في ضيافة المعاني الكونية داخل أفقنا الروحي أو فتحي المسكيني مترجماً
فئة : مقالات
في ضيافة المعاني الكونية داخل أفقنا الروحي
أو
فتحي المسكيني مترجماً
"لست بيننا ضيفا ولا غريبا... فلا تترك أبصارنا منذ الآن عطشى إلى ملامح وجهك"
جبران، النبي ص 43
"لطالما تمنّيت لو كانت الجنة مكتبة كبيرة"
بورخيس "مكتبة بابل" Bibliotheque de Babel
"نحن لا نزال ورثة ذلك الأسلوب الذي يتحدد المرء تبعا له بالأمة، التي تستقي هي بدورها سلطتها من تراث يفترض أنه مستمر دونما انقطاع".
إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية ص 23
استهلال:
يتراءى في نصوص "فتحي المسكيني" بهاء انفتاح يوطّأ على نحو الاستشكال لآفاق وحقول جديدة يضيئها إضاءة فذة. ويعتمل فيها حنين غامض إلى المعنى يخترقها اختراقا. وينبئ أنّ من يفكّر يستعمل كلّ العقول التي عرفها، كأنها قطعة من نفسه[1]. وإذا تأمّلنا جيّدا منطلقاته، أدركنا أن في أسئلته استشكال لمعان راسخة واكتشفنا أنّ فعله في القراءة لامع وبارع على نحو لافت جديد، يقطع مع ما سبق، جعل كتاباته وتحليله، نصا مستساغا وذا تأثير مبين. إنه من أولئك الكتّاب الذين يفتحون سياقات قول غير مألوف والسالكون هذا الدرب ليسوا كثر.
وبيّنٌ كلّ البيان أن الفلسفة عنده هي فنّ البحث عن المشترك بين العقول الحرة[2]، إذ قد أصاب الإنسان المعاصر ارتباك فظيع أفقده كل بداهاته الحديثة. ولأن "المسكيني" يصرف همّه إلى توسيع مفهوم الترجمة بدقة وجذرية، فمدار الأمر في أول المطاف وآخره على الهوية ومتاهاتها والحداثة ومطبّاتها، وما أضمرته النصوص.
ولما كنا نريد أن ننظر في الطابع الإشكالي للترجمة عنده - رغم التوعّر والتصعّب -، ملنا نحو تأكيد "المسكيني" أن مفهوم الهوية والحداثة، إنما هو في تواشج لطيف مع الترجمة؛ ذلك أن العنوان العامّ هو تدبّر الذات في عصر "الآخر"[3]، وإنه في أفق هذا الفهم نتساءل: هل طوّر "العرب" عدّتهم المنهجيّة والمفهوميّة وانتقلوا في التعاطي مع تراثهم من التركيز على المضامين إلى العناية بالآليات؟ وهل تملّكوا ما يتيح لهم الخوض في انهمامات الإنسان والمشاركة في التأسيس والتشريع لقيم كونيّة؟
1/ في الفيلسوف هيئة روحية للعصر:
كي نقرأ نصّ "المسكيني" وجب التهيؤ لمغامرة مشرعة على فيوضات معان عارمة ودلالات وفهومات نقديّة لا تنتهي. وكأنك به يسعى إلى فهم ذاته بمزيد فهم النصوص. وإذ قد تبيّن هذا فليس لنا من سبيل غير محاورة متون "المسكيني" وهوامشه ومصنفاته؛ لأنها هي التي تفي بالوجه الذي يبدو في كل مرة أنه هو شأننا معها؛ أي أن ندرك المعنى الذي تفيض به. فنحن إنّما نتشوّف إلى درك قوة الفهم وعمق التأويل والقراءة في تعدّد مستوياتها، وحقيقة ما يطرح وما به يضيء آمالنا؛ ذلك أنه لم يسبق أن نظر إلى القول الفلسفي على أنه صدى لأصوات رنّت في ماض غير متعيّن.
إلا أنه ليس بواجب أن نفصل مع ما سبق فصلا كليا، بل هي أفكار وتجارب نحاول استنظامها - فمن المحتمل أن يحمل مفهوم الاستعادة على معنى النكوص وينسرب ما يفيد منطق الماضوية، ولرد هذا الانسراب – نحن نبين، أنه مفهوم نقدي؛ أي يتحرك ضمن سياق ما يطرأ عليه التاريخ، فإن نحن رمنا- الآن – ارتسام تحديد لمبدأ إعادة النظر هذه، وضحنا أنه ما به نكون قادرين على الترجمة، من جهة ما هي فعل تحويل وتبليغ ووطء أرض لم نجرؤ كثيرا على اقتحامها؛ ذلك أنه في إهداء له رائع ذات كتاب يشير إلى أن الغضب المرح للجموع الحرة علّمنا أن الثورة والحرية والحب أشكال رائعة من الترجمة: "فلنترجم"[4].
إن أقلّ ما يجب على الفلاسفة في هذا العصر أن يبتدئوا به، من هذا الغرض هو أن يسعوا إلى الانتباه والإصغاء. وهو ما لم يكن "المسكيني" غافلا عنه، ولسوف نلحظ أنه سعى بهمّة فريدة عالية إلى إبرازه والإحاطة به، وهو يدرك أن تساؤله عن سرّه إنما هو تساؤل عمّا به يكون الانتماء الجذري إلى النوع الإنساني[5] وإن لم ير بعد وقع مسعاه ومبتغاه.
من المفيد أن نبسط في إسراع وفي غير إفاضة فرضية قديمة في مستواها يظن الظانّ أن لغة آدم في الجنة كانت العربية[6]. ولكن لمعترض أن يعترض: أنه إذا كانت جميع الألسنة متساوية عند الله، ألا يستتبع ذلك أن آدم كان يتكلم جميع الألسنة؟ حالتئذ يطرح أفق لتساؤل طريف وجديد وبعيد الغور: ثم إذا كانت العربية عند بعض المؤلفين هي لسان الجنة فماذا سيكون لسان الهبوط؟[7]
وما يلفت النظر أنه في هذا السياق الدقيق إنما أشار "عبدالفتاح كيليطو" في مقال له صغير وجيّد[8] أنه في زمن البدء كان التعدّد اللّساني هو القاعدة، فكلّ الألسنة كانت مقدسة وكان تعدد اللغات مرادفا للتماسك والتنوع مرادفا للوحدة، وظل آدم وحواء متعددي اللسان، لما طردا من الفردوس ألفيا نفسيهما في عوز تام وفي عري شائن[9]
ولقد نعلم أنّ "إبراهيم" - والذي افتتح بهجرته خطا سرديا جديدا - تخلّى عن ابنه في واد غير ذي زرع فتخلّى إسماعيل عن لسان أبيه، وإذا نحن قلّبنا النظر فسنلاحظ أنه حاول الإنصات إلى امتدادات تلك الصحراء فيه وأن يهجر أباه. فكان اقتضاء لا يمكن الاستعاضة عنه، تمهيّدا لمسار طويل المدى. ولا شك أن القطيعة اللسانية كانت عنيفة وإنّ هذا الإقرار لهو أمر ذو دلالة كبيرة ووجه الدلالة هو أن "إسماعيل "قد اكتسب "العربية" على غير تلقين ولا ترتيب[10] إنه إذن تحول صادر عن تدخّل إلهي.
إنه تحت هدي هذا النحو من التأمل، نحن مدعوون الآن إلى فحص ما لا يمرّ ويمضي، بل ما يبقى ويترسب في أعماق الوجدان. فلينظر المرء فيما ذهب إليه "المسكيني"، حيث بيّن أن "الفيلسوف ليس شخصا، بل رمزاّ أو بنية عامة للنوع الإنساني أو هيئة روحية للعصر أو فرادة حرّة ومتمردة، فنحن يحقّ لنا دوما أن نقتبس من شخصيته المتعددة مقطعا كونيّا لا نحتاج إلى تبرير استضافته في منزل الكينونة الذي يخصّنا"[11].
ولقد أعرب هو نفسه انطلاقا من مقدمات هي غير ما هي لدى غيره، عن ذلك بالقول على نحو جميل "حق عقولنا في المشاركة في ضيافة المعاني الكونية داخل أفقنا الروحي"[12]. عند هذه الدرجة من التفكّر بالترجمة يصل التحيرّ لدى المترجم إلى أقصاه. فلربما أشكل عليك ما كنت تظنه من بديهيات القول "فحين نفكّر نحن نترجم[13]؛ أي نمتلك قدرة تفكير كونية ولدت في أفق أمة "أخرى" ومن ثمة نحن نتحرّر من غربتنا إزاءها"[14].
وقد أفصح عن ذلك بعزمه امتحان هذا السؤال : هل توجد فلسفة عربية معاصرة؟ ليبقى عين الإشكال منبئا عن مدى اقتدارنا احتمال التفكير في مسألة الهوية، وذلك من جهة كونها تصنف عادة بوصفها ظاهرة تاريخيّة أو انثروبولوجية نوعيّة أو عيّنة نفسية تكشف عن مدى انحسار الوعي لدينا[15].
وكأنّنا بـ "المسكيني" يستقصي القول في الأدلة الدالة على ما ذهب إليه غيره من دوامها ويفتتح في الآن عينه قراءته نص الحداثة[16]. وقد أشار إلى أن هؤلاء الحداثيّين قد قرأوا هم أيضا نصوص التراث وهو ما وضّحه في تضاعيف كتاباته مرارا. ولكن لم يبلغهم محجتهم بل إنه كبا بهم فسقطوا، بينما أفاد منه "المسكيني"، وإن ذلك ليس لقصور فيهم بل لاستعصاء هذه المسألة؛ فهي لا تزال مجرّد وعد جميل لم يوف به حتى الآن. وإن السؤال لا ينبجس في حدّته الاستفهامية إلا لدى محاور قد أقام هو نفسه ضمن ضرب من القلق (...) وما الفكر حالتئذ إلا ذلك الذي خيبت ظنّه "سذاجة" التعريفات الأولى[17].
وإنّه لتعاط خلاق مع "النصوص" يضيء على إشكال قلّما أضيء عليه من قبل ويغوص في ثناياها تحليلا، بقدر كبير من العمق الفكري والتأصيل النظري والوعي النقدي الضدّي اللامهادن، يكتب "المسكيني" عن المآلات وعينه على قضايانا تحقيقا لما سماه ذات مناسبة، الانخراط في احتمال حيويّ ومدنيّ جذري لإنسانيتنا كحقل تفكير مستقلّ عن كلّ المشاغل التراثيّة لعقولنا المرهقة بالانتماء[18].
ونرى مفيدًا في القصد الذي يعنينا أن نوضّح أنه وفي ثنايا مؤلفه "الهوية والزمان"- جم الثراء-، يتبوأ مفهوم الترجمة المركوز بإحكام غالبا مكانة ظاهرة؛ ذلك أنهم أصبحوا يعتقدون أنه ليس لـ"الآخر" حق الاحتفاظ بفضائله لنفسه فطفقوا يترجمون، "إنه خيط هاد إلى مهمّة فكرية مخصوصة يدعو مترجم الكتاب العرب الحاليين إلى الاضطلاع بها"[19]. إلا أن السؤال الذي يطرح من فوره: "هل طوّروا أدوات تفكير غير مسبوقة بالنسبة إلى نظام الخطاب القديم لعلومهم؟"[20].
ولأن طريقة التفكير التقليدية لم يعد بوسعها توفير ممكنات طرح جديد، نظروا إلى الحداثة الفلسفية بوصفها واقعة "دهرية"، فوقعوا في المطبّ، ولم يفت "المسكيني" أن يبين على نحو جلي وواضح "أن كلا من "الردّ" و"الدهريين" هما لفظان غير حديثين"[21] فكيف يتأتّى الانخراط في زمن الحداثة بجهاز مفهومي غير حديث، لقد اهتدى من قبل إلى أنهما "متأتيان من المعجم النظري لعلوم "الملّة" كما استقرّت منذ ظهور علم الكلام"[22]. ولمّا كانت غاية "المسكيني" إماطة اللثام والكشف عن "أنه ثمة تباينا غليظا بين المهمّة الهرمينوطيقية التي يدعو إليها محمد عبده وبين الأدوات المفهوميّة التي يستعملها"[23]، يؤكد أن "العرب كانوا معاصرين فقط أو في واقع الأمر كان محكوما عليهم بمعاصرة بلا حداثة، أن يكونوا ملقى بهم في هذا العصر من دون انتماء داخلي وعضوي إليه، أنهم كانوا عندئذ يحملون وعيا آخر بالزمن ويسلكون طرقا أخرى إزاء الطبيعة وإزاء الإنسان، ربمّا كانوا المجتمع الوحيد الذي ظلّ محتفظا بقرونه الوسطى"[24] وكأنك بهم يحسون بشيء دفين يشدهم إليها شدا، وحواجز لا تلين تصدهم عن "التقدم" صدا.
ولمّا كان شديد الحرص على الإصغاء العميق لإيقاعات النصوص سعيا لفهمها وما انطمر وانحجب فيها، فقد استقام لديه حينئذ أن هذا الانزياح الطريف من المعنى الأنطولوجي الوسيط لمصطلح "الهوية" الدال على معنى الوجود كما استعمله "الفارابي" و"ابن رشد" إلى المعنى الابستمولوجي الحديث للأنا أو الذات بوصفها مصدرا لمعنى الوجود كما صار معمولا به منذ "ديكارت" إلى "كانط" هو واقعة فلسفية علينا إيضاحها. ولو تعمقنا الواقع بعض التعمق لألفينا فيه ما ينبئ عن راهنية المسألة، فالهاجس هو هذا: أنه على أساس ميتافيزيقا الذات الحديثة وكنتيجة من نتائجها إنما أتى المعاصرون منذ "هيغل" ليس فقط إلى افتراع فلسفة في التاريخ تجذّر معنى "الهو" الفينومينولوجي الذي استكشفه المحدثون وتقذف به في استشكال لواقعة الحداثة لم يبصر به "ديكارت"، بل أيضا إلى الطرح الأنثروبولوجي والثقافي لمسألة "الهوية" كما صار شائعا اليوم.[25]
ويكتسب نص "المسكيني" هذا، قيمته من وجوه عدة أظهرها فائدته وأهميته فيما نحن بسبيله، وهو أيضا ينبّهنا إلى ضرورة أن نسأل من جديد ما يتعلق بالبديهي والمطروح ونستفهم ما لا يفهم حول "التراثي" و"الغربي" ونستوضح ما لا يتوضح حول "الهووي" و"الحداثي"، ولينأى هذا السؤال عن مقامه ما شاء، فقصدنا هو تجذير الدلالة السائدة للفظة الهوية بإخراجها من مستوى اللغة العادية؛ أي مستوى اللغة العربية الحديثة، حيث تشير إلى "نحن" أنثربولوجية وثقافية، إلى مستوى اللغة الفلسفية، حيث يجدر بها أن تدلّ على معنى الهوية التي تثوي في قاع كل فهم عامي للهوية بمعناها المشار إليه؛ وذلك في ضوء النقد ما بعد الحديث لنموذج الذاتية الحديثة[26].
إن أمارة الأمارات التي إنما يكون بها الفيلسوف فيلسوفا، تلازم أيّ نقد للغة الحالية لأنفسنا وطريقتنا في حكي فهمنا لأنفسنا[27]. إنما يبحث "المسكيني" عن كيف يمكن للمتفلسفة أن يتعاونوا على تشكيل فضاء تفكير يصبح فيه النقاش قادرا على تأدية دوره المزدوج المشار إليه الأمر الذي يقتضي غوصا في النظر بعيدا.
يبدو أن ذلك لا يصبح ممكنا إلا متى استطعنا أن نجيب عن هذا السؤال التحضيري: ما هو مغزى أن يلجأ المترجمون العرب القدامى إلى مقابلة الوجود في اليوناني بعبارة هوية؟ كيف تمّ قبول هذا الانزياح من محتوى "هو" ضمير الغائب إلى مستوى "أنّ شيئاً ما موجودا" أو مستوى "الشيء الموجود" وهو ما لم يعرفه العرب في لغتهم منذ أول أمرها؟ ما هي دلالة الانتقال من ضمير الغائب "هو" إلى الرّابطة المنطقية والأنطولوجية "هو" وإلى المصطلح الأنطولوجي "هو هو"[28]، ثم كيف نتأوّل بداهة الاستعمال العربي المعاصر لمصطلح "هوية" الفلسفي - الذي لم يأت إلى نحته المترجمون القدامى إلا اضطرارا - وذلك للإشارة إلى معنى "نحن" الأنثربولوجية والثقافية.
وهكذا يستبين أن الهويات واللغات ليست راسخة ثابتة. إنّما هي عرضة لتغيرات مستمرة بسبب الهجرات والغزوات والعلاقات مع الشعوب المجاورة، فيتبدل النطق وبناء الألفاظ تبعا للمناطق، ألم تكن عربية إسماعيل وعبرانية إسحاق مثلا مشتقتين من السريانية اللغة الأم التي كان يتكلّمها إبراهيم[29]؟
ولمّا كان شأن الآفاق أن تتسع، فعلينا أن نتملّك حسّا مرهفا جدّا بانزياحات عدة: من "هو" نحوي إلى "هو" منطقي إلى "هو هو " أنطولوجي، ومن ثمّ إلى "هوية" أنطولوجية في الفلسفة العربية الكلاسيكية، إلى "هوية" أنثربولوجية وثقافية في نظام الخطاب السوسيولوجي – التاريخي – اللاهوتي المعاصر.
وقد ينبغي علينا ونحن نتتبع سؤال "المسكيني" عن إمكانية وجود فلسفة عربية معاصرة، أن نقرّ أنه ليس محضّ سؤال انصرم، بل إنما هي لحظة في انشباك بقدرة المتفلسفة لدينا على تملّك هذه التجربة الطريفة التي عرفتها لفظة "هوية" منذ تنصيب الفلسفة في أفق الملّة مع "الكندي" إلى الصيغة الراهنة من الريطوريقا الهووية للعرب الحاليين[30].
ولا يخفى أن انزلاق العرب المعاصرين في استعمال لفظة "هوية" من معناها الأنطولوجي لدى "الكندي" أو "الفارابي" أو "ابن سينا" أو "ابن رشد" إلى دلالتها الأنثروبولوجية والثقافية الراهنة هو ليس خطأ اصطلاحيا أو استعمالا اعتباطيا. ولسنا نبالغ إذا وضحنا أنه تيسر لـ"المسكيني" بهذه العدة المفهومية أن يطوّر نمطا لافتا من القراءة استنتج في مستواه، أنه إنما هو يستجيب إلى نفس الداعي الخفي الذي دعا المترجمين العرب الأوائل إلى اعتماد ضمير "هو" لمقابلة "إستين" في اليوناني. كما أنه لا يخفى أن هذا الانزياح من "هو" النحوي والأنثربولوجي إلى "الهو" الأنطولوجي، لم يكن صدفة قط، بل يستجيب لفهم سابق على الأنطولوجي ثاو عفوا في بنية اللغة العربية[31]
ولا عجب عندئذ أن نتخيّل أن "ابن رشد" سيكون له حديث لا ينقضي مع "أرسطو" ولن يكفّ المعلم الأول عن الاندهاش من أن شارحه العظيم والعرب عموما لم يفهموا مدلول كلمتين يونانيتين، كلمتين بسيطتين ومألوفتين، كلمتين وسم عدم فهمهما القطيعة الأشد عنفا بين "الغرب" و"العرب".[32]
وإذا نحن دققنا النظر فيما أومأ إليه "المسكيني" تتوضح الأسئلة التي تهجس بها كتاباته مثلما يهجس بها نصّه هذا. مخافة أن نخرج من مساحة المعنى التي نصبتها "الإنسانية الغربية" كطريق ملكية نحو القيم الكونية. فمن ها هنا يصرف "المسكيني" همه إلى فتح السبيل إلى ممارسة فينومينولوجية تتخذ من مسألة "الهوية" خيطا هاديا لها؛ وذلك ليس فقط باستئناف الجهود الفلسفية التي تداول عليها فلاسفتنا من "الكندي" إلى "ابن رشد"، نحو تملّك صناعي لما افترعه الإغريق من بناء أنطولوجي لمعنى وجود الموجود، بواسطة مفهوم "الهوية"، بل عبر الشروع وبنفس الحدّة في استشكال صناعي واسع لظاهرة "الهوية" من حيث هي عدسة تفكير العرب الحاليين، يحذرها من سؤال "من نحن؟" في صيغته الأنثروبولوجية والثقافية ويعيد بناءها في ضوء تأويلية جديدة تتّخذ من سؤال "من؟" بعامة أفق عملها[33].
لقد كان لـ "المسكيني" فضل استشفاف المعالم الأولى لهكذا إرادة انتقال. إنه بذلك فحسب تكفّ مسألة الحداثة عن أن تظهر لنا في مظهر "بدعة" أو "دهرية" جديدة. وليس يسع الباحث في تكوّن جذور سؤال النهضة في أن يتجاهل ما كان من الدهشة اللاهوتية التي دشّن بها "الأفغاني" و"محمد عبده" سجالات العقل العربي المعاصر وما كان لها من أثر حاسم في توليد وتأسيس إمكانية تاريخية لاعتماد "الإرهاب" حلا أخيرا لمقاومة الدولة الحقوقية الحديثة[34].
2/ الترجمة فضاء للمعاني الكونية:
في هذا المستوى بالذات يبيّن "المسكيني" أنه ليس من المبالغة في شيء إذا هو شدّد على أن "الغرب" هو "الأب" الروحي للإنسانيّة الحاليّة. ولسنا نستطيع إلا أن نشير إلى أنّه يصرف جهدا وافرا من أجل تعقّب هذه الإشكالية المثقلة بالمضمرات، ويعثر على ما مفاده، أن الطريقة المثلى للتحرّر من الانغلاق على الذات[35] إنما هي التحرّر من "الآباء السرّيين لأنفسنا". وتحت وطأة هذا التوجه يبدو أنه على عقولنا التدرب المضني على المعاني الكلّية كما قيلت في لغات أخرى. فهو يطمئننا أنه يمكن أن نقول ما قيل مرة أخرى أول مرة. ومهما حاولنا استكناه مقاصد واهتمامات هذه الرؤية، فلن نستنفد المرمى الرمزي لهذا المشهد الذي يمّم "المسكيني" في مستواه وجهه نحو الترجمة، فالترجمة لا تزال تمرينا فلسفيا مهجورا[36].
وهكذا إذن يكون مأرب "المسكيني" تبيان أننا لن نستطيع أن نعيد إنتاج فكرة "الحداثة"، - من جهة ما هي "منذ الآن الماضي الروحي الوحيد للإنسانية الحالية"[37] - إلا متى كان حرصنا شديدا على ترجمة نصوصها التأسيسيّة. ذلك أنّ الترجمة في بعض نفسها إنما هي "صداقة فلسفية مع المعاني الكونية" حيث استطاع عقل فذّ أن يفكّر بدلا من النوع الإنساني برمّته. "فالترجمة ضرب من التغيير العميق للغة أي للبنى العميقة لمعنى أنفسنا".[38]
ولأنه مفتون بالوقوف على الحافّة يترصّد ما يتوارى بين المسارب والثنايا وما أنجبته ثقافات مختلفة وما يتخفّى في أعطاف الترجمة، فلا نستغرب أن يذهب "المسكيني" إلى أن الترجمة تعمل على الانتصار العميق على دعوى الحنين أو الأصالة التي تخفيها كل لغة قومية في قلبها. إنّ المسكيني من أولئك الذين يرون في الترجمة مدعاة إلى تغيير علاقتنا بماهية لغتنا.
ولعلّه يذكرنا هنا بما ذهب إليه "ريكور" من أنه لا يجب تخيّل العلاقات بين الثقافات من خلال مصطلحات "الحدود" وإنما من خلال مصطلحات التأثيرات المتداخلة بين مراكز لا يقيم إشعاعها وزنا للحدود (...) فـغريزة الآمان تنحو إلى إرجاع الهوية إلى سمات ثابتة ذات طبيعة أصلية أو جوهرية[39].
فلقد استطاع البصراء بإبصار مرهف اكتشاف، أن الهوية هي ذات طبيعة تاريخية بالأساس، وحين ننعتها بالتاريخية نعني أن عناصرها تحتاج أن تأتلف فيما بينها ائتلافا وأن تتملّك نمط تبدّل يتيح التراكم والمعقولية على صعيد السرد.
ولنا أن نلاحظ أن استدعاء مثل هؤلاء الفلاسفة إنما هو محاولة للسؤال عمّا "يجدر بنا أن نترجم أو أن نقرأ حتى يصبح التفكير النظري في دلالة وجودنا في العالم والموقف النقدي الأصيل من قضايانا سلوكا عفويا صادرا من عند أنفسنا بلا إفراط نرجسي ولا تفريط مريض؟"[40]. وهكذا بات فضاؤنا المعرفي يعرف ما لم يكن يقدر على معرفته، ويتجاوز ضيق آفاق التفلسف التي ضيّقت أيّما تضييّق وتقليص إمكانات الإبداع التي قلّصت أيّما تقليص، إذ بدأ يوجد تيماته من خارج دائرة المعهود[41]، عناية بقضايا تربية الذات وتهذيبها من داخل كلامها الخاص عن نفسها[42].
فها هو يعيد النظر فيما لم يكن على الأرجح ليخطر لهم ببال، في اعتقادات كانت قد انحفرت في وعيهم، من غير التيقن من أن الوقت آت للانخلاع عن مألوف ألفوه. ويذكرنا بما أشار به علينا "ريكور" قبلا من أنّ الهويّة النابعة من الدمج بين السرد والوعد، تنجو من فخّ التكرار، ولذلك يجب أن نتعلّم كيف نسرد الأحداث نفسها بصورة مغايرة، تبعا لمشاريع جديدة، تبحث "عن الظروف الغامضة التي اختفى فيها أفق "الملّة" في تاريخ أنفسنا القديمة، كما صار يمكن أن نقرأه راهنا أي في صيغة الانتقال الذي يجري اليوم من الحداثة الأنوارية التي اتخذت الذاتية مبدأ لها، إلى ما بعد الحداثة بصيغتها "ما بعد الذاتية" المتعددة والقلقة"[43]. ولابد أن نتعلم كذلك كيف ندع الآخرين يخبروننا عن تاريخنا خاصة حين يصادف أن يكون إذلال البعض متلازما مع عزّ الآخرين، يمكن في هذا الصدد أن نتكلّم عن عمل للذاكرة يكون في موقع وسطي ما بين النسيان والتكرار[44].
ويتخيّر "المسكيني" طريقة شديدة الإيحاء وهو يمثّل مسألة "الهوية" بوصفها تنطوي على صعوبة حاسمة: طريقة معيّنة في الكلام حول أنفسنا بلغت حدّ المرض الثقافي الذي يصعب علاجه. ويستجيز لنفسه أن يستحدث تمايزا "بين نقاشات العقل المستنير تحت لافتة المثقف ونقاشات الباحث في القضايا الفلسفية تحت عنوان الفيلسوف"[45] واعتراض "المسكيني" الذي يكاد يخفيه هو أن "العقل المستنير الذي يخوض معارك ثقافية ولكنه لا يفكّر أو لا يتفلسف، يعني لا ينتج إشكالية فلسفية كونية ومبتكرة حول مصير البشر بعامة"[46]. ونميل إلى الظن أن طريقتنا في الكلام حول أنفسنا، برغم كل ما حققته الدولة الحقوقيّة الحديثة لدينا من علمنة صامتة أو علنيّة، عنيفة أو هادئة، ما تزال تستلف من جهاز الملّة دلالة "الهوية" التي تثبتها في دساتيرها [47]. فـ"نحن لن نتحرّر من هيمنة "الغرب" من حيث هو السقف الرمزي الأعلى للإنسانية الحالية إلا بقدر ما نترجمه في لغتنا وعقولنا وليس فقط أن نقرأه في لغته"[48].
ولا يذر "المسكيني" موضعا في نصوصه إلا ويقارع عنده، غير أن أقطع ما يذهب فيه هو أنه ليس يتحقّق ذلك إلا بتفكيك الأرضية اللاهوتية والحواضن التي تسبق كل نقد. ولا يخفين على الأذهان أن المدخل ليس يكون ببناء فهم علماني للملة بل بتحرير أفق للتفكير في الهوية. فـ"ليست أخلاق الأصالة حكرا على الذين يمارسون البناء الهووي لأنفسنا الحالية، بل هو بنفس القدر الخطة الأساسيّة لكلّ علمنة مناضلة لأنفسنا. من الصعب جدا على علمانية عنيفة ألاّ تنقلب إلى أصوليّة بلا آخرة"[49]، بل إنّ "المسكيني" ليوسّع من تطلعاته النقدية بإبداع يكاد يكون نادرا، إذ يحاول رصد التحوّل التاريخي الجذري الذي لحق بمعنى الهوية الذي تتأسس عليه[50].
هكذا تمّحي مساحة التغاير، وتلتغى الفروق، فحين نترجم فنحن "نستعيد جزءا ضائعا من أنفسنا قيل في لغة أخرى"، إن شرط الترجمة هو حتما ازدواجية اللغة، وأن تكون مزدوج اللسان ليس مجرّد مسألة إجراء[51]، وإنّما هو نمط لإنتاج معنى نوعي كليا. وكلمة Bilingue نوع نوعي كليا كلمة لاتينية وتعني في الأصل من يتكلم لسانين ولكنها تعني من هو مزدوج أيضا، ماكر، مخادع، خؤون يخلف الوعد[52].
ولنا أن نذكر أن الأرض كانت بأجمعها تتكلم لسانا واحدا وتحديدا قبل "بابل" ولم يكن آنئذ مجال للتساؤل عن أيّ لسان كان يتكلم آدم. ولكن بعد مأساة بابل فقط، لما تشتّت البشر ولما حلّت ألسنة متعددة محلّ اللّسان الوحيد صار طرح السؤال ممكنا فقد فقدت الجماعات الاتصال المباشر ليس فحسب مع بعضها البعض بل كذلك مع الله.[53]
وهل يطفئ ظمأ فضولنا ما ذهب إليه المفسرون من قول شاق عميق وغامض، مفاده أن ريحا عاتية ألقت رأس الصرح في البحر. وكما هو دأب تلك الروايات انقلبت البيوت وأخذت "نمرود" رعدة فتكلم الناس من الفزع "بثلاثة وسبعين لسانا": كارثة مزدوجة، تدمير المدينة وبلبلة اللسان[54]
ولو تأملنا قليلا في أسئلة "المسكيني" لتبينّا أن الإشكالية التي اهتجس بها طويلا في ما كتب، إنما تشي بأنه يميل ميلا خفيفا إلى الاعتقاد، أن ما هو إشكالي في الترجمة الفلسفية هو كونها تتخطّى مهنة الترجمة بالمعنى التقني، وليس أحدهما كالآخر. فإذا لطّفنا النظر وأنعمناه لألفينا أنها لا تنقل معاني مستقرة لدى أهلها، سواء على صعيد اللغة العادية التي يتكلّمها شعب ما أو على مستوى الاصطلاح العلمي وما شابهه، مثل الوثيقة القانونية أو المادة الإعلامية؛ إذ ليست المفاهيم الفلسفية مجرد مصطلحات كما أنها ليست محض ألفاظ عادية. ومن الشيق أن نلاحظ أنها بالتحديد مفاهيم أي قرارات مفكّرة يمتحنها الإنسان بلغته في أفق تاريخ تأويلي معين لذاته من حيث هو كينونة في العالم[55].
ولقد ألفت النظر من قبل "الحلم"[56]، ما لو رامه الواحد فينا لاستغلق عليه وأبهم دونه، فهذا مفهوم من صنع شرّاح لاهوتيين حرصوا على إيجاد نظام وغرض رئيس ضمن كتلة الكتابات، مرويات وأساطير وأخبارا وحكايا، حيث يتمّ عرض حبكة وحيدة. وفي تأمل بعض الأحداث المسرودة شيء لافت، فهي ليست مجرّد أحداث تمرّ، بل هي تقيم العصر وتولّد التاريخ، إنها الأحداث الصانعة للتاريخ.[57]
وإنه هنا بالتحديد وقد استتب لـ"المسكيني" التحليل وظفر بالمعنى الأدقّ لمفترضاته وإشكاليته، طفق يؤكّد، أنّ السؤال الذي يشغلنا نحن الفلاسفة المترجمين رغما عنا هو معرفة ما إن كان ما نكتبه بلغتنا ينتمي أو لا ينتمي إلى الجماعة العلميّة العالميّة، بمعنى فضاء المعنى "الإغريقو- روماني" الذي يحكم حديثا النظرة الفلسفية الكونية حول كل البشر في زمن العلم[58].
وعلى الرغم من هذا الكلام المستفيض في هذا الشأن، فليس من سبيل لامتحانه بغير التلفّت إلى التشريعات في دقّتها والتي همّها ممارسة الحقوق. ومن المسلّمات التي صارت منازعتها لا تخطر على البال أنّ هذه التشريعات، إنّما هي بالفعل نتاج تاريخ فريد هوّ في عمومه تاريخ الديمقراطيّات الغربيّة، فلا عجب عندئذ أنّه بقدر ما أن القيم المنتجة في التاريخ لا تشارك فيها ثقافات أخرى، تظهر تهمة المركزيّة العرقيّة مرتدة على النصوص الإعلانية ذاتها[59].
هكذا يمكننا أن نلحظ أن المرجو لا يمكن أن يتحقق ما لم يسلم كل مشارك بأن كليات أخرى مطمورة، وليس يمكن أن يكون السبيل إليها ثقافة "الغرب"، ولكنها ممكنة. هو ذا المسرب إلى الاعتراف المتبادل والقبول بالآخر، والحقائق في تعددها. ففي ظل هذا الفهم ما عاد يمكن انحجاب المطموس والمؤجل والتاريخ الآت، والذي لم يكتب بعد.
في هذا الأفق بالذات يأتي الحلّ الذي ربما كان يكمن في نوع مخصوص من الترجمة البينيّة أو ترجمة المشترك التي تساعد الخصوم على التحوّل إلى شركاء؛ أي محاورين أكفّاء قادرين لأول مرّة على التفكير والتكلّم في معجمين أو أكثر في نفس الوقت[60]، وهو ما يعني معجما كلّيا تتقاسم فيه العقول ولا فضل فيه إلا للحجة الأكثر عدلا تجاه الحقيقة، ومعجما هوويا هو بمثابة الخلفيّة الروحيّة لكلّ عقل لا يصنعها ولا يمكن له التجديف عليها بلا سبب كبير؛ لأنها تمدّه بمصادر ذاته وبمعاني الخير التي تنبني عليه أشكال التذوّت في كل ثقافة".[61] بذلك، فإن ماهية الترجمة في تواشج سابق مع ماهية اللغة وماهية التاريخ الذي يتحرك المترجم في أفقه[62]
لأجل ذلك، فقد صار الحرص وافرا على تبيان أنّه وفي سبيل تحقّق هذه الرؤية لابدّ وأن نؤمن بحقّ ثقافات غريبة، "تستمد مقوماتها من تعينها الواقعي في التاريخ الذي هو دائما تاريخ التغيّر والتحوّل، والذي هو دائما توقع الممكنات"[63]. ولعل ما ينبغي التشديد عليه في هذا الموضع أن نداء كان قد همهم به روّاد الكلمة الحديثة في أفق ثقافتنا العالميّة منذ قرن وقلّما سمعوا إلاّ غرورا "فلنترجم". هو ذا "نداء" الترجمة الذي لا يزال في بعض نفسه على فسحة الأمل ورمض الرغبة صوتا خجولا، لكن "تبلبل" الألسنة مرة أخرى في بابل اليوم أو في أي "بابلات" مقبلة لا يخفيه في شيء بل لا يزيده ذلك إلا إرهافا للسمع وإنصاتا"[64].
خاتمة:
ومما قدمنا يصبح من الموقن به أنّ كتابات "المسكيني"، إنّما هي محاولات لتطارح إشكالات فلسفيّة عميقة وإحراجات دلاليّة ونقديّة مربكة، واستئنافات أفصح عنها درجات من الإفصاح متفاوتة، حيث يعيد الفكر تكوين نفسه، تشي بتنوع المقاربات وجرأة الاقتراحات. ومن ثمّة تفرض علينا جدّة جذريّة.
إنّ ما حاولنا إجلاءه هو أنّ "المسكيني" إنّما حاول وضع المشكل الفلسفي في سياق لم يكن فيه أول أمره، فزحزحة "أفق الحداثة" يقتضي سلفا انزياحا ما في أفق "التوحيد" الجديد، وهو أمر لابد وأن يطال فكر "العالم الواحد" و"الإنسانيّة الواحدة" و"العقل البشريّ الواحد" و"الأمّة" أو "الهويّة" الواحدة، بل فكرة "الواحد" نفسها"[65] ولأن منطلقاته ومفاهيمه ورؤاه واستنتاجاته حريصة على القصد البليغ، لا تستوي على شأن واحد، والأمر عنده لا يتعلق بنسخة أخرى من الحداثة بل "نحو حداثة أخرى"[66] أو ما سماه "نغري" "بدائل الحداثة"[67]. فـ"المغاير" هو القادر على الانتماء إلى مساحة من ذاته تقع خارجه[68]، بل قل حسب تعبير له بليغ، المغايرة هي نحو من الكفّ عن السرد أي عن الانتماء إلى ثقافة التعالي التي ترجمتها الدولة/ الأمة الحديثة في برامج الهويّة. المغايرة هي فن اختراع غيريّة نشطة ومؤقتة ومفتوحة[69].
وإذا كنا قد أومأنا إلى أنّ الدور الذي أدّته الترجمة قد تخلّل الهوية والحداثة، وتفاعل مع ما بينهما من تمايزات ومماهاة وجوامع وتقاطعات، فإنه من الضروري أيضا الإشارة إلى أن الفلسفة مدعوّة إلى التأكيد أنّ الترجمة وحدها يمكنها أن تشفينا من الحاجة إلى الاستبداد (...) من أجل أنها عمل مدنيّ مفتوح على كثرة من الإمكانات[70].
هكذا يكون "المسكيني" قد أرسى طريقة عميقة في مقاربة النصوص، لتشكل قراءاته وترجماته، مساءلة نقدية تظل أجوبتها مشرعة على نهايات غير مكتملة.
المراجع والإحالات:
فتحي المسكيني، الفلسفة العربية المعاصرة، تحولات الخطاب من الجمود التاريخي إلى مآزق الثقافة والإيديولوجيا (مجموعة من الأكاديميين العرب)، منشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى، 2014
فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، منشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى 2013
مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، الطبعة الأولى 2012
فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2011
فتحي المسكيني، التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟ جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2011
فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2001
عبدالفتاح كيليطو، الأعمال، الجزء الأول، جدل اللغات، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى2015
، محمد محجوب، حوار، موقع حكمة الالكتروني بتاريخ 16أفريل 2015
انظر، عبدالإله بلقزيز، العرب والحداثة (4) نقد الثقافة الغربية، في الاستشراق والمركزية الأوروبية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2017.
بول ريكور، الوجود والماهية والجوهر لدى أفلاطون وأرسطو، ترجمة انقزو، الجربي، بن ساسي، محجوب دار سيناترا، الملركز الوطني للترجمة، تونس 2012. ص 15
بول ريكور، المشروع الكوني وتعدد التراثات، في، القيم إلى أين؟ مؤلف جماعي، إدارة جيروم بيندي، ترجمة زهيدة درويش جبور، جان جبور، مراجعة عبد الرزاق الحليوي، بيت الحكمة، اليونسكو، قرطاج 2005
بول ريكور، مقالات ومحاضرات في التأويلية، ترجمة، محمد محجوب، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس، الطبعة الأولى 2013. ص 146
مجموعة مؤلفين، يورغن هابرماس، العقلانية التواصلية في ظل الرهان الايتيقي، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، دار الروافد الثقافية، بيروت، ط 1، 201
السيوطي، المزهر، تحقيق جاد المولى والبجاوي وأبو الفضل إبراهيم، القاهرة، (د- ت) 1 ص 30
الثعلبي، قصص الأنبياء، بيروت (د- ت) ص 28
الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة 1948- 1950
ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، 534، 535 / أرسطو، ما بعد الطبيعة 1016أ 25-30
ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق محمد أحمد شاكر، بيروت، دار الآفاق الجديدة 1980
الرازي، مفاتيح الغيب، بيروت، دار الفكر 1981 ص 23
ابن النديم، أبو الفرج محمد بن إسحق، الفهرست، ضبطه وشرحه وعلّق عليه وقدّم له، يوسف علي طويل، وضع فهارسه أحمد شمس الدين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1996 ص 243
Fethi meskini; Arabité et philosophie; in Revue Rue Descartes n:61 philosopher en Tunisie aujourd’hui p p 116-122
Fr.-W.von Hermann, « Ubersetzung als philosophisches Problem », in Zur philosophischen Aktualitat Heideggers III. Im Spiegel der Welt; Sprache Ubersctzung. Auseinandersetzung.a.a.O.S.108- 124.
P. Ricœur, L’identité narrative, in, Esprit, 7 /8, 1988, p 294/304.
P.Ricoeur; sur la traduction Paris; Bayard 2004 pp 19 42-43
George Steiner, Apres Babel, trad, Lozinger, P.E, Dauzat, Paris, Albin Michel1998.
Fethi meskini; Arabité et philosophie; in Revue Rue Descartes n:61 philosopher en Tunisie aujourd’hui p p 116-122
Cf. UIrich Beck, La société du risque. Sur la voie d’une autre modernité, Paris, Aubier, 2001.
67/Negri, Le pouvoir constituant, Essai sur les alternatives de la modernité, Paris, P.U.F.1997
[1] انظر، فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، منشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى 2013، ص 17
[2] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2011 ص 10
[3] إن "غير الغربي" لا يزال صوتا ملتفتا إلى الوراء: لم يستطع "الآخر" أن يكون "مغايرا" إلى حدّ الآن إلا بقدر ما "يختلف" عن أفق "الإنسانية الأوروبية" بسبب أنه "متخلّف" عن ركبها. هل أنت "مختلف" عن الغرب أم "متخلّف" عنه؟ هذا السؤال يثير صعوبة من نوع جديد بقدر ما نطمع في تنسيب فكرة "الغرب" أو في التأريخ لفكرة "الإنسانية الأوروبية" من "خارج" ولكن ما هذا "الخارج"؟ وأي فكر يمكنه أن يزعم أنه "فكر الخارج" الذي صبا إليه كتّاب الاختلاف في فرنسا لبعض الوقت؟ وهل يمكن أن نقترح "حداثة مغايرة" بين "خارج" أفق الحداثة الذي بدأ ينزاح من مكانه حسب تشخيص هابرماس؟
انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2011ص 208
[4] انظر، فتحي المسكيني، التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2011 ص 7
5 انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة (مرجع سبق ذكره) ص 10
[6] انظر السيوطي، المزهر، تحقيق جاد المولى والبجاوي وأبو الفضل إبراهيم، القاهرة، (د- ت) 1 ص 30
[7] يؤكد "الثعلبي" أن لغة آدم بعد الهبوط كانت السريالية. وهذا رأي كثير الذيوع، ينقل "السيوطي" أن "ابن عباس" قال: "إن آدم عليه السلام كان لغته في الجنة العربية ولمّا عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية فلمّا تاب ردّ الله عليه العربية". وهكذا كان فقدان لسان الجنة واحدة من عواقب الهبوط، وما اللغة السريانية إلا لسان المنفى: لقد طرد من الجنة ومن العربية. إلا أنه لاستجماع المسألة ينبغي صحيح أن السريانية هي لغة العصيان والتيه والقطيعة مع الله إلا أن العربية هي لغة آدم الأولى وبهذه الصفة تحظى بالأولوية الزمنية والسيادة الأنطولوجية.
انظر، الثعلبي، قصص الأنبياء، بيروت (د- ت) ص 28.
[8] انظر عبدالفتاح كيليطو، الأعمال، الجزء الأول، جدل اللغات، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى2015
[9] انظر عبدالفتاح كيليطو، الأعمال، الجزء الأول، جدل اللغات، (مرجع سبق ذكره) ص 23
[10] انظر، الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة 1948- 1950، ص 290
[11] انظر، فتحي المسكيني، التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟ (مرجع سبق ذكره) ص 09
[12] المرجع نفسه، ص 09
[13] ترجم الأستاذ فتحي المسكيني إلى حدود اللحظة والتو: فريدريتش نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق، منشورات دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس 2010
إيمانويل كانط، الدّين في حدود مجرّد العقل، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، 2012
مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2012
المثالية الألمانية 03 مجلدات بالاشتراك مع آخرين 2012
كما أن الأستاذ فتحي المسكيني" يعكف منذ مدة على ترجمة، "نظريّة الفعل التواصلي" لـ"هابرماس" وإنه لأمر جلل، ننتظر صدوره بعد حدوثه ...
[14] انظر، فتحي المسكيني، التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟ (مرجع سبق ذكره) ص 09
[15] فلاسفتنا القدامى استعملوا لفظة هوية، - المنحوتة من الضمير "هو" بوصفه مقابلا للفظة "إستين" في اليوناني للدلالة على وجود المعنى الذي أقره أرسطو لمفهوم الوجود. إن لفظة هوية مستعملة في ترجمة "ما بعد الطبيعة" التي فسرها "ابن رشد" للدلالة على معنى الوجود.
انظر، فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2001، ص 6/7
[16] فـ"المسكيني" يذهب إلى أن عبارة "الحداثة المغايرة" تفترض بقوة أن التفكير في "المغايرة" لا يمكن أن يتمّ خارج أفق السؤال عن "الحداثة" نفسها(...) لنسأل إذن دونما مواربة: هل ثمة حداثة "غير غربية"؟ (...) إن التساؤل عن إمكانية "حداثة مغايرة" أو عن "أنوار أخرى"، في معنى أنها "حداثة مثقوبة" في ماهيتها أو "حداثة مؤخّرة أو مؤجّلة" على نحو ميتافيزيقي مضاد، هو تساؤل لم يفلح بعد في بلورة أي مدى خاص وموجب لنمط "الحداثة" الذي يعدنا به. لا يزال هذا التساؤل كئيبا وخجولا وبلا أدوات وغير مطلوب لذاته".
انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، (مرجع سبق ذكره). ص 208
[17] انظر، بول ريكور، الوجود والماهية والجوهر لدى أفلاطون وأرسطو، ترجمة انقزو، الجربي، بن ساسي، محجوب دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس 2012. ص 15
[18] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة (مرجع سبق ذكره) ص24
[19] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، (مرجع سبق ذكره) ص 52
[20] انظر، فتحي المسكيني، الفلسفة العربية المعاصرة، تحولات الخطاب من الجمود التاريخي إلى مآزق الثقافة والإيديولوجيا (مجموعة من الأكادميين العرب)، منشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى، 2014، ص 16
[21] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن" (مرجع سبق ذكره)، ص 52
[22] المرجع نفسه، ص52
"كل ملّة هي جهاز لتأمين المستقبل من خلال بناء أكثر ما يمكن من الذاكرة لكلّ الذين لم يولدوا بعد. إنّ مستقبل كل ملّة هو ماضيها وقد تحوّل إلى ذاكرة طويلة الأمد أو عابرة للأجيال" انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، (مرجع سبق ذكره) ص 29
[23] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، (مرجع سبق ذكره) ص52
[24] انظر، فتحي المسكيني، الفلسفة العربية المعاصرة، تحولات الخطاب من الجمود التاريخي إلى مآزق الثقافة والإيديولوجيا (مرجع سبق ذكره)، ص ص 15/16
[25] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن" (مرجع سبق ذكره)، ص 8
[26] انظر، المرجع نفسه، ص 8
[27] انظر، المرجع نفسه، ص 17
[28] را، ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، 534، 535 / أرسطو، ما بعد الطبيعة 1016أ 25-30
[29] ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق محمد أحمد شاكر، بيروت، دار الآفاق الجديدة 1980 ص 32
[30] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2001، ص9
[31] انظر، المرجع نفسه، ص 11
[32] من بين مؤلفات أرسطو التي شرحها ابن رشد كان فن الشعر وكان ابن رشد قد اطلع على هذه المؤلف عبر الترجمة العربية لأبي بشر متى (القرن العاشر ميلادي) التي اعتمدت لا على النص اليوناني بل على ترجمة سريانية والحال أن "متى" لمّا صادف كلمتي تراجيديا وكوميديا ووجد أن معادلها العربي غير موجود اقترح ترجمة أضلّت طوال ما يقرب من تسعة قرون العرب: لقد ترجم تراجيديا بكلمة مديح وكوميديا بكلمة هجاء ... وبسبب هذا الخطأ الأولي كان محكوما على ابن رشد بالغلط من أول مؤلفه إلى آخره وأن يهيم في متاهة لا مفرّ منها ولا مخرج.
انظر، حكاية بورخيس، "بحث ابن رشد" في "المرايا والمتاهات" ترجمة إبراهيم الخطيب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء 1987
كان يجهل كل شيء عن الأدب اليوناني فشرع في فهم "فن الشعر" من خلال ما كان يعرفه عن الأدب العربي. انظر، عبدالفتاح كيليطو، الأعمال الجزء الأول، جدل اللغات، (مرجع سبق ذكره) ص 65
[33] "نحن نعلم أن الهوية ليست مجرد شعور خاص، بهذا الشخص أو ذاك، بل هي جهاز انتماء أو لا تكون، ومثل كل جهاز لا يمكن لأي هوية أن تعمل في أفق روحي ما إذا لم تكن تملك شكلا معينا من الإلزام وفنّا معينا من الانضباط، ليس هناك هوية غير ملزمة.(...) نحن ننتمي سلفا إلى أنفسنا نعني إلى جهاز أنفسنا كما ورثناه دون أي تجربة شخصية. ولذلك فإن كل فرد منا هو نتاج هووي أكثر منه شخصا"
انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، (مرجع سبق ذكره) ص 16
[34] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، (مرجع سبق ذكره)، ص16
[35] يستكمل نقد الثقافة الغربية كفعل معرفي، نقد الثقافة العربية الإسلامية ويساوقه، كلاهما جزء من مشروع واحد هو مشروع النقد المزدوج. (انظر في مفهوم النقد المزدوج عبدالكبير الخطيبي، النقد المزدوج، الرباط، منشورات عكاظ 1980) انظر، عبدالإله بلقزيز، العرب والحداثة (4) نقد الثقافة الغربية، في الاستشراق والمركزية الأوروبية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2017 ص 09
[36] وقد أشار الأستاذ محمد محجوب، إلى أن: ما يجب أن تعترف به الترجمة هي الغيرية الجذرية والتي ليست قابلة للتجاوز بيني كمترجم وبين النص، المنطلق الفعلي للتعامل هو الاعتراف بأن النص هو نص غيري وغيرته جذرية، أن أتمثل أن هذا النص قادر أن يتكلم بلغتي. المفارقة غير مطلقة وتمثل مطلق، وفي صدام هذين المختلفين صعوبة الترجمة. وهي متأتية بصعوبات عديدة، اختلاف اللغات: فلكل لغة عبقرية، ومقاربة اللغة في كيفية تعبيرها تصور للعالم وعلاقة الإنسان به، مسألة الزمان في العبارة وتصريف الأزمنة هي من المسائل اللا متاحة ولا ممكنة في اللغة العربية مقارنة باللغات الأوروبية. لكن الترجمات لها فضل من جهة الفائض الذي يبقى خارج الترجمة وخارجاً عن قدرة استيعابها. كما وضح أيضا، أنه: من معضلات الترجمة الاختلاف الثقافي للغات وليس عبقرية العبارة، الضمير المتكلم في اللغة العربية وضمير المتكلم في اللغات الأوروبية لا يحتويان على نفس الشحنة التمثلية، وهذا أمر ليس له حل، متعلق بالاختلاف الثقافي في تاريخ الفكر الذي اعتمرت منه اللغات الأوروبية. وهذه الاختلافات لها أثر ووقع غير قابل للنحر أو التسوية عند الترجمة. نجد المقابل اللغوي الجميل والعبقري لكن المعنى لا يصل بكامله، وهذا ما يسميه ريكور «عمل الحداد» وأعتقد أن المقاربة يمكن أن تكون فيه الترجمة إبداعاً لسياقين متوازيين، ليست إعادة إنساء لنص مطابق وإنما إعادة إنساء لنص موازن. انظر، محمد محجوب، حوار، ورد في موقع حكمة الالكتروني بتاريخ 16أبريل 2015
[37] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2011 ص 22
[38] انظر، فتحي المسكيني، (المرجع هو هو)، ص 11
[39] انظر بول ريكور، المشروع الكوني وتعدد التراثات، في، القيم إلى أين؟ مؤلف جماعي، إدارة جيروم بيندي، ترجمة زهيدة درويش جبور، جان جبور، مراجعة عبد الرزاق الحليوي، بيت الحكمة، اليونسكو، قرطاج 2005، ص 84 /88
[40] انظر، فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، (مرجع سبق ذكره) ص 172
[41]«زمانية الحول»؛ أي النظر إلى زمانين مختلفين، وأعتقد أنني أنزل نفسي في خضم الإشكالية المطروحة على الفكر العربي والعالمي اليوم. كيف نجد تربة نستنبط منها إشكالية القيم؟ المقاربة الفكرية العربية موجودة، المقاربة الفكرية الغربية موجودة، المقاربة الفكرية الشرقية موجودة، واليوم تمكن الفكر أن يشخص الاختلافات بطريقة جلية، وإذا كان المخرج صدامات الحضارات فذلك سيكون عنيفاً، هناك المقاربة التي تحيل لنسبية كل المفاهيم. كل الجانب العملي اللانظري للمقاربة الشرقية، الشرق عالم الأهواء والعواطف، والغرب عالم العقل، ولا بد من اللقاء وتفادي التصادم. انظر، محمد محجوب، حوار، موقع حكمة الالكتروني بتاريخ 16أبريل 2015
[42] انظر، فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، (مرجع سبق ذكره) ص 172
[43] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، (مرجع سبق ذكره) ص 40
[44] انظر بول ريكور، المشروع الكوني وتعدد التراثات، في، القيم إلى أين؟ مؤلف جماعي، (مرجع سبق ذكره) ص 84 /88
[45] انظر، فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، (مرجع سبق ذكره) ص 206
[46] انظر، المرجع نفسه، ص 206
[47] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، (مرجع سبق ذكره)، ص17
[48] انظر فتحي المسكيني، المرجع نفسه، ص 10
[49] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، (مرجع سبق ذكره) ص 23
[50] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، (مرجع سبق ذكره)، ص17
[51] اهتدى الجاحظ لفكرة حديثة عندما حدد حدود الترجمة ومعاييرها، اشترط أن يكون الترجمان في معرفته باللغة والعلم المترجمان في وزن معرفته باللغة التي يترجم إليها وبالعلم الذي يملكه صاحب النص. ليس للكلمات بحد ذاتها قيمة أو وزن إلا داخل سياق النص، ومن هذا السياق يحصل اقتصاد موسيقي واقتصاد صوتي ولغوي وفكري، هناك نوع من الدورة لغوية ودلالية وفكرية مصدرها النص كرحم شامل لعناصر هذا النص، وهذه الدورة في الرحم هي التي تحدث الفكرة والمعنى يجب أن يحفظ النص الفكرة والمعنى والجمالية وهذا ما يسميه «ريكور» عمل الذاكرة.
انظر، محمد محجوب، حوار، موقع حكمة الالكتروني، 16أفريل 2015.
[52] Fethi meskini; Arabité et philosophie; in Revue Rue Descartes n: 61 philosopher en Tunisie aujourd’hui p p 116-122
[53] انظر، عبدالفتاح كيليطو، الأعمال، الجزء الأول، جدل اللغات، دار توبقال للنشر، (مرجع سبق ذكره) ص 16
وليس يخفى ما لهذا الضرب من التقدير من أهمية أشكل وأوسع من أن تدرك أسرارها وتفتح مغاليقها ويكشف عن منطوياتها بصفة كلية. فـ"مشهد بابل" ليس دون مماثلة مع مشهد "الخطيئة الأصلية" في الحالين معا تقترف خطيئة متبوعة بعقاب. غير أن العناية بهكذا غضب وانشطار ما كان ليغري لو لا أن الربّ ما قرر الطابع غير المحدود لطموح البشر، فما بناء البرج سوى بداية تنذر بظهور رغبات مغفول عنها: نيل الخلود والمقام الإلهي، إن المقصد هاهنا هو استكشاف أن هذا العنصر هو أكبر ما يربط مشهد بابل بمشهد الخطيئة. ولعل الوجه العصي لهذا الإشكال الذي أشرنا إليه، مترتب عن تقدير طبيعة المآلات، إذ تنتهي قصة بابل بتشتيت البشر وتنتهي قصة الخطيئة الأصلية أيضا بافتراق انظر، عبدالفتاح كيليطو، الأعمال الجزء الأول، جدل اللغات(مرجع سبق ذكره)، ص 17
[54] ولو تعمقنا فيما كان لنا منه بعض التعمق لألفينا فيه ما ينسب "مفسرو القرآن" إلى "نمرود" من بناء البرج / صرح بابل فهو أول جبار وأول من طمح إلى الألوهية[54] واستدرار النظر في ادعاء الألوهية، إنما يشي في العمق إلى الرغبة في الاستغناء عن الله.
انظر، الرازي، مفاتيح الغيب، بيروت، دار الفكر 1981 ص 23
إذا فهمنا العبارة حرفيا فإنها تنطوي على رغبة في بلوغ السماء والتحول إلى آلهة، مشروع يبعث على القلق، الصعود الذي ينتويه البشر يقابله نزول الرب "فلننزل ونبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض" يعاقبهم الرب ببلبلة لسانهم الوحيد الذي بفضله كانوا مجتمعين، إنه ما يعادل تشظية مجازية للبرج وانبتات طموح وحلم.
انظر، عبدالفتاح كيليطو، الأعمال، الجزء الأول، جدل اللغات، (مرجع سبق ذكره) ص 16
[55] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، الطبعة الأولى 2012، ص 17
[56] كتب ابن النديم في "الفهرست" تحت عنوان "ذكر السبب الذي من أجله كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في هذه البلاد" كتب يقول " أحد الأسباب في ذلك أن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا حمرة واسع الجبهة مقرون الحاجب أجلح الرأس أشهل العينين حسن الشمائل جالس على سريره، قال المأمون كأني بين يديه قد ملئت له هيبة. فقلت من أنت: قال أنا أرسطاليس، فسررت به وقلت: أيها الحكيم أسألك؟ قال سل: قلت ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل: قلت ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع، قلت ثم ماذا؟ قال ما حسن عند الجمهور، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم (...) فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب. فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون، فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما عنده من مختار من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع.
انظر، ابن النديم، أبو الفرج محمد بن إسحق، الفهرست، ضبطه وشرحه وعلّق عليه وقدّم له، يوسف علي طويل، وضع فهارسه أحمد شمس الدين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1996 ص 243
[57] انظر، بول ريكور، مقالات ومحاضرات في التأويلية، ترجمة، محمد محجوب، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس، الطبعة الأولى 2013. ص 146.
[58] Fethi meskini; Arabité et philosophie; in Revue Rue Descartes n: 61 philosopher en Tunisie aujourd’hui p p 116-122
[59] فكيف يمكن الجمع بين الشموليّة في المساواة في الحرية التي نادت بها الليبراليّة الكلاسيكية والخصوصيّة التي تطالب بها الجماعات الثقافيّة، التي تقضي باستثنائها من مبدأ المساواة والحريّة معا حفاظا على تراثها الخاصّ في الاعتقاد والسلوك في الحياة؟ ولما كانت رؤية الليبراليّة تستند إلى إعطاء الفرد منزلة أساسيّة، نتساءل: كيف يمكن ضمان خصوصيّة ثقافات الجماعات الدينيّة في إطار شموليّة قوانين المساواة دون المس بالحقوق الأساسية للأفراد؟
- انظر، مجموعة مؤلفين، يورغن هابرماس، العقلانية التواصلية في ظل الرهان الإيتيقي، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، دار الروافد الثقافية، بيروت، ط 1، 2013 ص 146
[60] فتحي ألمسكيني، الكوجيطو المجروح (مرجع سبق ذكره) ص 236
[61] المرجع نفسه، ص 236
[62] Fr.-W.von Hermann, « Ubersetzung als philosophisches Problem », in Zur philosophischen Aktualitat Heideggers III. Im Spiegel der Welt; Sprache Ubersctzung. Auseinandersetzung.a.a.O.S.108- 124
[63] P. Ricœur, L’identité narrative, in, Esprit, 7 /8, 1988, p 294/304.
لقد أخد "ريكور" يتحدث في آخر نصوصه عن الترجمة بوصفها ضيافة لغوية، والطريف أن "ريكور" لا يتردد في اعتبار الترجمة "مشكلا إيتيقيا" و"ليس فقط مشكلا نظريّا "يبقى أن ننبه إلى أن تخريج ريكور لمعنى الضيافة اللغويّةHospitalité Langagière لا يقدم حلاّ حقيقيّا لمشكل الترجمة بل يحاول فقط أن يبقي على الصعوبات "العفويّة "و"الأصليّة" في مهمّة المترجم ويحميها من أيّ طمس لساني أو تقني، لقد أعاد فعل الترجمة إلى المترجم وأعرض تماما عن حجج علماء الترجمة. راجع:
P.Ricoeur; sur la traduction Paris; Bayard 2004 pp 19 42-43
أورده، فتحي المسكيني في ترجمته "الكينونة والزمان"ص33 (مرجع سبق ذكره)
إن الترجمة ترتبط بشكل قاطع بظاهرة التعدد الإنساني التي تعبر عنها "أسطورة بابل" حين كانت الأرض كلها لغة واحدة وكلاما واحدا، ولكنه في الحقيقة المكان الذي نعاني فيه من اختلاط اللسان ووقوعه في البلبلة والاضطراب، عقوبة تحملها أبناء "نوح" بسبب كبريائهم وتطلعهم إلى إقامة مدينة يزينها برج عال أرادوا أن يبلغ عنان السماء حتى يطلعوا منه على أسبابها فعوقبوا بأن لبس عليهم الإله لسانهم. نحن الآن "ما بعد بابل" Après Babel وفق عنوان مهيب لـGeorge Steiner فالترجمة تشكل نموذجا لكل أنواع التبادلات ليس فقط من لغة إلى لغة وإنما من ثقافة إلى ثقافة.
George Steiner, Apres Babel, trad, Lozinger, P.E, Dauzat, Paris, Albin Michel1998.
انظر، بول ريكور، المشروع الكوني وتعدد التراثات، كتاب، القيم إلى أين؟ Ou ‘ Vont les Valeurs ?، ، ص 84، 88. (مرجع سبق ذكره)
[64] انظر، مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق، فتحي المسكيني (مرجع سبق ذكره)، ص ص 41/42
[65] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، (مرجع سبق ذكره). ص 210
[66] Cf. UIrich Beck, La société du risque. Sur la voie d’une autre modernité, Paris, Aubier, 2001
[67] Negri, Le pouvoir constituant, Essai sur les alternatives de la modernité, Paris, P.U.F.1997
[68] انظر، فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة (مرجع سبق ذكره)، ص 216
[69] انظر، المرجع نفسه، ص217
[70] انظر، فتحي المسكيني، التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟ (مرجع سبق ذكره)، ص 12