في المسار السوسيولوجي لمحمد جسوس


فئة :  مقالات

في المسار السوسيولوجي لمحمد جسوس

في المسار السوسيولوجي لمحمد جسوس

استهلال

يعدّ محمد جسوس، الرجل الزاهد في عمله الثقافي والسياسي، واحدا من الرواد المؤسسين لعلم الاجتماع في المغرب. قاد مشروعا فكريا طلائعيا، فضل أن يموقع نفسه فيه كأستاذ فقط، متمسكا بالفكرة القائلة إن "التجربة بلا نظرية، عمياء، والنظرية بلا تجربة عرجاء"، لبناء مشروعه العلمي والسياسي.

لقد كرس الراحل حياته للتدريس، بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات معرفية وأخلاقية، وظل منكبًّا على توجبه طلبته للاشتغال على إشكاليات سوسيولوجية تهم تحولات المجتمع المغربي. مع الحرص على أهمية الربط المنطقي والجدلي بين النظرية والبحث الميداني. علما أن الراحل لم يبخل يوما بوقته لطلبته وفتح باب منزله ومكتبته أمامهم.

لم يترك محمد جسوس أعمالا مكتوبة، تشهد له كما ينبغي على حجم عطاءاته وإسهاماته الكبيرة في التأسيس للسوسيولوجيا المغربية، لكونه كما يقول هوعن نفسه، مصاب "بنوع من "الشلل" في الكتابة". فالجميع يشهد له على أنه يتيسر له إلقاء عرض شفوي في قضايا نظرية وسياسية شائكة بتسلسل منطقي منظم ومحكم، وبوتائر ونبرات مختلفة، أكثر من إنتاج نص مكتوب على الورق. لقد كان الراحل، سواء في دروسه التي يلقيها في قاعة الدرس، أو في مناسبات ولقاءات فكرية، يسترسل في مناقشة قضايا فكرية وإشكالات نظرية شائكة على المستوى الإبستيمولوجي، بطريقة محبوكة وبلغة غنية ودقيقة يمزج فيها بين روافد ثقافة القرويين وثقافة الحس المشترك باللغة الأكاديمية العالمة. علما أن "خصومته" مع الكتابة على الورق، تماثلها "خصومته" مع الرقن باستعمال آلات الكتابة.

ولتقريب فكر وإسهامات محمد جسوس في مجال تخصصه إلى المهتمين، بادر العديد من الباحثين والمهتمين وطلبته بالمساهمة في هذا المبتغى، بجمع دروسه وعروضه ومداخلاته الفكرية لتوثيق رصيده العلمي ووضعه بين أيدي القراء. ندكر من بين تلك المبادرات، على سبيل المثال لا الحصر، مبادرة كل من إدريس بن سعيد، مصطفى محسن، نجيب الخدي وآخرون.[1]

ومن أجل تحقيق نفس الغاية المشار إليها، بادر السوسيولوجي المغربي عمر بن عياش إلى إعداد وتنسيق كتاب (محمد جسوس من القرويين إلى برينستون.. (سيرة ذاتية))[2]، وهو عمل صدر أخيرا ضمن منشورات الجمعية المغربية لعلم الاجتماع التي كان الراحل من بين مؤسسيها.

ضم هذا الإصدار بين دفتيه "حوار شفهي مطول، سبق أن أجراه معه الإعلامي الأستاذ عبد الكريم الأمراني، وتم نشره على حلقات في جريدة "الأحداث المغربية""[3]، وهي شهادات قيمة موزعة على 31 عنوانا فرعيا غطت بعضا من جوانب المسارات الحياتية والمعرفية الغنية لمحمد جسوس، مع فهرست المحتويات، وتقديم للكتاب وضعه الأستاذ محمد المرجان، بالإضافة إلى كلمة شكر وتنويه باسم الجمعية المغربية لعلم الاجتماع من معد الكتاب إلى كل من الأستاذ عبد الكريم الأمراني الذي أجري الحوار، وجريدة "الأحداث المغربية" التي أعطت الموافقة على إعادة نشره. وصدرت هذه الطبعة الأولى في شهر مارس 2024 عن مطبعة دار المناهل في 152 صفحة.

ونثمن عاليا هذا الصنف من الإصدارات التي تمنح للمهتمين بعلم الاجتماع وللقراء عموما، فرصة استحضار جزء من المسارات المعرفية للمفكرين المغاربة والاطلاع على مشاريعهم الثقافية الطلائعية في مناخ فكري اتسم آنذاك بالصراع بين تيارات تمتلك خطابات متنافرة، سواء باسم الدين والهوية أو باسم الحداثة المصاغة وفق تصورات وقوالب نظرية جاهزة.

ونتوخى من خلال هذه القراءة التركيبية، تسليط الضوء على محتويات هذا الإصدار، مع إغنائها بمعلومات ومعطيات وأفكار نستشفها من مسار الحياة الفكرية للراحل. خصوصا وأنه يقدم شهاداته بكثير من التفصيل المفيد الذي يمزج بين السرد والتحليل لحقائق وأحداث طبعت مسار حياته المدرسية والجامعية.

"الأنا" المخادع لأحد "الصلحاء الحداثيين"

الحديث عن "الأنا"، في نظر محمد جسوس، لن يكون بالضرورة خطابا بريئا، فقد يكون حديثا عن جماعة، عن طبقة أو عن فئة اجتماعية، خصوصا وأن التنشئة الاجتماعية للفرد داخل المجتمع المغربي تتسم بالقمع، مما يؤدي إلى حصول الأفراد على "حد أدنى من الاستقلال الذاتي، ومن الوعي بالذات، خاصة إذا نظرنا إلى الاستقلال الذاتي، باعتباره قيمة مجتمعية ".[4]

ويضيف جسوس، إن الحديث عن السيرة الذاتية للأشخاص هو حديث عن المجتمع وعن بنياته، حديث عن القوى التي تتحكم في مآلات الأفراد والجماعات. حديث عن فرد يرتبط، في نظره، على المستويين العضوي والسيميولوجي بجماعة الانتماء، ليمتد ارتباطه من مستواه الميكروسوسيولوجي إلى مستواه الماكروسوسيولوجي، مع خضوع ما يسميه "بالنحنوات" للتجاذب فيما بينها، بين التقليدية منها والجديدة.

ويلاحظ أن من بين "النحنوات" التي تؤثر على المثقف المغربي، كما هو الحال بالنسبة إليه، هناك "العلاقة بأجهزة الدولة والسلطة، والعلاقة بمؤسسات مثل المدرسة، ومنها العلاقة بالحركة الوطنية، والعلاقة مع اليسار والمعارضة، والعلاقة مع الجامعة، ومع الحزب والنقابة."[5]، لتصبح في نظره علاقة الفرد بهذه الأطر المرجعية من مؤسسات وبنيات جماعية عوامل لتحديد "الأنا" الفردية، تلك الأنا التي يرى بأنها تذوب وتنمحي، "كما الحال في البادية قديما؛ الشخص هو ابن عائلة وابن قبيلة، والقبيلة يمكن أن تنتقل إلى مستوى الأحلاف القبلية، ولكنه ابن القبيلة بالأساس، وهو بالتالي مرتبط بالعصبية القبلية...إلخ"[6]. هكذا يستنتج جسوس أن الحديث عن الذات لأمر صعب في الثقافة العربية الإسلامية، لكونها تذوب في الجماعة وفي أطرها المرجعية. وهذه المفارقة بالنسبة إليه تستدعي الدراسة والتمحيص.

ومن خلال حديثه عن "قاع فاس"، مكان ولادته، يرى جسوس أن المجالات الاجتماعية المغلقة في المدن التاريخية بالمغرب، تعمل بمنظوماتها الثقافية على تسريع عملية الادماج الاجتماعي وصهر هوية الافراد الثقافية، كما هو حال منظومة مدينة فاس القديمة خلال الحقبة الاستعمارية، حيث "إن مفهوم "الفاسي" لم يكن مفهوما جغرافيا، بقدر ما كان مفهوما ثقافيا".[7]

ومن خلال حديثه عن والديه، ومن ثمة عن النظم الاجتماعية التقليدية التي تعطي للأب أسبقية في تشكيل هوية الفرد داخل المجتمع المغربي، تساهم ما سماه "بالأمومة الاجتماعية للأم" بشكل كبير في خلق التوازن لهوية الفرد داخل الأسر الكبيرة، حيث يؤدي تعدد الصلات الاجتماعية بين أفرادها إلى تقلص الاحتكار الابوي في نسج هوية الفرد، بفضل تمتين الرابط الاجتماعي لهذا الأخير بأفراد أسرة الأم.

أهمية كل من الرأسمالين الاجتماعي والثقافي في النجاح المدرسي

كانت العائلة الممتدة الفاسية في مغرب ما قبل الاستقلال "تلعب دورا كبيرا في التنشئة الاجتماعية، وخاصة في الدفع بالأطفال، في حالتنا، [حالة اسرة الحاج محمد جسوس] للانفتاح على عالم المستعمر، وعلى العالم الغربي الذي كنا نكتشفه، خاصة مع الحرب العالمية الثانية التي أتذكر نهايتها...ومع بروز الحركة الوطنية المغربية".[8]

يتضح لنا جيدا، أن الأسر الممتدة في الوسط الحضري الفاسي، عملت على تيسير النجاح المدرسي لأبنائها بنشرها لقيم التنافس. والرهان على المدرسة هو أيضا رهان على الرفع من رأسمالها الرمزي ومن مكانتها الاجتماعية، في وسط تلعب فيه المنظومة الثقافية دورا مركزيا في نسج هوية الفرد الممثل للأسرة.

ويسرد جسوس كيف يبدأ المسار المدرسي بالكتاب أو "المسيد" لحفظ القران، ثم الانتقال سواء إلى القرويين أو إلى الدراسة في مدارس الأعيان أو في المدارس الحرة التي أنشأها بعض الوطنيين. علما أن بعضا من هذه المدارس الحرة كانت تحظى بعناية السلطان المغربي محمد الخامس. وكان التدريس يتم باللغة العربية باستعمال كتب مدرسية جلبت من المشرق العربي.

ونلاحظ كيف أن الثقافة المشرقية وفدت إلى المغرب حاملة معها المشاريع النهضوية لروادها بالتركيز على التعريب والعروبة والقومية والشورى السياسية، إلخ.

وبالعودة إلى مدارس التعليم الحر، وإلى ما كانت توفره من فرص لتحقيق النجاح المدرسي والارتقاء الاجتماعي، يقول محمد جسوس: "كانت ثانوية مولاي إدريس، في تلك الفترة عالما قائما بذاته...كانت عالم الانفتاح على الحضارة الغربية بصفة عامة والفرنسية بخاصة، وعالم الانفتاح على الحركة الوطنية."[9]

هي حصص أريد بهما بناء الثقافة الوطنية ومواجهة ثقافة التغريب الاستعمارية. وشكل هذا النظام من التنشئة الاجتماعية موردا مهما لتدعيم رهانات الحركة الوطنية المغربية التي استعملت التعليم كواجهة للدفاع عن الهوية الوطنية، فاهتمت بهذا المشروع إلى درجة أن أغلب رجال الحركة الوطنية درسوا في مختلف اسلاك التعليم بالمؤسسات الحرة، مثل مدرسة مولاي إدريس بفاس، مدارس محمد الخامس ومدارس جسوس بالرباط، مدرسة النهضة بسلا، مدرسة الفلاح بالبيضاء وغيرها من المؤسسات في مدن كمراكش ووجدة ومناطق مختلفة من المغرب.

درس محمد جسوس بثانوية مولاي إدريس التي التحق بها تلاميذ من مدن أخرى، خصوصا من تطوان ووجدة وتازة. وكان فكرة النجاح الاجتماعي تقوم على أساس الاستثمار في الرأسمال المدرسي الذي تحول إلى مطلب أسري. يقول جسوس: "كانت النماذج التي تطرح علينا هي نماذج المثقف، الذي تكون ترقيته الاجتماعية ناتجة عن إنجازاته على المستوى الدراسي والمعرفي".[10]

وأن تعدد شبكة العرض المدرسي، مكن من نشر أفكار المدرسين الوطنيين الذين كانت لهم صلة بالفكر السلفي المشرقي كفكر محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم. كما كان الفكر السلفي المغربي كفكر عبد الواحد الفاسي وعبد الله الفاسي والشيخين أبي شعيب الدكالي ومحمد بن جعفر الكتاني يحتك بأفكار الحداثيين، أمثال المهدي بن بركة الذي تزعم في البداية الجناح المتشدد في حزب الاستقلال وقدم قراءة غير سلفية للوجود الفرنسي بالمغرب.

لقد كانت في نظرنا تلك الحقبة من طفولة محمد جسوس حقبة فارقة في مسار الأفراد، فإما الاستفادة مما كانت توفره تلك المدارس الحرة، ببرامجها الفكرية والسياسية المواكبة لحاجيات المرحلة، من فرص للتأهيل لبلوغ دوائر النخب الوطنية، خصوصا بتلقينها تعليما يزاوج بين برامج المدارس القرآنية في الحصص الصباحية والمسائية وبرامج المدرسة الفرنسية خلال النهار، أو الالتحاق بعالم الحرف اليدوية التي يبدو في نظرنا أنه كان ملجأً لمن عشوا تجربة الفشل المدرسي أو ممن انحدروا من أسر لها رأسمال اجتماعي وثقافي أدنى، ويحتل الفرد مراتب أدنى داخل المنظومة بحكم هويته الثقافية المتدنية.

وكما هو متعارف عليه، ساهمت القيادات الوطنية لمغرب ما قبل الاستقلال على الاستثمار في التنظيم التلاميذي، مما سمح لأغلب المتمدرسين الانفتاح على العالم السياسي، ومتابعة ما يجري في الساحة الوطنية والشرق الأوسط وفلسطين والنكبة، وهزيمة العرب في الحرب ومتابعة أحداث المغرب العربي.

كل هذه الأحداث واكبتها الأحزاب السياسية الوطنية كحزب الاستقلال والشورى والحزب الشيوعي، مما ساهم في انتشار أفكارها السياسية، وفتح الاآاق لجيل كامل لمغرب بعيد الاستقلال من دخول المعترك السياسي بما فيهم محمد جسوس.

لقد قاد جسوس الشبيبة الاستقلالية لمدة سنتين من 1955 إلى 1957. وساعدته هذه التجربة في تسهيل وتيسير سفره إلى كندا، بالاتصال ومقابلة "في يوم واحد، خمسة وزراء (وهذه من الأشياء التي كانت متاحة وقتها، بالنسبة إلى المسؤول الحزبي) ..."[11]. كما عاش تجربة في مجال الصحافة، علما أن والده كان تاجرا صغيرا ضم إلى تجارته بيع الصحف. ومكنته دروس الفلسفة التي تلقاها في الثانوي، من الانفتاح على الثقافة الغربية، خصوصا منها ثقافة الأنوار، انضاف اليها ما وصله من ثقافة القرويين. يقول جسوس: "تعرفت قبل البكالوريا على جان جاك روسو، وعلى فولتير وسبينوزا وكانط وهيغل ...كما تعرفت على كبار الروائيين الفرنسيين...وتعرفت كذلك على كبار الروائيين في الولايات المتحدة"[12].

بالإضافة إلى تلك المعطيات والموارد الثقافية وأهميتها الكبيرة في حياة الراحل جسوس، فإن انتماءه الاجتماعي والرصيد الثقافي لأسرته له أهميته؛ فبالإضافة إلى أهمية المدرسة في مخيال والديه، فبعضا من أعمامه وأخواله كانوا آنذاك إما فقهاء، أو على صلة بكبار الفقهاء في القرويين. وله أفراد آخرون من جهة الأم على صلة كبيرة بالحركة الوطنية وبالعمل السياسي دون أن ننسى وجود مؤسسة تيومليلين للرهبان التي شكلت له جسرا للدراسة بكندا.

الالتحاق بجامعة لافال

غادر محمد جسوس المغرب سنة 1957، مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، وبدأت مرحلة جديدة عرفت أحداثا ومتغيرات كبرى أسست لمغرب اليوم، يقول جسوس إن "المرحلة الحاسمة في تفسير الأوضاع اليوم في المغرب، هي مرحلة نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات. هي المرحلة التي وقع فيها انقلاب في المغرب، وخسرت فيها الحركة الوطنية السلطة السياسية، وأبعدت فيها بصفة نهائية عنها .. إلى أن جاء هذا النوع من المشاركة الحالية، الفوقية..".[13]

التحق الراحل بجامعة لافال، وبغض النظر عن الصعوبات التي واجهها، والتي كان جزء منها مرتبطا بوضعه الصحي، فإن تجربته الجامعية كطالب بشعبة السوسيولوجيا مكنته من إغناء معارفه، والانفتاح على مدارس ونظريات لرواد السوسيولوجيا؛ إذ تعرف على "عدد كبير من الشخصيات الفكرية الفرنسية المهمة، مثل موريس ميرلوبونتي، فرانسوا بيرو، وجورج بالاندي، وجورج غورفيتش. ونفس الشيء لعدد كبير من الباحثين من الولايات المتحدة ..."[14]، كما مكنته حياته الجامعية من معايشة جيل من الكنديين المنظرين لما سمي بالثورة الهادئة La révolution tranquille، التي ستشكل فيما بعد النخبة المثقفة في كندا التي قادت إصلاحات جوهرية بعد وفاة الديكتاتور موريس دوبليس. انكبت على تحديث نظام التعليم والبنيات الاقتصادية، وتنظيم المجال الترابي وإطلاق ثورة ثقافية وإشاعة الحقوق المدنية وغيرها من المشاريع الإصلاحية التي مكنت من التخلص من الطابع الأبوي للنظام القديم ومن سلطة الكنيسة والمثقفين التقليديين.

وبتكليف من المعهد الكندي للأنثروبولوجيا أنجز محمد جسوس دراسة ميدانية حول قبيلة هندو أمريكية بشرق كندا تسمى ميك ماك Les Micmacs أو Mi'kmaq، ويبدو أن هذه السمية تعني الأصدقاء أو الحلفاء بلغة الحرب، وهي قبائل تستوطن المقاطعات البحرية الواقعة في الجنوب الشرقي والساحل الأطلسي لكندا، الذين يتحدثون لغة الكونكين algonkin ويعرف عنها انها قبائل شرسة في وقت الحروب.

ويقول جسوس عن فضائل تجربته البحثية هذه، إن لها "تأثير كبير على تكويني سواء منه النظري أو التطبيقي"[15]؛ اذ فتحت له شهية إنجاز أطروحة لنيل شهادة الميتريز بجامعة لافال كان موضوعها "حضارة القبيلة في المغرب (نموذج سوس)". واستمرت شهية البحث واستمر معه اختيار الدراسة الميدانية للهياكل القبلية، حيث أشرف على تأطير عدد كبير من الأطروحات الجامعية في علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، وعلى سبيل المثال فقط نذكر دراسة رحمة بورقية حول علاقة الدولة بقبائل زمور ودراسة المختار الهراس حول الهياكل القبائل لأنجرة.

الالتحاق بجامعة برينستون

التحق محمد جسوس بجامعة برينستون سنة 1960 قصد الحصول على شهادة الدكتوراه. وعاش تجربته الجامعية الجديدة في منطقة تاريخية تسمى بأمريكا القديمة بولاية بنيوجيرزي، وهي فضاء اجتماعي يقول عنه جسوس أنه متحرر آنذاك نسبيا من التقاليد لصالح الاختيارات الفردية. مجتمع متحرر من الموروثات التاريخية لصالح قيم الرسمالية والحداثة التي بنت على أساسها أمريكا مجتمعا للمعرفة، والذي تطور بفضل النخب التي تتوفر على تخصصات علمية مختلفة، بما في ذلك السوسيولوجيا، والتي هاجرت من بلدان مختلفة خصوصا من أوروبا.

إلى جانب مزايا موقع الجامعة، يستحضر محمد جسوس ما كان يميز نظام التكوين في جامعة برينستون الذي "يعتمد إلى حد كبير على قدرة الطالب على تنظيم دراسته، حيث إن الدراسة في شعبة تتضمن بعض المواد الإجبارية، ولكن عددا كبيرا من المواد يبقى اختياريا(...) مثلا بالنسبة لنا، في علم الاجتماع المواد الإجبارية كانت تتعلق بالنظريات السوسيولوجية والإحصائيات، ومناهج البحث، وكل ماعدا ذلك يترك فيه المجال لكل طالب لكي ينظم مجالات تخصصاته (...) اخترت كتخصصات، السوسيولوجيا السياسية من جهة، وسوسيولوجيا العالم العربي من جهة ثانية، والسوسيولوجيا الصناعية من جهة ثالثة، وأضفت إليها، كاختيار رابع سوسيولوجيا التنمية والتحديث."[16]

كما سمح له، ذلك النظام البيداغوجي من الاطلاع على معارف اتسمت بالتنوع والغنى، تهم بالخصوص نظم اجتماعية وسياسية في مختلف مناطق العالم، كأمريكا اللاتينية وأوروبا والشرق الأوسط والمغرب العربي. وكان لهذا التكوين الغني، الكثير من الفَضائل على تكوين الطلبة بجامعة محمد الخامس بالرباط.

ويستحضر جسوس كيف كانت برينستون فضاء منفتحا على نفسها وعلى العالم، تعتمد نظام الأساتذة الزائرين في التدريس، فيذكر أسماء وازنة كجورج بالاندييه، ازنست غيلنر، الان تورين، كارل بوبر. وبحكم قربها من قلب مدينة نيويورك، يزور الجامعة العديد من الباحثين الأمريكيين وأطر من الإدارة الأمريكية، منهم صحفيون، ديبلوماسيون، وأيضا تزور الجامعة شخصيات أجنبية بمناسبة حضورها اجتماعات الأمم المتحدة أو صندوق النقد الدولي. كل ذلك سمح له بالانفتاح على رؤى ونظريات معرفية وعلى ثقافات مختلفة، مع استمرار نشاطه وسط التنظيمات الثقافية والطلابية داخل الجامعة، بصفته رئيسا لجمعية الطلبة الأفارقة بجامعة برينستون.[17]

وتوج مسار تكوينه ببرينستون، بإنجازه لأطروحة الدكتوراه تحت عنوان: "نظرية التوازن ومسالة تفسير التغير الاجتماعي".

المبادرة الفردية وأهمية الرأسمالين الثقافي والاجتماعي

عاش محمد جسوس طفولة متميزة طبعها تفوقه الدراسي وسط أقرانه في تعليمه الابتدائي والثانوي. ووسط مناخ فكري طبعه فكر الحركة الوطنية المغربية الذي كان حاضرا في الحياة اليومية والمدرسية. وأيضا انشار أفكار سياسية اتسمت بالتعدد لكل من حزب الاستقلال، وحزب الشورى والاستقلال والحزب الشيوعي المغربي. سمح له ذلك بالانخراط مبكرًا في العمل السياسي ثم قيادة الشبيبة الاستقلالية. كما فتح له باب الاتصال ببعض القيادات الوطنية كعلال الفاسي، والمهدي بن بركة وأحمد بلافريج الذي سيوفر له فيما بعد جواز سفر وتذكرة السفر بالطائرة إلى كندا.

يقول جسوس عن المجهودات الشخصية التي بذلها لتيسير سفره إلى كندا: "قابلت في يوم واحد، خمسة وزراء (وهذه الأشياء التي كانت متاحة وقتها، بالنسبة للمسؤول الحزبي)..)".[18]

ويتضح من خلال شهاداته، أن الراحل ظل متميزا في مسار دراسته الجامعية، في كل من جامعتي لافال وبرينستون. وانفتح على مناخ فكري وسياسي متعدد المشارب، ساهم في تكوينه جنبا إلى جنب المعارف الجامعية الأكاديمية. كما كانت جامعة لافال فضاء للنقاش السياسي والفكري، نجد صداه في منشورات ومنابر إعلامية كمجلة "المدينة الحرة Cité libre" التي ساهمت خلال الستينيات في إغناء النقاش حول قضايا الإصلاح والتنمية في كندا، بأبعادها السياسية والاقتصادية والحقوقية.

لقد كان جسوس عنصرا نشيطا ضمن الحركة الطلابية ففي جامعة لافال، التي قضى فيها ثلاث سنوات (من سنة 1957 إلى سنة 1960). وتعرف على جيل من الطلبة الكنديين الذين شكلوا النخبة الجديدة التي ستتولى خلال حقبة الستينيات قيادة ما سمي بالثورة الهادئة Révolution tranquille وستعمل على هيكلة البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لكبيك بزعامة الحزب الليبيرالي، بانكبابها على تحديث الاقتصاد، ودعم التنظيمات المدنية النسائية والشبابية، والتقليص من هيمنة الكنيسة والقوى المحافظة.[19]

وكان قادة تلك الثورة الذين كانوا من أقرب أصدقاء محمد جسوس في الجامعة، أصبحوا سياسيين ونقابيين وفاعلين في المجتمع المدني يذكر منهم، على سبيل المثال اليوت ترودو الذي أصبح وزيرا أول لكندا لولايتين، من سنة 1968 إلى سنة 1979.[20]

أما تجربته في الولايات المتحدة، فقد عاشها الراحل وسط مجتمع أمريكي يعرف آنذاك تحولات عميقة، اتسمت بها ما سمية بمرحلة ما بعد الماكارثية (McCarthyism) بزعامة جوزيف مكارثي، الذي تزعم حركة سنة 1950 لمناهضة وطرد الاشخاص من وظائفهم ومحاكمة كل من يعتبرونه مقربا لموسكو داخل المجتمع الأمريكي من مثقفين ورجال السياسة وغيرهم في غياب أدلة قانونية لإدانتهم. ونشرت الماكارثية الشك والخوف والريبة والتسلط داخل المجتمع الأمريكي. لمواجهة ذلك انتفض مثقفون وسياسيون وأكاديميون وصحافيون ضد الحملات الماكارثية، بتفنيد وتنوير الأمريكيين حول خطورة وزيف المزاعم الماكارثية.

النظرية، البحث الميداني والنضال السياسي

تقوم الممارسة السوسيولوجية في نظر مجمد جسوس، على مبدأ التفاعل بين عناصر ثلاثة: النظرية، المعاينة الميدانية -البحثية والممارسة الاجتماعية التاريخية، يقول: "فكل عنصر يشكل شرطا ضروريا وأساسيا بالنسبة للعناصر الأخرى. فلا خير في سياسة لا تعتمد على أسس نظرية ولا ترتبط بالواقع ومعطياته.. ولا خير في بحث سوسيولوجي لا يرتبط بالاهتمامات والهموم الوطنية.."[21] فبدون هذا الانخراط في الممارسة الاجتماعية التاريخية تصبح المعرفة محتكرة من لدن الأطراف المهيمنة، تخدم بها مصالحها.

ويختلف الراحل عن المواقف التي عبر عنها كل من ماكس فيبر وعبد الله العروي، بترديده بتمسكه وترديده دوما للقول إن "السياسة بدون نظرية عمياء، والنظرية بدون سياسة عرجاء".

إن عزل المثقف لنفسه عن العراك السياسي، أو انزوائه في برجه الأكاديمي، بدعوى استقلاله وحفاظه على "السلطة العلمية". إن هذا الترفع والترف الفكري المقصود لعالم الاجتماع عن المجال السياسي، لهو مجرد "اعتزال" لصالح اللاعبين السياسيين في نظر جسوس. وسيؤدي بالسوسيولوجيا كعلم إلى فقدان تأثيرها العملي داخل الساحة الاجتماعية التاريخية. علما أن النظرية لن يتم إغناؤها والتحقق منها الا بإخضاعها للمعاينة البحثية وللممارسة الاجتماعية.

ويوضح جسوس، كيف أن النظرية السوسيولوجية تعيش حالة من التصدع، نتيجة تصدع المنظومات النظرية الكبرى الي قامت عليها كالتطورية والماركسية والوظيفية والبنيوية. وفي ظل هذه الازمة، «يترك لنا مجالا لكي نساهم في تطوير الفكر الإنساني وإغنائه".[22]

النظرية السوسيولوجية لا تبنى على الشعوذة والدوغمائية

بتواضعه العلمي المعتاد، يقول الراحل إنه لم يبن نظرية سوسيولوجية عامة حول المجتمع المغربي، كما أنه لا يتوفر "على منظومة فكرية عامة" ولكن "السؤال المطروح [كما يقول جسوس] هو هل من الممكن الوصول إلى منظومة فكرية أو منظومة نظرية، بدون الاعتماد على مختلف اشكال التطفل والشعوذة والدوغمائية والأحكام السريعة، وخاصة باستغلال مكانة وسلطة الأستاذ"[23].

معنى ذلك، أن الرجل ليس مثقفا متسرعا في عمله الفكري. إنه رجل زاهد يشتغل بثبات، ولا صلة له بالبراغماتية الأمريكية كما يدعي البعض. كما أنه ليس راغبا في التسويق لنظرية معرفية فضفاضة لطلبته وللوسط الثقافي الذي يشتغل فيه، والذي يحتل فيه مكانة كبيرة جدا. كما إنه ليس طامحا في نجومية أو منصب كيفما كانت فوائده المادية والرمزية. مقابل كل ذلك، يتمسك الرجل باحترام "أخلاقية المهنة" وحاجيات المرحلة تستدعي البناء. لذلك يطرح الأسئلة والكشف عن المفارقات، أكثر مما تستهويه الأجوبة الرخوة والساذجة واعتلاء برج النجومية.

لمواجهة النزعات الدوغمائية والمعارف السطحية التي تم إيجاد صلة لها بعلم الاجتماع داخل الدرس الجامعي، وبالخصوص تلك الواردة من الماركسية والبنيوية. كان لابد من التمسك بالحذر الابستيمولوجي لتوضيح الأشياء، يقول جسوس: "أعتقد أن المثقف الملتزم من واجبه أن يميز بين ما يمكن أن يطرحه من اجتهادات، وبين الحقائق العلمية الثابتة. ما نطرحه على الطلبة هو بالفعل إشكاليات وطروحات واجتهادات"[24]، في ظل سيادة كل من القوالب النظرية الجاهزة "للماركسية الدوغمائية" التي تحولت إلى موضة ثقافية تقفز على الحقائق التاريخية للمجتمع المغربي، وتلك "التفسيرات الماضوية" التي ترى التقدم كسهم يتجه نحو الماضي. في حين، يقول جسوس: "... فلن يستمر الماضي إلا بقدر ما يتجاوب مع وظائف متعلقة بالمنظومة الراهنة، كذلك لن ينفتح المجتمع على إمكانية المثاقفة والتأثيرات الحضارية والثقافية إلا بقدر ما تتعلق تلك التأثيرات ببعض حاجيات ومتطلبات هذا النسق."[25]

وفي نفس السياق ولنفس الغايات، يقول جسوس عن كيفية اشتغاله: "كثيرا من الطلبة يلاحظون أنني بصفة عامة أكتفي بطرح معطيات وتساؤلات، أو على أكبر تقدير أطرح إشكاليات وطروحات، وأن ما أطرحه من أسئلة أكثر مما أقدمه من أجوبة، وحتى الإجابات تبقى جزئية ونسبية.."[26] تفاديا لبناء حقائق معرفية سطحية حول المجتمع المغربي. وبتواضعه المعتاد، يعلق على الأعمال التي أنجزها، فيقول إنها "...تبقى، كيفما كان الأمر، منفتحة للحوار، قابلة للتعديل، قابلة للتفنيد والنقد الذاتي، قابلة حتى للتجاوز. قابلة للتطور وللتكيف الخ. [علما أن]...أسس التطور والتكيف لا يمكن الا ان ترتكز على الأسس الثلاثة: إما الارتكاز على إسهامات نظرية جديدة، أو الارتكاز على معطيات ميدانية جديدة... أو الارتكاز على تجارب نضالية جديدة"[27].

السوسيولوجيا ورهان الثورة الهادئة

من بين رهانات مشروع محمد جسوس هو تطوير المنهجية والمعرفة السوسيولوجية داخل الجامعة المغربية وإشاعة تلك المعرفة داخل المجتمع. وهذا لا يتأتى الا بالتوجه نحو البحث الميداني وربطه بالمكتسبات النظريات الكبرى في علم الاجتماع، ومع باقي العلوم كالأنثروبولوجيا والتاريخ والاقتصاد والعلوم السياسية وغير ذلك. واقتنع جسوس بأهمية السوسيولوجيا التاريخية في دراسة التحولات المجتمعية بالمغرب[28]، وكذلك بأهمية ربط نتائجها النظرية مع الممارسة المدنية والنضال السياسي؛ لأن التمييز، في نظره، بين المجال العلمي والمجال السياسي كما هو الشأن عند عبدالله العروي لا يحبذه. يقول الراحل: "أختلف معه كثيرا .. لأن التجربة علمتني أن المعرفة تقوم على ثلاث أرجل: النظرية من جهة، والمعاينة الميدانية، من جهة ثانية، والممارسة الاجتماعية والتاريخية من جهة ثالثة. وأعتقد ان المعرفة لا تكون سليمة، ومفيدة وناجحة الا بالاعتماد على التفاعل بين هذه الدعائم دون تضخم إحداها على حساب الأخرى."[29]. لذلك ظل مرتبطا عضويا بالعمل السياسي؛ إذ كان فاعلا في أنشطة تنظيمات سياسية ونقابية (نقابة التعليم العالي، الاتحاد المغربي للشغل، المجلس البلدي بالرباط، حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية...). مقتنعا بأن الراحل كان رجلا زاهدا؛ فكل المجالات الفكرية والسياسية التي كان يشتغل فيها، كان حقا يشتغل فيها بالمعنى النبيل؛ اذ كان يقول دائما، بالمعنى الفقهي، "كنديرو الأجر".

في صباح يوم جمعة، غادرنا محمد جسوس

غادرنا أستاذنا محمد جسوس صباح يوم الجمعة، 7 فبراير 2014، عن سن يناهز 76 سنة، بعد مرور حوالي سبعة أشهر فقط على تكريمه من قبل بعض من محبيه ورفاقه وطلبته بالمركز الثقافي أكدال بالرباط.

[1] إدريس بنسعيد، (إعداد وتقديم). محمد جسوس رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب. (الرباط: منشورات وزارة الثقافة، 2003).

- نجيب الخدي، (تنسيق). محمد جسوس قضايا منهجية في البحث السوسيولوجي. (منشورات الجمعية لمغربية لعلم الاجتماع، 2019).

- محسن، مصطفي، جدل السوسيولوجيا والسياسة وحوار النظرية والممارسة في فكر ومسار محمد جسوس: محاولة في التعريف والاعتراف. (سلسلة شرفات 61. الرباط: منشورات الزمن، 2015).

[2] عمر بن عياش، (اعداد وتنسيق). محمد جسوس من القرويين إلى برينستون.. (سيرة ذاتية). (منشورات الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، 2024).

[3] عمر بن عياش، نفس المرجع ص 7

[4] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 15

[5] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 16

[6] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 16

[7] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق ص 19

[8] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 22

[9] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 30

[10] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 31

[11] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 49

[12] عمر بن عياش، نفس الرجع السابق ص ص 36 - 37

[13] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق ص 45

[14] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق ص 58

[15] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق ص 62

[16] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق ص 73

[17] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق ص 68

[18] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 49

[19] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 60

[20] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 59

[21] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق ص 141

[22] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص ص 145.146

[23] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 146

[24] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 147

[25] نجيب الخدي، قضايا منهجية في البحث السوسيولوجي، مطبعة دار المناهل، منشورات الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، 2019، ص 44

[26] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 144

[27] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 147

[28] نجيب الخدي، نفس المرجع السابق، ص 9

[29] عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 141