في الدّفاع عن الكُلّيّات الجوهريّة
فئة : ترجمات
في الدّفاع عن الكُلّيّات الجوهريّة
تأليف: إ. ج. لوو
ترجمة: حاتم الهادي سالم
إنّ التقليد الأرسطيّ في فلسفة ما وراء الطبيعة مستمدّ من تصوّرين مختلفين لأنطولوجيا الجواهر والكُلِّيات؛ أحدهما يعرف بالتصوّر «الهيوليّ» لدى أرسطو، الذي تناوله في كتابه (ميتافيزيقا) أوْ (ما وراء الطبيعة)، وهو مبنيّ على التمييز بين المادّة والصّورة. أمّا الآخر، فهو التصوّر الرباعيّ الأرسطيّ في كتابه (المقولات). إنّ هذا الفصل يؤيّد التصوّر الأخير، الذي وفقاً له توجد أربع مقولات وجوديّة أساسية، أُفَضِّلُ أن أذكرها في المصطلحات الآتية: جوهر فرد ونوع جوهريّ والصفة والنّمط. ينتج عن هذه الصّنافة الرّباعيّة تمييزين متناظرين بشكل مُتبادل بين جزئيّ وكُلِّي، وبين جوهر وخاصيَّة. ومن ثمّ، من المهمّ في هذه الصنافة التمييز بين نوعين من الكُلِّي، وهما: الكُلِّيات الجوهرّية والكُلِّيات الخاصيَّة (الأنواع الجوهريّة والصفات). ويُكَرَّسُ هذا الفصل للدّفاع عن هذا التمييز وذلك باعتماد ثلاث حجج مختلفة لدعمه وتأييده: حجّة مستمدّة من التفرّد، وحجّة مستمدّة من التّمثيليّة، وحجّة مستمدّة من القوانين.
1. الهيولي:
تُعدّ الجواهر الفرد في نظام أرسطو الوجودي الناضج على النحو الوارد في كتابه (ميتافيزيقا) تركيباً من مادّة وصورة، حيث يكون كلّ جوهر متكوّناً من جزء معيّن من المادة التي تُجَسِّدُ صورة معيّنة، أو تُنَظَّمُ بصورة معيّنة. وعادة ما تُفهم الصورة على أنها كُلِّية، بينما تُتصور المادة بصفة غير قابلة للاختزال على أنّها ذات طابع جزئيّ، وهي، فعلاً، التي تمنح الجوهر الفرد التي تكون هي مادّة خصوصيّته. فعلى سبيل المثال، يمكن أنْ يُقال إنّ المادّة المباشرة للموجود (منزل) هي بعض اللَّبِنات والملاط والخشب التي تُنَظَّمُ على نحوٍ معيّن ملائم لتأدية وظائف مسكن بشريّ. وعلى نحو مماثل، يمكن أنْ يُقال إنّ المادة المباشرة للموجود (جواد) هي بعض اللحم والدّم والعظام التي تُنَظَّمُ على نحوٍ معين ملائم لتعزيز واستمرار نوع من الحياة تخصّ حيواناً عاشباً رباعي القوائم. ففي كلّ حالة، فإنّ «المادّة» المعنيّة ليست مادّة «أوليّة» محضاً، لكنّها قد «أعطيت جوهراً» بطرق مميّزة يجعلها ملائمة لتلقّي صورة منزل أو جواد. ومن ثمّ، فإنَّ اللَّبِنات والملاط والخشب لا يمكن أنْ تكون مادّة مناسبة لتلقّي صورة جواد، بل في أحسن الأحوال تكون مادّة لشيء مشابه لتمثال جواد. ووفقاً لهذا التصوّر، فإنّ مادّة وصورة جوهر موجود -فرد هما كينونات «ناقصة»، يكمّل بعضها بعضاً من خلال اتّحادهما في ذاك الجوهر. ولكن صورته أساسيّة بالنسبة إلى الجوهر، على خلاف مادّته؛ وذلك تبعاً للمعنى الآتي: لا يمكن لمنزل كائن أنْ يفقد صورة منزل إذا لم يكن بذلك قد كفّ عن الكينونة، أو الوجود، في حين يجب أنْ يكون للمنزل دائماً مادّة من نوع مناسب، مادام مستمّرا في الوجود، فهو لا يحتاج دائماً إلى المادّة نفسها من النّوع نفسه. فاللبنات والأخشاب المكوّنة للمنزل يمكن استبدالها دون هدم المنزل، وبالفعل، ربما قد تكون تلك هي الطريقة الوحيدة لحماية منزل معيّن. ولكن، ما إنْ تتوقّف لبناته وخشباته عن كونها منظَّمة في صورة منزل، يتوقّف المنزل بالضّرورة عن الوجود.
يبدو جليّاً، وفقاً لهذا التصنيف الهيولي، أنّ الجوهر الفرد هو «مركّب» من مادّة وصورة بالمعنى الذي يستبعد تفكيرنا في صورته ومادته على أنّهما أجزاء الجوهر، وذلك، على الأقلّ، بالمعنى المتداوَل لكلمة «جزء». وهنا يمكن الاعتراض، فعلى سبيل المثال، اللّبنة في المنزل هي جزء منه، بهذا المعنى المألوف، وهي كذلك تنتمي إلى مادّة المنزل. إذاً، ألا يمكننا، على الأقل، أنْ نقول إنّ مادة المنزل هي جزء منه بحسب هذا المعنى؟ لكنّ الأمر طبعا ليس بهذه السهولة؛ ذلك أنّه، حتى إنْ سلَّمنا بأنّ اللبنة هي حرفيّاً جزء من المنزل، فإنّه يصعب اعتبار كلّ مادة المنزل، إجمالاً، كذلك؛ وهذا لأنّ المنزل يتطابق مع مادته كلّاً، ومن هنا يبدو أنّ المادّة لا يمكن أنْ تتّصف بكونها الجزءَ الخاصّ للمنزل، كما هو الشأن بالنّسبة إلى اللّبنة ربّما، كما لا يمكن أنْ تتّصف باعتبارها جزءَ المنزل غير المخصوص، وذلك بالمعنى المعياريّ؛ لأنّ هذا يجعله يتماهى مع المنزل، بينما الواضح أنّ المنزل لا يتطابق مع مادتّه، ولا سيّما أنّ مادّة المنزل يمكن أنْ تتغيّر بينما يستمّر هو على الحال نفسها. وعلى حدّ سواء، من وجهة نظر الهيولي، لا يمكن اعتبار صورة المنزل جزءاً إمّا مخصوصاً وإمّا غير مخصوص، بالمعنى المعياريّ لعبارة «جزء»؛ إذْ لا شيء يمنع الهيولي من القول، بمعنى آخر للعبارة، إنّ مادة وصورة جوهر فرد هي «أجزاء» منه؛ ولكنَّ قولاً كهذا لا يمكن أنْ يكون مفيداً جدّاً، بما أنّه سيكون مَدْعاة إلى الخلط بين الأمور؛ إذْ من الأفضل القول فحسب إنّ المادّة والصورة هما مُكَوِّنات، وليستا أجزاء الجوهر. فالنقطة الأساسيّة بهذا المنظور هي أنّ الجواهر الفرد تبدي تعقيداً وجوديّاً «ذاتيّاً»، وذلك لكونها مركّبات من كينونات «ناقصة» تكمّل بعضها بعضاً في الجوهر الذي تُكَوِّنُهُ.
إلى هذا الحدّ، أكون قد أسهبت كثيراً في الكلام على الصور الجوهريّة، وليس كثيراً عن سمات الجواهر، وكيف يمكن التوفيق بينها وبين المقاربة التي تجري مناقشتها حاليّاً. بصفة عامّة، أعتقد أنّ الإجابة يجب أنْ تُصاغ بطريقة ما على النّحو الآتي: إنّ صورة الجوهر تُشكّل كنهه، بمعنى ما عساه أنْ يكون؛ أيْ «ماهيته»، في حين أنّ سماته، أوْ «صفاته» هي كيف يكون. فعلى سبيل المثال «عبارة» جواد هي ماهية دوبن. ومع ذلك، إذا كان دوبن فرساً أبيض، فهذا يعبّر جزئيّاً عن كيفيّته؛ أيْ الشّكل الذي هو عليه. وهنا أقول «جزئيّاً» فقط لأعترف أنّ هناك الكثير من الصور الأخرى التي يكون عليها دوبن علاوةً على كونه أبيض، كأن يكون ثقيلاً، وليس هذا، بأيّ وجه من الوجوه، اعترافاً ضمنيّاً بأنّ بياض دوبن هو جزء منه. ومع ذلك، يمكن أنْ نفكّر، من خلال هذا التَّصَوّر، في أنّ بياض دوبن هو مُكَوِنٌ لدوبن مختلف عن صورته التي هي سلالة الخيول أو الدّواب.
ولكن كيف إذن تكون سمات الجوهر متّصلة بصورته؟ يبدو، أن بعض سماته تستلزمها صورته من قبيل سرعة الانفعال في حالة دوبن التي يمكن أنْ نطلق عليها بالمعنى الدقيق للكلمة عبارة خاصيَّات الجوهر؛ ذلك أنّ بعض السمات الأخرى فيه، مع ذلك، «عرضيّة» من نظير بياض دوبن، الذي يمكن، تبعاً لذلك، أنْ يكون أحد أغلب أعراضه (أي صفاته غير الجوهريّة). وعلى الرغم من ذلك، حتى وإنْ كان بياض دوبن عرضيّاً، فأنْ يكون لدوبن لون هو شيء مُسْتَلْزَمٌ لصورته، ومن ثمّ هو جوهريّ بالنّسبة إليه. وعلى هذه الشّاكلة نكون قد وصلنا إلى بلورة الصورة الآتية: يمتلك الجوهر الفرد صورة معيّنة، وهي التي تُكَوِّنُ جوهره الذي تنبثق منه بالضرورة سمات مُعَيَّنَة للجوهر، والتي تمثّل بدورها خاصيَّاته بالمعنى الصارم للكلمة. فبعض هذه الخاصيَّات «قابلة للتحديد» عوضاً عن كونها «مُحَدَّدَة» على غرار اللّون في مثال دوبن، ومن ثمّ فإنّه من الضروري أنْ يمتلك الجوهر سمة محدّدة تندرج ضمن ما هو قابل للتحديد، غير أنّها صفة مشروطة. هذه السّمات المحدّدة المشروطة هي عَرَضُ الجوهر التي يمكن أنْ تتغيّر بوضوح بمرور الزّمان، وفي المقابل يستمرّ الجوهر في الوجود. يتبدّى ذلك من خلال تصوير الجوهر على أنّه يمتلك عناصر بنيويّة غنيّة، وفي بعض الأحيان متقلّبة زمنيّاً، متكوّنة من صورة ومادّة وخاصيَّات وأعراض، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الصّورة والخاصيَّات تبقى أشياء ثابتة، بينما تكون المادّة والأعراض قابلة للتّغيير. تبقى إذن، الصورة العامّة في غاية التعقيد حتّى في هذه الصيغة المبسَّطة نسبيّاً.
2. القضايا الموصولة بالهيولي:
بلا ريب، إنّ للهيولي العديد من السّمات اللافتة للنّظر، لكنّ صعوبته الجوهريّة تكمن في مذهبه المركزيّ الذي ينصّ على أنّ كلّ جوهر موجود «فرد» ملموس هو «مركّب» من مادّة وصورة. لهذا، ماذا الذي، في الحقيقة، علينا أنْ نفهمه من عبارة «مركّب» بهذا المعنى؟
من الوضوح بمنزلة أنّه ليس علينا أنْ نفترض التّفكير وفق هذا المعنى الحقّ في كلمة «مركّب» على أنّها نتيجة «تجميع» لشيئين مستقلّين بشكل متبادل، نظراً إلى أنّه يُفترض أنّ المادّة الصورة مواد «ناقصة» يكمّل بعضها بعضاً في الجوهر الذي يجمعهما. وفي ظلّ هذا، لاريب أنّه عندما توضع بعض الأشياء الملموسة، من قبيل بعض اللبنات، والأخشاب، وكميّة من الملاط، لصنع شيء ملموس جديد، من قبيل منزل مثلاً، فإنّ هذه الأشياء يجب أنْ يتمّ تجميعها بالشّكل الصحيح، وليس بشكل اعتباطيّ. لكن هل يخول لنا هذا أنْ نفترض أنّ المنزل المكتمل هو ذاك «التّركيب» لتلك الأشياء التي تمّ تجميعها معاً بالطريقة التي جُمّعت بمقتضاها؟ وإذا لم نقل شيئاً كهذا، فإنّ نظرية الهيولي تدعونا إلى تَحَدٍّ، ألا وهو تفسير السبب الذي جعلنا نفترض أنّ شيئاً جديداً قد جاء إلى الوجود. ثمّة فرضيّة تكمن خلف هذا التحدّي تتجلّى في أنّه لا يمكن أنْ نزعم، ببساطة، أنّ الجوهر هو المجموع المريولوجيّ (أيْ المنطق المجرّد للعلاقات بين الأجزاء والكليّات) لجواهر أخرى. وعلى هذه السبيل يمكن أنْ أتّفق مع هذه الفرضيّة، على الأقلّ إذا كنّا نعني بمصطلح المجموع المريولوجيّ كينونة تَتَحَدَّدُ هويّتها بهويّة كميّتها المضافة إلى غيرها فحسب، أو بالأحرى إذا اعتقدنا أنّ هويّة مجموعة تَتَحَدَّدُ فحسب من خلال هويّة عناصرها.
أذهب هذا المذهب فقط، عندما تتجمّع جواهر أخرى بشكل صحيح يتيح لجوهر جديد من نوع معيّن أنْ يأتي للوجود، حيث يتوقف الشكل المعنيّ على النوع المعنيّ. فضلاً عن ذلك، ليس لديّ أيّ اعتراض على إضفاء طابع ماديّ على الأشكال التي تُفْهَمُ على أنّها سمات، أو صور(أشكال)، مع الوضع في الحسبان أنَّنا لا نُعامِلُ الأشكال على أنَّها جواهر، وفي هذا المضمار أيضاً أنا أتّفق مع الهيولي. إنّ إضفاء طابع ماديّ ليس هو نفسه اعتبار الشيء المجرّد شيئاً مجسّماً، بل هو الاعتراف بالوجود الحقيقيّ لكينونة مفترضَة فحسب. وفي الواقع، الأمر الذي لا أفهمه هو: ماذا يعني قولنا إنّ صورة المنزل الكاملة؛ أي الشكل الذي نُظّمت به مادّته، هي مُكَوِّن «ناقص» من المنزل، التي تتَّحَدُ مع مادّة «ناقصة» على حدّ سواء، وذلك لتكوين المنزل، هي جوهر الكامل. المصطلحات التي حيّرتني على وجه الخصوص في هذا التّوصيف هي «ناقص» و«يُرّكب» و«يُكَوِّن». ما لا أفهمه حقّ الفهم لا يتعلّق بالمصطلحات مثلما هي معتمَدة على نحو مألوف في سياقات أخرى، بل ما لا أفهمه يتّصل بإجرائها تعابير تقنيّة في شأن نظريّة الهيولي، وبالقدر نفسه من الأهميّة، لماذا يجب الشعور بالحاجة إلى استعمال مثل هذه المصطلحات؟
إذا كان بوسْعي فهم الحاجة المفترضة إلى قول شيء من هذا القبيل، فأنا مدعوّ، إذاً، إلى بذل كلّ جهد ممكن لتمثّل هذه التعابير التقنية. لنسمحْ بأنْ نذكّر أنفسنا، إذاً، لماذا نزعم أنّها توجد حقّاً هذه الحاجة. على نحو ما سلف من قول، يُفترض أنّ الحاجة تتولّد لمواجهة تحدٍّ تفسيريّ مفاده: كيف يتم استدعاء جوهر جديد إلى حيّز الوجود؟ يبدو أنّ الاقتراح يتمثّل في أنّه إذا لم نستطع رؤية الجوهر الجديد باعتباره تركيبة من عناصر، لا أحد منها يستطيع أنْ يوجد بصفة مستقلّة عن الآخر في هذا التّركيب بالذات، عوضاً عن كونها متكوّنة من أشياء موجودة أخرى يمتلك كلّ منها سماته الخاصة، فلن نستطيع تعليل الحكم بأنّ شيئاً ملموساً جديداً؛ أيْ «إضافة إلى الوجود»، قد جاء حقّاً للوجود، وليس أشياء موجودة سلفاً قد تمّ إعادة تنظيمها فحسب[1]. وعلى هذه السبيل، فالمشكل المفترَض هو أحد المشاكل المألوفة من بين الطروحات التي جدّت مؤخّراً في الميتافيزيقا[2]. ومهما يكن من أمر، أودّ، هاهنا، أنْ ألحّ على أنّ بعض ضروب «إعادة التّرتيب» هي، من النّاحية الوجوديّة، أثقل من غيرها؛ ذلك أنّه عندما يُعاد ترتيب بروتون حرّ وإلكترون حرّ بزيادة المسافة بينهما من مسافة ميل واحد إلى ميلين، فهنا لا يوجد أيّ منطق على الإطلاق يجعلنا نفترض أنّ كائناً ملموساً جديداً يتمّ إحضاره إلى حيّز الوجود. ولكن، عندما يعاد ترتيبهما، حيث يقع التقاط الإلكترون بوساطة البروتون محتلاً المدار حوله، سيكون لدينا فعلاً كائناً ملموساً جديداً من نوع مختلف تماماً: ذرّة هيدروجينيّة.
فهذا الكائن يتوافر على سمات معيّنة، ولا سيّما قوى معّينة، مختلفة تمام الاختلاف عن تلك البروتونات والإلكترونات ومختلفة تماماً، أيضاً، عن ذاك المجموع المريولوجي لبروتون حرّ وإلكترون حرّ. ففي ذرّة الهيدروجين التي خُلِقَتْ حديثاً يبقى البروتون بالضبط على نحو ما كان عليه من ذي قبل، مجرّد بروتون، وكذا الإلكترون يظلّ مجرّد إلكترون. وهكذا يتمّ تمثيل صورة جديدة؛ صورة لا يمتلكها البروتون ولا الإلكترون، وهي صورة لذرة الهيدروجين. فهذه الصورة إنّما هي صورة كائن وقع خلقه حديثاً، وهو الذرة، وليست صورة البروتون ولا الإلكترون، ولا حتّى كليهما. لا «تتركّب» الصورة، بأيّ معنى أستطيع أن أفهمه، «جنبا إلى جنب» مع البروتون والإلكترون، وذلك لتشكّل معهما الذرّة. الأشياء الوحيدة التي يقوم بها أيّ «تركيب» هي البروتون والإلكترون عندما يلتقط الأوّل الأخير، ويحتلّ الأخير المدار حول الأوّل. وللتحقّق من ذلك، فإنّ الأشياء الوحيدة التي تُكَوِّنُ الذرّة هي البروتون والإلكترون، التي هي أجزاؤها، وذلك بالمعنى المألوف تماماً لكلمة «جزء». فعلى النحو الذي أمكننا رؤيته، إذاً، فأنا في غاية السّرور لوصف حالة الذرّة الهيدروجينيّة التي خُلِقَتْ حديثاً من حيث «التّركيب» و«التّكوين»، وبالفعل من حيث «الصورة».
إنّ الأمر لا يعدو أنْ يكون أنّني لا أحتاج إلى «المنطق النحويّ للهيولي» الذي يستخدم هذه المصطلحات بطريقته التقنية المميّزة، ولا أفهمه. وعلاوةً على ذلك، ليس عندي أيّ حاجة جديّة إلى مقولة الهيولي «المادّة». قد أكون على استعداد للقول إنّ «مادّة» ذرّة الهيدروجين هي بروتون وإلكترون، أو تتركّب من بروتون وإلكترون، ولكن فقط بمعنى أنّ هذه هي أجزاؤها التي تؤدي إلى تكوينها. غير أنّ «مادّة» الذرّة، بهذا المعنى، ليست على شاكلة ما يعدّها الهيولي أنّها بعض المكوّنات «الناقصة» للذرّة التي تكتمل بـ «صورة» الذرّة. في حقيقة الأمر، أفضّل التخليّ عن مصطلح «مادّة» نهائيّاً، على غرار صنيع الفيزياء الحديثة، على الأقل باعتباره مصطلحا نظريّاً أساسيّاً. وهكذا، على الرغم من أنّ العلماء المعاصرين تحدّثوا، على سبيل المثال، عن «فيزياء المواد المكثّفة»، فإنّ علماء فيزياء الجزئيّات الأساسيّة لم يتحدّثوا، في الوقت الرّاهن، عن البروتونات والإلكترونات بوصفها متوافرة على مادّة، أو باعتبارها متكوّنة من مادّة، على الرغم من أنّهم قد يتحدّثون عنهما بلباقة باعتبارهما «حزماً طاقيّة» تمتلك، بلا ريب، كتلة.
3. أنطولوجيا المقولات الأربع:
إنّ علم الوجود الهيولي، الموصوف أعلاه، مستوحى من فلسفة أرسطو في صيغتها المعدّلة ربّما من قبل مفكّرين لاحقين من نظير أخينوس. لكن أساس نوع آخر من علم الوجود يمكن إرجاعه أيضاً إلى أرسطو؛ حيث يمكن هذه المرّة العودة إلى الأعمال الأولى لأرسطو المتمثّلة في كتاب (المقولات)[3]. إنّ الضّرب من علم الوجود، الذي يدور في خلدي الآن، هو ذلك الضرب الذي كنت قد عرضت أحد مفاهيمه الأساسيّة بإيجاز في فاتحة هذا العمل، قبل أنْ ترد الشُّعَبُ التصنيفيّة المعروفة بالمقولات الأرسطيّة في الأطروحة. ويبيّن في هذه المقاطع الافتتاحيّة خطاطة وجوديّة رباعيّة من خلال المفهومين التقنييْن «كونه مقولاً لموضوع» و«كونه مقولاً في موضوع». لا توصف الجواهر الأوليّة، التي ندعوها إلى حدّ الآن جواهر فرد، بأنها مقول لموضوع، أوْ بأنها مقول في موضوع. وتوصف الجواهر الثانوية -الأنواع والأجناس التي تنتمي إليها الجواهر الأوليّة، بأنها مقول لموضوع وليست مقولاً في موضوع. وهذا من شأنه أنْ يترك صنفين آخرين من الجواهر: تلك التي تكون لموضوع وفي موضوع معاً وتلك التي لا تكون لموضوع ولكن في موضوع. وبما أنّ هذين الصنفين لم يحظيا بنعوت أو تسميات رسميّة، وقد تنوعت تسمياتهما على مرّ القرون، فأنا اقترح أنْ أدعوهما تباعاً المحمولات/الصفات والأنماط. يبدو أنّ الجواهر الثانويّة والمحمولات/الصفات تُفهم على أنّها نماذج مختلفة من الكليّ، بينما الجواهر الأوليّة والأنماط تُفهم على أنّها نماذج مختلفة من الجزئيّ. نظراً إلى أنّ الاصطلاح الأرسطيّ «كونه لموضوع» و«كونه في موضوع» هو ربّما أقل من أن يكون واضحاً تمام الوضوح؛ ذلك أنّ الاصطلاح الأوّل يقترح علاقة بعلم اللغة، والاصطلاح الأخير يبدو أنّه ذو معنى استعاريّ، فأنا أفضّل إجراء اصطلاحات مختلفة وهي التمثيل والوصف.
وهكذا أقول إنّ الصفات والأنماط هي كينونات واصفة، بينما الجواهر الأوليّة والثانويّة هي كينونات قابلة للوصف. وأقول إنّ الجواهر الثانوية والصفات هي كينونات قابلة للتَّمَثُّل، في حين أنّ الجواهر الأوليّة والأنماط هي كينونات مُمَثِّلة. فهذه المصطلحات الدقيقة المعدودة ضروريّة تتمحّض لإثبات أنّها مربكة بطريقة أنسب، من خلال النموذج البياني، باستعمال أداة مألوفة تُعرف بالمربّع الأنطولوجيّ. أُفضِّل أنْ أستعمل في تصوّري الشخصيّ للمربّع الأنطولوجيّ مصطلحات «جوهر فرد» و«نوع جوهريّ» بدلاً من «جوهر أوليّ» و«جوهر ثانويّ» التي من المحتمل أنْ تكون مركّبة. أدرج أيضاً علاقة قطريّة بين الجواهر الفرد والصفات تختلف عن التّمثيل والوصف، حيث أطلق عليهما كما يبدو مناسباً إنشاء المثيل. وفي هذا النطاق أمدّكم بتصّوري:
أُسَمِّي هذه الأقسام الأربعة من الكينونات المصوّرَة هنا مقولات أنطولوجيّة، مع التحذّير من أنْ يقع خلطها بغيرها من الأقسام، حتّى إنْ كانت ذات صلة بقائمة المقولات الأرسطيّة التي ذكرها صاحبها لاحقاً في أطروحته. وبمزيد من الدقّة، إنْ شئنا، أعتبر هذه المقولات الأربع من قبيل المقولات الوجوديّة الأساسيّة، مع الإقرار بأنّه يمكن أنْ يكون طيّ كلّ مقولة مقولات فرعيّة، وداخل المقولات الفرعيّة مقولات فرعيّة أخرى، وهلمّ جرّاً.
والسؤال المطروح كيف يترابط بالتّحديد النظامان الأنطولوجيان الأرسطيان؟
فمن غير المستغرب أنْ يتداخل هذان النظامان بأوجه عدّة، ولكنّهما يختلفان بوضوح في وجه أساسيّ واحد مداره على المقولات الوجوديّة الأربع، كما سمّيتها، على خلاف أنطولوجيا الهيولي التي لا تدرج مقولة المادّة. فقد يذهب في ظنّ البعض إلى أنّها تنقص أيضاً مقولة الصورة. ولكن هذا، في الحقيقة، ليس بالأمر الصحيح. ومن هذا المنطلق أنا أعتقد أنّ الصورة، باعتبارها نوعاً من الكليّ، وبتسمية أوضح صورة جوهريّة، هي في الواقع ليست شيئاً آخر سوى جوهر ثانويّ، أو نوع جوهريّ. ونستطيع أنْ نحيل على هذه الصور الكليّة، إمّا من خلال اعتماد بعض الأسماء المجرّدة، نحو «إنسانيّةّ» و«بهيميّة»، أو أيضاً باعتماد بعض الأسماء الماديّة الحقيقيّة، التي يسمّيها لوك المصطلحات التصنيفيّة، من قبيل كلمة «رجل» و«جواد».
وأعتقد أنّ هذا تمييز نحويّ لا يعكس أيّ اختلاف أنطولوجيّ حقيقيّ. ومع ذلك، إذا كان الأمر كذلك، فثمّة نتيجة وجوديّة على غاية من الأهميّة، وقوامها أنّ الجواهر الأوليّة أو الفرديّة «لها» صور فقط، وتحديدًا من جهة كونها أمثلة خاصّة من الصور. ومن ثمّ، فإنّ دوبن هو مثال خاصّ من النوع الجوهري، أو صورة «جواد»، بينما بياض دوبن هو مثال خاصّ من لون كلّي، أوْ صفة البياض. تبعاً لهذا الوصف، فإنّه لا يوجد أيّ معنى على الإطلاق في اعتبار دوبن «تركيبة» من صورة «جواد» وبعض «المادّة». أقول مراراً وتكراراً: دوبن هو فقط مثال خاصّ من هذه الصورة؛ حيث إنّ بعض الأمثلة الأخرى تتمثل في الجياد المتنوّعة التي توجد، أو قد وُجدت سابقاً. ولكونه مثالاً لهذه الصورة، فإنّه من المؤكَّد أنْ يكون لدوبن بعض الأجزاء الماديّة، كالرّأس والأطراف. ولكنه ليس، بأيّ حال من الأحوال، «تركيبة» من شيء ماديّ، ومن الصورة الكليّة مدار حديثنا. ما أقوله، إذاً، هو أنّ الفرد، أو الجواهر الأوّليّة، ليستا سوى صور خاصّة، أوْ خصائص صور؛ أْيْ إنّها أمثلة خاصّة من صور كليّة، بالمعنى نفسه تماماً الذي تكون به الأنماط (أو المجازات كما تسمّى أحياناً في وقتنا الراهن) أمثلة خاصّة من الصفات/ المحمولات.
4. حجّة مستمَدَّة من التفرّد:
هدفي الرئيس، هاهنا، على نحو ما ذكرته في مستهلّ هذا الفصل، هو الدفاع عن التمييز بين الكُلِيَّات الجوهريّة (الأنواع الجوهريّة) والخاصيّات الكليّة (المحمولات)، التي تمثّل مقولتيْن من المقولات الوجوديّة الأساسيّة الأربع في نظريّة أنطولوجيا المقولات الأربع. وربّما قد يُطرح، في الحقيقة، سؤال واضح على أنصار هذه النظريّة الوجوديّة، ألا هو: لماذا من الضروريّ استحضار نموذجين من الكلّي مختلفين اختلافاً جوهريّاً؟
لن أشير، بسبب من الغايات الرّاهنة، إلى السؤال الأكثر جوهريّة حول سبب الحاجة إلى استحضار الكلّي بالأساس. ولا أريد أنْ أؤيّد علم وجود تخصصيّ تامّ، إذا ما كان ذلك علم وجود مقولتيْ الجواهر الفرد والأنماط (أو المجازات)؛ علم وجود مقولة الجواهر الفرد، أوْ علم وجود مقولة المجازات. وأنا أفترض، كذلك، أنّه إذا قمنا بتضمين الكلّي في علمنا الوجوديّ بالأساس، فنحن، تبعاً لذلك، محتاجون إلى تضمين الخاصيّات الكليّة، أو «المحمولات» مثلما اصطلحت عليهما.
يمكن أنْ نحتاج إلى أنْ نناقش، بكثير من الدقّة، ماهي المحمولات التي سيتم تضمينها تحديداً؟ وعلى أيّ أساس يجب أنْ نضمّنها؟
يمكننا، على سبيل المثال، أنْ لا نعتقد أنّه من الضروريّ أنْ نضمّن صفات اللّون كالبياض والحمرة، ربّما بناءً على خلفيّة أنّ هذه الصفات ليس لديها أيّ دور جديّ تنهض به في الفيزياء الأساسيّة، ولكن أعتقد أنّنا سوف نحتاج إلى إدراج بعض المحمولات كالكتلة والشحنة، التي تبدو ناهضة بدور لا غنى عنه في الفيزياء. ومع ذلك، بما أنّني لا أريد أنْ ألزم نفسي، في هذا النطاق، بأيّ نوع من الاختزاليّة للفيزياء، فلن أقيّد نفسي بأمثلة صارمة مستمدَّة من الفيزياء الأساسيّة بغية تأطير حججي المؤيدة للكليّات الجوهريّة، على الرغم من أنّني أعتقد أنّ هذه الحجج يمكن تكييفها، إذا لزم الأمر، وذلك للاستفادة من هذه الأمثلة الصارمة. وعوضاً عن ذلك، سوف أسوق هذه الحجج معتمداً أمثلة مألوفة أكثر، مستمَّدة من مجال الأشياء الملموسة التي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، ومن سماتها التي يمكن اكتشافها تجريبيّاً.
إذن، حجّتي الأولى هي حجة مستمدّة من التفرّد، حيث تُساق على النّحو الآتي. فالأمثلة اليوميّة من الجواهر الفرد، التي يمكن أنْ تتضمّن تلك الأشياء من نظير دوبن هو جواد معيّن، هي فوق كلّ اعتبار أشياءُ فرديّة وحاملةٌ لخاصّيات مثلما تدلّ على ذلك هذه التّسمية ضمنيّاً. لكن، ما الذي يمنحها «تفرّدها»؟ فبأيّ فضل يكون دوبن شيئاً واحداً مميّزاً وقابلاً للتمييز عن سائر الأشياء الفرديّة الأخرى؟ وما الذي يمنح دوبن شروط هويّته؟
لا يمكن أنْ تكون الخاصيّات الكليّة، التي يكون دوبن مثالاً لها، هي التي تفعل ذلك؛ لأنّ هذه الكليّات لا تحدّد أيّ شروط هويّة معيّنة للأشياء التي تكون أمثلة لها. لنأخذْ في الاعتبار، مثلاً، الخاصيات الكليّة، أوْ صفات البياض والثقل، يمكن أنْ نفترض أنّ دوبن قد مثَّلَ كليهما. ولْنتأمّلْ في جوهر فرد تمّ اختياره اعتباطيّاً مثلاً «س»، الذي مثّل أيضاً هذه الصفات نفسها. فمجّرد حقيقة أنّ «س» ودوبن يمثّل كلاهما صفتيْ البياض والثقل لا يفرضُ أيُّ تقييد، أنّى كان، على إجابة صحيحة للسؤال الآتي: هل الحالة هي التي تقتضي أنْ تكون «س» متطابقة مع دوبن، أو ليست هي التي تقتضي ذلك؟ وعلى النقيض من ذلك، لنفترضْ أنّنا نستطيع أيضاً أنْ نقول حقّاً إنّ «س» ودوبن كلاهما جواد. ومن ثمّة يصبح لدينا مباشرة تقييد مهمّ مفروض على سؤالنا عن الهويّة. وهذا لأنّ المحمول «هو جواد» لا يشبه المحمولات «أبيض» و«ثقيل»، فهو يحمل معه ليس مقياساً تطبيقيّاً فحسب، ولكن أيضاً مقياس الهوّية[4]. ذلك أنّ مقياس التّطبيق يخبرنا عمّا يحدّد امتداد المحمول؛ أيْ مجموعة الكينونات التي تنطبق عليه، في حين أنّ مقياس الهويّة يخبرنا عمّا يحدّد ما إذا كانت كينونةٌ تنطبق عليه متطابقة مع كينونة «أخرى» تنسحب عليه. ولنقلْ بلغة أخرى، إنّ التحوّل من النّمط الصوريّ إلى النمط الماديّ، أو من الحديث عن المحمولات إلى الحديث عن الحمليات (أوْ القابل للحمل)، لا يشمل فحسب الكليّات الجوهريّة، ثمّ إنّ الكليّات ذات الخصوصيّة ليست هي التي تستطيع تحديد شروط هويّة الجواهر الفرد التي تنضوي إليها.
فمن المؤكّد أنّه يمكن تحدّي هذا الادّعاء. هناك طريقة لتحدّيه؛ وذلك من خلال القول إنّ «مقياس الهويّة»، وهو المقياس الوحيد الذي نحتاج إلى اللّجوء إليه دائماً إنّما هو قانون ليبنتز، الذي يخبرنا بأنّ جوهريْن فردييْن مثلاً (x) و(y) يتطابقان إلا إذا كان (x وy) يتقاسمان جميع حملياتهما (القابل للحمل) (أستعمل عبارة «حمليّ»، هاهنا، لكيْ أبقى محايداً من أجل هذا التحدّي المتعلّق بالحاجة إلى التّفريق بين نوعين مختلفيْن من الحمليّ، وهي الكليّات الجوهريّة والكليّات الخصوصيّة. ففي ما يخصّ اختياري للفظ «حمليّ» فأنا استعمله للإحالة على عبارة أرسطو «مقول لموضوع»: الحمليّ هو شيء يمكن أنْ يكون محمولاً، أو مقولاً، لموضوع، وحسب أرسطو، على نحو قراءة لفلسفته، فكلّ هذه الأشياء يجب أن تكون كليّة. ولكن، في المحلّ الأوّل ينبغي أنْ يكون هناك مقياس هويّة خالص قابل للتّعبير بوصفه مبدأ ثنائيّ الشرط، وليس شرطيّاً فحسب، بالنّظر إلى أنّه يحتاج إلى أنْ ينصّ على شرط أساسيّ وكافٍ منطقيّاً بالنّسبة إلى هويّة أيّ عنصر من العناصر التي من المفترض أنْ ينطبق عليها. إذا فعلنا هذا في الحالة التي نحن منها بسبيل، وذلك ليس بالاحتكام إلى «قانون ليبنتز» كما فُهم أعلاه، ولكن بالأحرى بالاحتكام إلى مبدأ هويّة اللامتميّز، هكذا سنحصل على شيء أكثر إثارة للنزاع: تحديداً مؤدّاه أنّ أيّ جوهرين فرد (x وy) يتطابقان إلا إذا تقاسمت (x) وكلّ حمليّاتهما. ومع ذلك، من أجل أسباب مألوفة جداً، فإنّ القول بأنّه لا يمكن لجوهري فرد متميّزين أنْ يتقاسما كلّ سماتهما الكليّة قول مشكوك فيه للغاية، كما يبيّن لنا المثال المشهور لماكس بلاك عن العالم المتناظر النّطاقين[5].
علاوةً على ذلك، ثمّة خلل كامن في مبدأ هويّة اللامتميّز يقع تقبّله، باعتباره مقياس هويّة مزعوم لجميع الأغراض؛ ذلك أنّه غير قادر على الكشف عن أخطاء المقولة عندما يتعلّق الأمر بمسألة الهويّة. لماذا، مثلاً، من العبث بمنزلة التساؤل، إذا استعملنا مثالاً مشهورا مستعاراً من فريج، ما إذا كان يوليوس قيصر متطابقاً مع رقم معيّن على غرار رقم (7) أمْ لا؟
لا نحتاج إلى أْنْ ننظر في صفات يوليوس قيصر والرقم (7)، على التوالي، من أجل أنْ نستبعد هويّتهما، وذلك على خلفيّة قولنا إنّ قيصر ولد ومات، ولكن الرقم (7) لم يولد ولم يمت، أوْ إنّ طول قيصر كان كذا وكذا من السنتميترات، ولكن الرقم (7) ليس كذلك. ومن هنا نعرف أنّ قيصر لا يستطيع أنْ يكون متطابقاً مع أيّ رقم؛ لأنّ قيصر يملك شروط هويّة إنسان، وهي مختلفة اختلافاً أساسيّاً عن شروط هويّة رقم. في الحقيقة، إنّ مقياس الهويّة المذكور سيوضّح دائماً خاصيّته النوعيّة النسبيّة بشكل يعطيه الشكل المقنّن الآتي:
(Cj) If x and y are js, then x is identical with y if and only if Rj(x, y).
هاهنا، (j) هي مصطلح نوعيّ أو اسميّ عامّ من قبيل «جواد» «إنسان» أو «رقم» تدلّ على كليّ جوهريّ معيّن من المفترَض أنّ (x وy) تندرج ضمنها، في حين أنّ (Rj) تدلّ على علاقة معيّنة متكافئة معَرفة تعريفاً جيّداً عبر (js). وبافتقاره إلى هذه الصورة، لا يمكن أنْ يقال إنّ مبدأ هويّة اللامتميّز يمكن أنْ يُكَوِّنَ مقياس هويّة حسن النيّة، ثمّ إنّ طريقة أخرى لتحدّي هذه الحجة المستمدَّة من التفرّد يمكن أنْ تنصّ على أنّه في حين تكون الألفاظ النوعيّة، أوْ الاسميّة العامّة، مهمّة بالفعل، بالنظر إلى الدور الذي تنهض به في صياغة مقاييس الهويّة، فإنّ كلّ هذه الألفاظ، في نهاية المطاف، قابلة للتحليل بشكل كامل، بالتوسّل بعمليّات منطقيّة تُجرى على الألفاظ النعتيّة والوصفيّة العامّة، والتي يجسدّها أعلاه مثالا «أبيض» و«ثقيل». ويمكن، من ثمّ، على سبيل المثال، الادّعاء أّنّ اللفظ النوعيّ «جواد» قابل للتحليل وفقاً لاتصال ألفاظ وصفية، أو بالعكس بطريقة أكثر سفسطائية، وفقاً لاتّصال عبارات وصفيّة به أو لانفصال عبارات وصفيّة عنه. ولكن في الحقيقة، من العسر بمنزلة أنْ نرى كيف يمكن تسيير مثل هذه البرنامج التحليليّ بنجاح. فأرسطو نفسه، بطبيعة الحال، كان يعتقد في أنّ أيّ نوع يمكن تعريفه من خلال الجنس والتميُّز. وبناء على ذلك يُعَرِّفُ الإنسان (أو الوجود الإنسانيّ مثلما نودّ تسميته الآن) بكونه حيواناً عاقلاً. لكن من الواضح أنّ لفظاً واحداً من هذه الّألفاظ المُعرِّفة وصفيٌّ، وهو لفظ «عاقل»، بينما اللفظ الآخر «حيوان» هو مرّة أخرى لفظ نوعيّ. ليس لديّ، في حدّ ذاتي، شيء لأقوله في شأن تعريف الجنس والتميُّز، ولكنّني، على الأقلّ، أشيد بنظرة أرسطو التي تقول بعدم وجود أيّة آفاق لتعريف نوع أيْ كليّ جوهريّ فحسب وفقاً لمجموعة من المحمولات/الصفات. بالتأكيد يجب أنْ نكون على حذر من أيّ تسرّع عند محاولة القيام بهذه التعريفات. على سبيل المثال، يمكن الزعم أنّه يمكن تعريف «جواد» مبدئيّاً بأسلوب شبه أرسطيّ، مثل شيء «عاشب رباعيّ القوائم...حيوان»، حيثُ الصفاتُ المحذوفة يقع ملؤها بصفات أخرى. ومن ثمّة يتواصل تحليل «حيوان» مثل «شيء حيّ قادر على إنجاز حركات ذاتيّة». ولكن المشكل القائم في هذا الاتّجاه ماثل في أنّ كلمة «شيء» تسمّى من جهة النّوع بكماء؛ لأنّها لا تشير إلى أيّ شروط هويّة محدّدة أنّى كانت. فمن المعقول أنْ نتصوّر في هذه الحالة أنّ كلمة «حيوان» تُحلّل بصفة أدق، كقولنا «عضو قادر على اجتراح حركات ذاتيّة». لكن من المؤكّد أنّه ليس بالأمر الصّحيح أنْ نفترض أنّ كلمة «عضو» مرادفة لكلمة «شيء حيّ». وفي نهاية الأمر، كلمة «شيء حيّ» تنطبق على أيّ شيء يمكن أنْ نلحق به خاصيّة الحياة، وهذا لا يشمل فحسب الأعضاء، لكن يشمل مثلاً أجزاء متنوّعة من الأعضاء، على غرار خلايا البيضة والخلايا العصبيّة، اللتين هما بالتأكيد ليستا في حدّ ذاتهما أعضاء، ومن باب أولى ليستا حيوانات. وعلى الرغم من ذلك يوجد ضرب آخر من التسرّع أكثر وضوحا يجب التحوّط منه عند تناول محاولات «تعريف» الألفاظ النوعيّة من خلال ألفاظ وصفيّة تشمل أوصافاً تكون مشتقّة ببساطة من الألفاظ النوعيّة، ومن ثمّ ليس لديها أيّ أولويّة دلاليّة عليها. فمن الحماقة بمكان، مثلاً، محاولةُ تعريف «جواد» مثل «خيل شيء حيّ»، ليس فحسب لأنّها ستنطبق على خليّة عصبيّة حيّة للجواد، وإنّما أيضاً على الجواد برمّته، لكن الأمر أكثر أهميّة لأنّ «دابّة أو بهيمة» تشتقّ معناها من «جواد» وليس العكس، حيث تعني كما هي شيئاً شبيهاً، أوْ «موصولاً بجياد».
5. حجّة مستمدَّة من التمثيليّة:
حجّتي الثانية للتمييز بين الكليّات الجوهريّة والكليّات الخاصيّة تنبثق من السؤال الآتي: ما هو أساساً الجوهر الفرد؟ هل هو كلّ شيء جيّد، إذا ما قدّمنا أمثلة لجواهر فرد كالجواد دوبن مثلاً؟. لكن ما هو ذاك الذي يخوّل تصنيف وجود هذه الكينونة مثل جوهر فرد معارض لأيّة كينونة من أيّ مقولة أنطولوجيّة أخرى؟ لماذا لا يجب أنْ نقول على سبيل المثال إنّ دوبن هو صفة مثل البياض أوْ الثقل؟
بلا ريب، جزء من الجواب يتمثّل في أنّ دوبن جزئيّ وليس كليّاً. لكن هذا التمشي ببساطة يدفع ببحثنا إلى مدى أبعد من ذلك؛ ففيمَ يكمن التمييز بين الجزئيّ والكليّ بالأساس؟
بالتأكيد، قد كان هناك الكثير من الأجوبة لهذه الاسئلة التي طُرحت على مرّ القرون[6]؛ إذْ يذهب بعض الفلاسفة إلى أنّ ما يميّز الجزئيّ هو وجوده في المكان والزمان، بينما الكليّات لا تكون كذلك. ولكنّ هذا التصوّر يفترض مفهوماً «متعالياً» للكلّي، على حين أنّ الكلّي، شأنه في ذلك شأن الجزئيّ حسب رأي كثير من الواقعيّين «المحايثين»، يوجد بالفعل في المكان والزمان؛ على الرغم من أّنّهم يمكن أنْ يعتبروا أنّ الكليّ ليس كالجزئيّ من ناحية أنّه قادر على أنْ يكون «متعدّد المواضع»؛ بمعنى أنّه يمكن أنْ يكون «حاضراً حضوراً كليّاً» في أكثر من مكان في الوقت نفسه. ثمّة مشكل آخر مرتبط بالجواب السالف ذكره يتمثّل في أنّ الكثير من الفلاسفة يعتقدون أنّ بعض الجزئيّات لا توجد في المكان والزمان، وعلى وجه التّحديد الجزئيّات المجرّدة كالأرقام والمجموعات والافتراضات. وباعتباره بديلاً مزعوماً من هذا الجواب، يقول بعض الفلاسفة إنّ ما يميّز الكليّات هو أنّها كينونات «متكرّرة»، بينما الجزئيّات ليست كذلك. لكن، يبدو هذا التّوصيف لما يميّز الكليّ من الجزئيّ توصيفاً مجازيّاً. فبأيّ معنى، تحديداً، يُفترض أنْ يكون الكليّ قابلاً «للتّكرار» بطريقة تتعذّر على الجزئيّ؟
يمكن أنْ يكون هذا السّؤال مجرّد طريقة أخرى للقول إنّ الكليّ قادر على خلاف الجزئيّ على «الوجود المتعدّد»، غير أنّ مفهوم الوجود المتعدّد ليس، بأيّ حال من الأحوال، شفافاً تماماً وخِلواً من المشاكل، ولا هو واضح تمام الوضوح، بحيث تكون الجزئيّات غير قادرة عليه؛ ذلك أنّه في الحقيقة توجد بعض الوضعيّات الموصوفة في علم الفيزياء الكميّ الحديث التي تتضمّن «الجسيمات المتشابكة» توحي إيحاءً قويّاً بهذا الأمر تحديداً. إلّا أنّ فلاسفة آخرين يقترحون اقتراحاً مفاده أنّ ما يميّز الجزئيّات هو كونها لا تخضع لمبدأ هويّة اللامتميّز، بينما الكليّات تخضع له. وبعبارة أخرى، يمكن أنْ يكون هناك مبدئيّاً جزئيتان متمايزتان عدديّاً لكنّهما بالضبط متشابهتان، لكن لا يمكن أنْ يكون هناك كلّيتان كذلك. ولكنّ، مرّة أخرى، مهما تَكُ مزايا هذا المقترح الموصول بالنظر في الجزئيّات الموجودة في المكان والزّمان، فإنّ هذا المقترح أبعد ما يكون عن الوضوح، حيث ينطبق على الجزئيّات المجرّدة على غرار الأرقام. فعلى سبيل المثال، هل يمكن أنْ يوجد رقم آخر قد شابه تماماً الرّقم (7)؛ أيْ إنّه يشارك كل خاصيّات، وفقط خاصيّات الرّقم (7)، فضلاً عن كونه متطابقاً مع هذا الرّقم؟
الجواب، بلا ريب، سيكون بالنفي. فبطبيعة الحال يمكن الادّعاء بأنّ الرّقم (7) هو في الحقيقة كلّي وليس جزئيّاً. ومن ناحيتي الشخصيّة لنْ أكون كارهاً لقول هذا، لكن سيكون من الخطأ إذا قيل هذا فحسب من أجل حماية الطريقة المقترَحَة للتميز بين الكليّات والجزئيّات.
تصوّري الخاصّ هو أنّ الطريقة المُرْضيَة الوحيدة لإقامة التّمييز بين الكليّات والجزئيّات، دون أنْ نلزم أنفسنا بالتحيّز لنظريّة بعينها للكلّي هي أنْ ننجز ذلك من خلال العلاقة الوجوديّة الصوريّة، وهي التمثيليّة. وهي علاقة لا هي بالانعكاسيّة ولا بالمتناظرة ولا بالمتعديّة؛ لذا يتمثّل الاقتراح في اعتبار أنّ أيّ جزئيّ يجب أنْ يقوم بتمثيل بعض الكلّي، وأنّ أيّ كلّي يجب أْنْ يكون على الأقلّ قادراً على أْنْ يكون متمثَّلاً في بعض الجزئيّ، أقول فقط «أنْ يكون قادراً» بغية استيعاب الواقعيّ المتسامي الذي يؤيّد وجود الكليّات غير المتمَثِّلَة. فالجزئيّات، تبعاً لذلك، هي مجرّد «أمثلة» من الكليات، والكليّات لا تعدو أنْ تكون كينونات لديها، أوْ على الأقلّ، يمكن أنْ يكون لديها «أمثلة»[7]. في واقع الأمر، أرى أنّ هذه الطريقة المعتمَدَة في التّمييز بين الكليّات والجزئيّات تقتضي أنّ هذا التمييز لا يستبعد بعضه بعضاً فحسب؛ بل هو أيضاً جامع مانع؛ ذلك أنّ كلّ كينونة إمّا أنْ تكون كليّة، وإمّا أنْ تكون جزئيّة. وليست لا هذه ولا تلك، وليست هذه وتلك معاً. طبعاً، يوجد بعض الفلاسفة، بصرف النّظر عن أولئك الذين ينفون وجود الكلّي من أصله، لا يستطيعون تقبّل هذا المقترح نظراً إلى التزاماتهم الأخرى. فعلى سبيل المثال أرى أنّ فيلسوفاً مدافعاً عمّا يُسمّى الجزئيّات المعزولة لا يمكن أنْ يسلّم بأنّ كلّ جزئيّ يجب أنْ يمثّل بعض الكلّي (مالم تكن «العزلة» ربّما دالّة على كلّي). ولكنّني أرى أن فضل هذا الاقتراح ماثل في كونه يستبعد الجزئيّات المعزولة، باعتبار أنّني ألفي مقولة الجزئيّات المعزولة بالكاد تكون مفهومة على أيّة حال. وعلى حدّ سواء، ربّما يودّ بعض الفلاسفة تأييد وجود الكليّات التي لا تستطيع أنْ تكون ممثّلَة، من قبيل، ربّما على سبيل المثال، خاصيّة كونها دائريّة ومربّعة معاً. لكن، مرّة أخرى، لا أجد حرجاً على الإطلاق في عدّ مقترحي يستبعد إمكانيّة مثل هذه الكليّات. لهذا، لا يجب أنْ نخلط بين حقيقة أنّ المحمول/المسند «مربّع ودائريّ معاً» هو ذو معنى، والزّعم بأنّه يعيّن خاصّية حقيقيّة.
نحن الآن في موضع يسمح لنا بفحص الحجّة المستمدّة من التمثيليّة لتأييد وجود الكليّات الجوهريّة. فهذه الحجّة تسير على النحّو الآتي: لنأخذْ في حسباننا جوْهراً فرداً كدوبن مثلاً. وبما أنّ دوبن هو جزئيّ، ومن ثمّة دوبن هو مثال للكلّي وفقاً للمقترح السالف ذكره. ولكن، دوبن يجسّد مثالاً لأيّ كلي يا ترى؟
هبْ أنّنا سنقحم أنفسنا في الكليّات الخاصيّة فحسب، كالبياض والثقل مثلاً، ولنفترضْ على نحو ما سبق أنّ دوبن أبيض وثقيل؛ هل يمكننا القول حينئذٍ إنّ دوبن مثال للبياض؟ إذا قلنا ذلك، فإنّه من المؤكّد أيضاً من باب التساوي العقليّ وجوب أنْ نقول إنّ دوبن مثال الثقل. وهذا يضمر القول إنّ نفس الجزئيّ يمكن أنْ يكون مثالاً لخاصيّتين كليّتيْن مختلفتيْن. والمقصود بهذا، إنّ مثالين من الخاصيّات لكليّتيْن خاصيّتيْن مختلفتيْن قد يكونا متطابقيْن عدديّاً. بالفعل، فاستتباع هذا القول هو أنّ كلّ كليّات الخصيصة الواصفة لدوبن ممثّلة تمثيلاً متشاركاً من قِبَل دوبن عيْنه، ومن ثمّ هو مثال متطابق عدديّاً مع كليهما، ومع كلّ واحد منهما، ولكنّ الصعوبة تكمن هنا. وهكذا لدينا صيغة قانونيّة للإحالة على أمثلة الخاصيّات، التي تكون على النّحو الآتي: فإذا كانت «س» جوهر فرد الذي هو «ف»؛ حيث «ف» تدلّ على كليّة خاصيّة، وهي «Fness»، ومن ثمّ نحيل على المثال المناسب لــــ«Fness» باعتباره «Fness وجود س» أو بوصفه «Fness س». إذاً ربّما نحيل، على سبيل المثال، على بياض دوبن وثقله؛ دوبن باعتباره، في حالة دوبن، أمثلة ذات صلة بكليّتيْ البياض والثقل اللتين تصفان دوبن. لكن وفقاً للاقتراح الذي هو قيد الاختبار الآن، إنّ دوبن نفسه لا يزيد على كونه المثال الذي له صلة بهاتين الكليّتين؛ وهذا يعني، ضمنيّاً، أنّ بياض دوبن متطابق مع ثقله، وأنّ كليهما ببساطة متطابق مع دوبن. ولكن الأمر يبدو عبثيّاً. وفي خاتمة المطاف، بلا ريب، لا يوجد أيّ رابط ضروريّ بين بياض دوبن وثقله طالما أنّ دوبن يستطيع أنْ يتوقّف على أنْ يكون أبيض ولا يتوقّف على أنْ يكون ثقيلاً، والعكس صحيح. ومن ناحية أخرى، إذا كان بياض دوبن هو دوبن فحسب، ومن ثمّ عندما يتوقّف بياض دوبن على الوجود كذلك يفعل دوبن. والمثال نفسه ينطبق على ثقل دوبن.
هناك، إذاً، شيء ما يشوبه الخلط بشكل أساسيّ فيما يخصّ الاقتراح السالف ذكره، حيث إنّ ماهيّته تبدو على الطّراز الآتي. إنّه من باب عدم الاتّساق أنْ نفترض أنّ جوهراً فرداً، مثل دوبن، هو حرفيّاً مثال لأيّ من الكليّات الخاصيّة التي تصف هذا الجوهر الفرد. فالأمثلة المتعلّقة بهذه الخاصيات هي بالأحرى عناصر تندرج ضمن مقولة النمط التي تسمّى بطريقة أخرى «الاستعارات»، أو «الأعراض الفرديّة». فهي ليست عناصر كدوبن الذي ينتمي إلى مقولة الجوهر الفرد. ومع ذلك، دوبن هو جزئيّ، مثلما هو مثال لبعض الكليّ. ولكن للأسباب السّابق ذكرها، لا يمكن لهذا الكليّ أنْ يكون أيّ خاصيّة كليّة تصف دوبن، أوْ تميّزه. بناء على هذا، يجب أنْ تكون كليّاً من نوع مختلف تماماً: جوهر كليّ. فماهية دوبن، بالأساس، هي مثال للنوع الجوهريّ جواد، تماماً كما ذكرت ذلك في آخر القسم الثالث أعلاه. وهذا يقتضي منّا، إذاً، التمييز بين علاقتين صوريتيْن وجوديتيْن مختلفتيْن، حيث تستطيع الجواهر الفرد أنْ تشير إلى الكليّات؛ أولاهما هي الصورة التمثيليّة، ودوبن يشير في هذه العلاقة إلى النوع الجوهريّ جواد، وثانيتهما تقوم على ضرب المثل، حيث إنّ دوبن يشير إلى الكليّات الخاصيّة المتنوّعة التي قد تكون مقولة له. ولكن ضرب المثل ليس علاقة صوريّة وجوديّة أساسيّة شأن التمثيليّة. هذا لأنّه يحصل بين دوبن والكليّة الخاصيّة البياض، لنقلْ، بحكم الواقع، إنّ دوبن يتسّم بمثال من هذا الكلّي تحديداً بياض دوبن، أوْ إذا قلنا بمصطلح أقدم: دوبن أبيض لأنّ مثالاً جزئيّاً للبياض «ملازم» لدوبن. ولكن ليست الحالة كذلك، أنّ دوبن جواد بموجب سبب كهذا، وبالأحرى دوبن جواد لأنّه هو نفسه مثال للكليّ الجوهريّ جواد.
6. حجّة مستمدَّة من القوانين:
الحجّة الثالثة الأخيرة التي سيقع بلورتها، هاهنا، من أجل تأييد وجود الكليّات الجوهريّة هي الحجة المستمدَّة من القوانين، التي أعني بها تخصيص أكثر القوانين الطبيعيّة، أو قوانين الطبيعة. وسوف أسلّم للأهداف الرّاهنة دون اعتماد حجّة بأنّ القوانين تشتمل فعليّاً على الكليّات، وأكون بذلك قد حشرت نفسي في زمرة فلاسفة من قبيل دفيد أرمسترونغ، وفراد دراتسكي، وميخائيل تولاي، على الرغم من أننّي لا أقبل لأسباب ستصبح بيّنة ما يسمّيه أرمسترونغ تصوّر «دراتسكي-تولاي» للقوانين[8]. ويجب في هذا المضمار أنْ أؤكّد، على غرار أرمسترونغ، أنّني لا أعتبر القوانين بمثابة فرضيات أوْ جمل؛ بل أعتبرها هي تلك الحالات الرّاهنة التي تكون هي صانعة حقيقة الجمل القانونيّة، على الرغم من أنّني على نقيض أرمسترونغ لا أعدّ الحالات الراهنة أساساً وجوديّاً. ووفقاً لذلك لا أعتبرها صانع الحقيقة الأساسيّ للجمل القانونيّة. وفي الحقيقة، أعدّ الكليّات الجوهريّة بمنزلة صانع الحقيقة الأساسيّ على نحو ما سنرى في الوقت المناسب.
أضع نفسي في تأييد وصف للقوانين مبنيّ على الكليّات في موضع معارض «للنّظامية» النيو هيومينيّة، التي تعتبر الجمل القانونيّة معبّرة عن تعميم كليّ تُحدّد كميّته فقط بالجزئيّات، ولديها صورتها المنطقيّة في أبسط ضرب من ضروب الحالات: Vx(Fx?Gx)، حيث تدلّ (F وG) على بعض الكليّات الخاصيّة. وقد اقترح أرمسترونغ، في معارضة لهذا الضرب من الوصف، وصفاً تكون وفقاً له الصورة المنطقيّة لجملة قانونيّة في أبسط الحالات هي «N (F, G)»، حيث(N) تعرب أو تدلّ على كليّ من درجة ثانية من الإلزام الطبيعيّ مرتبطة بالكليّات من الدرجة الأولى المعبّر عنها بــــــــF) وG). إذن، بهذا الوصف تعبّر هذه الجملة القانونيّة للحالة الراهنة لــ (Fness's') التي تستلزم (Gness). يفترض أرمسترونغ أنّ هذا النوع من الإلزام مختلف عن الإلزام الميتافيزيقيّ، من جهة كونه افتراضيّاً، من الممكن ميتافيزيقيّا لــــ «Fness» أنّ تستلزم «Gness» في بعض العوالم الممكنة، ولكن ليس في عوالم أخرى أين توجد هذه الكليّات نفسها. وهذا، على الأقلّ ما افترضه أرمسترونغ عندما بدء في بلورة هذا الوصف. ومع ذلك قد يكون متاحاً لفيلسوف أنْ يدحض هذا الجانب بالذات من وصف أرمسترونغ، بينما يؤّيده بقيّة الفلاسفة. الآن وصفي للقوانين يختلف بصورة حاسمة عن وصف أرمسترونغ، من حيث أنّه يستحضر الكليّات الجوهريّة والكليّات الخاصيّة معاً، لكن دون وجود علاقة من درجة ثانية بين الكليّات. في توصيفي الصورة المنطقيّة لجملة قانونيّة في أبسط نوع من الحالات هي (jF)، أو لنقلْ بلغة إنجليزيّة واضحة (js هي F)[9].
وسيعطينا مثالٌ بسيط أبعد ما يكون عن القانون الأساسيّ كنْهَ الاختلاف بين الوصفين: قانون كبلر الأوّل لحركة الكواكب. فهذا القانون يقول بلغة إنجليزيّة سهلة الفهم إنّ الكواكب تدور بشكل بيضويّ؛ أيْ إنّها تتحرّك في مدارات إهليجيّة. وهذا، في حقيقة الأمر، يأخذ الصورة الآتية (jsF)؛ حيث نعوّض (j) بالمصطلح النوعيّ «كوكب» ونعوّض ((F بالمحمول «تدور بشكل بيضويّ»، وهو ما يعبّر عن كليّة خاصيّة. وعلى النّقيض من ذلك، في وصف أرمسترونغ، الصيغة القانونيّة للتّعبير عن هذا القانون قد تكون شيئاً شبيهاً بــــقولنا «أنْ تكون كوكباً فهذا يستلزم الدوران بشكل بيضويّ»، بينما في وصف نظاميّة نيو-هيومينيّة قد تكون شيئاً شبيهاً بقولنا «أيّ شيء هو كوكب فهو شيء يدور بشكل بيضويّ». يوضّح هذا المثال المُبينُ المقترَحُ، بالفعل، طبيعة توصيفي المفضّل مقارنة بتوصيفات الآخرين. والحقّ أن قوانين الطبيعة، خارج دائرة الأدب الفلسفيّ في هذا الموضوع، على الأقل، يُعبّر عنها عموماً بطرائق ما يسمّيه علماء اللّسانيّات جملاً عامّة، التي تقوم فيها الأسماء النوعيّة، التي تكون في صيغة الجمل، بدور الموضوع للمحمول الذي يعبّر عن تنظيم أوْ عادة.
إنّ للمقولات الأنطولوجيّة الأربع طريقةً واضحة جدّاً لتفسير شروط الحقيقة لمثل هذه الجمل عندما تُستعمل للتّعبير عن قوانين، وعلى وجه التّحديد هي (jF) صحيحة إلا إذا كان الوصف (Fness) يصف النّوع الجوهريّ (j). فنحن، هاهنا، إزاء مثال بسيط آخر يُضرب لتوضيح هذه النّقطة: إنّ قانون الطبيعة لينصّ على أنّ الإلكترونات مشحونة سلباً (أيْ أنّها تحتوي على شحنات سالبة فقط). وهذا ما يسلمنا، حسبَ المقولات الأنطولوجيّة الأربع، ببساطة، إلى أنّ وصف أنْ يكون «مشحوناً سلباً» يصف النّوع الجوهريّ إلكترون.
فهذا ليس بالموضع المناسب لأقدّم تصوّري، وأدافع دفاعاً مستفيضاً عن وصفي المفضّل للقوانين. فكلّ ما أودّ فعله، هاهنا، أنْ أفسّر لماذا يتمّ في تصوّري الشخصيّ اعتماد وصف للقوانين مبنيّ على الكليّات يُسخَّر بطريقة أفضل من خلال تصوّر أنطولوجيّ يفرّق بين الكليّات الجوهريّة وكليّات الخصيصة. لكن، يجب عليّ، بادئ ذي بدء، أنْ أجيب عن اتّهام قد يصدر ضدّ وصفي، وقوامه أنّ بعض القوانين الطبيعيّة الشهيرة لا يبدو أنّ لديها الصورة التي أقترحها. والحالة، في هذا المضمار، يمكن استمدادها من قانون الجاذبيّة لنيوتن الذي عادة ما يُقدّم تقديماً تصنيفيّاً في هذه القاعدة الرياضيّة: (F= GM 1 M 2 /R 2)؛ حيث تمثل (F قوّة)، و(M كتلة) و(R مسافة)، بينما تدل (G) على الثابت الكليّ الجاذبيّة. يتمثلّ الاعتراض، في هذا السّياق، في أنّ هذه القاعدة تستدعي فحسب كليّات الخاصيّة، وليس أيّاً من الكليّات الجوهريّة. غير أنّ هذا الاعتراض سطحيّ، بما أنّه قائم، في مجمله، فقط على اختيار رموز رياضيّة. فإذا وضعنا في حسباننا كيف عبّر نيوتن نفسه عن قانونه الشهير، فإنّنا سنرى أنّه قام بهذا الأمر متوسّلاً بمصطلحات كهذه عندما كان يعبّر عن ذاته في لغة إنجليزية سهلة الفهم (أوْ في الواقع بلغة لاتينيّة واضحة) «تتجاذب الأجسام بقوّة تتناسب مباشرة مع منتج كتلتها، وتتناسب تناسباً عكسيّاً مع المسافة المربّعة بين مراكز كتلتها)[10].
من الواضح، أنّ نيوتن كان يعتقد بأنّ قانونه كان هو القانون الذي حكم تصرّف الأجسام، والذي كان يعني به بالاشتراك مع فلاسفة وعلماء آخرين معاصرين له مثل لوك وبويُل أجزاء المادّة. وكذا عبارة «جسم» أوْ «جزء من المادّة» هي بالتأكيد اسم نوعيّ (يدلّ على نوع)، وليس مصطلحاً وصفيّاً؛ حيث إنّه يدلّ على نوع معيّن من الشيء له شروط هويّة محدَّدة. فهذه الإحالة، في القاعدة الرياضيّة، إلى جسم باعتباره النوع الجوهريّ الذي ينطبق عليه القانون، قد تمّ قمعها في الحقيقة، إلّا لأنّها فقط لا تنهض بأيّ دور للأغراض الحسابيّة في إيجاد القيمة العدديّة للقوّة التي تتحرّك بين جسمين لكليهما كتل محدّدة ومسافة محدّدة على حدة؛ ذلك أنّ هذه الميزة التقنية المحضة للقاعدة ليس لديها أيّ تحمّل، أنّى كانت التدخّلات الأنطولوجيّة للقانون، التي تعمل هي على ترميزه رياضيّاً (أيْ هذه الميزة التقنية ترمز إلى القانون الوجودي من خلال قواعد رياضيّة، وليس لها أيّ دخل في الوجوديّة). وطالما تم ّ الإقرار بأنّ الكتلة هي خصيصة لا تمتلكها إلا الأجسام، وبأنّ الجسم هو اسم نوعيّ في وضع جيّد، فمن ثمّ إنّ مثال نيوتن لقانون الجاذبيّة لا يمكن أنْ يجسّد أيّ تحدّ يتعلّق بوصف القوانين الذي أنا بصدد الدّفاع عنه الآن. بالطبع، لاحظت من ذي قبل، في القسم الثاني، أنّ مفهوم المادّة لم يعد مفهوماً أساسيّاً للنظريّة الفيزيائيّة. ومن ثمّ يجب علينا، إلى هذا الحدّ، ألا نفكّر مجدّداً في الأجسام بوصفها «أجزاء من المادّة» على النّحو الذي يفهمه نيوتن ولوك. لكن هذا ليس من أجل أنْ نقول إنّ مقولة جسم قد تمّ استبدالها؛ بل هي فقط نظريّة فلسفيّة معيّنة فيما يخص تكوين الأجسام قد تمّ استبدالها. إنّ الأجزاء الفيزيائيّة، على غرار البروتونات والإلكترونات، تقع مباشرة تحت قسم الأجسام لأغراض قانون نيوتن. وبطبيعة الحال، فليس على صلة بمدار اهتماماتنا الحاليّة أنْ يُنظر إلى قانون نيوتن، بعد أينشتاين، على أنّه مجرّد مقاربة للحقيقة، بالنّظر إلى أنّني قد استعملته لأغراض توضيحيّة فحسب (بمحض الصدفة توجد نقاط مشابهة لهذه التي وضحناها في الأعلى تستطيع على ما أعتقد أنْ توضع لبيان ما يتعلّق بقوانين الحفظ الفيزيائيّة).
أنا الآن أحتاج إلى أنْ أقول لماذا وصفُ القوانين القائم على الكليّات الذي يستحضر الكليّات الجوهريّة متفوّق على ذاك الوصف الذي يستحضر فقط كليّات الخاصيّة. سأركزّ، هاهنا، فقط على سبب واحد للتّفكير على هذا النّحو، وقوام ذلك أنّ السبب كامن في أنّ نوع الوصف السّابق يمكن أنْ يكون قاصراً أكثر من السّبب الأخير بالنّظر إلى بساطة القوانين وعددها المميّزة له. فضلاً عن كونه يمتلك قدرة توضيحيّة أكبر. سأوضّح هذه النّقاط من خلال أمثلة «لعبة». فلنفترضْ جدلاً أنّ فيزيائيّين كانوا سيكتشفون نوعاً جديداً من الجسيمات الأساسيّة، فلنطلق عليها إذاً (j) جسيمات، أو (js) باختصار. وهبْ أيضاً أنّهم اكتشفوا أنّ (js) تمتلك هذه المجموعة الآتية من الخاصيّات: (Fness, Gness, Hness). في الواقع، هذه الخاصيّات يمكن أنْ تكون، لنقلْ، بعض بقيّة كتلة وشحنة ودوران. وحسب وصفي المفضّل للقوانين يمكن وصف هذه الوضعيّة بطريقة بسيطة وحدسيّة طبيعيّة كالآتي: (js) هما (F وjs) هما (G وjs) هما (H)، وباختصار (js) هما (F وG وH).
لكن، ماذا يمكن أنْ يُقال عن وصف قائم على الكليّات لا يَعُدّ الكليّات جوهريّة من قبيل (j)؟ لنْ يجديَ الغشّ هنا نفعاً باستحضار خاصيّة زائفة لــــ (jness)، وذلك لأسباب نُوقشت سابقاً. في الواقع يبدو أنّ هذا الوصف سيكون له خيارات محدودة عدا محاولة تحليل ماذا يعني لشيء أنْ يكون جسيماً (j) من ناحية الخاصيّات التي وُجدت لتمييز هذه الجسيمات؛ أيْ (Fness, Gness, Hness). وبإيجاز، إنّه سيحصل لدينا قول مفاده إنّ «جسيم 'قابل للتّحليل' باعتباره الجسيمَ الذي هو F وG وH». ولكن نحن الآن مباشرة إزاء مشكل؛ لأنّه إذا استبدلنا هذه المحلّلات المقترحَة لــــ«j» في الجمل القانونيّة المقدّمة أعلاه، فإنّنا سنحصل فقط على مجموعة من التفاهات التحليليّة: الجسيمات التي هي (F وG وH) هي (G) (الجسيمات التي هي F وG وH هي H)، أوْ حسب طريقة أرمسترونغ المفضّلة لتقديم القوانين (N[(F&G&H),H]) (N[(F&>;G&H),G]) و(N[(F&G&H),F]).
من الواضح، إذاً، أنّه يجب على المدافع عن مقاربة القوانين القائمة على الكليّات، الذي يدحض الكليّات الجوهريّة، أنْ يلجأ إلى استراتيجيّة أخرى. والاستراتيجيّة الوحيدة التي تبدو متوافرة هي محاولة صياغة قوانين مناسبة من خلال جمل غير تحليليّة تربط خاصيّة الكليّات (Fness, Gness, Hness). ولنرى، مثلاً، أنّ ثلاثيّة القوانين الآتية تمثّل أسلوب أرمسترونغ: (N[(F&G),H], N[(F& H),G], N[(G&H),F]). ولا أحد من هذه القوانين يجسّم تحليلاً سخيفاً. ولسوء الحظّ، مع ذلك، لا أحد منها يحتاج إلى أنْ يكون صحيحاً في الوضعيّة التي تمّ تصوّرها. لنتذكّرْ مثل هذه الوضعيّة التي اكتشف فيها العلماء أنّ (js) هي (F وG وH). ولكن، في حين أنّ هذا يمكن أنْ يؤخذ على أنّه يعني أنْ تكون (j) يقتضي أنْ تكون (F, G, H)، فإنّه لا يعني، على سبيل المثال، أنْ تكون (F وG) يستلزم أنْ تكون (H). ولنفترضْ مجدّداً لجعل المثال ملموساً أكثر أنّ (Fness, Gness, Hness) هي على التّوالي بعض بقيّة الكتلة والشحنة والدوران. يمكن أنْ يكون صحيحاً أنّ جسيمات (j) لديها بالضرورة كلّ هذه الخاصيّات، دون أنْ يعني ذلك أنّ أيّ جسيم له بقيّة الكتلة والشحنة نفسها بوصفه جسيماً (j) لديه بالضرورة الدوران نفسه باعتباره جسيماً (j) سأترك هذا الأمر للمدافعين عن هذه الرؤية التي هي موضع تساؤل لإيجاد حلّ لهذه المشكل، إذا ما استطاعوا أنْ يفعلوا ذلك بأكثر الطرق الاقتصاديّة الممكنة. بيد أنّه لا يبدو، من المرجّح، أنّه سيكون باستطاعتهم تقديم القوانين المطلوبة بالبساطة والاقتصاد الذي يمكن أنْ تُقدّم به عن طريق الكليّ الجوهريّ (j).
أنا أزعم، أيضاً، أنّ مقاربتي للقوانين تمنحهم قدرة تفسيريّة أكبر من التي تمنحها الرؤية المنافسة التي تقوم عليها الكليّات. ويمكن توضيح هذا الأمر أيضاً انطلاقاً من مثال «لعبة» مستمدَّة من فيزياء الجسيمات. هبْ أّنّنا نسأل لماذا توُجد فقط تركيبات معيّنة من الخصائص الأساسيّة تمّثلها الجسيمات في عالمنا الماديّ؟ أضرب مثالاً على ذلك هاتيْن التركيبتيْن الموجودتين الآتيتين: (1) بقيّة كتلة إلكترون وشحنة سالبة واحدة ودورة ونصف (2) بقيّة كتلة إلكترون وشحنة موجبة واحدة ودورة ونصف؛ ذلك أنّ تركيبة(1) تُتمثّلُ بأيّ إلكترون مخصوص، في حين يقع تمثيل التركيبة (2) بأيّ بوزيترون مخصوص. لكن يظهر أنّه ليس كلّ بقيّة كتلة نوعيّة، وكلّ شحنة نوعيّة، وكلّ دورة نوعيّة، قد وُجد كلّ منها متجسّداً على حدة في بعض جسيم مخصوص، أوْ في جسيم آخر؛ فهي توجد دائماً أنّها تتجسّد معاً في جسيم واحد. ومن ثمّ أفترضْ، على سبيل المثال، أنّ الجسيم (a) هو(F) وأنّ الجسيم (b) هو (G) وأنّ الجسيم (c) هو (H) ألا يترتّب على ذلك وجود أيّ جسيم هو (F وG وH). ما الذي يمنع إذن، هذا التّخمين؟
يمتلك وصفي المفضّل للقوانين جواباً بسيطاً بما فيه الكفاية، وهو تحديداً أنّه لا يوجد أيّ نوع جسيم (j) على غرار أنْ تكون (js) هي (F وG وH). لهذا السبب لا نجد أيّ جسيم خاصّ يجسّد تركيبة (Fness, Gness, Hness)؛ وذلك لأنّه، حسب نظرتي الشخصيّة، أنّ أيّ جسيم خاصّ يجب أنْ يقوم بتمثيل نوع الجسيم، حيث تحدّد القوانينُ المعنيّةُ به ماهي الخاصيّات التي يمكن أنْ يجسدّها هذا الجسيم. ولكن، ماذا يمكن للرؤية المنافسة القائمة على الكليّات أنْ تقول حول هذه المسألة؟
من المفترَض أنّه يجب عليها القول فقط باعتبارها مسألة أساسيّة، أوْ واقعة تقنينيّة خام، إنّ التّوليف بين (Fness, Gness, Hness) مستبعد؛ لأنّ هذه الخاصيّات الثلاث، بطريقة ما، تستبعد بشكل مشترك توليفها؛ ذلك أنّه في ما نصّ عليه أرمسترونغ يوجد شيءٌ ما شبيه بالقوانين الثلاثة الآتية، التي من المفترض أنْ تحصل على: (N[(F&G), *H], N[(F& H), *G], N[(G&H), *F]). يشتمل هذا المقترح، على الأقلّ، على عيبين اثنين بالنسبة إلى مقترحي؛ يتمثّل الأوّل في كونه يستدعي الكليّات السالبة. والثاّني هو أنّه على الرغم من أنّ كلّ قانون ينطوي على نحو ما يظهر على الاثنين الآخرين، فإنّه لا يوجد أيّ مؤشر يدلّ على ما إذا كان أيّ قانون من القوانين المذكورة لديه أولويّة تقنينيّة على الآخر. فبطبيعة الحال يمكن أنْ يُقترح أنّنا بمستطاعنا أيضاً أنْ نقدّم الوضعيّة من خلال قانون واحد، علماً بأنّنا نسمح بالقوانين التي تكون فيها علاقة الضرورة منطبقة فقط على كليّ واحد (N[(F&G&H)])، على الرغم من أنّ هذا الاعتبار لا يزال يلزمنا بالكليّات السلبيّة، ويظلّ بهذا الشّكل لا يحلّ مشكل الأولويّة.
ثمة نقطة أخيرة أودّ أنْ أذكرها. فلقد اعتبرت، على نحو ما لاحظت في بداية هذا القسم، أنّ الكليّات الجوهريّة هي صانعة الحقيقة الأساسيّة للجمل القانونيّة، وأنا لا أعتقد أنّ القوانين كما هي مفهومة بالأسلوب الأرمسترونغي مثل نوع لحالات أوْ وضعيّات راهنة توجد في مستوى أنطولوجيّ أساسيّ. ومن ثمّة، فإنّ النوع الجوهريّ إلكترون، في تقديري، هو صانع الحقيقة الأساسيّ للجمل القانونيّة التي تنصّ على أنّ الإلكترونات مشحونة بوحدات سالبة. وهذا لعلّة أنّني أرى أن «وَحدة مشحونة سلباً» كونها خاصيّة جوهريّة للإلكترونات، آخذين في الاعتبار النّتيجة التي مفادها أنّ في كلّ عالم ممكن توجد فيه إلكترونات حقيقةً قوامها أنّ الإلكترونات موجودةٌ فيه بوصفها وحدات مشحونة سالباً. وافتراضاً أنّ كينونة (x) هي صانعة الحقيقة لمقولة (p)، إذا ما كانت (p) حقيقة في كلّ عالم ممكن توجد فيه (x). ولنقلْ بصيغة أخرى، إذا ما كان وجود (x) ميتافيزيقيّاً يستلزم حقيقة (p)، فإنّه يترتّب على ذلك أنّ النّوع الجوهريّ إلكترون هو بالفعل صانع الحقيقة للجملة القانونيّة القائلة إنّ الإلكترونات مشحونة سلباً[11]. لهذا، فهي صانع الحقيقة الأساسيّ لهذه الجملة القانونيّة المندرجة ضمن فرضيّتي التي دافعت عنها في هذه الورقة العلميّة، ومدارها على أنّ مقولة النّوع الجوهريّ، أوْ الكليّ الجوهريّ، هي من إحدى المقولات الأنطولوجيّة الأساسيّة.
[1] - أنا استعرت الجملة «إضافة إلى كونه» من دفيد أرمسترونغ، انظر على سبيل المثال: Armstrong (2004).
[2] - انظر مثلاً: Merricks (2001).
[3] - بالنّسبة إلى مقولات أرسطو انظر: Ackrill (1963).
[4] - انظر كذلك: Lowe (2009: الفصل 2).
[5] - انظر: Black (1953).
[6] - بالنّسبة إلى لمحة عامّة عن هذا الموضوع انظر: 2002 a Lowe: الفصل 19
[7] - قارن بين Lowe (2006: 77) وLowe (2009: 38).
[8] - انظر على وجه الخصوص: Armstrong (1983).
[9] - انظر Lowe (2006: الفصل 8) وLowe (2009: الفصل 9).
[10] - هذا ليس شاهداً مأخوذاً بحذافيره، ولكنّه بطبيعة الحال قريب في صياغته من مختلف الأقوال التي وضعها نيوتن في شأن الجاذبيّة في كتابه (مبدأ)، الذي في سياقه ينشر بانتظام مصطلح «جسم» (أوْ بالأحرى معادلاته باللغة اللّاتينيّة). انظر: نيوتن (1729). H
[11] - قدّمت آرائي في شأن صنع الحقيقة في Lowe (2006: الفصل 12).