في مدد المعنى: تفكرات ومقاربات في القرآن الكريم لمحمد التهامي الحراق
فئة : قراءات في كتب
في مدد المعنى: تفكرات ومقاربات في القرآن الكريم
لمحمد التهامي الحراق
صدر لمحمد التهامي الحراق، عن دار أبي رقراق، الرباط 2024م، كتاب ينتمي لمجال الدراسات القرآنية تحت عنوان: "في مدد المعنى: تفكرات ومقاربات في القرآن الكريم". الكتاب من 245 صفحة، وهو يغطي مجموعة من المواضيع المهمة، التي تقارب سؤال المنهج في فهم القرآن الكريم، وفي تجديد التعاطي معه، في زمننا هذا الذي اتصف بالتحول والتجدد، في جميع مختلف مناحي الحياة؛ إذ يفصلنا اليوم عن نزول القرآن أكثر من 1400سنة. نحن اليوم أمام كتاب القرآن إلى جانب تراث كبير ومتسع حول فهم ومعنى القرآن، من وجهات نظر كثير من كبار العلماء الذين اجتهدوا في فهم القرآن تفسيرا وتأويلا... السؤال هنا كيف نفهم القرآن اليوم؟ وهو ما أشار له المؤلف بمدد المعنى. من بين المواضيع التي توقف عندها التهامي الحراق، جدلية التعالي والتاريخ في القرآن الكريم. القراءة العقلانية الإيمانية من الفصل إلى الوصل، بلاغة الاستمداد العرفاني... ومواضيع أخرى.
مدد المعنى
يدور تعريف المعنى في معاجم اللغة العربية، في ما يقصد بالكلام، وما يمكن أن يتجلى ويظهر بعد عملية التفسير والإيضاح؛ فالمعنى هو ما يدل عليه اللفظ من مضامين، فاللغة تلعب هذا الدور مع العلم أنها ترتبط بالتفكير، وبالتصور الذهني، فنحن نمارس عملية التفكير والتواصل من خلال اللغة ومن خلال طبيعة استعمال مفردات اللغة، وهو استعمال متفاوت من جماعة إلى أخرى ومن فرد إلى آخر.. وهي مسألة اقتضت الوقوف عند مستويات من المعنى من أهمها:
المعنى اللغوي: يعرف من خلال ما أقرته معاجم اللغة، حيث يتم تحديد معنى الكلمة لوحدها أو في علاقتها مع بعضها لتقريب معناها في ذاتها.
المعنى الاصطلاحي: وهو معنى للفظ معين تم الاتفاق بشأنه بين أهل فن من الفنون أو علم من العلوم في مختلف مجالات المعرفة، وقد يختلف من علم إلى علم. إلى درجة أننا نجد اليوم مصطلحات كل علم يتواصل بها ذوو اختصاص في تخصص معين، فلذوي الطب مصطلحاتهم الطبية، ولذوي القانون مصطلحاتهم القانونية... وعند القدماء وخاصة فيما اتصل بعلوم الشريعة تمييز بين المعنى اللغوي والمعنى في الاصطلاح الشرعي.
المعنى العُرْفِي: ويرتبط بسياق جماعة معينة في زمن معين ومكان معين وثقافة معينة، وما توافقوا بشأنه من مصطلحات في تواصلهم اليومي، وقد يتحول المعنى العرفي إلى معنى اصطلاحي ولغوي، خاصة إن ورد منسجما مع قواعد لغة من لغات التواصل.
المعنى المترجم: وذلك بنقل حمولة مصطلح من بين المصطلحات في مختلف مجالات المعرفة، الى لغة أخرى.
المعنى النصي: نسبة إلى النص، فكل نص يتكون من مجموعة من الألفاظ والكلمات، ولا يمكن أن نغفل دور سياق النص في طبيعة المعنى الذي يعطيه للكلمة، كمعنى إضافي عن معناها اللغوي أو الاصطلاحي أو العرفي...
ووفق هذا السياق، نجد عبد القاهر الجرجاني (-471 هـ) يميز بين "المعنى"، و"معنى المعنى"، ويعني بالمعنى المفهومَ من ظاهرِ اللفظِ والذي نصِلُ إليه بغير واسطة و"بمعنى المعنى"، أن تَعْقِل من اللفظِ معنًى، ثم يُفضي بكَ ذلكَ المعنى إِلى معنى آخرَ؛ فمعنى المعنى هنا عند الجرجاني هو ارتقاء في فهم اللفظ من معناه إلى معنى آخر، أكثر اتساعا في علاقته بغيره من الألفاظ والقرائن في نص معين. وهذا التمييز بين المعنى ومعنى المعني، يقترن في زماننا بـ"الفهم" و"فهم الفهم"؛ فالمعنى قد يتبادر إلى الذهن بشكل عفوي وبسيط أحيانا، بينما معنى المعنى يقتضي ملكة وجهدا وتقديما وتأخيرا.. أي صناعة لها أهلها ومجالها، وقد يتطلب الأمر استعادا نظريا وعقليا ونوعا من التأمل من أجل بلوغ ذلك. وكذلك هو الأمر مع المعرفة التأويلية التي تميز بين الفهم، للنص وفق زمن مضى وبين طبيعة فهم ما تم فهمه وتجاوزه إلى فهم جديد وغير مسبوق في التعاطي مع مختلف النصوص وبالأخص النصوص الدينية. بإمكاننا اليوم أن ننظر إلى مجمل ما كتب في الثقافة الإسلامية حول القرآن بأنه معنى من بين المعاني، نحن اليوم بالإمكان فهم معنى ذلك المعنى، وهي مسألة تجعلنا نتجاوزه إلى معنى جديد ومفارق له، متصل ومنفصل عنه في الوقت ذاته.
وفقا لهذا السياق العام، نفهم عنوان كتاب التهامي الحراق "في مدد المعنى تفكرات ومقاربات في القرآن الكريم" فالمَدَدُ: بمعنى ما يُزاد به الشَّيء ويكثر، كما أنه يفيد العون على فعل الشيء والقيام به. جاء في القرآن قال تعالى: "وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)"(الطور). قال تعالى: "وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)"(نوح). لا شك بأن مؤلف الكتاب ينبه إلى كون المعنى بأنه ممتد ومتسع ومفتوح، وفي الوقت ذاته فالمعنى في القرآن عون وإعانة للإنسان من خلال ما يهتدي إليه من الأخلاق والقيم والمثل العليا. في التعاطي مع حاضره ومحيطه، وفي استشعار ماضيه ومستقبله قال تعالى: "وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)"(النحل).
يرى التهامي الحراق، أن "من مفاتيح كيمياءِ القرآنِ الكريم أن نصمتَ استماعًا إليه وإنصاتاً إليه؛ ومعنى هذا المفتاح أن نُفْرِغ بواطنَنا مما يحجُبُنا عن إسفاراتِ السَّفَرِ في القرآنِ وبه؛ أن نحاولَ بِصَمْتِنَا مجاورتَه في ثناياهُ السريةِ قبلَ محاورتِه بصوتِنا من خلال معارفِنا المتطورة والمتجدِّدَة؛ أن نحاول الإصغاءَ للمطْلَقِ فيه قبل أن نستعملَ مداركَنا النسبيةَ للنهل من "معانيه القديمة" ما تستطيعُه "أوانينا الحادِثَة" هنا والآن".[1]
القرآن والعقل الساجد
كثيرة هي المفاهيم التي اعتمدها التهامي الحراق، وهو يقارب موضوع مدد المعنى في القرآن من بينها، تنبيهه إلى موضوع العقل والعقلانية، وهذه الأخيرة تتصف بالتعدد؛ فبالإمكان الحديث عن عقل غربي، وعقل إسلامي، وعقل أمريكي وآخر صيني...هذا إن نظرنا إلى العقل من جهة أنه أداة للنظر والتفكير لا يمكن فصلها عن الانتماء للثقافة والحضارة؛ فالعقل يتعدد بتعدد الثقافات في الحاضر والماضي. أما إن نظرنا إلى العقل كغريزة وملكة للتمييز، يفترق بشأنها العاقل وغير العاقل، فهو نعمة كونية، وهو أعدل قسمة بين الناس.
تحدث التهامي الحراق عن جانب منهجي في التعامل مع القرآن في غاية الأهمية سماه "العقلُ الساجدُ"، وهو عقل "ينشغلُ في قراءتِه لجدلية التعالي والتاريخ في النص القرآني بسؤال المعنَى لا بسؤال الحقيقة. أمر لا يستوعبُ العقلان الجاحدُ والراكدُ أبعادَه وأدواتِه ومقتضياتِه. منطقُ المعنى ينظر إلى الحقيقة بما هي مفعولٌ لا بما هي فاعلٌ؛ أي إن الحقيقة ليست في مطابقة القول للواقع، أو في "مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان" بلغة الأجداد، ولا في فهم قَصَصِ النص الوحياني بوصفه تاريخا للأحداث والوقائع التي جرت في الزمان والمكان. منطقُ المعنى يُنْتِجُ الحقَّ في المُخَاطَب، وسؤالُ المعنى يفيدُ أن النصَّ ينتج حقائق مخصوصةً من القيم في المخاطَب تُقدرُه على صناعةِ الفعل وصياغةِ التاريخ. الحقيقة في منطق المعنى تجد أثرَها هنا لا هناك، والآنَ لا في الماضي، وفي الفعل لا في التصور المجرّد عن أي فعل. منطقُ المعنى ينشغلُ بأثرِ النص في إقدارِ المتلقي على الفعل في التاريخ، فيما منطقُ الحقيقة ينشغلُ بمطابقةِ معنى النص لِمَا حَصَلَ في التاريخ. وربما كان أجلَى مثال على منطق المعنى هو مفهوم ضَربِ الأمثال في القرآن الكريم، فاللهُ سبحانه ضرب لنا أمثالاً عديدةً في القرآن الكريم، مضمونُ هذه الأمثالِ خارجَ منطقة الصِّدق أو الكذب التي تعتقل منطقَ الحقيقة؛ لكونِ مصداقيةِ المَثَلِ المضروبِ في مدَى قدرتِه على تبليغِ المعنى؛ أي تبليغِ القيمة، حِكمةً أو عِبْرةً أو تذكرةً أو اعتبارا أو خُلُقا أو حُكْما..، وفي مدى إحداثِ التحويلِ والتغيير في ذهْنِ المخاطَب وفي نفسِه، ومن ثَم في سلوكه الواقعي وفعله التاريخي. لذلك، يسعى "العقلُ الساجد" إلى استنباط هذا المعنى واستبطانه، استنباطه عقلاً واجتهاداً، واستبطانه روحاً ومجاهدة، ولا ينشغِلُ بمِصْداقهِ التاريخي؛ لأن قوتَه في معناهُ وفي أثرِهِ وما يُتِيحُه مِن إمكان، لا في كونهِ حصلَ أم لم يحصل في الزمان والمكان"[2] .
القارئ للكتاب سيجد أن صاحبه التهامي الحراق يمد صلات الوصل والحوار مع مختلف المناهج والرؤى والاجتهادات في فهم القرآن الكريم، كما أنه يستثمر مختلف تلك الاجتهادات في بناء نموذج من التفكير غايته الاجتهاد بما ينسجم مع مقتضيات العصر.
[1] الحراق، محمد التهامي، "في مدد المعنى: تفكرات ومقاربات في القرآن الكريم"، دار أبي رقراق، الرباط، 2024، ص ص. 21-22
[2] الحراق، محمد التهامي، "في مدد المعنى: تفكرات ومقاربات في القرآن الكريم"، دار أبي رقراق، الرباط، 2024، ص ص.49-50