في العالمية الإنسانية والعولمة الإقصائية
فئة : مقالات
مدخل:
تعج الساحة الفكرية بسيل عرم من المصطلحات والمقولات المتداولة هنا وهناك، والمعبرة بشكل أو بآخر عن منظومات فكرية وأنساق معرفية، مستمدة من مرجعيات متباينة المشارب تصل في كثير من الأحيان إلى حد التعارض والتناقض.
ولا يخفى علينا -ولا يجب- البعد الحضاري للمصطلحات، وبمعنى أدق الفضاء الثقافي للمقولات، إذ أن هذه المقولات في العمق والسعة، تجلية لمواقف معرفية من إشكاليات برزت في بيئات حضارية تختلف في المنطلقات والمُؤَسسَات والنظم والنهايات، عُبر عنها بأنماط معينة لغويا وثقافيا وقانونيا واجتماعيا، بما يتوافق والمستوى التاريخي والاجتماعي والنفسي الذي بلغه المجتمع الذي يصدر منه هذا النوع أو ذاك من المقولات.
ومن المصطلحات المتداولة فرضا مباشراً، أو إيحاء بصورة غير مباشرة - مصطلح العولمة. فما هي العولمة؟ وما هي مقتضياتها؟ وإلى ما يرمي واضعوه وناحتوه؟ وهل له تداعيات سلبية على مجتمعاتنا؟ ثم أبمقدور المجتمعات الإسلامية أن تقف أمام هذه الظاهرة وما تخلفه في عمق الفكر والضمير والسلوك؟ وهل من بديل حضاري وعقدي عندنا إزاء هذه الظاهرة وترسباتها الغائرة بشموليتها في ثنايا التاريخ وعمق المجتمع؟
1- مفهوم العولمة:
العولمة؛ على حد ما أتصور، هي عملية تعميم وفرض لنموذج الحياة الغربية، بكامل أبعادها (الأيديولوجية-الاجتماعية-النفسية-الأخلاقية-أسلوب المعيشة-طريقة التفكير-نمط الذوق-الحساسية الجمالية- الآفاق-الجانب السياسي-الناحية الاقتصادية-الأحلام-المشاعر... باختصار النموذج الحضاري الغربي والرؤية الكونية الغربية)[1]، حيث تعم أرجاء العالم إلى أبعد نقطة ممكنة ومتاحة، وغير متاحة إذا لزم، وهي إضافة إلى ما سبق، عملية ابتلاع للعالم بثقافاته وأعراقه وخصوصياته، ثم إعادة إنتاجه وفق منظور مادي رأسمالي سلعي شيئي.
2- آليات العولمة وأساليبها:
وتتخذ عملية التعميم ركائز ودعامات متنوعة ومتداخلة منها، الغزو الثقافي، حيث لا يزال الغرب يذكر بأنّه حامل لرسالة حضارية إلى العالم؛ رسالة مفادها تحضير أمم العالم وشعوبه، وإخراجها من ضيق منظوماتها الحياتية وضحالتها إلى سعة الأسلوب الغربي فيها، وهكذا كانت دعوى الاستعمار والتنصير والاستشراق، والآن العولمة، وبالأحرى القولبة والتعليب بماركة مُؤَمركة. ويكون ما سبق توصيفه، بالتأكيد على سمة الأزلية والكونية في تفوق الثقافة الغربية، وحاملها الذي لا خلاف عليه في حسبان البعض، العلم، وإن كان الأمر فيه نظر.
فهذا صاحب نهاية التاريخ، يشير علينا بجدوى اللحاق بقاطرة المدنية الغربية ونموذجها المعيشي، لأنّه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فإمّا الغرب بديمقراطيته ورأسماليته وحداثته، وإلا لا تقدم ممكن[2]، لأنّ التاريخ قد وضع رحاله وكف عن الترحال في نهاية ليس لها ما بعدها، ولم يشهد العالم لها قبلها، والإنسان الذي أنتجته هذه المدنية هو آخر إنسان سيتمخض عنه التاريخ، وإذن لنسلك سلوكه ونأتي فعاله ونحلم بما يحلم ونتعس لما يتعسه ونمرض إذا مرض، ونلعب إذا لعب، ونرمي قيمنا وراءنا إن رمى قيمه، لم لا فهو الإنسان الأخير !
إضافة إلى الترويج لعالمية الثقافة المذكورة، والإلماح إلى إنسانيتها وحضاريتها، وأنّها نتاج مجهود البشرية كلها عبر مسار تاريخها الطويل والشاق، وبالتالي فالجميع مطالب بمشاركتها منجزاتها وليس إنجازاتها- ولا داعي تماما للإصرار على مضادتها، لأنّ من يأتي ذلك فهو همجي ضدّ للحضارة، والآن عدو للعدالة خارج عن القانون!!
والآليات الواردة قبلا لها حضورها في مستوى آخر، ونعني به الناحية النفسية، عن طريق الإيحاء والإيهام، بترويج مقولة عتاقة المخزون الخاص وكون الثقافة الخاصة قديمة بالية تمتد بجذورها إلى عصور الظلام، القرون الوسطى التي تم تجاوزها بتحديث الإنسان، خاصة بعد أن تمت غلبة الدين ورموزه وشعاراته الرجعية المنافية لكل تقدم، وعندئذ لا وعي ولا تقدم إلا باحتضان الثقافة العالمية التي ليس هناك غيرها-انظر مرة أخرى إلى المراوغة المفضوحة-.. والتنكر للخصوصية الثقافية التي هي ضد الإنسانية، فتولدت أخيرا وليس آخرا أبواق للغرب يصدحون بها محتفين، يروجون لثقافته بالإلحاح على أنّه لا بديل ممكن ومتاح سوى الحياة الغربية ونمطها في شتى مناحيها، وانظر إلى مضامين المعرفة التي تروج هنا وهناك، تحت نعوت مختلفة، مدرسة تلفزيون جرائد...
وتعتمد العولمة أيضاً على القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وقبلها وأخطرها الثقافية[3]، ثلاثية احتواء كل من ينتهج أسلوباً حياتياً مختلفاً ومغايراً، ويريد التأكيد على خصوصيته الحضارية الشاملة، احتواء يتم بالحصار(العراق، ليبيا، إيران، كوريا الشمالية...)، وضرب العملات المحلية(النمور الأسيوية؛ خاصة ماليزيا)، ورعاية الانقلابات، وتمويل المعارضة المسلحة والسياسية (حركة خلق، حركة قرنق، تيمور الشرقية... )، فرض سياسات محددة من طرف البنوك العالمية المُقرضة والتدخل في سياسات السيادة (التعليم، الصحة، التوظيف، الإنفاق...)، ومن أمثلة ما ذكر: تدمير الاتحاد السوفياتي، وحصار كوبا والصين، وحرب العراق الأولى والثانية والثالثة.
وكذلك التشنيع على كل خصوصية تحت مسميات مختلفة ومقصودة، كما هو الحال بالنسبة إلى الحركات الإسلامية التي تلح العولمة الُمؤمركة وقاموسها على نعتها بالإرهاب والأصولية (بالدلالة الغربية)، وعلى أنّها خطر محدق بالمجتمعات الإنسانية جمعاء، وأنّها معادية للعدالة والحرية والحداثة... إضافة إلى العمل على دعم الديكتاتوريات ضد التعدديات الحقيقة المعارضة للسياسة الغربية ومصالحها، والعالم العربي خير دال على ما نقول. فما معنى أن يبقى رئيس غير منتخب ولا مرغوب فيه، حتى يموت أو يُتقلب عليه، أو يخلفه ابنه، أو أن يخلف نفسه! ! !...
3- آثار العولمة ومترتباتها:
أما التداعيات المباشرة لهذه العولمة؛ فهو إلغاء الخصوصيات الثقافية للمجتمعات الإنسانية قاطبة- ولا أقول الأخرى كما يقولون، تأكيدا على مركزيتهم- واحتوائها ضمن نسق من القيم والأساليب، بادعاء عالمية ما ينتجون، وكونية ثقافتهم وعلومهم، وضرورة الاندماج في القرية الكونية (متى أصبح العالم قرية)، خاصة من الناحية الإعلامية، برواج القنوات الفضائية، وتبني شبكة المعلومات الانترنيت آليةً للتواصل بلا رقيب… ولتمرير هذه المغالطات وترويجها، جُندت جميع الطرق كما أسلفنا-أمريكا وكل الغرب الحضاري والسياسي-لإظهار الإنسان الغربي كسوبرمان فوق جميع الناس-كما ورد عند الفيلسوف الألماني نتشه في كتابه هكذا تكلم زرادشت وأنّه أرقى وأكمل نموذج ممكن ومتاح للإنسانية، في العصر نفسه مع سكان المعمورة، وفي مختلف العصور السالفة والبائدة، وحتى الآتية !!!..
فالغرب هو المحور الذي يجب أن تسبح في مداره كواكب الحضارات الأخرى وكويكباتها وأقمارها -نسميها حضارات تجاوزا-والمركز الذي يشع بقيمه وأخلاقه ونظمه لأجل الإنسان في أي مكان وزمان[4]....
4- العالمية؛ الخلفية المؤسسة، وأفق التاريخ الواعد:
ولكن؛ بعدما قيل، أليس إلى خروج من سبيل؟ هل يمكن معارضة العولمة لكونها خطرا يتهدد الخصوصيات الثقافية ؟ أم أنّها وطأة تاريخية وسياسية وعالمية لا يمكن الفكاك منها؟
هنا نذكر كلاما للأستاذ منير شفيق، حينما قال يومئذ-بداية التسعينات- بأنّ معارضة النظام العالمي وعلى رأسه أمريكا ممكن ووارد بل وواجب[5]، شرط أن تتحرر الأمة نفسيا وتعمل على المستوى الشعبي بنشر وعي اللاخوف. ومن ثم فإنّ أمريكا، ومن يدور في فلكها، ليست أقوى من تاريخ الأمة ولا من إمكانياتها المذخورة في قيمها وفي خصوصية تجربتها، وإن ظهر تراجعها حاليا.
ومن أدعى الأمور التي يجب العمل على أساسها ومن خلالها، ترويج فكرة تنوع البشر وثراء تجاربهم التاريخية، وأنّه من غير المقبول قولبتهم في أشكال جاهزة وتامة، لأنّ الأصل الوجودي فيهم-أي البشر-هو التنوع والتعدد في إطار من التفرد الذي لا ينفي تواصلهم وتعارفهم بحسب لغة القرآن الكريم، قال الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات 13،{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} النساء 01.
فمع اختلاف الناس واستحالتهم من فجر التاريخ إلى تجمعات فيها نظم حياتية تتباين بحسب استعداداتهم وإمكانياتهم[6]، يومذاك استحال الناس وانصهروا في قوالب واحدة تختص بمناطقهم ومدى تجاوبهم معها. ولكن استمر التعارف بينهم ونقل بعضهم إلى بعض خبرته بالحياة، فتلاقحت الحضارات وتناسل بعضها من بعض، فكان الإنسان في أمتن منجزاته وأكثرها تفردا، مع بقاء الأصل، وإن تطاول الفرع وسمق، وخذ لك من غابر الأيام آية، فهم أولاء الفرس وقد أخذوا من الصينيين فتعاظم فيهم الأدب والعمران، وعنهم أخذ اليونان فنبغت فيهم الفلسفة وظهر فيهم عظماء العقل ومبدعو المنطق، وعنهم اقتبس الرومان فشادوا العقل قوة، والمنطق عمرانا، فتوسعت ديارهم حتى بلغت مشارف العالم القديم وأرضه، ومنهم قاطبة تعلم المسلمون، ومزجوا ما أخذوا بما أسسوا تفردا بوحي من القرآن والسنة، فظهر أغزر إنتاج عرفه الإنسان إلى وقتهم، وانبثقت علوم ما سُبقوا إليها، أصولا للفقه والدين، ونحوا يقوم اللسان، ولم تنكر أمة على غيرها ما هي فيه، بل سعت إلى التعلم منها، والاستزادة في ذلك، حتى كان لها ما كان...
وإذن؛ فالتعدد والتنوع هو المدخل المعرفي والوجودي الذي إن توسع الاعتقاد فيه، سيقضي على سطوة العولمة، أو سيحولها إلى عالمية تنضوي جميع البشرية تحت سقفها، وأريد أن أُلمح إلى جدوى الاستعانة بآليات العولمة نفسها، بقصد التمكين لضدها، من وسائل الإعلام، وتطورات الاتصال، ويسر التنقلات، والتركيز خاصة على المنظمات الأهلية في الغرب، لتمرير فكرة أنّ العالم غني وثري ببشر كثر، من ألوان شتى، ولغات عدة، وتاريخ آخر له ما له وعليه ما عليه، ولتمرير أيضا أنّ البشر جميعا يحق لهم البقاء على ما هم عليه، وإن دعا جزء منهم إلى قيمه- بحرية وأمن وعدل وتقوى-الجزء الآخر، وهذا كله لصالح الإنسان وليس غير الإنسان، فما معنى أن تعمل العولمة على هدم الخصوصيات باسم العدالة، ثم تكون هي أول من ينقلب عليها تحت مسمى أمن العالم، فأين أمن العالم؟ وهي ذي أمريكا تحمي إسرائيل في كل ما تقوم به، ضاربة مواثيق الإنسانية عرض الحائط، وهذا ما يزيد في توطيد أهل الخصوصيات ويجعلهم يلتفون حولها مستميتين، وإنّ الثمن زوال أنظمة...
وما عادت خرافة كونية ما يصنعه الغرب تنطلي على ذي بال؛ فالعالم وإن أخذ من مدنية الغرب وتقنيته، فهو يعمل ذلك تحت عنوان العلم صنيعة الإنسانية عبر مكابدات تاريخها الضارب في أعماق الزمن، ولكن بإخضاعها لغربلة قِيَمِيَة، تنتج حياة مواكبة لحاضر البشر في ظل مبادئ وقيم خاصة، خذ مؤشرا على ذلك نموذج الصين والهند وإيران وماليزيا...
أما الغزو الثقافي، فقد تمكنت حضارات العالم من تطوير بعض أساليب الحد من سطوته، بظهور حركات الصحوة القومية والدينية... والعمل على بعث موروثات الماضي والسعي إلى جعلها تواكب الزمن، وإن سعت العولمة إلى تبشيعها وتوصيفها بالأصولية تارة وبالخارجة عن التاريخ طورا... إضافة إلى تعاظم دور المناوئين للعولمة من الغربيين أنفسهم، خاصة وأنّ وتيرة حوار المثقفين والعلماء تزداد بين الفينة والأخرى.
وهكذا يتكامل عقلاء المعمورة في صد شبح الفاشية والشمولية العالمية، وما يضمن لهذه الحوارات الاستمرار والإثمار، أنّ التاريخ-كما يقول الأستاذ جودت سعيد- في طريقه إلى الرشد وتعليم البشرية درب الحرية والكرامة، مما يعني - على المدى البعيد - تعاظم المتعاونين السلميين، وتقلص المناوئين لكل تفرد، الذين لا يقبلون إلا رؤية أنفسهم، وإن كان في سمت الآخرين وحياتهم. ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله﴾.
[1] فرنسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة حسين أحمد أمين، القاهرة، مركز الأهرام، 1993، ط 01، ص 51 وما بعدها.
[2] المرجع نفسه، ص 249
[3] عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، القاهرة، دار الشروق، ط01، 2002، المجلد الثاني التطبيق، ص 200 وما بعدها.
[4] عبد الوهاب المسيري، نحو حداثة إسلامية، مجلة رؤى، باريس، 2003، العدد18/19، ص 48 وما بعدها.
[5] منير شفيق، معارضة الولايات المتحدة الأمريكية ممكنة بل واجبة، مجلة الإنسان، باريس.
[6] محمد عمارة، التعددية رؤية إسلامية، القاهرة، دار نهضة مصر.