في الفلسفة السياسية عند اسبينوزا
فئة : قراءات في كتب
الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السياسيّة عند سبينوزا
تأليف: فاطمة حداد - الشامخ
ترجمة: جلال الدّين سعيد
مراجعة: صالح مصباح
مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدّراسات والأبحاث، الرّباط - المغرب
وزارة الشّؤون الثقافيّة - معهد تونس للتّرجمة - تونس.
الطّبعة الثّانية، 2017م، عدد الصّفحات 444
الإشكاليّة التي يتنزل ضمنها الكتاب:
عُدّ سبينوزا صوفيًّا مفعم القلب بمحبّة الله، وفيلسوفًا وريثًا للتّقليد اليهوديّ، وعقلانيّا ديدنه الحقائق الأزليّة، غير أن المشهد يذهب إلى أبعد ممّا ذكر؛ إذ يمكن أن يتّسع الأفق، وتنفتح لنا طريقًا أخرى للقراءة، إذا نحن وقفنا عند التطلّع الذي أبدته الأستاذة "فاطمة حداد - الشامخ - إلى وجود نسق فلسفيّ سياسيّ عند سبينوزا لم يكن واردًا على اعتبار عرضيّته، بالتّالي، انصهاره في الإتيقا"[1].
لقد بات واجبًا علينا - إذن - أن نشدّ العزم إلى هذه القراءة التي تستبعد كلّ تأويل اختزاليّ ومفكّك، والتي انكبّت الباحثة عبرها تتقصّى مذهب سبينوزا، لتنزيل مبحثه السياسيّ ضمنه؛ فالمؤلّفة إنّما تريد لفت الانتباه إلى ما تكشف عنه النّصوص من إنجاز فعليّ للمذهب، وهي تترصّد بنية النّسق برمّته؛ بل هي تجزم بوجود نسق فلسفيّ سياسيّ عند سبينوزا، ومن الإجحاف اختزال هذه الفلسفة السياسيّة في مجرّد أفكار عن السّياسة[2].
ونعلم أنّ سبينوزا (هذا المارق عن دين أجداده) أظهر آراءَه بمظهر يروق لرأي عامّة النّاس التقليديّ ولمعتقدهم الشعبيّ، فكان عليه في كلّ مرة أن يؤثّث نصوصه بأفكار وعبارات تهيّئ لمنشوراته القبول، فتحظى برضا الجمهور، ولا تستخدم في اضطهاده، فلا بدّ له من تنكير أفكاره بحذر[3]. والأمر الحقيق بالمعاينة يكمن في تدقيق مجال القراءة، بعدّ المشروع يرمي إلى إدراج الانثربولوجيا والسّياسة السبينوزيّتَين، بالمساوقة بينهما ضمن النّسق السبينوزيّ العام[4]، من أجل ذلك يجدر بنا - إذا ما رمنا بمطلوبنا - أن نشير إلى أنّ هذه القراءة الجديدة ستعطي الأولويّة لنصّ "الإيتيقا"، مع الاستعانة بـ"الرّسالة اللاهوتيّة السياسيّة" و"الرسالة السياسيّة" لتسليط الأضواء عليه.
تخطيط الكتاب:
انبنى الكتاب على باب أوّل؛ تحت عنوان "الأنثربولوجيا السياسيّة"، وفيه اهتمام بتعيين منزلة الإنسان في الطّبيعة؛ الطبيعة والكوناتوس، وطبيعة الإنسان وقوانينها، والوجود الإنسانيّ بما هو انتشار للرّغبة والإنسان المستلب؛ الحتمية والعبودية، والحرية، والطبيعة.
وباب ثان؛ يحمل عنوان: "السّياسة عند سبينوزا: الدّولة وأسس السّلطة السياسيّة"، اعتنت فيه المؤلّفة بـأسس الدّولة ومسألة العقد الاجتماعيّ عند سبينوزا، والدّولة واستقرار الحكم، ومستقبل المؤسّسات؛ سبينوزا والثّورة.
أمّا الباب الثّالث؛ فقد خصّصته للسياسة السبينوزية: الدّولة والأنظمة السياسيّة، فوقفت عند الأنظمة السياسيّة والنّظام الملكيّ، والنّظام الأرستقراطيّ، والدّيمقراطية السبينوزيّة.
ولأنّ المؤلّفة تريد التطلّع إلى وجود نسق فلسفيّ سياسيّ عند سبينوزا؛ فإنّها تشير إلى أنّه ليس يمكن اختزال هذه الفلسفة السياسيّة في مجرّد أفكار عن السياسة؛ بل إنّها تقوم على تأمّل الطّابع الجوهريّ السياسيّ ذاته..
لقد أنجز سبينوزا هذه الفلسفة السياسيّة، فحاول أن يوضّح - ضمن نسقه الخاصّ - المميّزات المحدّدة للسياسيّ؛ باستخلاص خلفياته الخاصّة، وبالبحث عن "أسسه" في كنه الطبيعة الإنسانيّة، كما ضبط علاقاته مع ما ليس هو السياسيّ، أي مع الدّين والأخلاق؛ بل إنّه ليمكن القول: إنّ سبينوزا قد اعتقد أنّ السياسيّ هو "جوهر"، ومعطى من معطيات الطبيعة الإنسانيّة، فالسياسيّ - في رأيه - هو معطىً أساسيّ من معطيات الوضع الإنسانيّ، بكونه عنصرًا مؤلّفًا للمجتمع.
وعلى هذا، فإذا رمنا اقتفاء خطوات سبينوزا وربط الفلسفة السياسيّة بالنسق، فلا بدّ من خطّة عمل تتمثّل في البحث عن أسس الفلسفة السياسيّة في "الإيتيقا" (حيث تتأكّد العلاقة بين النّسق والسّياسة عند سبينوزا، وتكون أسس السياسة السبينوزيّة جزءًا من الإيتيقا)، وعن مبادئها في "الرّسالة اللّاهوتية السياسيّة"، وعن مقولاتها في "الرّسالة السياسيّة".
ملخّص الكتاب:
قد لا تتأتّى القراءة الرّاهنة لسبينوزا بغير المقابلة والمقارنة بين نصوصه والنّصوص العديدة التي نشأت عنها وحفّت بها أو استثارتها، ومن أجل هذه الغاية؛ ارتأت الباحثة أنّ هذه النّصوص الحوافّ "بدرجة ثانية"؛ هي تعابير متتالية عن مختلف القراءات لمؤلَّفات سبينوزا، وما لا يمكن أن تغفله عين المتأمّل الحصيف؛ أنّها تأويلات لها، ولا يمكننا - حينئذ - وفي هذا الموضع بالذّات، إلّا أن نتدبّر ما كانت المؤلِّفة قد أشارت به علينا من قبل، من أنّ كلّ هذه التأويلات تملك - رغم تنوّعها وتقابلها - أمرًا مشتركًا؛ هو أنّها - في أثناء استكشافها مؤلّفات سبينوزا - تجعل من الميتافيزيقا موضوعها المرموق.
ولأنّ مأرب الباحثة مجاوزة هذه التّأويلات المختزلة والأحادية الاتجاه، تقترح إمكان تناول مذهب سبينوزا تناولًا آخر.
تمهّد فاطمة حداد بكثير من الحماس لقراءة جديدة لسبينوزا، مجرّدة من الأحكام التّقليدية المسبقة، ومستوحاة من منهج التّأويل.
إنّه من الشيّق أن نرافق المؤلّفة أثناء إنجازها قراءة تكشف عن سبينوزا آخر في ثوب متنكّر، وفي هذا السّياق، ونظرًا إلى هذه التأويلات المتعدّدة، بل إلى هذه التّشويهات لفلسفة سبينوزا، أصبحت الحاجة إلى قراءة جديدة حاجة ملحّة[5]، ولأنّ المؤلفة تدرك أنّ التصدّي لهذه المهمّة لا يتسنّى إلّا إذا ما توافرت الرّوح العلميّة، وتؤكّد ضرورة الرّجوع إلى النّصوص.
لقد عاش سبينوزا في زمن الاضطهاد، بالتّالي، اعتقد أنّ العرض المباشر لأفكاره ليس أفضل طريقة لنشرها، وأنّه لا بدّ من الاحتفاظ بها للمقرّبين من أصدقائه، ولم يتستّر سبينوزا عن ازدرائه للإنسان العاميّ، وعن احتراسه من شرّه وجهله وأحكامه المسبقة[6]، فينبغي أن نوجّه إلى "الحشد" من الجهلة الرّسالة التي يقدرون على فهمها، أمّا الفلسفة الحقّ فيجب الاحتفاظ بها للقرّاء الفلاسفة.
إذن، ستذهب الباحثة إلى أنّ حدث الفكر الذي أنبأ به سبينوزا يجد علامة عليه في ما كان قد أسّس من مذهب في الطّبيعة الإنسانيّة، من جهة ما هو الإطار الذي تناول فيه سبينوزا ماهيّة الإنسان ووجوده، ورؤيته للوضع البشريّ عمومًا، ليس هو إطار الإنثربولوجيا فحسب؛ بل هو - كذلك - الإطار السياسيّ، وتصرف المؤلّفة - هنا - همّ بحثها، لتستنتج تفرّع مبحث سبينوزا إلى مستويات ثلاثة: الإنسان في الطّبيعة الكليّة وفي طبيعته الشخصيّة، والإنسان في المجتمع السياسيّ، والإنسان في "المدينة".
ولم تكتف الباحثة بتلمّس مسارب ظلّت مقفلة؛ إنما حاولت فتح مشارف أخرى أكثر أهميّة وأصعب منالًا، يتّضح من خلالها أنّ سبينوزا يقدّم في "الإيتيقا" على أنّه عنصر من عناصرها الأساسيّة، إنثربولوجيا تقوم على رؤية ديناميكيّة للإنسان بوصفه جهدًا ورغبة. إنّ طرافة هذا الابتكار تتراءى في كونه يسمح بالانتباه إلى أنّ سبينوزا يرتّب خطابه بالنّظر إلى أنواع أخرى من الخطاب؛ فهو، إذ ينقدها أو يفنّدها، يرسم حدود حقله الأبستمولوجي الخاصّ، بالتّالي، لا مناص له من توجيه النّقد إلى فلسفة من نوع الفلسفة الديكارتيّة؛ إذ يقف برنامجه وبرنامجها على طرفَي نقيض؛ فالميتافيزيقا الدّغمائية الديكارتيّة حين تتبنّى وتأخذ على عاتقها المذهب القائل بالإله الحرّ والجوهر اللّامحدود، والإرادة الإنسانيّة اللّامتناهية، وحريّة الاختيار، وهي أقوال ملائمة لتعاليم اللّاهوت، تُبقي الفلسفة في تبعية تامّة للّاهوت[7].
وما علمتنا إيّاه فاطمة حدّاد؛ هو أنّ لهذا مسوّغًا مشروعًا ومبررًا، بيانه أنّ سبينوزا يريد أن يحرّر الفلسفة من الرّبقة اللاهوتيّة السياسيّة.
واشتغالًا بالتّلفت إلى الغرض الذي هي آخذة في صوغه، توضّح الباحثة أنّ طرح سبينوزا يقف ضدّ التصوّرات اللّاهوتية للسنّة اليهوديّة - المسيحيّة، التي ترى في الإنسان كائنًا استثنائيًّا، سواء تصوّرناه حيوانًا أرقى من بقية الكائنات الحيّة، أو كائنًا اختاره الربّ وأنتجه ليضعه في طريق الخلاص، أو تصوّرنا إنسانيّته حدثًا مترتّبًا عن الخطيئة؛ حيث يندرج في التّاريخ بوصفه خرقًا للقانون الإلهيّ، بحيث يبقى الإنسان - بعد الخطيئة - في حالة مستمرّة من الإثم والخطأ[8].
لا مندوحة من القول: لقد كان إبصار فاطمة حداد بالفروق "بينهم" وبين سبينوزا في التّعليل دقيقًا، فاستطاعت أن تلاحظ أنّ قوّة تفكير سبينوزا إنّما تظهر في نزعته الطّبيعوية، وفي تصوّره للإنسان كائن رغبة ووعي، في عصر طغت فيه التقاليد الدينيّة والتّعاليم الفيزيائية والميتافيزيقيّة الديكارتية، وشهد إرهاصات العلوم البيولوجيّة الأولى؛ لذلك لا فكاك من الإقرار بأنّ سبينوزا كان به من الجسارة ما جعله يتحدّى هذه المذاهب والتّقاليد[9].
نتبيّن ممّا تقدّم؛ أنّ الباحثة حرصت على الوقوف عند استنتاج مفاده أن سبينوزا كانثربولوجي سابق لأوانه، يرمي عرض الحائط كلّ دراسة للطّبيعة الإنسانيّة تقوم على أحكام أخلاقيّة مسبقة، ويرفض تقييم سلوك الإنسان، قياسًا على سلّم قيميّ أصيل، نزعة ترنسندنتالية ألوهيّة أو نزعة دغمائيّة لاهوتيّة، تؤكّدان بشدّة فساد الطبيعة الإنسانيّة جرّاء الخطيئة الأولى[10].
لقد حاولت المؤلّفة أن ترصد الجذور الأولى لنشأة المسألة، فأرتأت أنّ سبينوزا قد انصرف مبكّرًا إلى التّمييز بين الفلاسفة الطّوباويين ورجالات السّياسة الواقعيّين، وهو ما من شأنه أن يظهر أنّ كلّ مشروع فلسفيّ سياسيّ يتكوّن انطلاقًا من تمشّ نظريّ مماثل لتمشي الفلاسفة، ويتمثّل في إنجاز علم واقعيّ واقعيّة الممارسة التي تسمح بنجاح السّياسيين، تلك هي غاية سبينوزا، ووسيلتها المعرفة الصحيحة بالإنسان، التي تقوم على منهج مستوحى من الواقعيّة المميزة لرجال السّياسة[11].
ولأنّ غرض الباحثة - في هذا المستوى - الظّفر بطبيعة الاعتراضات على طروحات سبينوزا؛ فإنّها تحاول عرضها لمناقشتها، فذكرت أنّ بعض نقّاد فلسفة سبينوزا حاولوا أن يبيّنوا أنّه أراد بناء "هندسة أخلاقيّة" و"ميكانيكا الحياة الاجتماعيّة"، ولم يفلح في ذلك؛ لأنّ مذهبه العقلانيّ غير قادر على تعليل الواقع اللّاعقلاني.
فتلوذ فاطمة حداد بما يشير من داخل المتن السبينوزي إلى أنّ البشر لا يستطيعون - في معظمهم - إطاعة ما يقرّره العقل، إنّهم - في معظمهم - يعيشون حياة لا تكون مطابقة للعقل[12]، ولتوضيح ما هو شاقٌّ وغامضٌ من قول سبينوزا الثّقيل تذهب إلى أنّه وإن كان يذكّر بعجز الطبيعة الإنسانيّة، فإنّه لا يقصد بذلك إحباط النّاس وهم يجدّون في فعل الخير؛ إنّما همّه الوحيد أن يسير إليهم بأساليب وسبل السّعادة والخلاص الحقيقيَّين.
ومن فرط ألفتها لنصّ سبينوزا ودرك مسالكه، رغم التوعّر والتصعّب، تبيّن لها أنّه يومئ إلى الكشف عن أسرار تدبير الأهواء والعواطف وإدارتها، فهناك فن ّ للحكم في الأهواء مثلما يوجد فنّ للحكم في النّاس، ويوجد فنّ لتقدير القوى المتواجهة ودعم مناطق الضّعف، ووضع إستراتيجيّة وسياسة للتحكّم في الأهواء دون القضاء عليها؛ لأنّ القضاء عليها محال[13]؛ إذ لا يمكن قهر الآراء والأفكار والمعتقدات باستخدام القوّة، والدّولة التي تريد أن تمنع المواطنين من التّفكير فيما يفكّرون، إنّما تقدم على مهمّة حمقاء.
وبعد البحث في أسباب عجز البشر وتقلّبهم وجهلهم لما يقتضيه العقل، يشرع سبينوزا في تحسّس قصد بليغ الدّلالة إلى سبل تحرّرهم، وهو يدرك أنّ هذه السّبل، وإن كانت كلّها تمرّ عبر العواطف؛ فهي تنطلق جميعًا من الكوناتوس، أو من الجهد الذي يبذله كلّ واحد للاستمرار في وجوده، كما يدرك أنّ بعض هذه السّبل - وهي الأكثر أمانًا - في اقتضاء العقل [14]، والعقل أداة حفظ الإنسان لكيانه وقدرته وأداة تحرّره، إلّا أنّه لا يتبنّى المشروع التقليديّ لكافّة الأخلاقيّين الذين يحرّضون الإنسان على عدم الانصياع لميولهم وعلى ممارسة اختيارهم الحرّ في مقاومة الأهواء، فرغم استخدامه لمعجميّة مماثلة - في الظّاهر - لمعجميّة أسلافه، إلّا أنّ سبينوزا يقف ضدّهم، ويدعو إلى تحصيل نوعٍ من المعرفة يخوّل تطوير العقل حتّى يصبح قادرًا على ممارسة كامل قدراته، كلّما كان العمل بذلك واجبًا[15].
لقد سعت المؤلّفة بهمّة عالية نادرة إلى تتبّع خطى سبينوزا، وهو يقوم بنوع من الجنيالوجيا الأخلاقيّة، ويكشف عن المنشأ الاجتماعيّ والسياسيّ لبعض المعاني الأخلاقيّة؛ كمعاني العدل والظّلم والإثم والاستحقاق، فيجرّدها من قداستها، ويبرز طابعها السياسيّ والقانونيّ والشرعيّ والاجتماعيّ[16]، وارتأت بلغة هو صانعها أنّها معانٍ تتعلّق بحالة الإنسان الاجتماعيّة، وبالدولة الموسومة بواقع تاريخيّ يملك القدرة، بالتّالي، الحقّ كي يستخدم عنفًا أشدّ من عنف الأشخاص الخاضعين لأهوائهم، حتّى يرغموا على الانضباط والاتّحاد، ويمنعوا من الاقتتال، ولم يعد هناك تأكيد لأسس الدّولة بقدر ما أصبح تأكيدًا لنشأة المعاني الأخلاقيّة؛ إذ يجرّدها سبينوزا من طابعها المطلق والمتعالي والمقدّس، ليكشف عن مصدرها الإنسانيّ - الاجتماعيّ والسياسيّ، فهي معان يربطها رابط وطيد بالنسبيّ والخارجيّ؛ إذ لا تعبّر عن طبيعة الشّيء بقدر ما تعبّر عن رأينا في الشّيء، وهكذا يبدو أنّ هذه المعاني - في منشئها - ليست كليّة، ولا ذات أسٍّ أنطولوجيّ، ولا هي مطلقة مثلما تؤكّد على ذلك التّقاليد الدينيّة (اليهوديّة - المسيحيّة)، أو الفلسفيّة (الأفلاطونيّة والأرسطيّة والرواقيّة)، إنّما هي "مستحدثات اجتماعيّة" من إنتاج المجتمع المدنيّ السياسيّ، وهي - باختصار - من إنتاج الدّولة[17]. ويؤكّد سبينوزا على أنّ هذه المعاني الأخلاقيّة لا تعود إلى فعل أو تدخّل إلهيّ ما؛ بل هي من إنتاج المجتمع، ومن أوهام الفكر الإنسانيّ[18].
لقد اهتدت فاطمة حداد إلى أنّ سبينوزا يعدّ السّياسة - أوّلًا وأساسًا - علمًا يسمح بتنظيم المجتمع الإنسانيّ بما يجعل البشر متأهلين، إن ليس للإيتيقا، فلخلاصهم على الأقل، ويرى سبينوزا أنّ السّياسة هي ما يسمح بتأسيس مجتمع مدنيّ يعيش النّاس داخله في تآزر ووئام، متجاوزين حالة العنف الطبيعيّة؛ فالمجتمع، في تقديره، نظام تربويّ محكم ينمّي طبيعتهم العقليّة والعاطفيّة والجسديّة[19].
لقد توضّح للباحثة وهي تحاول بلورة الإشكاليّة التي اهتجس بها عملها؛ أنّ سبينوزا قد أراد أن يستنبط نظريّة سياسيّة انطلاقًا من وضع الطبيعة الإنسانيّة ذاتها، مع عدّ السّياسة علمًا وأيّ علم، إنّها أكثر العلوم قربًا من الممارسة، فكان مستهلّ المبحث الذي خصّصه لعلمه السياسيّ تحليلًا للوقائع، وهذه الوقائع إنّما هي وقائع الطبيعة الإنسانيّة.
إذن، لا بدّ من إقامة رابطة عقليّة بين معطيات العاطفة وطبيعة البشر من جهة، وعناصر العلم السياسيّ من جهة ثانية، بما هو علم عمليّ يقوم على الملاحظة الموضوعيّة للطبيعة الإنسانيّة[20].
على هذا النحو يستقيم علم السّياسة لدى سبينوزا علمًا صحيحًا من حيث تمشّيه، و"علمًا تجريبيًّا" من حيث منهجه؛ أي أنّه علم طبيعيّ يقوم على ملاحظة الوقائع، وعلى الاستدلال الاستنتاجيّ، وعلم براغماتي من حيث غائيّته[21].
وطيّ وصفه للانتقال الضروريّ من الحالة الطبيعيّة إلى المجتمع السياسيّ بفضل التّعاقد والاشتراك تحت سلطة قانون مشترك، يوضّح سبينوزا أنّ الإنسان متقلّب بالتّأكيد، وأنه قليل الوفاء في الحالة الطّبيعيّة، لكنّ سلطة المجتمع المدنيّ والخوف من القصاص يجعلانه يفي بوعوده، يتصرّف بنيّة حسنة[22].
وعلى هذا النّحو؛ فإنّ دوافع العقد الاجتماعيّ دوافع أنانيّة بالأساس، إنّها تترتب كلّها عن رغبة الناس في تحقيق مصالحهم الشخصيّة؛ أي أن ما يوجّههم، إنّما هو الرّغبة في حفظ الذّات بما هي رغبة تتأصّل في الكوناتوس، فيتّفق النّاس فيما بينهم، ويبرمون تعاقدًا - اجتماعيًّا - يدفعهم إليه قانون طبيعيّ، مفاده أنّه "لا أحد يتخلّى عن أمر ما، إلّا أملًا في خير أعظم منه، أو خوفًا من ضررٍ لاحقٍ"[23].
والطّريف أن يصبح الميثاق الاجتماعيّ ممكنًا عندما يعترف بسموّ العقل على الرّغبة البسيطة بتحويل الإنسان الطبيعيّ إلى إنسان اجتماعيّ، والطّريف - أيضًا - أن يتحوّل هذا الإنسان الاجتماعيّ لاحقًا إلى إنسان إيتيقيّ، وفي الواقع؛ فإنّ الإنسان، مع أنّه كائن رغبة، ومع أنّه أنانيّ، فإنّه لا يكفّ عن أن يكون صاحب عقل، وإنّ اقتران الرغبة والعقل هو ما يسمح للإنسان ببناء نظام اجتماعيّ ونظام سياسيّ[24].
وهكذا يكون الآن حريًّا بالباحثة أن تشير إلى أنّ الميثاق الاجتماعيّ - تمامًا مثل أيّ نوع من التّعاقد - يكون صالحًا عندما يكون ملائمًا لمصلحة المتعاقدين، فهذا القانون صالح ليس فقط في طور الطّبيعة حيث يستحدث الوجود الذي ينظّمه الحقّ الطّبيعي؛ بل - أيضًا - بتنظيمه للميثاق الذي يتأسّس وفق مقتضاه المجتمع السياسيّ، فإذا كان هذا التّأسيس ممكنًا، فلأنّ الإنسان يملك عقلًا؛ بل لأنّه قادر على أن يحسب بحصافة[25]، وأن يفهم أّنّ مؤسّسة الدّولة مفيدة جدًّا للنّاس، وأنّها - في ذات الوقت - تفرض عليهم فرضًا، ذلك لأنّ المجتمع المنظّم - أو الدّولة - هما "الخير الأعظم"[26].
ولأنّ أفق التّساؤل الفارط عن العقد في ارتباطه بأفق التّساؤل عن المجتمع السياسيّ يتجلّى للمؤلّفة ظاهرًا من خلال نصّ سبينوزا أن الطّاعة السياسيّة، تكون معقولة بقدر ما تكون الدّولة ذاتها معقولة؛ فالدّولة - أيّ السّلطة العلية - لا تجرؤ على إعطاء أوامر غير معقولة، وإلّا تصرّفت ضدّ مصلحتها الشخصيّة. ولأنّ الدّولة ليست كيانًا اصطلاحيًّا واصطناعيًّا؛ فهي قائمة في الطّبيعة والعقل معًا، وإذا كانت قائمة في الطّبيعة؛ فلكونها تستجيب لحاجيات الإنسان الأساسيّة؛ تستجيب - أوّلًا - لحاجة العيش والبقاء؛ إذ يعوّل الناس على بعضهم، ويتقاسمون العمل بالضّرورة، وتستجيب - ثانيًا - لمطلب الأمن.
فالناس يرغبون - بالسّليقة - في التآنس؛ بل من المحال أن يتحمّلوا العزلة، ثمّ إنّهم في حاجة إلى التّواصل والطّموح والمجد.
ولئن وطّأت الباحثة لموضوعها مرارًا، فإنّ ذلك إنّما كان لغرض نقديّ ترمي إليه، وقد عثرت على منابته في تحليل سبينوزا لأسباب فساد السّياسة، وتحوّلها المرضي إلى حكم مطلق؛ إذ يشير سبينوزا إلى جهل المواطنين، وتفكيرهم الخرافيّ، واستغلال السلطة للدّيانة الباطلة عندما أصبح الكتاب المقدّس والعقيدة وسائل للاستعباد، فالذين اغتصبوا السّلطة حاولوا - دائمًا - أن يضمنوا بقاءهم بإقناع شعوبهم بأنّهم من طينة الآلهة الخالدة.
إنّ طرافة سبينوزا تتمثّل في نقله لتصوّر إيتيقيّ إلى الصّعيد السياسيّ، وفي الانطلاق من قانون يتعلّق بسلوك الفرد لاستقراء قانون يتعلّق بالسلطة السياسيّة وتوازنها، فإذا تمّ إغفال هذا القانون أو خرقه خربت الدّولة وهلكت، لم يفت الباحثة - هنا - الإشارة إلى راهنيّة تعاليم سبينوزا، معتمدةً في ذلك على أنّ الإفراط في القوّة يؤول إلى خراب كلّ قوّة، وأنّ الإفراط في السّلطة يعود بالوبال[27].
وليس مقصود المؤلّفة إلّا رديفًا لمعنى تمّ استخلاصه في التّاريخ، مفاده؛ أنّه بفضل التّقاليد والشّعائر والقوانين والقواعد والمحرّمات والمقدّسات، تشتغل آليّة التّرويض لإرغام النّاس على الخضوع، وعلى الطّاعة السياسيّة، فبهذه الصّورة تتأسّس السّلطة، وتفرض نفسها على الإرادات الفرديّة، وترغمها على الخضوع للأوامر[28].
وارتباطًا بحسّها النقديّ؛ تذهب الباحثة إلى ضرورة ألّا نعطي لنصّ سبينوزا أيّ بعدٍ تمجيديّ، بقدر ما يجب التأكيد على تصوّر سبينوزا للسّياسة بانّها علم مطبّق لا شأن له - ولا علاقة - باليوطوبيا.
تعليقات نقديّة:
انطلاقًا من التّحليلات والاستنتاجات التي وقفت عندها المؤلّفة؛ يتبيّن أنّ فاطمة حدّاد تقرّ بأنّ كلّ الذين كتبوا عن فلسفة سبينوزا السّياسيّة - رغم تباين مقارباتهم واختلاف تقديرهم النّهائي لأبعادها النظريّة - اتّفقوا في أمرين اثنين:
الأوّل؛ أنّ النّظام الأفضل - في نظر سبينوزا - هو النظام الديمقراطيّ، والثّاني؛ غياب عرضٍ منظّم للحكم الديمقراطيّ في "الرّسالة السياسيّة"، على منوال العرضين اللّذين قدّمهما عن الحكمين الملكيّ والأرستقراطيّ، وهاتان النّقطتان اللتان يتّفق حولهما كلّ شارحي فلسفة سبينوزا السياسيّة تعبّران عن مفارقة لا بدّ من الإشارة إليها، وعن شذوذ جعل بعضهم ينظر إلى سبينوزا على أنّه لم يأتِ بأمر ذي قيمة في مجال الفلسفة السياسيّة، أمّا وجه المفارقة؛ فيتمثل في التّناقض السّافر بين الأهميّة التي يوليها سبينوزا للنظام الديمقراطيّ، وشحّ - أو ندرة - النّصوص التي تعرض تصوّر سبينوزا للدّيمقراطية[29].
كما لم يفت الدّارسة أن تشير إلى ما درج عليه بعض مؤرّخي الفلسفة من تأكيدٍ لتهافت مذهب سبينوزا "الطبيعيّ"، وهو ينظر إلى الإنسان على أنّه كائن طبيعيّ تحرّكه غريزة أنانيّة، ولا يعدو عقله أن يكون إلّا أداة للرّغبة، وفي خدمة غاية؛ هي حفظ الذّات من جهة، ثمّ لا يفتأ يعلن - مع ذلك - عن رغبته في تحرير الإنسان من عبوديّة الأهواء، بفضل معرفته بقوانين الطّبيعة وفهمه للكون ولذاته[30].
كما دقّقت فاطمة حدّاد النّظر فيما دأب بعض مؤرّخي فلسفة سبينوزا - إبّان دراستهم لمذهبه - على عدّه عيبًا في نسقه، مبيّنين أنّ قسم الإيتيقا من تلك الفلسفة يتأسّس على الميتافيزيقا، بالتّالي، يشاركها مزاياها وعيوبها.
لقد أفلح مترجمّ الكتاب - إلى حدّ مدهش - في مصاحبة نصّ الباحثة، واستدعائه إلينا، وبرهن على قدرة العربيّة على التكلّم سبينوزيًّا متى أتقن المترجم لغة المصدر إتقانه للّغة المنقول إليها، مدركًا أنّه يتّجه إلى متلقّ جديد بتلفّظ جديد منصهر في سياق حضاريّ جديد، ذي دراية بمسالك التصرّف في الألفاظ والمعاني والتراكيب، سمحت له بابتداع نصّ أصيل جديد حديث، وفي ذلك درجات من الجهد لا يسعنا إلّا أن ننوّه بها - رغم بعض التكلّف أحيانًا - فأن نترجم يعني أن نمتحن قدرتنا على تحمّل رؤية الآخر لنا، لكن كحديث داخليٍّ عميقٍ في صلب أنفسنا[31].
وهكذا، وفي أثناء قراءتك لمثل هكذا ترجمات يشدّك مخزون ابداعات هائل، يشرح أزمة البدء، وفي يتراءى في أفقه إمكان طرح المزيد من قضايانا، وفظاعة بعض مآسينا التي يزداد وطؤها.
[1]- Fatma Haddad - Chamakh, Philosophie systématique et système de philosophie politique chez Spinoza, Faculté des Lettres et Sciences Humaines de Tunis 1980.
[2]- انظر: فاطمة حداد- الشّامخ، الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السياسيّة عند سبينوزا، ترجمة: جلال الدين سعيد، مراجعة: صالح مصباح، مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدّراسات والأبحاث، الرّباط، الطّبعة الثانية, 2017م، ص 22
[3] -L. Strauss, Persecution and the Art of writing, pp, 148
[4]- المصدر نفسه، ص 21
[5]- المصدر نفسه، ص 15.
[6]- المصدر نفسه، ص 19.
[7]- المصدر نفسه، ص 48.
[8]- المصدر نفسه، ص 49.
[9]- M. Guéroult, Spinoza, L’Ame (Ethique2) ch., 6 para, 18 et 22 cf, aussi. G. Deleuze, Spinoza et le problème de l’expression pp206- 209.
[10]- المصدر نفسه، ص 69.
[11]- المصدر نفسه، ص 57.
[12]- انظر: سبينوزا، رسالة في اللّاهوت والسّياسة، الفصل الرّابع.
[13]- انظر: فاطمة حدّاد- الشّامخ، المصدر نفسه، ص 103.
[14]- انظر: فاطمة حدّاد- الشّامخ، المصدر نفسه، ص 112.
[15]- المصدر نفسه، ص 113.
[16]- المصدر نفسه، ص 128.
[17]- المصدر نفسه، ص 129.
[18]- المصدر نفسه، ص 129.
[19]- المصدر نفسه، ص 162.
[20]- المصدر نفسه، ص 168.
[21]- المصدر نفسه، ص 168
[22]- سبينوزا، رسالة في اللّاهوت والسّياسة، الفصل 5، ص ص 685- 648.
[23]- سبينوزا، رسالة في اللّاهوت والسّياسة، الفصل 16، ص 828.
[24]- سبينوزا، الإيتيقا، الباب الرّابع، القضيّة 18، الحاشية.
[25]- Cf, S, Zac, L’idéé de vie dans la philosophie de Spinoza, ch VIII pp 221 - 225.
[26]- سبينوزا، رسالة في اللّاهوت والسّياسة، الفصل 16، ص 829.
[27]- فاطمة حدّاد - الشّامخ، المصدر نفسه، ص 244.
[28]- المصدر نفسه، ص 255.
[29]- انظر، فاطمة حداد- الشامخ- (المصدر هو هو) ص 399.
[30]- انظر، فاطمة حداد- الشامخ- (المصدر هو هو) ص 133.
[31]- انظر: فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح، أسئلة الهويّة في الفلسفة المعاصرة، منشورات ضفاف، الطّبعة الأولى، بيروت، 2013م، ص 102.