهن بشدة بالأسباب التي كانت لديه، بالتالي علينا فهم الفعل قبل أن نحكم على الفاعل.
12. بإعطاء تفسير للفعل قائم على الفهم يفترض أن الفعل الذي تم تعريفه بشكل صحيح بوصفه فعلا من نمط معين، وأن للفاعل حقا الأسباب المذكورة في التفسير؛ الفعل وأسباب الفاعل هي وقائع القضية، لو صح التعبير. مع ذلك، الافتراض المسبق بأنها قد تم تأسيسها ليس تافها[24].
أيا كان سلوك الفاعل، أو ما سبب ذلك، يمكن أن يعرف بوصفه نتيجة لعدد من الأفعال العامة التي، مع ذلك، لا يمكن أن تنسب للفاعل بوصفها أفعاله الخاصة، حركة ساعد الفاعل بكيفية ما تشكل إشارة. فهل أشار؟ ربما ليست لديه أدنى فكرة إنه يقوم بمثل هذا الشيء، بالتالي لا يمكن أن ينسب إليه الفعل، لكن إذا كان يعرف دلالة الحركات بوصفها إشارة يمكننا نسبة الفعل إليه، رغم أنه لم «يعن» (يقصد) الإشارة، بل قصد شيئا آخر؛ يقول [مثلا] من أجل أن يمد يده نحو شيء ما. إذا لم يكن يقصد الإشارة، فليس له أي سبب للتشوير، ولا يمكن أن يفسر فعله (ويفهم) على أنه يرسل إشارة. قد نلومه على فعله ("كان عليك القيام بـ - ")، لكن قصد تفسيره علينا البحث عن كيفية أخرى لتعريفه. علينا محاولة تعريفه بوصفه فعلا للإنجاز، والذي قام به الفاعل لسبب ما.
إن تعريفنا لفعل ما بقصد تفسيره (الفهم) موجه بما نظنه أسبابا محتملة له. إن أسباب التشوير مختلفة عن مد اليد نحو شيء ما. ونعرف بشكل تقريبي ما هي. هل كان للفاعل أسباب للقيام بفعل من هذا النمط؟ ربما كان لديه للقيام بأحدهما، أو بكليهما، أو ليس لديه لأي منهما. إذا كان لديه أسباب لكليهما معا، فهل الأسباب فعالة لهما معا؟ الأسباب غير الفعالة لا «تساهم» في التفسير، كما سبق وقلنا.
بالتالي، فمشكلتنا كالآتي: كيف يمكننا تعريف الأسباب الفعالة؟ بخصوص هذا السؤال عليّ أن أقدم جوابا يعتقد في البداية إنه صادم. إن الأسباب الفعالة هي تلك التي على ضوئها نفسر الفعل. بعبارة أخرى، أصر على أنه لا يمكن فصل سؤال فعالية الأسباب عن عملية فهم الفعل ما دام قد تم إنجازه لهذه الأسباب. هذا يعني أن حقيقة تفسير الفعل لا تستند إلى وقائع (حقائق) أخرى خلافا لفهم الفعل نفسه في سياق أسبابه[25].
الاعتراض الواضح على هذا، أنه يشرع الأبواب أمام ذاتية لا حدود لها في تفسير الفعل. هل كان علينا أن لا نكون قادرين على التمييز بين الفهم وسوء الفهم، أثناء تفسير الفعل، أو على الأقل بين الفهم الأفضل والأدنى درجة؟ ما هي إذن المعايير لأجل تحديد هذه التمييزات، إذا لم تكن بعض الحقائق بخصوص الفعل والأسباب التي يمكن أن يستند عليها فهمنا في الربط بينها؟
13. إن فهم شيء يتطلب موضوعا، والشخص الذي يفهم. حين يكون هناك إجماع شامل حول كيف يجب أن يفهم شيء ما، يتحدث المرء أيضا عن الفهم بمعنى لاشخصي ومشتق: "(عادة) مفهوم إن ــ". حين أقول إنه لكي نفسر فعلا يجب أن نربطه في الفهم بالأسباب التي لأجلها تم إنجازه؛ أي فهم إذا أفكر به أنا؟ هناك إمكانان يجب اعتبارهما:
قد يكون الفهم من طرف الفاعل نفسه أو من طرف عدد من "الملاحظين الخارجيين" عنه وعن فعله. في الحالة الأولى نتحدث عن الفهم الذاتي للفاعل؛ في الثانية يجب أن أتحدث عن "الفهم الخارجي" أو "الفهم من خارج". على التوالي، يمكن أيضا تسمية الاثنين بفهم الضمير الشخصي الأول والضمير الشخصي الثالث.
بيّن أن الفهم الذاتي، بكيفية ما، أساسي لتفسير الفعل. عادة، يعرف الفاعل لماذا يفعل، في بعض المناسبات؛ بمعنى تحت أي توصيفات يكون فعله قصديا، هو أيضا يعرف الأسباب التي دفعته للفعل. علاوة على ذلك، في الحالات العادية يعرف لأجل أي الأسباب قام بالفعل. إذا كنا، من خارج، نتمنى معرفة لماذا قام الفاعل بما قام به، فالطريقة الأكثر وضوحا لمعرفة ذلك هي سؤاله شخصيا.
بالنسبة إلى أغلب الأفعال، لا يوجد تفسير مطلوب على الإطلاق. يجب على الفاعل التوقف عن التفكير لماذا فعل بعض الأشياء التي يمكن أن يعرف الإجابة عنها، ويجب أن يقدم الإجابة دون تردد حين يُسأل، ليس لأحد سبب ليشكك في ذلك. سيكون هنا اتفاق كامل، إجماع، بخصوص القضية؛ ففي مثل هذه الاتفاقات توجد "حقيقة" تفسير فعل ما، إذا ما كان التفسير مطلوبا.
حين يطلب التفسير في العديد من القضايا (الحالات)، ربما حتى في أغلب القضايا، لسبب أو لآخر، فإنها قضايا ليست محل إجماع –على الأقل بدئيا. يتساءل الملاحظ من خارج لماذا قام الفاعل بما قام به. (قد يتساءل أيضا أي فعل ينسب للفاعل، كيف يعرف الفعل، لكن هذه صعوبات نفترض حلها الآن). قد يعرف شيئا بخصوص أسباب فعل الفاعل، لكن يمكنه أيضا رؤية الأسباب المعارضة للقيام بفعل من هذا النوع ويتساءل لماذا لم يمتنع الفاعل عن القيام به. يسأل الفاعل وجواب الفاعل لا يقنعه؛ إذ تبدو القضية «مشبوهة». نظن، أنه لا بد توجد هنا بعض الأسباب لماذا فعل ذلك، والتي يخفيها عنا، أو نقول إنه قام بذلك، ليس لأجل السبب الذي قدم لنا، لكن لأسباب أخرى لديه، والتي نعرف إنها موجودة.
اعتبارا لمثالنا السابق حول الوعد (ص 132)، فقد قدم الفاعل وعدا، وقد كان ذلك سببا لقيامه بما قام به، لكن ما قام به كان شيئا مشبوها، ربما فعل جرمي، شيء لا يجب علينا القيام به. هذا الفهم المفترض كان سببا ضد القيام به. ومع ذلك، من خلال القيام بالشيء فقد أجبر الموعود بشدة، ويستطيع توقع خدمة بالمقابل. واضح أنه كان يعرف هذا أيضا مما أعطاه سببا آخر («أنانيا») للقيام بما قام به. مع ذلك يقول، إنه قام بذلك؛ لأنه وعد بالقيام به. ألم يتبين إن ما قام به شيء سيء؟ نعم، لكن «الوعد وعد». ولا يزال التساؤل قائما.
كيف يمكن اتخاذ القرار في قضية كهذه؟ ربما الوضعية واضحة جدا، فالفاعل يكذب علانية. إنه يعرف جيدا لماذا فعل ما فعل، وأنه كان لسبب مخالف لذلك الذي قدم لنا. بالتالي، فمعرفته الذاتية لا تحتاج على الإطلاق منازعة مع الملاحظين الخارجيين الذين يقترحون تفسيرات لهذه القضية. في الحقيقة هناك إجماع على الرغم من كونه «ضمني».
ومع ذلك، لا يجب أن تكون الوضعية بهذا الشكل، كما نقول، ربما "يكذب الفاعل على نفسه" كذلك، بخصوص أسبابه (دوافعه). لقد وفى بوعده وقام بالشيء المضلل بسبب حسابات أنانية، لكنه لا "يعترف" بذلك (حتى) بالنسبة إلى ذاته. أو صدقا، إنه "يسيء فهم" فعله الخاص – حيث يظن، على سبيل المثال، إن السبب الوحيد الداعي لوفائه بوعده هو إنه وعد وليس إنه كان يتوقع مقابلا[26].
(إن الحدود الفاصلة بين «الكذب على الآخرين» و»الكذب على الذات [أيضا]» ربما لا تكون متمايزة جدا).
على أيّ أسس يمكن للملاحظ الخارجي الدفاع عن دعواه في فهم الفاعل [دوافعه] أفضل من الفاعل نفسه؟ مثلا، يجب على الملاحظ الخارجي الاستناد إلى معرفته التي يفترض أنها مؤسسة على التجربة السابقة بـ«خصائص» الفاعل، ربما يقول: "إنه، أي الفاعل، من نمط الأشخاص الذين يقدمون ويوفون بوعودهم فقط حين تكون في صالحهم بشكل واضح. أما الالتزام الأخلاقي في الوفاء بالوعد، فلا يعني أي شيء بالنسبة إليه. إننا نعرف ذلك". بالتالي وجهة النظر الخارجية لسلوك الفاعل في هذه القضية الخاصة محددة في الصورة التي لدينا عن ملامح شخصيته. إن تفسير الفعل المقدم من طرف الملاحظ الخارجي أكثر ثباتا أو اتساقا مع باقي معارفنا عن الفاعل.
تقدم وجهة نظر الملاحظ الخارجي دعما إضافيا، إذا ما تحولت إلى أساس آمن للتخمينات. "سترى؛ في المستقبل حين سيعد بشيء ما، فإنه سيخلف الوعد، ما لم يكن لديه دافع أناني للوفاء به. لذا، لا يجب الاعتماد عليه"، فقد تفشل النبوءة في بعض الحالات، رغم إنها تساعد في الكثير من الحالات في دعم التفسير الذي يقدمه الملاحظ الخارجي للقضية الخاصة، والتي عارض فيها الفاعل في تفسيره الخاص لفعله.
14. في حالة الخلاف يمكن بطبيعة الحال أن يحدث أن يقنع الفاعل الملاحظ الخارجي إن هذا الأخير قد أساء فهمه؛ فالملاحظ الخارجي إذن، إن جاز التعبير، قد «ارتد» إلى وجهة نظر الفاعل. هذه القضية يمكن أن تكون معتادة جدا، لكن أيضا ليست بهذه الأهمية سواء بالنسبة إلى وجهة النظر الفلسفية أو السيكولوجية.
الأكثر أهمية هي القضية التي يحافظ فيها الملاحظ الخارجي على وجهة نظره، ويحاول تحويل الفاعل إلى فهم- ذاتي جديد[27].
يقول الملاحظ الخارجي ربما إن شفاه الفاعل تعترف بأنه قام بالفعل من أجل السبب سا، لكن قلبه يعرف أنه قام بذلك من أجل السبب عا، ربما يمكننا إقناعه وجعله "يعترف" بالحقيقة.
هناك فكرة كون الفاعل يجب أن يكون الحكم الأسمى، السلطة الأعلى بهذا الخصوص، هو وهو فقط يستطيع أن يرى الحقيقة بشكل مباشر. أما حقائق الملاحظ الخارجي المتعلقة بتفسيراته، فتستطيع فقط أن تكون خارجية وغير مباشرة. بالتالي، يبدو أن الاتفاق مع المعرفة الذاتية للفاعل هو الاختبار الأخير للحقيقة بهذا الخصوص.
أي نوع من الحجج يمكن أن يلجأ إليها الملاحظ الخارجي إذا ما حاول تغيير موقف الفاعل؟ مجرد الإقناع ليس عادلا. معنى ذلك، إذا ما نجح وأدى لتوافق سيكون نتاج عملية «غسل دماغ». ماذا تفيد المعرفة الذاتية، بما هي شهادة، لفاعل غسل دماغه؟ حتى وإن لم نتجاهلها كلية فإنها بلا فائدة، سيكون من الصعب إعطاؤها «سلطة عليا». فالسلطة العليا الآن في يد الملاحظ الخارجي (غاسل الدماغ).
إن الحجج العقلية التي يستطيع الملاحظ الخارجي استعمالها ستكون، تقريبا، هي نفس الأسس والأدلة التي أسس عليها رفضه البدئي للتفسير الذي قدمه الفاعل. على سبيل المثال، سيحاول جعل الفاعل يرى فعله الحالي من خلال موضعته في مقطع أكبر من تاريخ حياته. يمكنه التنصيص على الأحداث التي وقعت للفاعل في الماضي بوصفها "معرفة عمومية"، والتي لا يمكن للفاعل إنكارها، كما يمكنه أيضا أن ينزع عنه صورة شخصيته التي شكلها الآخرون عنه، وأن يطلب من الفاعل التفكير في الحقائق التي أدت إلى تشكيل هذه الصورة ومقارنتها بصورته الذاتية. ربما يجب أن يحذره من أجل أفعاله المقبلة، ومطالبته بالحرص أكثر على نفسه.
بيّن أن الحدود بين الحجج العقلية و"غسل الدماغ" ليست دائما حادة. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا علينا التفكير إن «الحقائق الداخلية» التي يعترف بوجودها الفاعل بعد "حوار" لها وضعية الامتياز في علاقة بالحقيقة (تصحيح الفهم)؟ ربما ليس هناك أي سبب جيد للتفكير في ذلك إطلاقا[28].
لنفترض أن «التحول» قد تحقق، فإن الفاعل يقول ربما "أعترف الآن إني لم أفعله بسبب الوعد، بل بسبب أني توقعت خدمة بالمقابل"، أو "السبب الذي لأجله لم أذهب للحفلة إني توقعت أن س سوف يكون هناك؛ الموعد الذي كان لدي كان يمكن بسهولة أن يتم إلغاؤه أو تغييره؛ تقديمه بوصفه سبب رفض الدعوة كان مجرد تعلة فقط"، لنفترض أيضا أننا لم نعاند (نشكك) في مصداقية هذه التصريحات التفسيرية الجديدة المقدمة من طرف الفاعل، بل قبلناها.
الآن، إن سؤال الأهمية الفلسفية هو: كيف يجب علينا وصف الوضعية المتخيلة بشكل صحيح؟ هل يجب علينا القول إن الفاعل يرى الآن الحقيقة المتعلقة به؟ لقد كانت الحقيقة حاضرة مرئية، رغم أنها كانت مختفية عن نظر الفاعل بواسطة حاجز خداعه الذاتي. حين تتم إزاحة الحاجز، فإنه يرى بشكل واضح ما شاهده الملاحظ الخارجي بشكل واضح سلفا، مع ذلك لا يمكنه لاحقا أن يكون متيقنا من صدقية انطباعه بخصوص ما أكده من طرف الفاعل نفسه؟ أم يجب علينا القول إن الفاعل الآن يرى فعله المنجز من زاوية جديدة، وأن وعيه قد تغير، وأنه طور فهما جديدا بخصوص ماضيه الخاص؟ بعبارة أخرى، هل علينا القول إن الرابط (بين الفعل وأسبابه) الذي كان هنا سلفا تم اكتشافه، أو علينا القول إن هناك رابطا (مختلفا) جديدا قد تم صنعه؟
تجدر الإشارة إلى كيف تغلغلت الاستعارة في الحديث عن "الحقيقة" هنا، كانت الحقيقة موجودة هنا لـ"تُنظر" ("في قلبه")، لكن تم "حجبها". حين يتخذ «التحول» وضعه فإنه يتم كشفها للفاعل، الذي وكيفما كانت، فإنه "يعترف" بها بوصفها "حقيقته الذاتية".
إننا جوار ما يمكن تسميته إبستمولوجيا التحليل النفسي، ربما سوف يتحدث المحلل النفسي عن الفهم اللاشعوري من طرف الأنا الأعلى للفاعل والارتباط بين الفعل والأسباب. وجود هذا الرابط يمكن أن ينتقل إلى سطح وعي الأنا الذي قام بكبته، لكن هذا أيضا مجرد استعارة[29].
إنه اللجوء لاستعارات مثل هذه المشار إليها مغرٍ. إنها غالبا «تفرض» نفسها علينا. إنها استعارات جيدة وحين نستخدمها بهذه الكيفية، فإنها تكون آمنة كلية. إن الخطر كامن في أن استخدامها يؤدي إلى ولادة أسطورة مفاهيمية وإلى الغموض. أنشأ البعض "نظرية" حول اشتغال اللاشعور؛ أي "السيكولوجيا الدينامية". هنا تبدأ مهمة الفيلسوف، إنها مهمة «رفع الغموض». وهذا يعني أن المهمة هي محاولة وصف الوضعية الحالية بمصطلحات غير مضللة. وهنا تكمن الصعوبة.
لكي نعرف كيف يكون الكلام عن الحقيقة مضللا لنطرح السؤال الآتي: ما الذي يفترض أن يكون قد تم إخفاؤه، ولم يتمكن الفاعل من رؤيته؟ ولتكن الإجابة كالآتي: إن الربط بين الفعل والسبب هو الذي سمح له بإنجازه، لكن هذا الربط لم يتم إنشاؤه بعد. (إلا إذا كان، بطبيعة الحال، قد كذب «علانية»)؛ لأن "إقامة" الربط يعني فهم الفعل بما أنه قد تم إنجازه لهذا السبب. لذلك لا يوجد شيء يمكن رؤيته تحت الحجب! فقد تم خلق موضوع النظر في نفس اللحظة التي تم فيها كشف الحجاب! بمعنى، ما تم إقامته الآن، رابط الفهم، ببساطة لم يكن هنا من قبل.
الافتراض هو أن الفاعل لم يكذب بخصوص أسبابه حين سئل تفسير فعله أول الأمر. فإن لم يكذب فهو صادق، لكن كيف يمكن أن يكون صادقا ما دام لاحقا سيقبل كون أسباب الفعل كانت شيئا مختلفا؟ إلا إذا كنا نود القول إنه تعرض لغسيل دماغ، فعلينا على ما أظن، الإصرار على أنه لم يستطع أن يكون صادقا فعلا. إذا صح القول، فقد كان نصف صادق، نصف كاذب. فكيف يمكن وصف هذه الوضعية؟
لننظر مرة أخرى في مثال الوعد، إذا ما أرجعنا وفاءه بالوعد لتوقع أناني من الفاعل، فإن الفاعل قد «حصَل» هذا التوقع بكيفية ما أثناء قيامه بالفعل، غير ذلك لا يمكننا القول حقا إن هذا السبب كان موجودا بالنسبة إليه لأجل الوفاء بالوعد. لا بد أنه كان يعرف، على سبيل المثال من التعاملات السابقة مع الوعد، ذلك إنه فعل شيئا من أجله يمكن توقع خدمة بالمقابل[30].
ربما لم يفكر في ذلك أثناء الفعل، ربما أحس بـ«عدم الارتياح» في مواجهة الشيء المخجل؛ فكرة الخدمة المقابل مرت قبلا بذهنه «سريعا» لكنه أعرض عنها بسبب صوت الوعي الذي يقول: "لقد وعدت ولا يمكنك إحباط صديقك". على سبيل المثال، يمكن أن يكون هذا وصفا لما يمكن أن يكون نصف صدق حين يعمد أحدهم إلى تفسير فعله. يبين الوصف بأي معنى يكون الرابط بين الفعل، وبيّن السبب الأناني للفعل قائما منذ البداية، وإن كان في شكل «جنيني»، وليس فقط منذ لحظة التحول.
سيكون الحذر مفيدا هنا أمام محاولة الإلحاح على وجود أي تفسير لأي فعل ذي خلفية دافعية معقدة. ربما لا يتعلق التركيب بحقيقة كون إن هناك أسبابا متعددة، أو أسبابا مع وأخرى ضد، أو أسبابا بقوة متعددة. قد يعني "التعقيد" أيضا إن الخلفية مبهمة. "مبهمة" هنا ببساطة لا تعني أننا لا يمكن أن نرى عبر شبكة الدوافع، بل إن الدوافع، في الحقيقة، ملتبسة. إذا جاز التعبير، فالغموض "وجودي" وليس فقط "ابيستيمولوجيا"، بالتالي حين نفسر الفعل عبر الاستناد إلى أسبابه (دوافعه)، فإننا في الواقع نخترع نظاما، حيث لم يكن موجودا أي شيء قبل.
لذلك يجب علي أن أقول إن ما حصل في "التحول" من النمط الذي يعتبر إن الفاعل يربط فهمه بعض أفعاله مع الخلفية الدافعة لإنجازه بطريقة جديدة. إنه يفسر فعله بكيفية مختلفة ليس لأن هناك حقائق جديدة بخصوص أسبابه خرجت للنور، بل لأن الحقائق هنا سلفا متصلة (مرتبة، متمفصلة) بطريقة جديدة. إذا ما كان هذا الفهم الجديد ينعت بالأفضل، أكثر صحة وأكثر صدقا، من السابق فإن ذلك راجع لأنه يطابق الإطار الأوسع للحقائق بخصوص التاريخ الماضي للفاعل، والذي عمل الملاحظ الخارجي منذ البداية على إعادة النظر في فعله الحاضر[31].
بالنظر إلى ما قيل، ما الذي حصل لفكرة الفاعل بوصفه السلطة العليا للفهم بخصوص قضيته (فعله)؟ أظن علينا القول إنها تبددت، التحول ليس كشفا للحقيقة، إنه تحقيق للإجماع. فكرة سلطة الفاعل لها، بطبيعة الحال، أصل عقلاني. ومع ذلك وببساطة، إنه تأويل سيء. من المرجح إن الفاعل يعرف حقائق أكثر بخصوص قضيته من الملاحظ الخارجي – تحديدا بخصوص وجود أسباب لفعله. بالتالي، فإن الملاحظ الخارجي الذي يشكك في تفسير الفاعل عليه أن يستخلص المعلومات منه. بالتالي، إن مفتاح فهم جديد للفعل، أساسا، بين يدي الفاعل نفسه ويجب أن يؤخذ منه، لكن بالنسبة إلى الفهم الجديد نفسه، فإن الفاعل ليس بالضرورة أفضل استعدادا من الملاحظ الخارجي. قد يكون الملاحظ الخارجي متفوقا؛ فلا أحد من الاثنين يمتلك الحق الحصري في تمرير الحكم النهائي.
15. لنفترض، مع ذلك، أن لا تحول قد حصل، بل إن الملاحظ حافظ على تفسيره لفعل الفاعل. هل يعني هذا أن القضية أصبحت غير محسومة؟ من الجيد التذكير إن "محسومة" تعني كون الإجماع قد تحقق؛ وذلك لا يعني إن الفاعل عند التدقيق مع نفسه، فإنه يشهد بالحقيقة في الأمر.
لكن ما المطلوب لكي نتحدث عن تحقق «الإجماع»؟ هل من الضروري الحصول على مصادقة الفاعل على تفسير الملاحظ الخارجي؟ بمجرد ما نقوم بهدم فكرة امتياز وضعية الفاعل بالنظر إلى (بلوغ) الحقيقة، يستحق السؤال الاعتبار. واضح إن في القضايا العادية موافقة الفاعل مطلوبة، بل وأساسية. إذا ما اعتقدنا أنه يمكن تجاهل اعترافه بفهمه الذاتي، يجب أن تكون لدينا أسباب خاصة. هناك سبب واحد محتمل هو أننا مقتنعون بأنه كاذب – وبالتالي، فإنه يتفق معنا "حقا"، لكنه احتمال يجب علينا تجاهله هنا لاعتبار أهميته البسيطة. قضية أكثر أهمية هي حين نحكم إن شخصية الفاعل فاسدة أخلاقيا أو منحرفة، حيث لا يمكنه تقديم حصيلة متناسقة وذات مصداقية بخصوص دوافع وأهداف فعله. إننا ببساطة أقصيناه بوصفه حكما في قضيته الخاصة. فقط آراء الملاحظين الخارجيين هي التي تعتبر الآن من أجل تحصيل إجماع بخصوص كيف سوف تفسر أفعاله. في الواقع، يمكن لكل الملاحظين الخارجيين الموافقة –مع إمكان وجود استثناء بخصوص بعض تلك الأحكام التي نظن، بخلفية مستقلة، لا يمكن الثقة فيها أو يمكن تجاهلها، من ثمة فالقضية "محسومة"[32].
قضايا مثل هذه تحدث ولا يمكن نفيها، لكن هناك شيء تراجيدي بخصوصها. أن يكون لأحد آخر السلطة العليا في القضايا المتعلقة بـ "حياتي الداخلية" ربما ينظر إليه على أنه تحقير. ألا يجوز لمثل هذه السلطة أن تسيء استخدام وضعيتها لأجل "غسل الدماغ"- ربما من زاوية نظر تعزيز نوع من الوحدة بخصوص أفكار الناس وأفعالهم؟ ألا يؤدي هذا إلى ظلم فادح في التعامل مع الشخص؟ لهذه المخاطر لدينا سبب قيم لكي نكون حذرين- ليس أقلها سنة 1984 المشئومة.
كم ستكون الأشياء غير سهلة لو تمكنا من الاعتقاد في حقيقة مطلقة بخصوص هذه الأمور، الحقيقة التي توجد مستقلة عما يظنه أي كان بخصوص الأسباب وراء أفعالنا؟ إنها خاصية أولئك الذين يسيئون استعمال سلطتهم حين يقصون شهادات الفاعلين؛ فهم غالبا يفعلون ذلك باسم حقيقة «عليا»، ربما تمت معاقبتها من طرف "العلم"، والذي على الفاعل المتمرد القبول بها مرغما، كما إنه خاصية أولئك الذين يقاومون غالبا لأجل تحقيق الراحة في الاعتقاد أن هناك حقيقة "داخلية"، والتي يلجون إليها هم فقط، والتي يعرفونها. إن الحدس بلا وجود مثل هذه الحقيقة، سواء في «الداخل» أو «الخارج» هو السلاح الذي بواسطته علينا محاولة مواجهة كل من الإشباع –الذاتي[33] (الحقيقة الذاتية) للذاتية المبالغ فيها وادعاءات الموضوعية الزائفة فيما يخص فهم الفعل الإنساني.
16. إن تفسير الفعل عبارة عن واجهة لفهم الفاعل بما هو شخص. نفس الشيء ينطبق على الأفعال بالنسبة إليه، ونفس الشي بالنسبة إلى إسناد أسباب الأفعال له.
يمكن لأحدهم التمييز بين مستويات الحقائق بخصوص ما ينسبه الفاعل في فهمه لنفسه بما هو شخص؛ حقائق المستوى الأدنى غالبا ما يتعامل معها بوصفها مسلما بها فيما يخص الجهود المبذولة لأجل إقامة حقائق حوله في المستوى الأعلى. على سبيل المثال، ربما علينا ودون سؤال النظر إليها بما هي حقيقة ذلك أنه قام ببعض الأفعال، وأيضا كانت لديه هذه الأسباب أو تلك، لكن لا بد من التريث بخصوص التفسير. هل قام بذلك لهذا السبب أو لذاك؟ ربما يدفعنا هذا إلى إعادة فحص الحقائق المقبولة سلفا في المستوى الأدنى. قد نكون أخطأنا في نسبة الفعل إليه، بمعنى، إن سلوكه لم يكن قصديا حسب الوصف الذي قدمنا له بداية.
بإسنادنا أسباب الفعل لشخص ما، فإننا بطبيعة الحال نسند له أيضا مجموعة من القدرات، المعتقدات، الرغبات والميولات، وأشياء أخرى والتي تميزه بما هو شخص. بعض هذه المميزات يمكن أن ترجع بعيدا إلى تاريخه. إنها تشكل نوعا من الخلفية أو «البرنامج» الذي يجب أن يفترض في بعض الأشياء التي قام بها أو التي وقعت له، والتي يجب اعتبارها أسبابا لنتائج الفعل (على سبيل المثال، كونه يفهم بعض اللغات). من ثمة، هذه الأشياء الأخرى، على سبيل المجاز، هي بمثابة «مداخل» الكتابة في «لوحة الحروف» والمبرمجة بشكل خاص. ففعله هو «المُخرج».
على الرغم من أن هذه المماثلة باستخدام مصطلحات لغة الحاسوب مقيتة، إلا أني أظن أنها مفيدة حين يتعلق المشكل بمناقشة حرية الفعل في سياق وضعية ثقافتنا الحالية. في القراءة الموالية سأستفيد أكثر من استخدام هذه الاستعارة[34].
(II)
1. ليست كل الأفعال تنجز لأسباب؛ فقد تكون الأفعال لا قصدية، تمت بالخطأ، أو «لأجل لا سبب معين». بعض الأفعال تختفي في «ردود الفعل». إذا أردنا تفسيرها علينا النظر في العلل المحفزة للفاعل من داخل أو من خارج جسده. من زاوية نظر تفسيرها، هذه الأفعال عبارة عن حركات، أو كبت حركات، أطراف وأعضاء الجسم البشري.
كذلك، الأفعال التي تتحقق لأسباب لديها "ملامح جسدية"، علي أن أعتبر حركات الجسم («المرئية») أو بعض أجزائه بوصفها شكلها الأولي. ربما تحدث هذه الحركات تغييرات أكبر خارج الجسد؛ بعض هذه التغييرات المحدثة تستعمل عادة في تعريف الفعل، بمعنى، لكي نقول ماذا فعل الفاعل –مثلا، فتح الباب. إنها ما أسميته في مكان آخر بنتائج الفعل، والتغييرات الكبيرة المحدثة بواسطة نتائج results الأفعال أسميها (سببيا) عواقب consequences هذه الأفعال.
في بعض الحالات البسيطة، تعتبر الحركات الجسدية الظاهرة نفسها نتائج لفعل ما –مثلا، فعل رفع الذراع، لكن في الغالب الحركات الجسدية (سببيا) مجرد شروط قبلية لفعل ما (نتائج). هذه الشروط القبلية تمتلك بدورها خلفية مختفية في شدة وارتخاء العضلات «داخل» الجسد. فللنشاط العضلي أيضا خلفية سببية في صيرورة النظام العصبي. وأخيرا، يمكن البحث عن أسباب هذه الصيرورات في النظام العصبي من خارج جسد الفاعل. من هذه الطريق (النتائج) يمكن تعقب الشروط السببية القبلية للأشياء التي تحققت «في العالم» خارج أجسادنا وباستقلال عنا (عن أفعالنا).
ليس كل فعل بشري ينتج تغييرا في العالم. الفعل الوقائي أو القمعي، إذا ما نجح، يؤدي إلى عدم التغيير. ومع ذلك، فمثل هذا التغيير له ملمح فيزيائي (جسمي)، هذا التميز الشكلي الذي يتخذه التوتر العضلي. مثلا، أضغط بيدي الباب، وذلك تجنبا لأن يفتح حين يحاول شخص آخر دفعه ليفتحه[35].
هناك تماثل ملحوظ بين الإنجاز والامتناع عن الفعل في علاقة بالتمظهرات الجسدية. في الحالات العادية، الامتناعات لا تتطلب أي مجهود (فيزيائي). إنها تفتقد الملمح الجسدي. الامتناع عن الأفعال التي ليس لها أي أسباب، مع أو ضد، سيجعل من الصعب حتى ملاحظتها أو طلب تفسيرها. يتخذ الطلب الاعتيادي لتفسير امتناع ما هذا الشكل: لماذا لم يقم الفاعل بهذا أو ذاك الذي كان لديه سبب أو فرصة للقيام به (وماذا كان يستطيع أن يفعل؟) وأحيانا يكون الجواب إن المانع كان لعامل خارجي أو داخلي.
كل فعل (مغاير للامتناع) يجب أن يكون ذا ملمح جسدي، على ما أظن. إنه السمة الجوهرية أو التصورية للفعل. يمكن للمرء تخيل "الفعل عن بعد" –مثلا، إن الناس يستطيعون تحريك أشياء أو إسقاط أجزاء فقط بواسطة النظر إليها أو النطق ببعض الكلمات بصوت منخفض. النظر أيضا «جسدي»، وكذلك الكلام غير الصوتي، لكن ما الأمر بخصوص إمكان التسبب في تغييرات تتم بواسطة التفكير المجرد أو الإرادة؟ ماذا سيعني ذلك، إذا لم يكن بعض المجهود الجسدي مثل التجهم، جمع قبضة اليد، إغلاق العينين، زم الشفتين...إلخ؟ يمكن للمرء أن يتخيل مثل هذه التغيرات في الجسد (soma) يمكن أن تحدث تغييرات خارج الجسد، رغم إننا نظن في الحقيقة إنها لا تقوم بذلك، لكن مفهوم الفعل المنفصل كلية عن التغير الجسدي، لا يجب أن يشكل منذ الآن مفهومنا عن الفعل.
أنا لا أنكر إن هناك أفعالا عقلية وأن بعضها، مثل التخيل والتفكير، هي موضوع الإرادة، لكن نتائج مثل هذه الأفعال -إذا ما أسميناها بهذا الاسم- ليست تغييرات ولا تحدث تغييرات «في العالم». النشاط العقلي الخالص، كما نعرفه، لذلك فهو مختلف تماما من الناحية المفهومية (conceptually) عما نحن بصدده هنا، في توافق مع الاستخدام المشترك، الذي أسميه الفعل البشري[36].
2. فيما سبق، حين كنا لا نعرف أي شيء بخصوص دور الجهاز العصبي في علاقة بالنشاط العضلي والحركات الجسدية الظاهرة. منطقيا، من المحتمل وجود رابط سببي/ علي بين الاثنين. لنفترض أن هذا الارتباط لم يكتشف (ليس بعد)، وأننا لا زلنا نعيش في «جهل تام» به؛ فهل كان سيرتبط بمشكلة حرية الفعل أو الإرادة؟
يستحق السؤال أن يطرح، ومن ناحية "ذات صلة" الجواب هو: "نعم، محتمل"؛ ذلك لأنه من الأكيد إنه ليس عرضا تاريخيا الشكل الذي اتخذته مشكلة حرية الفعل، والذي أرهق الفلاسفة في القرون الثلاثة الأخيرة وكذلك في أزمنة قديمة حين تمت الاكتشافات الأساسية التي اهتمت بالآليات السيكولوجية للجسد، وعبرها الجهاز العصبي.
يشغل ديكارت مكانة متميزة في هذه التطورات. لقد كان تحت تأثير «الفلسفة الجديدة» للحتمية الميكانيكية، «الثورة العلمية» للقرون السابع والثامن عشر، حيث اتخذ المشكل شكلا نمطيا، وهو الذي احتفظ به إلى أيامنا هذه، بمعنى، ومع ذلك يمكن للمرء أن "يجمع" فكرة حرية الفعل مع فكرة الأحداث المتلاحقة في الطبيعة بكيفية صارمة وحتمية.
ألم يكن المشكل موجودا قبل ديكارت إذن؟ نجد في الفلسفة القديمة نقاشا حول الحتمية وأيضا عن الفعل الطوعي، لكن ليس هناك نقاش كثير حول علاقة الاثنين ببعض. في الفلسفة المسيحية للقرون الوسطى يتخذ مشكلنا تعريفا سلفيا، والسؤال هو كيف يمكن الجمع بين مفهوم الإنسان بما هو فاعل حر ووجود إله قاهر ومحيط بكل شيء.
مقارنة هذين المتغيرين في إشكالنا هذا، "التيولوجي" و"العلمي" هامة جدا - كما يفترض أن يسميا؛ فحين انكمشت فكرة الإله القاهر والمحيط بكل شيء، أسند هذا الدور الذي مارسه إلى الخيال العقلي لثقافة استحوذت عليها فكرة الحتمية الميكانيكية. هذا الأخير بدوره صار يتآكل الآن تحت تأثير التطورات العلمية. من المحتمل أيضا أن تؤثر هذه التطورات في الشكل الذي يتخذه مشكل الحرية والدور الذي ستلعبه في الفلسفة مستقبلا. ففي الوقت الحالي ليس أمام المرء سوى تأمل هذا الأمر، وليس علينا القيام بذلك هنا[37].
3. يمكن أن نقسم الفلاسفة إلى مجموعتين اعتبارا لنظرتهم للحرية (الفعل) والحتمية الكونية (في الطبيعة) بما هي متوافقة مع بعضها البعض أم لا. يقول فلاسفة المجموعة الأولى إنهم يدافعون عن توافق الأطروحتين، بينما يرون في المجموعة الثانية إن الأطروحتين غير متوافقتين.
مساندو وجهة النظر القائلة إن الحرية غير متوافقة مع الحتمية الكونية يواجهون اختيار اتباع أحد الموقفين الآتيين؛ إما أن ينكروا كون الملمح الفيزيائي لأفعالنا محدد كلية بواسطة الوضعيات الفيزيائية السابقة وقوانين الطبيعة، أو إن عليهم نفي الحرية – وسم حرية الفعل نوعا من «الوهم».
كلا الموقفين موجود في العديد من المتغيرات. في قرننا الحالي، تم الدفاع عن النزعة اللاحتمية بواسطة حجج من الفيزياء الدقيقة (نظرية الكوانتوم). ما عادت الفيزياء مرتبطة بفكرة الحتمية الكونية بنفس الكيفية التي كانت عليها في القرن الثامن والتاسع عشر. إن ذلك صحيح – لكن السؤال يظل موضع سجال مفتوح حول ما إذا كانت اللاحتمية في الفيزياء «انطولوجية» أو «ابيستيمولوجية». إذا تعلق الأمر بهذا الأخير، فالنزعة اللاحتمية في الفيزياء تعكس الحدود في معرفتنا وأنها متوافقة مع النزعة الحتمية في الطبيعة.
إنها فكرة قديمة في الفلسفة كون حرية أفعالنا مجرد «وهم معرفي» راجع لجهلنا بأسبابها. الفكرة مرتبطة بأحد تأويلات موور Moore المقترحة بخصوص [عبارة] "كان يمكن أن يفعل بكيفية مغايرة". منذئذ، على الأقل في العديد من الحالات، لا نعرف ما هي اختيارتنا (طبعا بخصوص الفعل كيف سيكون(، نقول إنه من الممكن إننا سنقوم ببعض الأشياء لكن من الممكن أيضا إننا سنمتنع عن الفعل. هذه التوافقات مع الاستعمال العادي والمشترك لـ «ممكن»، يرادف تقريبا العبارة "كل ما نعرف". صاحب النزعة الحتمية الذي يفكر إن الاختيارات (طبعا الخاصة بالفعل) في الواقع حتمية، سيعمل على وسم (تصنيفها) الفكرة إن الإنسان «حر» في اختيار أفعاله «وهما معرفيا»[38].
هناك الموقف "الكلاسيكي" لأصحاب النزعة التوافقية التي يجب الإشارة إليها هنا. لقد استمتعت ببعض الشهرة مع مؤلفين في الأخلاق في القرن السابق. إنهم يعتقدون كون دوافع وأسباب الفعل (مقارنة بالفيزيائي) هي علله. إذا كان كل فعل «يلي» flows دافعا، بالتالي فإن الأفعال تتحدد بشكل حتمي صارم بوصفها حدث في الطبيعة، لكن الأفعال تنبع من التحديد الذاتي للفاعل وليست من عوامل علية خارجية. لا يجب أن تلتبس النزعة الحتمية مع النزعة "القدرية". فالحرية الإنسانية تتشكل تحديدا من كون الأفعال البشرية محددة بواسطة أسباب الفاعل (الخاصة).
يمكننا أن نوافق على هذا التصريح الأخير، كذلك صحيح كون الدوافع والأسباب غالبا ما تسمى "علل الأفعال". ليس هناك اعتراض على هذه الطريقة في الكلام ما دامت لا تترك الاختلافات المفهومية (التصورية) بين علل الأحداث في الطبيعة وأسباب الفعل غامضة. هناك اعتراض بسيط بخصوص الموقف الموصوف حالا كونه مفرط في "العقلانية" التي تفترض كون كل الأفعال ذات دافع-تفسيري وبالتالي لا فعل اعتباطي (كلية).
هذه الكيفية في "التوفيق" بين الحرية والنزعة الحتمية تعكس اهتماما بالغا بالوضع المميز الذي تتمتع به أفكار النزعة الحتمية في ثقافتنا العقلية. من خلال تسمية أسباب الأفعال «عللا»، يمكن للمرء أن يدافع عن الحرية الإنسانية، وفي نفس الآن يتشدق بالكلام عن رؤية العالم الحتمية للعلم الطبيعي الكلاسيكي.
مع ذلك، هذا الدفاع عن النزعة التوافقية يترك مشكلا آخر غير محسوم. يمكن للمرء تسمية هذا المشكل بـالتطابق أو التوازي. إذا قبلنا بأن تكون الأسباب عللا، سيبدو أن لدينا هنا سلسلتين عليتين متوازيتين لكن مستقلتين. من جهة، لدينا الأسباب المسببة causing للأفعال، ومن جهة أخرى لدينا الأعصاب والصيرورات العصبية المسببة للنشاط العضلي. تتلاقى السلسلتان معا في الملمح الفيزيائي للأفعال. كيف يمكننا فهم هذا "التطابق" أو ما يبدو "صدفة"؛ ذلك أنه حين أفعل بعض الأشياء لسبب أو لآخر، فإن مطلب الملمح الفيزيائي لفعلي يجعل المظاهر تحت تأثير العلل، ربما أفعل (أتصرف) خارج جسدي، وعلى أية حال "خارج إرادتي"؟
4. أفتح مقبض الباب - يقوم ذراعي ويدي ببعض الحركات. لماذا أفتح مقبض الباب؟ أريد جلب بعض الأشياء من الخزانة المغلقة، عبر تحريك يدي أقوم بفتح الخزانة. حركات يدي تسببتcaused في فتح المغلق؛ ما الذي يجعلني أحرك يدي بكيفية معينة؟ حقيقة كوني أريد فتح الخزانة أو، ربما، حقيقة إني أريد جلب شيء ما من الخزانة. فما الذي يجعل يدي تتحرك بكيفية معينة؟ بعض أعصاب العضلات من الدماغ، ما الذي يجعل هذه الأعصاب تحدث (تحديدا) إذا؟ بهذا السؤال، فإن "مشكلة المطابقة" تكون قد حلت –وبدأ الالتباس المفاهيمي.
علي أن أقدم لاحقا مفهوم سياق الفعل؛ لننظر مرة أخرى فعل فتح مقبض الباب، فقد كان ذلك بداية؛ فقد شرعت في المهمة، كما نقول، الانخراط في الفعل. للفعل امتداد زمني معين، يدوم لبعض الوقت خلاله تقوم يداي بحركات معينة، ثم تصل إلى النهاية؛ فتح المقبض. الأشياء المشار إليها حالا تشكل (تصف) سياق الفعل.
علاقة بهذا السياق، أين يمكننا «موقعة» أعصاب العضلات؟ بيّن أنها لا تبدأ حين تكون يداي وذراعي تتحركان فعلا، يجب أن يكونوا هنا حين أشرع في المهمة، يجب أن ينتسبوا (الأعصاب) لسياق الفعل. ربما يمكن تسميتها بـ «الملمح الفيزيائي» لتلك الحلقة «غير الملموسة» إلى حد ما والتي نسميها "الشروع" في الفعل. فما هي[39]؟
ربما رغبتي في جلب شيء من الخزانة كانت موجودة قبل أن أحضر نفسي لفتح المقبض. نفس الشيء ينطبق على إرادتي فتح المقبض، ربما يستحيل تأصيل الإرادة في تحديد زمني دقيق. إذا كانت الإرادة موجودة قبل الشروع في الفعل (وكان وجودها هكذا يقع خارج «سياق» الفعل)، بالتالي الانخراط في الفعل يتشكل فقط من هذا؛ ذلك أن بعض الأعصاب تدفع ذراعي ويداي للحركة. الشروع في الفعل كان هو إرادتي في أن "أصير فاعلا [نشيطا]"، وقد حدث ذلك حين دفعت أعصابي ذراعي ويداي إلى الحركة. لكن أليس هذين الشيئين؛ الانخراط في الفعل والحركة العصبية ليداي حقيقة نفس الأمر، إنما فقط موصوفة بكيفيات مختلفة؟ أحد الوصفين يرد في مصطلحات «عقلية» غامضة ("الشروع في الفعل"، "إرادتي صارت نشيطة")، الآخر، على ما يبدو، يستعمل مصطلحات فيزيائية (الأعصاب) أوضح. علي العودة لهذه المسألة لاحقا.
5. لنفترض أن التفسير الوحيد الذي أستطيع تقديمه للفعل هو أنني أريد فتح المقبض، هذا فقط. ليس أني أريد معرفة ما إذا كنت أستطيع فتحه أو أني أريد جلب شيء من الخزانة. سيكون غريبا نوعا ما أن أريد هذا فقط، سيكون كما لو أني أقول: "رغبة جامحة اجتاحتني". يمكن للمرء طرح السؤال؛ هل كان فعلي حرا؟ ليس هناك فائدة كبيرة، على ما يبدو، في تسمية الفعل "حرا" إذا ما كان سياقه كذلك، وفي المعنى الموصوف، "قائم بذاته".
مع ذلك، لنفترض إن لفعلي تفسيرا كاملا. لقد فتحت المقبض؛ لأنني أردت جلب قارورة نبيذ من الخزانة. لماذا أردت ذلك؟ ربما كنت أنتظر ضيوفا على العشاء، حين يتحقق الفعل ضمن هذه الشروط فإنه يبدو نوعا من التصنع الحديث عن "إرادة" فتح المقبض.
يستهدف التفسير الكامل ما خلف سياق الفعل. إنه يشير إلى المستقبل- إلى "غاية" الهدف المنشود. كما إنه أيضا يشير إلى الماضي –إلى الوجود القبلي للإرادة المشروطة بالانتظارات. حين يتم وضع هذا المنظور، يمكن للمرء ألا يتردد في وسم فعلي في فتح المقبض «حرا». يشمل سياق الفعل الآن مجالا واسعا من الأسباب والدوافع.
يظل هذا السياق الواسع «محدودا»؛ بمعنى أن سلسلة الأسباب البعيدة لها نهاية (غاية). توقعت حضور ضيوف على العشاء. بيّن أني فعلت هذا لسبب ما. السبب العادي سيكون أني دعوت الناس، لكن لماذا؟ ربما لأنني كنت مدعوا لزيارتهم من قبل. من خلال دعوتهم أحفظ قاعدة "الكيفيات الحسنة" في مجتمعنا، وربما هناك بعض الأسباب الأخرى أيضا، لكن يحتمل أنه ليس في مستطاعي التقدم أكثر في تفسير ما يخص هذه النقطة.
على الرغم من أن التفسير باستعمال مصطلحات الأسباب يمكن أن يشير إلى ما هو أبعد من سياق الفعل في الزمن، يجب أن تكون كل الأسباب، حاضرة في السياق، ليس ضروريا أن يكون الفاعل منتبها ("يفكر") لها (جميعا) حين ينخرط في الفعل، لكن يجب أن تكون حاضرة؛ بمعنى أنه يمكنه في وقت لاحق القول، ردا على الشكوك، أنها كانت لديه، فهو لم "يخترعها" بعد ذلك، ولا نسيها كلية. كان سيكون قادرا على تحديدها حين ينخرط في الفعل، أيا كان السبب، لو إنه فكر في داعي فعله ما فعل، لكن الحدود غالبا تلتبس بين الأسباب القبلية ونتائج «عقلنة" الفعل.
حين أحضر نفسي لفعل من أجل بعض الأسباب، فالخلفية الدافعة الحاضرة في سياق الفعل "تنشطني" – والملمح الفيزيائي لهذا التنشيط هو «الأعصاب» التي تجعل عضلاتي تتقلص وتتمدد، وهكذا توجه الحركات الجسدية التي تشكل الملمح الفيزيائي لفعلي، لكن كيف يمكن أن يكون للخلفية الدافعة التي تحركني، الفاعل، نحو الفعل هذه القدرة على الأعصاب التي تحرك العضلات، إذا لم يكن هناك شيء يجيب على هذه الخلفية في الجانب الفيزيائي؛ بمعنى، في الدماغ أو في النظام العصبي للفاعل؟ الجواب، على ما يبدو، أن الخلفية الدافعة لا تستطيع اكتساب هذه القوة ما لم يكن لديها مثل هذا "المقابل الفيزيائي"[40].
لنفترض أن فعلي كان ردا على أمر أو جواب عن سؤال. سمعت بعض التشويش الذي كان أمرا صادرا لي لفعل بعض الأشياء التي أستطيع فعلها -وانخرطت في فعلها. الأمر هو السبب الذي لأجله قمت بالفعل، لكن الطلب يجب أن يكون مفهوما (ليس فقط "مسموعا")؛ وذلك قصد تنشيطي، فما هذا؟ بغرض فهم الأمر، علي أن أعرف اللغة المستعملة وأن أسمعها حين تنطق. إذا كان الأمر هو أن أتحرك نحو الفعل، علي أيضا أن أعرف «معاني» الأوامر بوصفها أسبابا للفعل، فكل هذا "متضمن" سلفا في تاريخي الماضي. يفترض هذا أيضا، على حسب ما نعرف - وهذا مشكل المعرفة التجربية (العلمية) وليس المفاهيمية- إن النظام العصبي معدل خصيصا أو "مبرمج" من خلال مسار تطوري؛ بمعنى، عبر صيرورة النمو والتعلم. بالتالي، إذا تلقيت أمرا وتفاعلت معه؛ فمعنى ذلك بعبارة فيزيائية، إن بعض الموجات الصوتية قد أثرت في سمعي (الأعصاب)، وإن "الرسالة" تنتقل إلى دماغي وتحدث تغييرا في الأنماط العصبية التي تطلق السيالات العصبية innervations.
لكن أليس على الدماغ أن «يفهم» «الرسالة» الصادرة من الموجات الصوتية؛ وذلك قصد إرسال «رسالة» السيالة العصبية إلى العضلات؟ أكيد – لكن يجب التنصيص على أن الحديث عن "الفهم" و"الرسالة" هنا كلام استعاري. معناها الحرفي كالآتي؛ بغية بلوغ فهم الأوامر (بالمعنى الحرفي لـ«الفهم») علي أن أتعلم اللغة والاستجابة للأوامر ورسائل أخرى (بالمعنى الحرفي لـ«الرسالة»)- وتقتضي هذه الصيرورة أثرا (فيزيائيا) في نظامي العصبي، حيث يصبح دماغي مبرمجا على ردود أفعال معينة تجاه محفزات. هذا لا يعني أن نفس المحفزات سوف تستدعي نفس ردود الفعل دائما. فالبرمجة عبارة عن مركب من المحفزات، ويمكن للمتغيرات في هذا المركب أن تتسبب في متغيرات في ردود الأفعال (الاستجابات). والحديث في المستوى «العقلي» هذا يجيب عن حقيقة إنه ربما كان لديه أسباب متعددة للفعل وأسباب متعددة لعدم الفعل وكذلك الأسباب التي، رغم حضورها، ليست فاعلة في علاقة بالفعل الذي ينتج في النهاية عن "موازنة" الأسباب التي مع والأسباب التي ضد[41].
إن حصيلة نقاشنا حول التوازي بين أسباب (الخلفية الدافعة) فعل ما والسيالة العصبية وخطاطات الأعصاب المسؤولة عِليا causally على الملمح الفيزيائي، هي كالآتي: لأجل فهم الأسباب (بما هي أسباب مع أو ضد فعل ما) الجواب هنا هو برمجة الجهاز العصبي، وكذلك وجود الأسباب في سياق فعل معين حيث يستجيب لتحفيزات هذا الجهاز (العصبي)، وانخراط الفاعل في الفعل، حيث تستجيب بعض العضلات في جسم الفاعل. حاليا ينبع سؤالان؛ هل ترقى هذه التوافقات correspondences إلى مستوى الهويات؟ وماذا تحمل هذه التوافقات لمشكلة الحرية؟
6. يجب علي هنا أن أعرف مصطلحا تقنيا، الأساس substrate[42]. وعلي القول هنا إن الأعصاب المستحضرة هي «الأساس» الذي يعتمده الفاعل في تحضير نفسه للفعل. بشكل مماثل، علي أن أسمي النشاط العصبي الذي يشكل الملمح الفيزيائي للفعل بأساس الفعل. هناك سبب يدعونا لعدم مطابقة لا استعداد الفاعل نفسه للفعل ولا الفعل نفسه مع ما أسميته بـ«الأساس»، وهو الآتي؛ يمكننا بدقة ملاحظة ووصف النشاط العصبي دون معرفة لأي فعل يحيل الملمح الفيزيائي.
أرى يدي الفاعل وذراعيه تقوم بحركات متحكمة في مقبض الباب بواسطة مفتاح. ماذا يفعل الفاعل؟ هل يفتح الخزانة؟ إنها إحدى الإمكانات، أم إنه يحاول رؤية ما إذا كان يستطيع فتحها؟ (قد لا تكون الحيلة بسيطة). أو فحص ما إذا كان المفتاح مناسبا للمقبض؟ (هناك مفاتيح كثيرة ضمن المجموعة، وقد نسي الفاعل مع تباعد الزمن أي مفتاح يوافق القفل). هذه احتمالات أخرى، وبغرض معرفة أي هذه الأفعال يقوم بها الفاعل، إذا ما كان، علينا أن نعرف ماذا يقصد أو "يعني" من خلال سلوكه. اكتشاف ذلك ليس مسألة صعبة غالبا. نفعل ذلك عبر تسجيل ملاحظات حول ما سبق أو ما تلا الإنجاز أو ببساطة عبر طرح السؤال على الفاعل، لكن ملاحظات نشاطه العضلي وحده، مهما كانت دقيقة، لا يمكنها أن تعطينا الجواب (على الأكثر قد تؤدي إلى تخمين)؛ لأن الأساس بالنسبة إلى فعل ما ليس مكافئا لعلاقة التوافق مع الفعل. ينطبق الأمر نفسه، بطبيعة الحال، على العلاقة بين الأعصاب وانخراط الفاعل في الفعل، رغم أنه يمكن تعريف ووصف الأعصاب بدقة عالية، لكنها لا تستطيع أن تخبرنا أي فعل انخرط فيه الفاعل.
لكن، إجمالا، أليس النشاط العضلي والفعل يشكلان نفس الواقع، فهما تصوران مختلفان عما يسمى "الأساس" Substrate؟ ونفس الأمر مع الأعصاب والشروع في الفعل؟
في بعض معاني «الواقع»، إنهما متماثلان. سأسمي هذا بقوتهم الواقعية؛ فالفعل ليس شيئا أكثر من ملمحه الفيزيائي، إذا كنا نفهم من "أكثر من" شيئا أو حدثا في العالم الفيزيائي الذي يمكن أن يعرف بوصفه ذاك الذي حين «يضاف» إلى النشاط العضلي «يشكل» الفعل في كليته، لا يوجد شيء من هذا القبيل. ونفس الأمر بالنسبة إلى الأعصاب وما «يعادلها» من الناحية الفعلية (النشاط/ الفعل).
ألا يجب علينا أن نقول إن الفعل مطابق للملمح الفيزيائي (النشاط العضلي)، وإن شروع الفاعل فيه مطابق للأعصاب، بمعنى، مع العلة العصبية للنشاط العضلي؟ الجواب هو النفي – وذلك للسبب المذكور سلفا؛ أي إن لا وصف أو أساس يمكنه أن يكون كافيا لتعريف الفعل[43].
7. ما الذي يتسبب في حدوث الأعصاب؟ إجمالا؛ تحفيز الجهاز العصبي الذي كان «مبرمجا» على مدار حياة الفرد (الفاعل) للاستجابة بكيفيات مخصوصة للتحفيزات من هذا النمط الذي نحن بصدده. كل هذا يمكن، أو يجب، أن يفهم بمصطلحات "فيزيائية" صارمة تطلقها الأعصاب، - كالموجات الصوتية التي تؤثر في أعصاب المنصت، "الآثار" التي تم تثبيتها في روابط الألياف العصبية، إلخ. الاستجابة هي، في نهاية المطاف، الأعصاب التي توجه العضلات.
إن هذا وصف سطحي لما أقترح تسميته بـ"أساس substrate" الخلفية الدافعة الحاضرة لدى الفاعل في سياق فعل ما. وبالتالي، فالتأثير الواضح للأسباب أثناء حركة الفاعل نحو الفعل هو نفس التأثير الواضح للتحفيز الفيزيائي للنظام العصبي «المبرمج»؛ لأن كلا التأثيرين يقوم على كون أعضاء الفاعل الجسدية تتوجه نحو القيام بحركات معينة. فهل يستتبع ذلك كون الأسباب متطابقة مع التحفيزات الفيزيائية؟ الجواب مماثل للجواب الذي قدمنا قصد توضيح الفرق بين الفعل والنشاط العضلي.
كيف يمكن للمرء أن يثبت إن للفاعل أسبابا معينة لأجل الفعل، على سبيل المثال، فهم أمر، الاعتقاد في شيء بوصفه وسيلة لغاية، يريد شيئا ويتجنب شيئا آخر؟ جزئيا عبر تسجيل ملاحظة بخصوص اعترافه بما فهم، اعتقد، رغب، إلخ؛ أي عبر الاستنباط من إجاباته الشفهية عن الأسئلة، لكن بأي حال من الأحوال هذه ليست المعايير الوحيدة – تماما كالسبب الذي يقدمه الفاعل نفسه تعليلا لفعل لا يحتاج حسما بخصوص السؤال لماذا قام بالفعل. يمكن استدعاء بحوث إضافية بخصوص تاريخه الماضي أو سلوكه اللاحق، ونتائج مثل هذه البحوث يمكن أن تتجاوز الشهادة الشفهية للفاعل. ("لا يمكنه حقيقة الاعتقاد فيما يقول؛ إنه متخلق جدا ليفعل ذلك، كما أن سلوكه في مناسبات أخرى يقول عكس هذا".)
إن وجود السبب ليس أي شيء يمكن "تثبيته" لأجل الحصول على وضعية العلاقة أو استمرار المسار في زمن ومكان معينين. إنها حقيقة "شاملة" بخصوص بالامتداد اللامحدود، وهي خاصية النوع المنطقي الفردي الذي نسميه "شخص"[44].
إن ملاحظات السلوك (بما فيها الاستجابات الشفهية) التي اعتمادا عليها ننسب للفاعل بعض أسباب الفعل لا تستلزم منطقيا وجود السبب. لكنها ليست (فقط) علامات أو أعراض على شيء يمكن تثبيت وجوده بشكل مستقل وبـ"يقين مطلق" على أساس بعض "الخصائص المحددة" المغايرة لهذه السلوكيات الظاهرة. لهذا علي تسميتها لاحقا بـ"معيار" (وجود) الأسباب.
إجمالا، لا تُتَّخذ الحالات والصيرورات العصبية بوصفها معايير (لوجود) للأسباب، ربما هي معايير من بين أخرى، إذا ما كانت أكثر ظهورا وأسهل تناولا في البحث وأفضل معرفة مما هي عليه في الحاضر. لكن والحالة هته، فـ"وضعيتهم الابيستيمولوجية" في علاقة بالأسباب مختلفة تماما. لنفترض أننا اكتشفنا، بواسطة التشريح والدراسات الفيزيولوجية للنظام العصبي، إنه في العديد من الحالات هناك ترابط بين بعض الأنماط من الأسباب البسيطة (على سبيل المثال، العطش) لبعض الأنواع البسيطة من الفعل (مثال، الشرب) وبعض الأنماط والعمليات العصبية. بالتالي، يمكننا صياغة فرضية تفيد بأن هذا الارتباط يطال أيضا الحالات غير المفحوصة، إن لم يكن «هناك استثناء»، على الأقل هناك «احتمال كبير». يمكن اختبار هذه الفرضية إذن في حالات أخرى. إن اختبارها –مثل صنعها- يفترض قبليا كوننا أنشأنا سلفا على أسس تابعة وجود سبب الفعل الذي تتم «مطابقته» الآن مع حالة عصبية «مقابلة». إذا ما تم إنشاء المطابقة بشكل جيد، فإنه يمكن النظر للحالة العصبية موضع السؤال بوصفها علامة موثوقة أو عرض لوجود السبب. بقدر ما يظل الترابط فرضية علمية، فإن الحالة العصبية تستوفي دور العرض هذا. فقط في الحالة المستبعدة جدا، حيث تصير الفرضية مؤكدة جيدا ذلك إننا سنحجم نهائيا عن تفنيدها حين تواجه بدلائل تبدو ظاهريا متعارضة، حيث يمكننا استعمال الحالة العصبية بوصفها معيارا للفاعل الذي يملك سببا معينا للفعل. وحتى إن كان المعيار فقط واحدا من بين عديدين، وإن فائدته في إرجاع أسباب الفاعلين لأفعالهم سيكون مرتهنا بمدى تدخل فهمنا للفاعل بما هو شخص وفهم الفاعل لنفسه[45].
ما ورد أعلاه يجب أن يكون كافيا لتوضيح لم كانت مطابقة وجود سبب مع الحالة العصبية المترابطة معه مسألة غير واردة، كما أنه متوافق كلية مع تحديد أثر الخلفية الدافعة على الفاعل والتسبب في إثارة الأعصاب المسؤولة عن الملمح الخارجي للفعل.
بخصوص طبيعة الميكانيزم السببي لا نعرف الشيء الكثير إلى حدود الساعة. ربما نعرف عنه أكثر في المستقبل؛ فلا يمكن النظر إليه بوصفه يقيني؛ لأن الترابط بين الخلفية الدافعة وأساسها substrate متناظر، حيث إن حضور نفس الأسباب سوف يجيب عن نفس الوضعيات العصبية ويؤدي إلى النشاط العصبي في أي سياق لنفس الفعل إلا إذا –إنه الممكن غالبا- افترض أحدهم التشابه ونسب الصعوبات في الإنشاء التجربي إلى تأثير (بعيد) عوامل غير معروفة وغير ملاحظة.
8. أتمنى أن أكون وفقت في بيان لماذا لا يتعلق الأمر بـ«عَرَض» حين تحرك الأسباب الفاعل، إن علل النشاط العضلي تحرك جسده بشكل «متناسب». فكرة إن شيئا عرضيا يستدعي التفسير نتجت في أذهاننا عن طريق الصورة المضللة لسلسلتين متوازيتين مستقلتين والتي مع ذلك متسقة العناصر(في الزمن)، بمعنى، سلسلة من الأسباب وأخرى من العلل، كلا السلسلتين تلتقيان في الفعل. من زاوية نظر «أسسها»؛ بمعنى واقعهم الزمكاني "القوي"، هناك فقط «سلسلة» واحدة.
إذا كان الإنسان قد وهب منذ الولادة دماغا ونظاما عصبيا يعملان في توافق صارم مع القوانين العلية، وإذا كان هذا النظام لم يتغير أبدا في مسار تطور الفرد، فإنه سيكون شيئا «غامضا» كيف تستطيع العلل العصبية استثارة الآثار الجسدية (حركات الجسم) في «تطابق» مع أفعالنا، لكن فكرة الدماغ بوصفه نسقا ليست صحيحة. حين يكبر طفل ليكون عضوا في المجتمع، يتعلم الكلام والقيام بأشياء متنوعة، ويفهم معاني التحديات والمؤسسات، والمشاركة في أنشطة متنوعة، فجهازه العصبي يتعرض لتطور جزئي متزامن مع التعلم تحت تأثير محفزات خارجية وجزئيا بنضج القدرات الفطرية الداخلية. هاتان السيرورتان تسيران جنبا إلى جنب، وبذلك فالتطابق بين الملامح الذهنية والجسدية للفعل تشكل تناسقا تم إنشاؤه في مسار حياة الفرد وضروري الحفاظ عليه على مدى الزمن الخاص بكل واحد منا[46].
واضح أن الحل الذي قدمناه لمشكل التطابق ليس «ماديا». والأقل وضوحا في الغالب، إنه أيضا لا يتضمن أي التزام بالحتمية؛ فالنشاط العضلي معلول caused بواسطة النهايات العصبية، والنهايات العصبية بواسطة التحفيز المبرمج في الجهاز العصبي. ربما لا يكون المحفز بدوره معلولا بأحداث سابقة في سياق الفعل، سابقة على مدى حياة (وجود) الفاعل، ربما إنها تتفاعل "منذ بدء الخليقة"؟ لذلك، بواسطة قانون التعدية، فإن الملمح الفيزيائي للفعل يمكن أن يكون محددا قبليا، على الأقل في بعض الحالات، ومنذ زمن بعيد قبل أن يتحقق الفعل.
لدينا بعض الدواعي التي تجعلنا نعتقد في مثل هذه «الحتمية الصارمة» – كما أنه ليس مؤكدا إننا نستطيع أن نعرضها بشكل واضح، لكن لنتوقف الآن عن طرح السؤال عن احتماله أو عن حقيقته. فهل سيؤثر هذا على نظرتنا لحرية أفعالنا؟
9. لنفترض أن الفعل أحد الأشياء التي لا نستطيع ربطها في الفهم مع أي سبب خاص للإنجاز؛ فقد قمنا به "دونما أي سبب خاص". لا يمكننا اعتبار مثل هذه الأفعال العارضة أو غير المبررة – باستثناء إمكان البحث عن أسباب الحركات التي تشكل ملامحه الفيزيائية. إذا تمكنا من إيجاد سبب، من المفترض أن نقول إن الفعل لم يكن «حرا». علينا التعامل معه بوصفه «رد فعل» بدل كونه فعلا. وإذا لم نتمكن من إيجاد العلة فليس علينا أن نعرف هل سننعته بـ [الفعل] «الحر» أم لا. تمتلك الأفعال العفوية Fortuitous، كما لاحظنا سابقا، علاقة خاصة بالحرية؛ وذلك لأنها تفتقر تحديدا للسمة المميزة للفعل الحر، بمعنى، أن يكون منجزا لسبب ما.
بغية إحداث صراع أو صدام بين الحرية والحتمية علينا تخيل حالة حيث يكون، بكيفية ما، في نفس الآن تفسيرا سببيا وتفسيرا عليا "لنفس الشيء" "في المتناول". لأجل تخيل هذا، على سبيل المثال، لوصف حالة صراع بشكل صحيح ليس الأمر سهلا. كما سنرى، قد لا يكون الأمر ممكنا البثة.
من الأهمية بمكان النظر بوضوح لاختلاف طبيعة التفسيرات العلية والتفسيرات السببية. فالتفسير السببي متعلق بالفعل، بينما التفسير العلي متعلق بالملمح الفيزيائي (الجسدي) لفعل ما. إن عرضا معطى عن النشاط العضلي لا يقدم «من تلقاء نفسه» عن أي فعل هو الملمح الجسدي. فقط في حالة بعض الأفعال البسيطة من قبيل، رفع الذراع، قد يبدو بلا جدوى فصل الفعل عن الملمح الفيزيائي، مثلا ارتفاع الذراع. ماذا يمكن للتفسير العلي (العصبي) أن يفسر في رفع الذراع –وإذا ما كان الفعل المنجز هو (فقط) رفع الذراع، سيحاول البعض القول إن هناك تفسيرا عليا لهذا الفعل أيضا. إضافة إلى ذلك، إذا لم يكن لهذا الفعل تفسير آخر، فإنه أنجز كما نقول لأجل «لا سبب مخصوص»، بالتالي فالتفسير العلي لملمحه الفيزيائي يظل التفسير الوحيد الذي لدينا المتعلق بهذا الفعل- وبالتالي، كما نعلم، قد نظل مترددين في تسميته فعلا بإطلاق. ومع ذلك وعلى سبيل المثال، إذا ما كان الفعل إني كنت أريد جلب كتاب من الرف، فإن الوضعية مختلفة. ليس هناك تفسير علي لكوني أسعى للوصول إلى كتاب، رغم إمكان وجود عدد من التفسيرات العلية لماذا بلغت ذراعي الكتاب الذي أردت (الحصول عليه) جلبه، أو لماذا فشلت في بلوغه. (هذا المثال البسيط يجب أن يجعلنا حذرين من خطورة استعمال أمثلة "بدائية" للغاية حين نناقش الفعل. رفع الذراع أحد هذه الأمثلة المفضلة –لكنه مثال فقير بالنسبة للفعل)[47]. من اللحظة التي أصبح لكل من التفسير العلي والتفسير السببي كيفية مختلفة في التفسير لم يعد في الإمكان وجود «صدام» بين هذين النمطين من التفسير على هذا النحو. لكن هذا لا يبين حتى الآن إنه لا يمكن أن يوجد «صدام» بين التفسير السببي للفعل والتفسير العلي لملمحه الفيزيائي.
لنفترض بعد ذلك أن لدينا هذين التفسيرين المتعلقين بنفس الفعل، ولنفترض أكثر أن أحدهما يحيل على الأسباب الحاضرة بالنسبة إلى الفاعل في سياق الفعل، ويحيل الثاني على الأعصاب المحفزة في النظام العصبي للفاعل في نفس السياق. بالتالي ليس هناك «صدام». ببساطة في سياق الفعل، لا يمكن أن يكون هناك أي «صدام» بين التفسيرين. على العكس من ذلك؛ نحن الذين نتشارك «الاعتقاد في العلم» في قرننا هذا ننظر إليه بوصفه محتملا أو حتى يقينيا إنه إذا كان للفعل تفسير سببي فإن ملمحه الجسدي له تفسير علي.
بغية تقديم تفسير علي، يجب أن يكون قد تم إنشاؤه –بالاستعمال السليم للتقنيات التجربية- ذلك أن بعض محفزات النظام العصبي خارج سياق أي فعل ينتج نوع النشاط العضلي. (لذلك ينبغي على المرء أن يكون قادرا على «تحفيز» الملمح الجسدي أيضا حين لا يوجد الفعل الذي يفترض أن يتخذه الملمح الجسدي محلا).
لكي يكون هناك «صدام» بين نمطي التفسير علينا الآن أن نتخيل وضعية تكون فيها بعض الأفعال المنجزة، حيث نعرف قبل سياق الفعل كون الجهاز العصبي للفاعل قد تم تحفيزه بكيفية ملزمة بواسطة «الضرورة العلية» لإنتاج الملمح الجسدي لنفس هذا الفعل. ("فقد تم حقنه سرا"). علينا أيضا تخيل أن النشاط العضلي يحدث بالضبط حين ينجز الفاعل الفعل. وإذا ما حدث ذلك قبلا، فإن الفاعل قد يقول شيئا من قبيل: "غريب، فقد كنت أريد توا إحضار كتاب من الرف حين ارتفعت ذراعي من تلقاء نفسها نحو المكان المرغوب". وإذا حدث ذلك لاحقا أيضا، قد يقول: "غريب، لم ترتفع ذراعي دفعة واحدة حين كنت سأحضر الكتاب، كان علي انتظار ثانية من الزمن"[48].
إذا كان الفاعل نفسه على علم بخصوص عملية العلة، فإنه يستبق ظهور النشاط العضلي الناتج عنه. ("دقيقتين بعد الحقن سيتمكن ذراعي من الارتفاع"). حين يحدث النشاط قد يستغل الفرصة لأجل القيام بشيء مطلوب لهذه الحركات. («عندما ارتفعت ذراعي، سحبت كتابا من الرف». السحب إذن فعل ذو ملمح فيزيائي خاص به، على سبيل المثال، تجميع أصابعي حول الكتاب؛ رفع الذراع كان مجرد شيء حدث لي لـ«تسهيل» الفعل)، لكنه أيضا ممكن، وربما أكثر احتمالا، إن الفاعل، لمعرفته ما سيحدث في جسده، لن يفعل بالتالي أي شيء بإطلاق.
مع ذلك، لنفترض أن الفاعل لم يكن يعرف بخصوص عملية العلة لكننا نعرف ذلك، يقول الفاعل إنه قام بشيء ما من أجل سبب معين، ونقول إن الملمح الفيزيائي لهذا الفعل سيحدث حتى وإن لم يفعل. هل كان فعله حرا؟ منذ اللحظة التي يكون لديه فيها سبب من أجل الفعل، فإن ذلك ما نسميه "فعلا حرا". لكن لنفترض أننا لم نكن نعرف فقط عملية العلة، لكن نحن الذين قمنا بتفعيلها نحن أنفسنا؟ (فقد قمنا بحقنه). لن يكون هذا صحيحا. فجسده الذي تعرض للتحكم، لكن منذ اللحظة التي أضحت لديه أسباب لأجل القيام بالفعل الذي يشكله ملمحه الفيزيائي من خلال نشاطه العضلي الذي تسببنا في حدوثه، فإن فعله لم يعد نتاج التحكم. فقط عبر التأثير في أسباب الفاعل يمكن أن يكون (صدقا) متحكما فيه[49].
هذا النوع من القضايا التي تخيلناها هنا مصطنع ويلعب في الغالب دورا هامشيا في حياة الفاعل. لكن الأكثر أهمية؛ لم ننجح بعد في عرض قضية حقيقية للصراع بين "الحرية والحتمية". بالتالي، هل وضعنا أنفسنا أمام مهمة مستحيلة؟ لنحاول للمرة الأخيرة؛
في سياق الفعل، أليس يمكن لهذه العلة الخاصة بالملمح الجسدي للفعل أن يكون لها بدورها علة إجرائية من خارج السياق نفسه، وهكذا بالتبعية، ستكون هي نفسها العلة الخاصة بالملمح الجسدي؟
مثل هذه العلة السابقة، يمكن أن تكون محفزا يؤثر على الوضعية العصبية (المبرمجة) للفاعل كذلك من خارج، إما في شكل موجات صوتية، أو من الداخل، في شكل تقلصات في المعدة. وسط عملية الفهم يمكن أن تظهر هذه التأثيرات بوصفها أسبابا للأفعال (الخضوع لأمر أو الحصول على طعام) وفي وسط النظام العصبي يمكن أن يطلق السيالة العصبية الموجهة للملامح الجسدية للأفعال «الموافقة لها».
وسواء كان لها هذه التأثيرات أم لا، فإنها مرتهنة بكيفية برمجة النظام العصبي للفاعل: الفاعل في شكل تعلمه وتجربته السابقة، وجسده في شكل الآثار التي تركها التعلم والتجربة فيه. هل هذا "صراع" بين الحرية والحتمية؟ لا أرى كيف يمكننا تسميته كذلك. لكن التأثيرات (المحفزات) التي يتعرض لها الشخص في مسار تطوره (التربية وتجربة الحياة) وما يتعرض له حاليا في وضعيته الاجتماعية والفيزيائية تحدد على مدى كبير الأسباب التي سوف تكون لأفعاله، وبذلك ما سيفعله لاحقا أيضا. هذه حقيقة يجب أن نذعن لها. إنها لا تجعل من الشخص غير حر؛ بمعنى أن ليس عليه التصرف (الفعل) لأسباب. بل تجعل أي شخص إلى حد ما «ضحية» ظروف حياته وأحيانا ضحية أيضا للتحكم (فعلي) من طرف الآخرين. فحيثيات حياة الشخص والأسباب التي لديه من أجل أفعال متنوعة، هي مع ذلك وإلى حد ما من صنعه أيضا[50].
10. هل كل وضعية جسدية كلية معلولة حتميا من الوضعيات الجسدية السابقة وبشكل صارم؟ الجواب هو النفي، ما دام إن الوضعيات الجسدية هي الأخرى مرتهنة عِليا بمحفز خارج عن الجسد. بالتالي فالسؤال هو هل كل وضعية جسدية شاملة للجسد معلولة بشكل متفرد حتميا بالوضعيات السابقة والمحفز الخارجي، لكن حتى مع هذه الإضافة في المعنى يظل السؤال غامضا.
ماذا تعني الجملة "معلولة بشكل متفرد حتميا"؟ قد يكون الجواب: إنها تعني إنه يمكن للمرء التنبؤ (يقينا) بالوضعية الموالية انطلاقا من معرفة المحفز والوضعيات السابقة، لكن ما هي الوضعية "الموالية"؟ إذا، هل يشكل مجموع الوضعيات شكلا متشعبا منفصلا؟ وهل ترتهن وضعية ما فقط بالوضعية السابقة المباشرة، أو أيضا بأنماط متتالية من الوضعيات السابقة (العديدة)؟ ليس علينا حتى أن نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة. (ومع ذلك، فإن طرحها سيعطي فكرة عن الغموض المفهومي المحيط بسؤالنا الأصل).
توقع الوضعيات المقبلة للجسد على أساس معرفة المحفز والوضعيات السابقة يفترض أيضا معرفة قوانين الربط. كحل أخير، قد تكون هذه القوانين، تعميمات تجربية، بمعنى، من التجارب والملاحظات. ولا داعي للتساؤل حول مدى إمكانية معرفة مثل هذه القوانين.
بغية تكملة الصورة الحتمية التي نحن بصدد رسمها علينا أيضا، أن نفترض إن كل المحفزات التي تؤثر في الجسد ذات تاريخ عِلي محدد حتميا وبصرامة هو الآخر. هكذا، فنحن مرغمون على عدم اعتبار مجموع وضعية الجسد، بل الأجزاء الأكبر شساعة من الوضعية الكلية لـ«العالم» –ربما ليس فقط الأجزاء بل الكل اللامحدود. في النهاية ربما علينا رسم شيء من قبيل الصورة المقترحة للحتمية الصارمة التي طبعها لابلاص Laplace في المخلية العلمية والفلسفية في مقطعه الخالد في كتابه Essai philo- sophique sar les probabilités.
لكن ألم تتآكل التطورات العلمية في هذا القرن، لتجعل من فكرة الحتمية الصارمة فكرة متجاوزة في العالم الفيزيائي؟ على الأقل في المستوى الميكرو حيث يظهر وجود "هوامش للاحتمية" التي بواسطتها تستطيع الأجساد أن تسلك (تتحرك) بحرية. تتم دراسة السيرورات والحالات العصبية على المستوى الميكرو، حيث يتحدث البعض عن "النشاط العفوي" للجهاز العصبي. وقد أشاد بعض الفلاسفة بالتطورات التي عرفها العلم بوصفها ثغرات في «حرية الإرادة»[51].
أتمنى لو أني نجحت في بيان أن كل الموالين والمعارضين للنزعة الحتمية لا صلة لهما بالمشكل الفلسفي المتعلق بحرية الفعل. حتى النزعة الحتمية الأكثر صرامة في العالم المادي، والتي يمكننا تصورها بوصفها إمكانية منطقية متسقة، لن تتمكن من بيان إن الإنسان ليس فاعلا حرا أو إن «الإرادة الحرة» ليست سوى وهم ابستيمي.
يمكن القول إن الحتمية جيدة بقدر ما "تفعل"، بمعنى، يمكننا بنجاح التنبؤ بالمستقبل على قاعدة التجربة الماضية وفرضيات قوانين الطبيعة. إن نجاحنا بهذا الخصوص كبير. البحث عن العلل والتفسيرات الحتمية صار مجزيا للغاية. بالتالي لقد كان مفيدا الحفاظ على فكرة الحتمية بوصفها مبدأ تأويليا لأجل توجيه البحث. في مجالات علمية عديدة على ما يبدو لا تزال الفكرة تلعب دورها الكلاسيكي. وفي مجالات أخرى، قد يكون ضروريا تعديلها (تليينها) أو سيتم التخلي عنها بوصفها لا فائدة منها.
11. هل أردت أن أقول إن دراسة الوضعيات والوضعيات الجسدية ليس له صلة، باعتبار الأفعال من حيث الأسباب؟ لم أرغب بأي حال من الأحوال أن أقول هذا.
العديد من «مشاعر النفس» الأساس لها مرافقات جسدية تميزها –خلافا للتعبيرات الجسدية العلنية القديمة المعروفة لملاحظي الطبيعة البشرية. يصدق هذا على سبيل المثال على الخوف والغضب. و"تنعكس" في قياسات تقلبات الضغط الدموي أو إفرازات الأندرينالين. في بعض الأحيان، قد تكون ملاحظات مثل هذه التغييرات أيضا ناتجة عن فهمنا (تفسير) للأفعال.
يمكنها على سبيل المثال، أن تستخدم بوصفها نوعا من «كاشف الكذب». ربما ينكر الفاعل إنه فعل شيئا؛ لأنه كان خائفا (من شيء كان يرغب الفرار منه) أو بسبب إنه كان غاضبا (من شخص أراد الإضرار به). قد يقدم سببا مختلفا تماما لفعله، فنشك فيما يقول –الفحص الطبي قد يدعم شكوكنا.
ربما نستطيع "إرغام" الفاعل على القبول بأنه كاذب، يخفي عنا دوافعه الحقيقية، لكن ربما كان دافعه «نبيلا» في إخفاء «شيء حقير» ليس علينا فقط بل على نفسه أيضا. فقد كان يكذب على نفسه أيضا[52].
ماذا يمكن لـ "كاشف الكذب" خاصتنا الآن أن يحقق، إذا لم يكن الفاعل نفسه متنبها للخوف أو الغضب؟ حذر كبير يفرض نفسه حينما نحاول الحسم في مثل هذه الحالات. ربما تقتضي الحكمة إلغاء الحكم. لكن ربما يكون في مقدورنا جعل الفاعل يتحقق من إن شيئا فيما يخص وضعيته أخافه حاليا أو جعله غاضبا -حتى وإن قال إنه لم «يشعر» بالخوف أو الغضب. قد جعله هذه الكيفية أكثر انتباها (متأملا) لتبعات سلوكه. بهذه الكيفية قد يصل إلى فهم -ذاتي معدل والذي على ضوئه سينظر بشكل مختلف لبعض أفعاله الماضية.
- هل تفعل [تتصرف] الحيوانات؟
لا نقول بسهولة إنها كذلك. للقول إن الحيوان «ينجز» هذا الفعل أو ذاك -أو يمتنع عن القيام بآخر- تبدو إلى حد ما هزلية أو سخيفة. يبدو كأنه نوع من «شخصنة» الحيوان - كما هو شائع في القصص والحكايات. لكن الحيوانات، "حقيقة"، ليست أشخاصا. (مع ذلك، قد يكون لبعضها "طباع" أو حتى "شخصيات").
تقوم الحيوانات بالتأكيد بأشياء كثيرة، لكن هذا ينطبق أيضا على الكثير من الأشياء الجامدة؛ فخطابنا مخترق بكيفية حديث «النزعة الفعلية» حول الأشياء التي تحدث ("بكيفية سلبية").
ومع ذلك، فإن للسلوك الحيواني مجموعة من الخصائص المشتركة مع الفعل الإنساني أيضا. إذا استعملنا القاموس السيكولوجي، فإن الحيوانات تتعلم القيام بأشياء متنوعة –التي تقوم بها بعد ذلك في مناسبات «ملائمة». حين يتعرضون للعطش، فإنهم يظهرون "سلوك البحث عن الماء"، وحين يكونون جائعين، فإنهم "يتوجهون من أجل الطعام". كيف يشبه أو لا يشبه الجوع والعطش البشريين الجوع والعطش الحيوانيين؟ إنه سؤال فلسفي مهم –لكن ليس علي الدخول في مثل هذا الموضوع هنا.
يمكن يقينا أن ينسب إلى الحيوانات القصد والنزوع؛ فهل ينبغي علينا القول إن الحيوانات "تمتلك" أهدافا ونزوعات (نوايا) أقل يقينا، فالحيوانات تقوم باختيارات، بل حتى يمكنها "التشتت بين البدائل" مثل حمار بوريدان.
إن الحيوانات حرة حينما لا تتعرض (فيزيائيا) للمنع أو الحظر من فعل ما يمكنها أن تفعله في وضع آخر، لكن هل أفعالهم حرة بنفس المعنى الذي نجده في الأفعال الإنسانية؟ وبأي معنى إذا تكون الأفعال الإنسانية حرة؟ الفعل الحر هو الفعل من أجل أسباب، كما قلت سابقا. (ماهويا الفعل سلوك من أجل أسباب؛ والنعت "حر" في "أفعال حرة" زائد إلا حين يعني غياب "الأسباب القاهرة"). كون الحيوانات لا تفعل مرتبط بحقيقة إنها لا تمتلك القدرة على التفكير-الذاتي الذي هو "امتلاك أسباب الأفعال". وهذا مرتبط أيضا بالقدرات اللغوية المحدودة للحيوانات.
وبما إن الحيوانات لا تفعل لأجل أسباب، لماذا تسلك بالكيفية التي تسلك بها؟ ظن ديكارت إن الحيوانات آلات ذاتية الحركة automata. وإذا كان هذا يعني كون أفعال الحيوانات، على المدى يمكن أن تفسر كلية، فيجب أن تفسر بوصفها ردود أفعال لمحفز (داخلي وخارجي)، فأظن إن ديكارت كان محقا. النمط الآخر من تفسير السلوك، أي، من حيث أسباب الفعل، لا ينطبق على الحيوانات ببساطة.
يمكن دراسة السلوك الإنساني أيضا –بما في ذلك الملامح الفيزيائية للأفعال- بوصفها ردود أفعال لمحفز (داخلي وخارجي)؛ فالإنسان ليس سوى آلة كما هو الحيوان، بل يجب القول إنه «أكثر» من كونه آلة؛ لأن آليته أكثر تعقيدا وأكثر تطورا. ليس معنى ذلك أن استثناءه من الخضوع لقوانين الطبيعة يجعل الإنسان فاعلا حرا. إنه كذلك؛ لأننا نستطيع فهمه بما هو شخص؛ أي بكيفية تجعلنا –أو الأغلب فينا على الأقل- لا يستطيع فهم باقي الخليقة.
[1] GEORG HENRIK VON WRIGHT, Of Human Freedom, THE TANNER LECTURES ON HUMAN VALUES , Delivered at The University of Helsinki May 16 and 17, 1984
[2] “A hundred misleading pictures come together here and this makes for the difficulty of the philosophical situations. Wherever we put our feet, the ground yields. The ‘great’, difficult problems of philosophy are this not because of the existence of some extremely subtle or mysterious state of affairs which we have to ascertain, but because in this place a great number of misleading forms of expression are crossing each other.” From an unpublished work by Wittgenstein called Bemerkungen II
[3] GEORG HENRIK VON WRIGHT, Of Human Freedom, THE TANNER LECTURES ON HUMAN VALUES , Delivered at The University of Helsinki May 16 and 17, p 110, 1984
[4] Ibid, p 111
[5] Ibid.
[6] Ibid, p 112
[7] Ibid, p 113
[8] Ibid, p114
[9] Ibid, p 115
[10] Ibid, 116
[11] Ibid, p 117
[12] Ibid, p 118
[13] Ibid, p 119
[14] Ibid, p 120
[15] Ibid, p 121
[16] Ibid, p-p 122-124
[17] Ibid, p 125
[18] Ibid, p-p 125-127
[19] Ibid, p 128
[20] Ibid, p 130
[21] Ibid, pp 131- 132
[22] Ibid, p 133
[23] Ibid, p 135
[24] Ibid, p 136
[25] Ibid, p 137
[26] Ibid, p p 139-140
[27] Ibid, p 140
[28] Ibid, p141
[29] Ibid, p 142
[30] Ibid, p 143
[31] Ibid, p 144
[32] Ibid, p-p 145-146
For how my opinions on this question have changed, cf. my book The Varieties of Goodness (London: Routledge & Kegan Paul, 1963), p. 190, and the papers “Determinism and the Study of Man” (1976) and “Explanation and Understanding of Action” (1981) reprinted in Philosophical Papers I, Practical Reason (Oxford: Basil Blackwell, 1983).
[33] the self-righteousness.
[34] Ibid, p 147
[35] Ibid, p 148.
[36] Ibid, p 149
[37] Ibid, p150
[38] Ibid, p 151
[39] Ibid, p-p 153-154
[40] Ibid, p 155
[41] Ibid, p-p 156-157
[42] القاعدة: الأساس الذي يعيش عليه متعض ما. المتخمرة: المادة الخاضعة لفعل خميرة ما. (المورد الحديث، دار العلم للملايين، سنة 2008، مادة substrate، ص 1172). في الترجمة المتداولة نجد الكلمة تحيل على معنى: المادة المتفاعلة.
[43] Ibid, p 158
[44] Ibid, p 159
[45] Ibid, p-p 160-161
[46] Ibid, p-p 161-162
[47] Ibid, p-p 163-164
[48] Ibid, p-p 164-165
[49] Ibid, p 165
[50] Ibid, p 166
[51] Ibid, p 167
[52] Ibid, p 168