قراءة السّيرة وغياب المنهج
فئة : قراءات في كتب
قراءة السّيرة وغياب المنهج:
قراءة في كتاب: (أيَّام محمَّد الأخيرة)
تأليف: هالة وردي
قراءة: ناجية الوريمّي
الكتاب: أيَّام محمَّد الأخيرة، هالة وردي، Albin Michel
مقدّمات ثلاث:
ضجَّة وكتاب: صدر في الفترة الأخيرة كتاب أثار لغطاً بسبب الجرأة التي تميَّزت بها صاحبته، وبسبب تناوله موضوعاً يعود اليوم إلى صدارة الاهتمام العربي والعالمي، وهو موضوع الدّين الإسلامي والعنف. وكانت ردود الفعل الأولى على هذا الكتاب، في معظمها، ردوداً انفعاليَّة تتجاوز الحوار العلمي الهادئ إلى التكفير.
مساندة حريَّة التفكير: الموقف الأوَّل والمبدئي، الذي يفرضه الإيمان بالقيم الكونيَّة الحديثة، هو الدفاع عن حريَّة التفكير أيَّاً كان الموقف أو الرأي؛ فهو اجتهاد أو تقدير حاول صاحبه أن يوفّر له ما رآه صالحاً من المستندات، وما ارتضاه من طريقة في التأويل. والحوار العلميُّ هو السبيل الوحيد إلى تعديل الرؤى والمواقف.
القراءة الإيديولوجيَّة وغياب المنهج: كلُّ بحث لا يوضّح صاحبه منهجه في القراءة؛ لكي يوجد عقداً بينه وبين القارئ في تسويغ ما يصل إليه من نتائج، هو بحث مخاتل، رهانه ليس مشدوداً إلى غايات معرفيَّة جريئة -كما يعلن- بل هو مشدود إلى غايات إيديولوجيَّة تترجمها أفكار مسبقة تبحث لها عن تبرير. والتبرير لن يكون ممكناً إلَّا في ظلّ غياب المنهج وتحويل المدوّنة إلى مجرَّد مقتطفات معزولة عن سياقاتها النصّيَّة والتاريخيَّة والإبستمولوجيَّة، وقابلة للتوجيه الدلالي. فلا يعدو البحث إذَّاك أن يكون قراءة مفكّكة في نتائجها العلميَّة، ومنسجمة في المقابل مع استراتيجيا إيديولوجيَّة نتائجها حاصلة قبل فعل القراءة.
بناء على هذه المقدّمات، سندرس في هذا المقال الكتاب المذكور، من خلال المستويات النظريَّة والإجرائيَّة التالية:
ـ في ضرورة المنهج: فعل القراءة والتَّأويل.
ـ غياب المنهج في (أيَّام محمَّد الأخيرة)، والوقوع في تناقضات داخليَّة.
ـ غياب المنهج في (أيَّام محمَّد الأخيرة)، وتشظية النصوص.
1. في ضرورة المنهج: فعل القراءة والتَّأويل
يحيل فعل القراءة على الخطاب المكتوب؛ فما هو هذا المصطلح؟
الخطاب هو فعل لغوي ينتج عنه نصّ (un texte)، ويؤطّره سياق (un contexte)، ويوجّهه قصد (une intention). فهو وحدة معقَّدة ذات أبعاد متعدّدة: بُعد ألسنيّ باعتباره نصَّاً، وبُعد اجتماعي باعتباره منتَجاً في سياق معيَّن، وبُعد تواصليّ باعتباره تفاعلاً هادفاً.
لمَّا كانت مادَّة العمل نصَّاً؛ أي مدوَّنة مكتوبة، يُركّز الاهتمام في الوسائل المنهجيَّة المتعلّقة بقراءة النصّ عموماً، وهي جملة مقاربات منهجيَّة تجمع بين جوانب تتعلّق ببنية النصّ وأخرى تتعلّق بظروف إنتاجه، وثالثة تتعلّق بمحدّدات التقبّل. فالمدخل المنهجيّ الخاصّ ببنية النصّ يشمل تحليل مكوّناته اللغويَّة المباشرة: جهازه الاصطلاحي والمفاهيمي، بنيته الاستدلاليَّة، سجلَّاته اللغويَّة، مرجعيَّاته، أساليبه في الإبراز والحجب، في الإثبات والإقصاء، في الإيجاز والإطناب، في توظيف الذاكرة الخطابيَّة الذي يظهر في التناصّ... إلى غير ذلك. لكنَّ المدخل النَّصّيَّ فقط غير كافٍ؛ لأنَّه -كما يذهب إلى ذلك باختين[1]- يبقى محدوداً من حيث هو «تجاهل للتاريخيَّة» (méconnaissance de l’historicité). وهنا تأتي الحاجة إلى المدخل الخاصّ بظروف إنتاج النصّ، فهو ينير السياق التاريخيّ الذي أدَّى إلى ظهوره، والذي يثبت تعالق «اللغة والتاريخ»[2] في حدث الكتابة، من حيث فهم العوامل الموضوعيَّة التي حدَّدت كيفيَّة تشكّل هذا النصّ ووجَّهت أهدافه. ضمن هذا المدخل يندرج اعتماد كلّ المناهج التي أقرَّتها علوم الإنسان والمجتمع، تلك التي تساعد على استحضار معطيات وحقائق خارجة عن بنية النصّ، لكنَّها تفيد كثيراً في إنارة جوانب ومفاهيم مكوّنة له. وهي مستمدَّة من التاريخ[3] أو الاجتماع أو علم النفس أو الإبستمولوجيا. أمَّا المدخل الثالث، وهو الخاصُّ بكيفيَّة تقبّله، فله مزيَّة تفكيك الآليَّات التي تخضع لها عمليَّة الفهم والتأويل. وقد حدَّد غادامر هذا المدخل بكونه «لا يتمثَّل أبداً في تطوير طريقة فهم؛ بل في شرح الظروف التي يجري فيها الفهم»[4]. ويضيف: «دور التأويليَّة توضيح حقيقة التاريخ في صلب الفهم في حدّ ذاته... والفهم هو في جوهره ظاهرة تندرج في إطار هذا التاريخ»[5].
إنَّ كلَّ هذه المداخل ضروريَّة ومتكاملة، وهذا ما ينهض به تحليل الخطاب. فالمعنى ليس منحصراً في حدود النصّ وحده، ولا في تاريخيَّته ولا في كيفيَّة تفاعل المتقبّل معه أيضاً؛ بل هو مشروط بها جميعاً. ووراء كلّ هذا تنبجس المسلّمة التي أقرَّها كلُّ فلاسفة الخطاب، وهي أنَّ لكلّ نصّ حقيقتَه، وأنَّ لكلّ منتجِ خطابٍ عن واقع ما تمثُّلَه. ولا يمكن سحب تمثُّلٍ ما للواقع على الواقع نفسه، والقول إنَّ هذا هو ذاك؛ وهو ما يعني ضرورة الانتباه إلى مخاتلة الخطاب التأريخي في تقديمه للحقيقة المكوّنة على أنَّها الحقيقة الكائنة.
إزاء هذه المداخل الضروريَّة في القراءة والتأويل اليوم، لم يعد هناك مجال لمواصلة فعل القراءة باعتباره تلخيصاً أو مجرَّد تجميع لمعطيات متفرّقة من النصوص، ثمَّ البناء عليها بحجَّة: «هذا موجود في المصادر»[6]. هذا منطق في القراءة ساذج: هو موجود. لكن من أوجده؟ ولأيَّة غاية؟ وكيف صيغ خطابيَّاً؟ وهل وحده موجود أم هنالك ما يخالفه؟ ثمَّ ما هو حيّز وجوده في خطاب «متمذهب»؟ وكلُّ هذه الأسئلة ليس لها أيُّ صدى في قراءة الباحثة.
2. غياب المنهج والوقوع في تناقضات داخليَّة
يضمن الحرص على اتّباع منهج ما، أو مجموعة مناهج، تناسق القراءة واسترسال مكوّناتها الدلاليَّة في إطار تصوُّر واضح المنطلقات والنتائج. لكن كانت النتيجة الأولى لغياب المنهج في هذا الكتاب، غياب التصوُّر الواضح والمتناسق من حيث مكوّناته الداخليَّة: فتجميع معطياتٍ لا رابط بينها سوى كونها «محرجة» أو «صادمة» للقارئ غير المختصّ، سيخلق نشازاً في أكثر من مستوى: فبين معطيات مستقاة من خطاب سنّيّ، وأخرى من خطاب شيعيّ، وأخرى من مصادر غير إسلاميَّة، نشاز بل تنافر، وهذا ما لمسناه في هذه القراءة. ونقدّم فيما يلي أبرز التناقضات:
التناقض الأوَّل: كامل الكتاب مخصَّص لإثبات الصراعات التي جدَّت في آخر أيَّام محمَّد بسبب مسألة الخلافة، وكيف أدَّت إلى اغتياله، فمات مسموماً في المدينة، ولم يدفن إلا بعد بضعة أيَّام. وقد حشدت الكاتبة شواهد وتحليلات عديدة لإثبات هذا التصوُّر. ثمَّ، وبكلّ بساطة، تهدم كلَّ ما قامت به لتقول إنَّ محمَّداً لم يمت في المدينة، وفي السنة المتعارف عليها، بل في غزَّة سنة 634[7]، هي تشكّك في تاريخ وفاة محمَّد: ليست سنة 632 في المدينة؛ بل سنة 634 في غزَّة؟ لماذا الكتاب إذاً؟ ولماذا هذا التجميع الانتقائيّ للمعطيات لإثبات أنَّ الرسول مات مسموماً، سمَّه الطامعون في الخلافة بعده: عمر وأبو بكر. فهي تقول: «الرسول توفّي في غزَّة وليس في المدينة، ولكنَّ التاريخ الرسميَّ أبدل المسألة لتكثيف رمزيَّة الحجاز ودعم دوره الرُّوحي والسياسيّ»[8]. إذن، مؤامرة قتل محمَّد في المدينة كلّها تصبح لاغية. ثمَّ تضيف، اعتماداً على مصادر غير إسلاميَّة تعود إلى القرن الثاني عشر للميلاد: سنة 634 شوهد محمَّداً في غزَّة يقود حملة نحو الأرض المقدَّسة سنتين إلى ثلاث سنوات بعد تاريخ وفاته المتعارف عليه؛ [9] (أي إنَّه لم يمت سنة 632). ولم تثر الباحثة أيَّ تساؤل عن الظرف التاريخي، وهو القرن الثاني عشر للميلاد. ألا يمثّل هذا الظرف فترة الحروب الصليبيَّة؟ والحرب إذّاك، أليست فكريَّة بقدر ما هي عسكريَّة؟ ولماذا تصدّق هذه المصادر غير الإسلاميَّة، وتشكّك في مصداقيَّة المصادر الإسلاميَّة؟ أليس الخطاب الخاضع لرهانات دينيَّة أو مذهبيَّة خطاباً تتحكَّم فيه الآليَّات ذاتها إسلاميَّاً كان أم مسيحيَّاً أم غيره؟ وتواصل الباحثة تخصيصها للخطاب غير الإسلاميّ، في حديثه عن الإسلام، بمصداقيَّة فريدة، عندما تقول: «إنَّ مصادر غير إسلاميَّة تعود إلى عهد الرسول يونانيَّة وسريانيَّة تتمتَّع بمصداقيَّة ترفعها عن الشكّ؛ لأنَّها خالية من أيّ طابع إيديولوجي أو تيولوجي»[10]. لماذا تخلو هذه المصادر بالذات من أيّ طابع إيديولوجي؟ ألم يكن منتجوها منخرطين في الصراعات الدينيَّة والسياسيَّة الدائرة عصرئذٍ؟[11].
التناقض الثاني: الكتاب مبنيّ على تصوُّر مفاده أنَّ العنف متأصّل في التاريخ الإسلامي؛ أي منذ الحدث التأسيسيّ. والدليل هو محاولات اغتيال محمَّد المتكرّرة، والتي انتهت بقتله فعلاً عن طريق السمّ في المدينة. وإذا كان محمَّد مات في غزّة (كما تقول الكاتبة مصدّقة المصادر التي ذكرت)، ولم يقتله أصحابه في المدينة، وفق السيناريوهات التي دقّقت وصفها، فكامل التصوُّر الذي تحاول الاستدلال عليه يصبح غير ذي معنى.
التناقض الثالث: تسعى الباحثة، في كامل الفصول، إلى إثبات السياسيّ في دعوة محمَّد وفي تجربته، معتبرة إيَّاه رجل دولة، ثمَّ تنتهي إلى أّنَّه لم يكن إلَّا مبشّراً بالنهايات، بالقيامة، ومعرضاً عن الدنيا. ودين محمَّد الأصليّ لم يكن يتجاوز هذا التبشير بنهاية العالم. واستعملت في البداية، وفي معظم الفصول، سجلَّاً سياسيَّاً في حديثها عن الرسول، ثمَّ تختم الكتاب بكونه لم يكن يفعل إلَّا أن يبشّر بالآخرة. فهي تقول في آخر الكتاب: «استهدف محمَّد الشرق الأوسط والقدس تحديداً؛ لأنَّه يريد حمل أصحابه إلى هناك ينتظرون يوم القيامة»[12]. وبما أنَّه جاء يبشّر بنهاية العالم، لم يرَ فائدة من التوصية بالخلافة. بهذا الاعتبار يسقط كلُّ ما قالته حول منعه من كتابة وصيَّته بالخلافة لعليّ؛ بل تتجاوز مسألة التوصية لترجّح أنَّ الإسلام هو إحداث متأخّر جاء بعد وفاة محمَّد. ولم يكن في البداية، أو في الأصل، إلَّا مجرّد تبشير بالنهاية. والسؤال الذي يُطرح: أين رجل الدولة الذي حدَّثتنا عنه كثيراً، في هذه النزعة الأخرويَّة؟
التناقض الرابع: الكتاب مبنيّ على تصوُّر مفاده أنَّ عداء المسلمين للغرب متأصّل، ومنطلقه استهداف محمَّد للروم المسيحيّين. وما تشبُّث المسلمين بالقدس اليوم إلَّا استمرار لهذا العداء وصراع حول امتلاك الأرض المقدَّسة التي أقنع بها الكتابيُّون محمَّداً. وإذ ثبت من خلال ما أهملته الباحثة من معطيات (وهو ما سنبيّنه لاحقاً) أنَّ محمّداً لم يكن في حروبه القليلة مع الروم إلَّا رادَّاً على اعتداءاتهم (وهذا كان عاديَّاً في منطق الصراع التقليديّ الذي حكم موازين القوى في المنطقة) سقط كامل التصوُّر الذي أقامته.
التناقض الخامس: وهو يهمُّ علاقة الرسول بالرُّوم، فقد قدَّمت الباحثة في شأنها معطيات متناقضة: أوَّلها اعتبارها، في فصل «تبوك الغزوة الأخيرة»[13]، أنَّ هدف الرسول الأوَّل هو السيطرة على الجزيرة، ثمَّ أصبح هدفه غزو الشمال لاحتلال القدس؛ وذلك لأنَّ اليهود تحدَّوه، وقالوا له إنَّ طريق الحقّ يقع في الشام. وترى الباحثة أنَّ هذا ما دفع محمَّداً إلى رسم مشروع مجابهة الإمبراطوريَّة الرُّوميَّة. المعطى الثاني تتراجع فيه عن هذا الرأي، وترى أنَّ مشاريع محمَّد ضدَّ بيزنطة والاستيلاء على القدس توقَّفت بعد وفاة ابنه إبراهيم، فقد انطوى على نفسه، وتوقَّفت مشاريع غزو بيزنطة: هكذا وبكلّ بساطة تؤدّي وفاة صبيّ إلى إيقاف مشروع بهذه الأهمّيَّة، وهذا الثقل الاستراتيجي لو صحَّ. ثمَّ، وفي معطى ثالث، تغيَّر التصوُّر تماماً، وتقول إنَّ الرسول في حربه ضدَّ بيزنطة أراد إدخال أصحابه في حرب مزمنة غايتها ملء الخزائن وضمان الوحدة بين أفراد المجموعة عن طريق مواجهتها بعدوٍّ أجنبيّ[14]. ولا يقف الاضطراب عند هذا الحدّ، بل يصل إلى درجة نقض كلّ ما سبق، وذلك عندما تتساءل عن الأهداف الحقيقيَّة للحرب ضدَّ الرُّوم، وتجيب: إنَّها إعلان حرب اقتصاديَّة عليهم بناء على خبر يقول فيه أحد المشاركين في الحملة: إنَّهم كانوا يبيعون ويشترون والرسول يراهم ولا يمانع[15].
التناقض السادس: يهمُّ ما أوردته حول بعثة أسامة بن زيد؛ فالرَّسول، سنة 11، يأمر أسامة بن زيد ليغزو الرُّوم في أُبنى بناحية البلقاء بالشام، وكان في الجيش عمر وأبو بكر. ترى الباحثة، في مرحلة أولى، أنَّ الهدف الحقيقي هو إبعاد أبي بكر وعمر عن المدينة، حتَّى يخلو له الجوّ في تعيين عليّ من بعده[16]. والسؤال الذي يُطرح هنا: كيف تكون هذه خطَّة الرسول وقد اختار، في وقت إرسال البعثة نفسه، الاستقرار في بيت ابنة أبي بكر عائشة، خاصَّة وأنَّ الباحثة تذكر لاحقاً[17] أنَّ عائشة كانت تتجسَّس لصالح أبيها وعمر ضدَّ عليّ؟ وإذا جارينا الباحثة في تفسيرها غرضَ البعثة، فكيف نفسّر إصرار أبي بكر، بعد وفاة الرسول، على إرسال البعثة ذاتها إلى الشام؟ كيف يُقبل إذّاك أنَّه لم يكن لها من غاية إلَّا إبعاده عن المدينة؟
إنَّ الناظر في الكتاب تواجهه تناقضات عديدة تحكم طرح الباحثة للمسائل والأحداث، وهي تناقضات تفقده طابع الرؤية العلميَّة والقراءة النقديَّة المتناسقة. والسبب في كلّ هذا الاضطراب غياب الوعي بالمنهج. فمجرَّد التجميع الذي حرصت عليه الباحثة لا يؤدّي إلَّا إلى بناء مضطرب توجّهه المعلومات المتفرّقة في أكثر من اتّجاه.
هكذا بدا التصوُّر العامّ في الكتاب مفتقداً مقوّماتِ الانسجام بين المعطيات والمعلومات بطريقة تنتج صورة واضحة للموضوع المدروس. لكن بالنظر في نوعيَّة هذه المعطيات والمعلومات التي استأثرت باهتمام الباحثة، فجمعتها من مختلف المصادر المذهبيَّة الطابع، نجد أنَّها - كما تقول- صادمة ومحرجة، بل مستفزّة أحياناً للقارئ غير المختص. هي كذلك، لأنَّها تقع في منطقة السجال المذهبيّ بين أهل السُّنَّة والشيعة؛ فما يصوغه كلُّ طرف من أدبيَّات للقدح في خصمه وإفقاده المشروعيَّة، يصبح لدى الباحثة «حقائق» تحتاج إلى أن نبرزها. ولم تنتبه إلى أنَّ إبرازها اليوم بصفتها «حقائق صادمة» لا بصفتها أسلحة «خِطابيَّة» (discursives) في صراع مذهبيّ حادّ، لن يفعل إلَّا أن يذكي الفتنة المذهبيَّة والعقديَّة التي لا يزال المجتمع العربي يعاني من تبعاتها إلى اليوم. ولم تنتبه أيضاً إلى أنَّ قراءتها التي تصفها بالنقديَّة لا تعدو أن تكون إعادة إنتاج خطيرة لموادّ أفرزها الخلاف المذهبيّ لتقديمها في صورة «حقائق التاريخ».
يُضاف إلى غياب الانسجام في التصوُّر العامّ، تشظية الباحثة للنصوص واقتطاعها من سياقاتها لتوجيهها دلاليَّاً في الوجهة التي تريد، واقعة بذلك في سوء فهم وفي فهم جزئيّ تخلّلا طرحها العديدَ من القضايا. ولعلّه من الحريّ أن نشير إلى عدم تمكُّن الباحثة من استعمال مقوّمات المدوَّنة التي تشتغل عليها، ونعني: أسماء الأعلام، والمصطلحات، وترجمة بعض الشواهد. ففي نقل الأسماء إلى اللغة الفرنسيَّة (اللغة التي كُتِب بها الكتاب) سجَّلنا الكثير من الأخطاء[18]، وفي استعمال بعض المصطلحات المهمَّة لم تنتبه إلى حقيقة دلالاتها[19]، وفي الترجمة وقفنا على قصور في النقل الأمين للدلالات الأصليَّة.[20]
3. غياب المنهج وتشظية النصوص (Fragmentation des textes)
قامت الباحثة باقتطاعٍ لمعطيات من سياقاتها النصّيَّة والتاريخيَّة، وحمَّلتها من الدلالات ما لا يستقيم. وسنقف فيما يلي عند المسائل الأساسيَّة التالية، التي كان للقراءة المفكّكة تأثير في صياغتها؛ وهي: 1. البعد السياسيّ في تجربة الرسول؛ 2. مسألة الحرب مع الروم؛ 3. رفض الإسلام للاختلاف؛ 4. العنف في الإسلام من خلال موت الرسول؛ 5. مسألة التشكيك في نسب محمَّد.
3. 1. مسألة البعد السياسيّ في تجربة الرَّسول:
تتناول الباحثة هذه القضيَّة من خلال مستويين: الأوَّل هو اعتبار الرَّسول صاحب دولة، والثاني هو مسألة خلافته: هل أوصى؟ ولمن؟
تثبت الباحثة العلاقة بين الدّين والسياسة في تجربة الرَّسول؛ فهي تستعمل سجلَّاً سياسيَّاً في الحديث عن هذه التجربة: «مسألة الخلافة»، «الخطر السياسيّ الدينيّ»، «محمَّد أسَّس نظاماً سياسيَّاً جديداً فرضه على قسم كبير من الجزيرة»... وغير ذلك، وتستشهد على ذلك بأمثلة تقتطعها من سياقها غاضَّة النظر عمَّا يخالفها. ونقدّم المثال التالي: فهي تعتمد على كتاب (الطبقات الكبرى) لمحمَّد بن سعد، لاستمداد الشواهد «السياسيَّة»، لكنَّها تسكت عن الأخبار التي من هذا القبيل: لم يكن الرسول يطلب ملكاً ولا يريد إقامة دولة: ففي غزوة خيبر سنة 7هـ قال لعليّ لمَّا سأله: يا رسول الله علامَ أقاتل؟ قال: «حتَّى يشهدوا أن لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منّي دماءهم وأموالهم إلَّا بحقّها وحسابهم على الله»[21].
موضوع الوصيَّة: تنظر الباحثة إلى محمَّد باعتباره حاكم دولة، وتدرس مسألة منعه من كتابة الوصيَّة، وتبرز رفض عمر كتابةَ هذه الوصيَّة. وحلقة الربط الأساسيَّة في هذه الوصيَّة، التي تَعدّها صحيحة ولا غبار عليها، عبد الله بن عبَّاس. وتسكت عن السياق التاريخيّ الذي تضخَّمت فيها الأخبار السياسيَّة عن ابن عبَّاس بالذات. والخبر المذكور تبلور في العهد العبَّاسي، وينتمي إلى مسألة البحث عن المشروعيَّة الدينيَّة لاحتكار السلطة. من شبه الثابت فيما رُوي عن ابن عبَّاس أنَّ موضوع الوصيَّة هو لصالح العبَّاسيّين، وليس للعلويّين. وفي ما يلي نورد تكملة الخبر الذي اجتزأته الباحثة: لمَّا سأل العبَّاس عليَّاً أن يتبيَّنوا أمر الخلافة أجاب عليّ: "يا عمّ، وهل هذا الأمر إلَّا إليك؟ وهل من أحد ينازعكم في هذا الأمر؟"[22]. هذا ما ورد في الخطاب السنّيّ العبَّاسيّ. أمَّا في الخطاب الشيعيّ، فالتوصية هي لصالح عليّ. فضلاً عن ذلك، لم تثر الكاتبة أيَّ تساؤل عن الراوي وهويَّته السياسيَّة: فهي تثبت كثيراً روايات عنه، والحال أنَّه لمَّا توفّي الرَّسول كان عمره 10 سنوات، أو 13 سنة أو 15 سنة على أقصى تقدير[23].
ولتأكيد البُعد الدرامي في مسألة الوصيَّة، تكرّر الباحثة أنَّ وصيَّة الرَّسول لا تتماشى ومصالح بعض الصَّحابة؛ عمر وأبي بكر بشكل خاص؛ لأنَّها ستفسد مخطّطهم في الاستيلاء على السلطة[24]. وتتحدَّث أحياناً عن انقلاب قام به عمر وأبو بكر[25]، ثمَّ تتساءل: لماذا مُنِع الرسول من كتابة وصيَّته بينما كتب أبو بكر وعمر وصيَّتيهما؟ إنَّها بهذا السؤال تغفل تماماً السياق التاريخيَّ المختلف بين وضع الرسول (statut)، ووضع هذين الخليفتين أو حاكمَيْ الدولة. إنَّهما حاكما دولة، لكنَّ محمَّداً لم ينشئ دولة، ولا كانت له غايات سياسيَّة. والتوصية واردة مع الحاكم السياسي، وليست واردة مع من لم يكن سائساً، ولا كانت مسألة الحكم من أهدافه.
لقد اجتهدت الكاتبة في إثبات البعد السياسي لتجربة الرَّسول، وهي بذلك تقدّم (وبامتياز) خدمة للمتطرّفين دينيَّاً الذين يرفضون مدنيَّة الدولة بحجَّة أنَّ الإسلام في حقيقته سياسة ودين. بهذا الإثبات تعود بنا هالة وردي إلى ما قبل علي عبد الرازق في النصف الأوَّل من القرن العشرين. ولسنا ندري إن كانت واعية بهذا أم لا؟
3. 2. مسألة الحرب مع الرُّوم:
حرصت الكاتبة في كامل الكتاب على إثبات أنَّ للإسلام منذ مَنشَئه مشكلة مع الرُّوم المسيحيّين. وقياساً عليه، أو امتداداً لهذا المبتدأ الإشكاليّ، بحسب رأيها، تقول إنَّ الإسلام له مشكلة مع أوربَّا اليوم. وتقتطع أخباراً من سياقها، وتنتقي أخرى، مهمِلةً ما يخالفها، لتؤكّد هذا العداء الدفين الذي يكنّه المسلمون لأوربَّا وللمسيحيّين[26].
ويظهر الانتقاء والاقتطاع في ثلاثة مستويات: الأوَّل السكوت عن أخبار تفيد تعاطف الرسول مع المسيحيّين لأنَّهم أهل كتاب، والثاني هو التركيز على غزوات بعينها من جملة ما قام به الرسول من غزوات في «أيَّامه الأخيرة»، وهي تلك الموجَّهة إلى الرُّوم تحديداً، والثالث هو السكوت عن أنَّ هذه الغزوات الموجَّهة إلى الرُّوم كانت ردوداً على اعتداءات «روميَّة»، ولم تكن مبادرة ولا ابتداءً.
المستوى الأوَّل من الاقتطاع: هناك أخبار عديدة تفيد تعاطف الرسول مع النَّصارى لأنَّهم أهل كتاب، وأكبر دليل على ذلك أنَّه احتمى بملك الحبشة في بداية الدعوة لينجد أتباعه من تنكيل الملأ المكّيّ. وفي حرب الرُّوم ضدَّ الفرس تمنَّى النصر لهم؛ لأنَّهم أهل كتاب وأولئك مجوس وتنبَّأ بذلك، ونزلت الآية (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) [الروم: الآية 2][27]. كذلك قسْ بقيَّة الواقعات التي تقاتل فيها هذان الطرفان[28]. لكنَّ أخباراً من هذا القبيل لا تجد طريقها إلى كتاب هالة وردي؛ لأنَّها تفسد خطَّة الوصم المقرّر للمسلمين في ما ستنسبه إليهم من معاداة للمسيحيّين، وهو الذي سيتواصل في شكل الاعتداءات التي تلقاها أوربَّا اليوم من الإسلاميّين.
المستوى الثاني: ذكرت الباحثة أنَّ غزوات محمَّد الأخيرة هي مؤتة سنة 8هـ، وتبوك سنة 9هـ. وعندما تظهر هاتان الغزوتان وحدهما في آخر أيَّام محمَّد، يمكن أن نستنتج فعلاً أنَّه يستهدف الروم البيزنطيّين دون غيرهم. لكن عندما نعود إلى المصادر التي تحدَّثت عن سيرة الرسول[29] نجد أنَّه قام بـ 18 سريَّة وغزوة بين مؤتة وتبوك، ويحسن أن نوردها حتَّى نتبيَّن العمليَّة الانتقائيَّة الموجَّهة التي قامت بها الباحثة: سريَّة مؤتة، سريّة ذات السلاسل، سريَّة الخبط، سريَّة خضرة، سريَّة بطن إضم، غزوة مكَّة (الفتح)، سريَّة العزَّى، سريَّة سواع، سريَّة مناة، سريَّة كنانة، غزوة حنين، سريَّة ذي الكفّين، غزوة الطائف، سريَّة بني تميم، سريَّة خثعم، سريَّة بني كلاب، سريَّة الحبشة، سريَّة الفلس، سريَّة الجناب، ثمَّ تأتي غزوة تبوك[30]. لكنَّ الكاتبة تمرُّ مباشرة من مؤتة إلى تبوك، كأنَّما كلُّ الأهداف العسكريَّة مركّزة في بلاد الروم ليس غير. علماً بأنَّ محمَّداً قام بـ 27 غزوة، و47 سريَّة[31]؛ أي من بين 74 معركة أو حرباً خمسة منها فقط كانت ضدَّ الروم، ومعظمها هي ردود على هجوم أو استفزاز، كما يأتي.
المستوى الثالث من الاقتطاع: نجد في المصادر التي اعتمدتها الباحثة أنَّه غزا مؤتة؛ لأنَّ رسوله إلى ملك بصرى في الشام قتل. كان عدد المسلمين 3000، والروم أكثر من 100000. والفارق الكبير في القوى العسكريَّة يؤكّد أنَّ الحرب من جهة المسلمين هي نوع من الإجبار المعنويّ: لابدَّ من ردّ الاعتبار والثأر للرَّسول المقتول؛ لأنَّ الاختيار والمبادرة لا يمكن أن يقبلا إزاء هذا التفاوت الكبير في عدد الجيوش. وعندما نتتبَّع حروب المسلمين ضدَّ الروم نرجّح أنَّها ردود على مبادرات روميَّة في الاعتداء المعنويّ أو العسكريّ. وهذه هي النصوص التي أهملتها الكاتبة عمداً:
«بلغ الرَّسول أنَّ الرُّوم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأنَّ هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة وغسَّان»[32].
سنة 5 هـ الرَّسول يغزو دومة الجندل لاعتداء أهلها على التجَّار القادمين إلى المدينة. انتصر فيها الرَّسول لأنَّه باغت أهلها.[33]
سنة 6 هـ سريَّة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، لم يقع فيها قتال، دعاهم إلى الإسلام فأسلم بعضهم ورفض الآخرون. وتزوَّج ابنة ملكهم بأمر من الرَّسول[34].
سنة 8 هـ سريَّة كعب بن عمير إلى ذات أطلاح، وهدفها دعويّ، لكن قتلهم العرب الموالون للرُّوم، ولم يسلم سوى واحد من خمسة عشر رجلاً[35].
سنة 8 هـ غزا الرَّسول مؤتة بسبب قتل رسوله إلى ملك بصرى، انهزم المسلمون في البداية، ثمَّ انتصروا بإمارة خالد بن الوليد. كانوا ثلاثة آلاف مقابل مئة ألف من الرُّوم[36]. وتذكر الباحثة عرضاً مسألة قتل رسول الرَّسول، ومسألة استعداد قيصر للحرب[37]، ولا تعطيها أيَّة قيمة في صياغة الأحكام والاستنتاجات.
سنة 9 للهجرة كانت غزوة تبوك، وهي استباق لهجوم كان قيصر يجهّزه ضدَّ المسلمين. وسُمّيت بغزوة العسرة لشدَّة الظروف التي كانت فيها. ولم يقع تقاتل بين المسلمين والرَّوم، وكلُّ ما في الأمر أنَّ خالداً بن الوليد أغار على دومة الجندل فأسر أكيدرها، وصالحه على دفع الجزية. وقدم به إلى الرَّسول فأطلق سراحه. وعاد إلى المدينة[38]. في تعليق الباحثة على هذا الخبر تدين فعل خالد عند مباغتته أكيدر دومة، وتَعدّ دينه «دين قطّاع طرق»، والدّين الإسلامي دين قراصنة[39]، متسائلة: كيف لأكيدر أن يؤمن بدين قطّاع الطرق؟ في المقابل تسكت سكوتاً تامَّاً عن الغدر الذي تعرَّض له رسول محمَّد في مؤتة، رغم أنَّه اعتداء صارخ على الأعراف الدوليَّة في معاملة الرُّسل في تلك الفترة؟ ثمَّ لماذا لمْ تذكر أنَّ الرسول عفا عن أكيدر لمَّا جُلب إليه أسيراً، وكتب له كتاب أمان؟
وتستنتج الباحثة من هذا الاستهداف «التاريخيّ» لأراضي الرُّوم، وخاصَّة القدس، أنَّ قضيَّة القدس اليوم ظلّت رمزيَّاً مطلب المسلمين[40]؛ أي هي استمرار للغزو الذي افتُتِح في عهد الرسول؟ وبذلك يكون الفلسطينيُّون اليوم في تشبّثهم بالقدس غزاة لأرض غيرهم!
3.3. مسألة رفض الإسلام للاختلاف
تعتمد الباحثة في إطلاق هذا الحكم على حادثة رأتها مهمَّة الدلالة، وهي حادثة مسجد الضرار الذي رفض الرَّسول أن يصلّي فيه وهدمه؛ فهي تثبت من خلالها أنَّ الإسلام ضدّ الاختلاف عموماً[41]. وتقيس على هدم هذا المسجد هدم عمر منزلَ فاطمة، مبيّنة أنَّ السلطة السياسيَّة في الإسلام رافضة لأيّ اختلاف أو خروج عن الأمَّة. وعليه تقيس أيضاً محاربة أبي بكر للمرتدّين. بينما الحوادث الثلاث (وحادثة هدم عمر منزلَ فاطمة غير ثابتة) مختلفة جوهريَّاً، لكلٍّ منها سياقها وملابساتها، ولا يمكن تجميعها في الخانة نفسها. وسنقف من بينها عند حادثة مسجد الضرار هذه. لا تتعلّق هذه الحادثة برفض الاختلاف عموماً؛ بل بمقاومة الاختراق الديني - السياسي من الروم للمسلمين: وفق معطيات موجودة في المصادر التي اعتمدتها الباحثة لكنَّها سكتت عنها، بُني المسجد لراهب. وكان الرسول وعد بُناته بالصلاة فيه عند العودة، لكن عندما علم بحقيقة أمره تراجع وأمر بهدمه[42]. هذا الراهب هو أبو عامر الذي حارب بشدَّة المسلمين و"حزَّب الأحزاب ضدَّهم، ولمَّا انهزم لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على نبيّ الله"[43]، كما قال الطبري في تفسيره. وأرسل إلى قوم في قباء ليبنوا هذا المسجد له، حتَّى إذا ما عاد إليهم صلّى فيه. وادَّعى هؤلاء أنَّ بناءه لغاية التعبُّد وفعل الخير ليس أكثر. وجاء في تفسير ابن كثير ما يلي: أبو عامر الرَّاهب، نصرانيّ من الخزرج، كانت له مكانة في يثرب، لكن فوَّت عليه قدوم الرَّسول إليها هذه المكانة، فكان يعمل لإفشال الدعوة، وهو الذي دبَّر حرب أُحُد مع القرشيّين، وعندما انتصر المسلمون فرَّ إلى قيصر «يستنصره» فوعده بالدعم. وأمَرَ أبو عامر قوماً من الموالين له ليبنوا له مسجداً يتّخذه مقرَّاً للتراسل بينه وبينهم. وللتمويه طلب هؤلاء من الرَّسول أن يصلّي فيه، لكن عندما علم بحقيقته أمر بهدمه وحرقه[44]. وجاء في الكشَّاف للزمخشري أنَّ أبا عامر هذا قال للرَّسول يوم أحد: «لا أجد قوماً يقاتلونك إلَّا قاتلتك معهم». ولم يزل يقاتله إلى غزوة حنين، وعندما انهزم فرَّ إلى الشام طالباً العون من قيصر[45]. كلُّ هذه المعطيات وغيرها تسقط تماماً من اعتبار الباحثة، ويظهر تأويل موجَّه إلى مسألة رفض الإسلام للاختلاف[46] مطلقاً، وهو التأويل المبنيُّ على اقتطاع اعتباطيّ لنصّ الخبر.
والجدير بالملاحظة، أنَّ حادثة مسجد الضرار جدَّت في تزامن مع حرب تبوك، وأبطالها كانوا واضحين في عدم ولائهم لمحمَّد وفي عملهم على اغتياله. والتفسير الأرجح أنَّهم من كان وراء محاولة الاعتداء عليه في العقبة، وليس عمر ولا أبا بكر، كما يصرُّ على ذلك الخطاب الشيعي، وتتابعه الباحثة دون أدنى نقد ومراجعة. فلو كان هذان يريدان فعلاً اغتيال الرَّسول لكان لهما ذلك وبطرق أيسر ممَّا ترويه من تفاصيل قصصيَّة في حادثة العقبة. فهما ملازمان له في حياته الخاصَّة، وخاصَّة في غزواته.
3. 4. مسألة العنف في الإسلام من خلال موت الرَّسول:
تفسّر الباحثة العنف، الذي تستعمله حركات إسلامويَّة متطرّفة اليوم، بكونه استمراراً لعنف متأصّل في الإسلام نفسه، في أصوله التاريخيَّة العائدة إلى الفترة المرجع، فترة الرَّسول والصحابة. وكان عمادها في ذلك قولها (على غرار الشيعة) بكون الرَّسول تعرَّض لمحاولات اغتيال عديدة انتهت بموته مسموماً؛ سمَّه الطامعون في السلطة، والراغبون في إزاحة عليّ منها، ومنع كتابة الوصيَّة. ومن هنا تستنتج أنَّ دراسة آخر أيَّام محمَّد تبيّن أنَّ العنف انطلق منذ حياته[47]، وأنَّ الرّسالة الأصليَّة للإسلام تظهر من خلال العنف المنبعث اليوم في شكل حرب مقدَّسة هدفها تدمير العالم تشريعاً لنهاية العالم وحضور القيامة، كما تقول[48]، وأنَّ ما حدث في مرض الرَّسول الأخير من اغتيالٍ ظلّت له تبعاته إلى اليوم.[49]
وتفصّل الحديث في محاولات اغتيال الرسول بدءاً بحادثة العقبة: ترى أنَّ عمر هو الذي سعى إلى إسقاط الرَّسول من راحلته بعد تنفيرها[50]، وتبني على هذا الرأي لاحقاً معتبرة إيَّاه مطابقاً للحقيقة، رغم أنَّ كلَّ شواهدها من مصادر شيعيَّة، وتسكت عمَّا ورد في سائر المصادر[51].
ثمَّ تذكر محاولة اغتيال الرَّسول في طريق العودة من غدير خمّ بعد الوصيَّة المفترضة لعليّ[52]. ومن جديد تقدّم الفاعل نفسه؛ عمر ومن معه، غايتهم قطع الطريق أمام عليّ حتَّى لا يصل إلى السلطة. وفي إقرار هذا الحدث أيضاً، تساير الباحثة روايات شيعيَّة، ولا تعطي اعتباراً لغيرها. فضلاً عن ذلك لا تعاملها بالنقد المنطقي الذي يكشف عن آثار التشكيل في الخطاب المذهبيّ؛ فإذا كان الرَّسول قد كتب وصيَّة لعليّ، فلماذا يسرّع المعارضون بوفاة الموصي؟ ألا يكونون بذلك قد سرَّعوا بتطبيق الوصيَّة؟ ألم يكن من الأجدى اغتيال المُوصَى له نفسه؟
كانت هذه الوصيَّة في ما سمَّته الصحيفة الملعونة التي بسببها كانت محاولة اغتيال الرَّسول[53]، وهي الصحيفة التي يفترض أنَّها كُتبت في الكعبة. وتستشهد في شأنها بكاتب شيعيّ يقول إنَّ أبَي بن كعب عليم بما فيها، ولمَّا أراد الإعلان عنها اغتِيل في عهد عمر. ولا تشكُّ في هذا الخبر أدنى شكّ، رغم علمها بطبيعة التوجُّه المذهبيّ لمصدره، والحال أنَّ أبَي بن كعب عاش إلى عهد عثمان، وهو من أشهر جامعي القرآن بأمر من هذا الخليفة. ورغم أنَّها تذكر في الهامش هذه المعلومة الثابتة، تتجاهلها في استنتاجاتها حول صحَّة الصحيفة وإخبار أبَي عنها. وتقرّر أنَّ آيات نزلت فيها (البقرة 79). ومصدرها في ذلك شيعيّ أيضاً، بينما يذهب الطبري في تفسيره[54] إلى أنَّ الأمر يتعلّق باليهود وتحريفهم صحف موسى. والآية هي: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمَّ يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم ممَّا كتبت أيديهم وويل لهم ممَّا يكسبون، وقالوا لن تمسَّنا النار إلاّ أيَّاماً معدودة) [البقرة: 79 - 80]. وعمادها في ذلك مصادر شيعيَّة لا غير. بينما سياق الآية يدلُّ فعلاً على معركة مع اليهود، وهو بعيد عن معاني الصحيفة كما سايرت في ذلك الخطاب المذهبيّ.
الحادثة الثالثة، التي سجَّلت فيها محاولة اغتيال (ناجحة هذه المرَّة) هي حادثة سمّه، وهو السمُّ الذي توفّي بسببه، بحسب رأيها. وتنقل عن المجلسي (الشيعيّ أيضاً) أنَّ عائشة وحفصة هما اللتان سمَّتاه بمساعدة أبويهما للاستيلاء على السلطة[55]. وترجّح أنَّ مرض محمَّد بذات الجنب كان مناسبة لسمّه[56]: لمَّا لدّوه شكَّ فيهم، وأمرهم بأن يأكلوا من الدواء نفسه؛ لأنَّه شكَّ أنَّه مسموم. وتقول الباحثة إنَّه سُمَّ على مراحل، وما اللدُّ إلَّا المرحلة الأخيرة. ثمَّ تتساءل لماذا لم يُجلب الطبيب للرَّسول؟[57]. وعند استحضار ما لم تذكره الباحثة من محتويات المصادر نتبيَّن نوعيَّة المادَّة المغيَّبة؛ فالذهبي في تاريخه يذكر أنَّ عمليَّة اللدّ كانت باقتراح من عمّه العبَّاس؛ لأنَّه رأى أنَّ مرضه هو «ذات الجنْب»، وهو مرض موصوم عند العرب. لذلك قال الرَّسول: إنَّ هذا المرض من الشيطان ولا يصيب الأنبياء، ورفض أن تقع مداواته على أساس أنَّه مصاب به. لكنَّ المحيطين به فعلوا. فغضب لمَّا انتبه إلى ذلك، وعقاباً للحاضرين أمرهم بأن يلدّ بعضهم بعضاً، واستثنى عمَّه العبَّاس (وفق الرَّاوي) وهو استثناء بعديّ فرضه زمن الرواية والسلطة القائمة: العصر العبَّاسيّ[58].
وتتساءل الباحثة عن سبب عدم جلب طبيب لمحمَّد في مرضه الأخير، أو بالأحرى عندما سمّ. ومن وراء تساؤلها تريد تأكيد الاستنتاج المتمثّل في أنَّ عمر وجماعته هم الذين سمُّوه، ورفضوا جلب طبيب له حتى لا يُتدارك الأمر ويتعافى. وهذا تفسير لا منطق له، لأنَّه لو صحَّ أنَّ جماعة عمر لا ترغب في الاستعانة بطبيب للأسباب التي تذهب إليها الباحثة، والمذكورة آنفاً، كانت الجماعة المقابلة عليّ والعبَّاس ومن معهما تصرُّ على جلبه، ولم يكن هؤلاء بأقلّ قيمة ولا حضوراً من أولئك. ولو حدث هذا، لكانت الأدبيَّات الشيعيَّة (التي كثيراً ما تصدّقها الباحثة) أثبتته إشادة بعليّ ومن معه. ولكنَّ هذه الأدبيَّات لم تذكر شيئاً عن الموضوع. والأرجح أن نوجّه الاهتمام إلى جوانب أخرى لم تلتفت إليها الباحثة (رغم ورودها في المصادر ذاتها التي اعتمدت) وهي أنَّ الإخراج البعديَّ للسيرة الذي اتَّجه نحو التقديس المبالغ فيه لشخص الرَّسول، هو دفع نحو تغييب الطبيب «البشر» ليعوّضه بالطبيب «الملاك». وهذا ما نجده في أدبيَّات السيرة: فجبريل (لا الطبيب) هو الذي كان يعتني به ويرقيه[59]: "كان جبريل يقول: بسم الله أرقيك، من كلّ شيء يؤذيك، من كلّ حاسد وعين، والله يشفيك". والأمر إذاً ليس رفضاً لجلب طبيب؛ بل هو سكوت عن وجوده، لإضفاء قداسة شبه مطلقة على الرَّسول.
وتقف الباحثة عند تصرُّف أتاه الصحابة، وهو عدم التسريع بدفن الرَّسول عندما توفّي، معيدة إيَّاه إلى قرار من عمر. ولو جارينا قول الباحثة بأنَّ عمر كان وراء سمّ الرَّسول، يكون المتوقّع أن يسارع بدفنه تحقيقاً لهدفه وهو تغييبه، لا أن يتراخى في ذلك. علاوة على ذلك، لا تلتفت الباحثة إلى معطيات خاصَّة بعمر، من شأنها أن تفسّر أكثر من غيرها رفضه في البداية حقيقة موت الرَّسول، وانتظار بعثه. فعمر قريب من الحنيفي زيد بن عمرو بن نفيل وهو ابن عمَّه، الذي أثّر في محمَّد قبل البعثة، والذي لا يستبعد تأثيره في عمر. ومن خلاله تأثّر بمفاهيم من الثقافة الكتابيَّة السائدة في شبه الجزيرة وفي الشام والعراق. وفكرة البعث كانت من الأفكار المتداولة في هذه الثقافة، فلا يستبعد أنَّ عمر اعتقد بإمكانيَّة بعث الرَّسول وعدم وفاته وفاةً مشابهة لسائر الناس العاديّين؛ قال عمر: «إنَّ رَّسول الله (ص) ليس بميّت حتَّى نفتتح مدائن الروم، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى»[60]، ثمَّ تتساءل الباحثة: لماذا دُفن ليلاً؟ وتجيب بأنَّ الدفن حدث ليلاً وسرَّاً؛ لأنَّ الوفاة مسترابة[61]. وتهمل معطى مهمَّاً تردَّد في مصادر عديدة، وهو أنَّ الدفن بالليل كان أمراً عاديَّاً عند العرب عصرئذٍ: أبو بكر دُفن ليلاً، وعثمان دُفن ليلاً، وفاطمة دُفنت ليلاً[62]، وعائشة دُفنت ليلاً، [63] فلماذا التركيز على حالة واحدة وإهمال بقيَّة الحالات؟
3. 5. مسألة نسب محمَّد
تعرَّضت الباحثة، في الفصل التاسع، لقصَّة محمَّد العائليَّة، مستعرضة جوانب تهمُّ نسبه تحديداً. والسؤال البديهيُّ، الذي يُطرح بالنسبة إلى هذا الفصل، هو: ما علاقته بسائر الفصول، وبعنوان الكتاب «أيَّام محمَّد الأخيرة»؟ فمحتواه هو أيَّام محمَّد الأولى؛ أي خلاف العنوان تماماً. لكن عندما نأخذ في الاعتبار الأخبار «المحرجة» التي جمَّعتها بالطريقة نفسها؛ أي الاقتطاع والانتقاء، نفهم السبب.
تشكّك الباحثة في هذا الفصل في نسب محمَّد؛ ترى أنَّه «ابن زنا»، وأنَّ جدَّه عبد المطلب هو فعلاً عبد[64]، وهي تعتمد في هذا الاستنتاج على مقاطع مبتورة من سياقها، واقعة بذلك في سوء فهم غريب. تقول الكاتبة: سُمّي بعبد المطّلب؛ لأنَّه قدم مع عمّه المطّلب من يثرب بعد أن مات أبوه بالشام بغزَّة. ولم يسمع به أعمامه إلَّا بعد أن شبَّ. وعندما دخلا مكَّة قال الناس هذا عبد المطّلب. ونفى عمُّه ذلك. لكن لم يؤخذ نفيه بعين الاعتبار، لذلك ترجّح أنَّه فعلاً عبد للمطّلب، ولذلك صار اسمه «عبد المطّلب». وعندما نستحضر المهمل من شواهدها نجد ما يلي:
عندما ننظر إلى الحضور الاجتماعي والأدبيّ القويّ لعبد المطّلب في قومه قريش، يصعب أن نسلّم بأنَّها أمور يمكن أن تحصل لعبد في مجتمع قائم على نظام العبوديَّة، وحريص على الحفاظ على التراتبيَّة الاجتماعيَّة التي تفصل بين الأحرار والعبيد. ومن شبه المستحيل أن يمرَّ العبد إلى أرقى مراتب الشرف، وأن تصاب الجماعة بفقدان الذاكرة، حتَّى تنسى أصوله وتبوّئه هذه المراتب. وننظر في المادَّة الإخباريَّة الخاصَّة بعبد المطّلب، والتي أهملتها الباحثة، فنجد أنَّه: «سيّد قريش حتَّى هلك»[65]، وأنَّه من تولّى السقاية والرفادة[66]، بعد أن توفّي المطّلب بن عبد مناف في اليمن[67]، وهو الذي حفر زمزم[68]، ونازعته فروع قبليَّة، لكنَّه انتصر عليها. كان سيّد قريش الذي يعقد الأحلاف باسمها[69]، وهو الذي فاوض أبرهة الحبشيّ فيما أصابه من أموال قريش[70]، وأنَّه كان من الأقوياء الذين جاهروا بخلافهم لعقيدة الأصنام، فهو موحّد مثل زيد بن عمرو بن نفيل[71]. كلُّ هذا لا يمكن أن يتّفق ونسبة وضع العبوديَّة الفعليَّة لعبد المطّلب.
لذلك، إنَّ التسمية بـ"عبد" في نسبة ابن إلى أب ذي قيمة، كانت معروفة عند العرب، ويكفي أن نورد النصَّ التالي من كتاب (جمهرة النسب): «عبد مناف بن قصي ولد هاشماً، والمطّلب وعبد شمس...، فولد هاشم بن عبد مناف عبد المطلب وهو شيبة الحمد، وكان سيّد قريش حتَّى هلك...، وولد عبد المطّلب بن هاشم عبد الله وعبد مناف وهو أبو طالب والزبير وعبد الكعبة[72]. وكان قصيّ يقول - فيما زعموا-ولد لي أربعة، فسمَّيت اثنين بصنميّ، وواحداً بداري، وواحداً بنفسي، وهم عبد مناف وعبد العزَّى ابنا قصي -وعبد العزَّى والد أسد- وعبد الدار بن قصي، وعبد قصيّ بن قصي وبرَّة بنت قصي»[73]. وفي (جمهرة النسب) نجد أيضاً أسماء من قبيل: عبد القيس، عبد عمرو، عبد هند[74]، وهم ليسوا عبيداً.
أمَّا عن عبد الله (أبي الرسول) فهي تنفي أن يكون فعلاً أباه، وأوَّل الشكّ عندها هو الاسم: فـاسم "عبد الله" لا يستقيم في نظرها مع الوضع العقدي السائد قبل الإسلام؛ لأنَّ الله غير معروف. وهذا غير صحيح؛ لأنَّ العرب عبدوا الأصنام باعتبارها واسطة بين الإنسان والله، هذا فضلاً عن حضور الأديان التوحيديَّة في شبه الجزيرة التي كان أتباعها ينشرون مفاهيمهم العقديَّة التوحيديَّة. ويكفي أن ننظر في (جمهرة النسب) لابن الكلبيّ لنجد أعلاماً عديدين يحملون اسم عبد الله، وعاشوا قبل الإسلام[75].
أمَّا ثاني معطى للشكّ في نسب الرَّسول في نظرها، فهو خبر يتعلّق بكون المطّلب (جدّ محمَّد) وابنه عبد الله (أبي محمَّد) تزوَّجا في وقت واحد، وأنجب المطّلب حمزة، وعبد الله محمَّداً. ثم تقرن هذا الخبر بآخر يقول إنَّ حمزة عندما توفّي كان أسنَّ من محمَّد بأربع سنوات. والرواية الأولى التي تنسب محمَّداً إلى عبد الله ليست صحيحة. ثمَّ تستنتج من ذلك أنَّ محمَّداً مجهول النسب. إنَّ استنتاجاً من هذا القبيل لهو أحسن مثال على القراءة الانتقائيَّة الموجَّهة التي اختارتها الباحثة عمداً؛ لأنَّ معطيات أخرى موجودة في المصادر ذاتها التي اعتمدتها لا تسمح بهذا الاستنتاج؛ جاء في طبقات ابن سعد[76]: خطب عبد المطّلب في بني زهرة آمنة لولده عبد الله وهالة لنفسه. «فكان تزوُّج عبد المطّلب بن هاشم، وتزوُّج عبد الله بن عبد المطّلب في مجلس واحد»، بمعنى الخطبة، وليس بالضرورة البناء[77]، ويضيف ابن سعد أنَّ حمزة عمُّ الرسول وأخوه من الرضاعة. وهذا لا يعني أنَّهما رضعا في الوقت نفسه. وهذا ما يتَّضح في دلائل النبوَّة للأصفهاني: «أوَّل من أرضع رسول الله (ص) ثويبة -مولاة أبي لهب- بلبن ابن لها يقال له «مسروح» أيَّاماً قبل أن تقدم حليمة، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي»[78]. ويذكر البيهقي في فصل «عام ولد الرسول» من كان لدته ولا يذكر حمزة.
وإذ تنفي أن يكون محمَّد ابناً لعبد الله، ترجّح أنَّه ابن لشخص آخر هو أبو كبشة، اعتماداً على ما عيَّره به الملأ القرشيّ، عندما أعلن نبوَّته. لكن لا علاقة لهذا الاسم ببنوَّة حقيقيَّة ومباشرة بين محمَّد وأبي كبشة بحسب ما تثبته كتب التفسير. جاء في تفسير القرطبي: «وأنَّه ربُّ الشِّعرى» الشِّعرى: الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء، وهو كوكب كانت العرب تعبده، ونفى الله ربوبيَّته. واختلف في من كان يعبده، فقال السدي كانت تعبده حمير وخزاعة. وقال غيره أوَّل من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبيّ (ص) من قبل أمَّهاته. ولذلك كان مشركو قريش يسمُّون النبيّ (ص) «ابن أبي كبشة»، حين دعا إلى الله وخالف أديانهم، وقالوا ما لقينا من ابن أبي كبشة»؟[79]. وبصرف النظر عن المادَّة الإخباريَّة التي توفّرها المصادر، إنَّ مسألة النسب لا يمكن أن تكون من الخفاء بمكان حتَّى يلجأ إلى الترجيح، في مجتمع قبليٍّ النسبُ فيه عماد العلاقات والتراتبيَّة الاجتماعيَّة. ولا يمكن أيضاً أن يُتلاعب بمسألة النسب؛ لأنَّ الذاكرة الاجتماعيَّة السائدة والحارسة لتوزيع الشرف في المجتمع تمنع ذلك[80]. ولعلَّ أوضح مؤشّر على هذا البُعد الاجتماعيّ الثابت أنَّ محمَّداً في حروبه العسكريَّة والمعنويَّة مع مخالفيه، هوجم من نواحٍ عدَّة، ولم يُهاجم من ناحية النسب. وهنا لا بدَّ من استحضار القانون الخلدوني في خضوع الناس لصاحب شرف يقودهم، وهو قانون «العصبيَّة» وقوَّتها. فلو لم يكن محمَّد من هذه العصبيَّة القرشيَّة الغالبة لما اتَّبعه أحد، ولما كان لدعوته هذا الأثر الكبير في سائر القبائل عصرئذٍ.
ولا تكتفي الباحثة بعمليَّة التجميع غير البريئة والقائمة على تشظية النصوص وعزلها عن سياقاتها لتصل إلى كلّ هذه النتائج الاعتباطيَّة، التي لا تتماسك أمام النقد الداخليّ (المنطق الدلالي للخبر وبنيته اللغويَّة وسياقه النصّيّ)، وأمام النقد الخارجي (علاقته بسائر الأخبار في الموضوع ذاته، وعلاقته بالسياق التاريخيّ)؛ بل هي ترسم شروط التطوير اللازمة للدراسات العربيَّة اليوم في مجال الإسلاميَّات، التي من شأنها أن «تصحّح»، بحسب رأيها، الكثير من التصوُّرات. وتتمثّل هذه الشروط في الإفادة من الوثائق غير العربيَّة وغير الإسلاميَّة، والإفادة أيضاً من آراء المستشرقين الذين تراهم (دون غيرهم) حريّين بالاعتبار[81]، وهم في الحقيقة لا يتعدون حدود الاستشراق المؤدلج. ولئن كنَّا نتّفق معها في ضرورة الإفادة من كلّ الوثائق لدراسة ماضينا، ومن اعتبار آراء الآخرين فيه، فإنَّنا نختلف معها في هذه الثقة المفرطة في «الغير»، ونؤكّد أنَّه لا وثيقة ولا رأي يعلوان على التحليل والتفكيك، للتمييز بين المعرفيّ والإيديولوجيّ، وللوصول إلى إعادة تركيب تكون نتائجها على قدر من الانسجام يمنعها من التهافت عند أولى المساءلات.
[1] . Jean Peytard, Mikhail BAKHTINE: Dialogisme et analyse du discours, Bertrand Lacoste, Paris, 1995, p. 98.
[2]. Denise Maldidier, “L’inquiétude du discours. Un trajet dans l'histoire de l'analyse du discours: le travail de Michel Pêcheux”, Semen [En ligne], 8 | 1993, mis en ligne le 25 mai 2007, consulté le 06 juin 2016. URL: http://semen.revues.org/4351
[3] . عادت الباحثة إلى مفهوم قديم للتاريخ، وهو التاريخ الحدثيّ الجزئيّ. بينما التاريخ الجديد هو تاريخ الحقب الطويلة وفق المفهوم الذي أقرّته مدرسة الحوليَّات؛ أي لا يمكن أن نفهم أيَّام محمَّد الأخيرة معزولة عن نسقها العامّ، مثلما فعلت الباحثة.
[4] . Hans-Georg Gadamer, Vérité et méthode, 4e éd. trad. par Pierre Fruchon, Jean Grondin et Gilbert Merlio, Paris, SEUIL, 2006, p. 317
[5] . Hans-Georg Gadamer, op. cit, p 321
[6] . قدَّمت هالة وردي هذه الحجَّة في مقابلة تلفزيَّة بثّتها قناة (France 24)، وموضوعها هذا الكتاب.
[7] . أيّام محمَّد الأخيرة، ص 179
[8] . المصدر نفسه، ص 243 - 244
[9] . المصدر نفسه، ص 240
[10] . المصدر نفسه، ص 242
[11] . يمكن العودة إلى:
Adel Théodore Khourie, Polémique bizantine contre l’islam, 8/13 J.C, Brill, 1972
[12] . أيَّام محمَّد الأخيرة، ص 202
[13] . المصدر نفسه، ص 23
[14] . المصدر نفسه، ص 28
[15] . المصدر نفسه، ص 31
[16] . المصدر نفسه، ص 72 - 79
[17] . المصدر نفسه، ص 125، 128
[18] . انظر نماذج من هذه الأخطاء في كتابة الأسماء التالية: حذيفة بن اليمان، دِحْيَة بن خليفة، أمّ رُومَان، صفيّة بنت حُيَيْ، هشام بن المغيرة، مالك بن التيّهان، وغير هذه كثير.
[19] . تستعمل مثلاً مصطلح "أهل البيت" بمعنى العلويّيّن فقط، وتستغرب من إقرار العبّاسيّين ببعض الأحاديث التي تحتوي على هذا المصطلح "الشيعيّ" في نظرها، من قبيل حديث "تركت فيكم شيئين القرآن وأهل بيتي". والحال أنَّه يعني العلويّين مثلما يعني العبَّاسيّين، لكنْ كلّ وظّفه لصالحه. وتستعمل مصطلح "الحديث" بما هو مصدر تشريع في فترة الإسلام المبكّر (فترة أبي بكر وعمر) والحال أنَّه لم يكتسب هذه الدلالة التشريعيَّة إلّا في القرن الثاني للهجرة. وتستعمل مصطلح السيرة في العلوم اللازمة لتفسير القرآن، وهذا غير صحيح، لأنَّ السيرة لم تُعدّ ضمن هذه العلوم؛ أي لم تعتمد في تفسير القرآن. ورأت أنَّ "المؤلّفة قلوبهم" هم جماعة يعطيهم الرسول من ماله الخاصّ مستنتجةً ثراءه الفاحش، والحال أنَّ عطاء هؤلاء من مال "الصدقات".
[20] . نذكر بعض الأخطاء في الترجمة: ترجمت الباحثة الآية 107 من سورة التوبة وهي: "والذين اتّخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين". كما يلي:
Ceux qui ont édifié une mosquée nuisible et impie pour semer la division entre les croyants.
معتبرة المركب العطفيّ "ضراراً وكفراً" نعتاً للمسجد، بينما هو مفعول لأجله، يترجم كما يلي:
Ceux qui ont édifié une mosquée par désir de nuire, par mécréance, pour semer la division entre les croyants.
وترجمت حديث الرسول: "أنتم لا أحلام لكم" كما يلي: Vous n’avez pas des rêves. وهذا خطأ، لأنَّ الأمر لا يتعلّق بما يُرى في المنام، بل الحِلم هنا بمعنى الأناة والعقل.
[21] . محمَّد بن سعد، الطبقات الكبرى، القاهرة، مكتبة الخانجي، (د.ت)، ج 2، ص 104
[22] . المرجع نفسه، ج2، ص 216
[23] . سليمان بن أحمد الطبراني، المعجم الكبير، القاهرة، مكتبة ابن تيميَّة، (د.ت)، ج 10، ص 389
[24] . أيَّام محمَّد الأخيرة، ص 143
[25] . المصدر نفسه، ص 82
[26] . تفسّر الباحثة الإقبال الكبير على الدّين الجديد بتبشير الرسول بالمسيح، كان يقول: "والذي نفسي بيده لنزول المسيح بن مريم وشيك". (ص 201). وهي بذلك تهمل كلَّ الظروف التاريخيَّة التي جعلت العرب ثابتين على عدم الدخول في المسيحيَّة أو في اليهوديَّة رغم معرفتهم بهما ومخالطتهم لأتباعهما طيلة قرون من الزمن، في شبه الجزيرة نفسها. وفي المقابل لم يتجاوز دخولهم في هذا الدّين الجديد العقدين من الزمن (منذ البعثة إلى فتح مكّة) لأنَّه جعل لهم كياناً مستقلاً في المنطقة، وفي موازين القوى التقليديَّة المتصارعة عصرئذٍ.
[27] . شمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج2، ص 227
[28] . المرجع نفسه، ج2، ص 228
[29] . ابن سعد، الطبقات، ج2، ص 119
[30] . المرجع نفسه، ج2، ص 119- 153
[31] . المرجع نفسه، ج2، ص 5
[32] . المرجع نفسه، ج2، ص 150
[33] . المرجع نفسه، ج 2، ص ص 58 - 59
[34] . المرجع نفسه، ج 2، ص 85
[35] . ابن سعد، الطبقات، ج2، ص 119
[36] . المرجع نفسه، ج2، ص 120 - 121
[37] . أيَّام محمَّد الأخيرة، ص 24، 25
[38] . ابن سعد، الطبقات، ج2، ص 152
[39] . أيَّام محمَّد الأخيرة، ص 32
[40] . المصدر نفسه، ص 244
[41] . المصدر نفسه، ص 38 - 41
[42] . ابن هشام، السيرة النبويَّة، بيروت، دار القلم، ج4، ص 173 - 175
[43] . الطبري، تفسير القرآن: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، بيروت، مؤسَّسة الرّسالة، 1994، مج4، ص 160
[44] . ابن كثير، تفسير ابن كثير، العربيَّة السعوديَّة، دار طيبة، 1999، ج4، ص21
[45] . جار الله الزمخشري، تفسير الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، بيروت، دار المعرفة، 2009، ص 449
[46] . مسألة رفض الاختلاف في الإسلام -شأنه شأن سائر الأديان- مرتبطة بالتيّارات الأرثوذكسيَّة التي نشأت لاحقاً، والتي ادَّعت تمثيلها للحقيقة.
[47] . أيَّام محمَّد الأخيرة، ص 231
[48] . المصدر نفسه، ص 204
[49] . المصدر نفسه، ص 152
[50] . المصدر نفسه، ص 34 - 37
[51] . المصدر نفسه، ص 67
[52] . المصدر نفسه، ص 55
[53] . المصدر نفسه، ص 56 وما يليها..
[54] . تفسير الطبري، ج1، 265
[55] . أيَّام محمَّد الأخيرة، ص 166
[56] . المصدر نفسه، ص 171
[57] . المصدر نفسه، ص 176
[58] . الذهبي، تاريخ، ج2، ص 548
[59] . ابن سعد، الطبقات، ج3، ص 189 - 190
[60] . ابن سعد، الطبقات، ج2، ص215
[61] . أيّام محمَّد الأخيرة، ص 214
[62] . ابن أبي الحديد، شرح نهج لبلاغة، بغداد، دار الكتاب العربي، 2007، ج3، ص 194
[63] . ابن سعد، الطبقات، ج3، ص 185
[64] . أيّام محمَّد الأخيرة، ص 99
[65] . ابن سعد، الطبقات، ج1، ص 61
[66] . انظر قيمة هذه الوظيفة في تاريخ الطبري، ج2، ص 260. وفي المسعودي، مروج الذهب، بيروت، المكتبة العصريَّة، 2005، ج2، ص 99
[67] . ابن سعد، الطبقات، ج1، ص 64
[68] . المصدر نفسه، ج1 ص 65
[69] . المصدر نفسه، ج1، ص 66
[70] . المصدر نفسه، ج1، 72
[71] . القاضي عبد الجبَّار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، الفرق غير الإسلاميَّة، ص 156
[72] . هشام بن محمَّد بن السائب الكلبيّ، جمهرة النسب، تحقيق ناجي حسن، بيروت، عالم الكتب، ومكتبة النهضة العربيَّة، 1986، ص 26 - 29
[73] . تاريخ الطبري، ج2، ص 254
[74] . الكلبي، جمهرة النسب، فهرس الأعلام.
[75] . المرجع نفسه.
[76] . ابن سعد، الطبقات، ج1، ص 75
[77] . وإن جارَيْنا الباحثة في أنَّ الأمر يتعلّق فعلاً ببناء، فهذا لا يعني بالضرورة حدوث الحمل آليَّاً في كلتا الحالتين؛ أي مع هالة وآمنة، لذلك لا يمكن اعتماد خبر البناء الأوَّل إثباتاً لتاريخ الميلاد.
[78] . أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوَّة، تحقيق محمَّد رواس قلعجي وعبد البر عبَّاس، بيروت، دار النفائس، 1987، ص 157
[79] . محمَّد بن أبي بكر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، بيروت، مؤسَّسة الرّسالة، 2006، ج 20، ص 62
[80] . يمكن العودة إلى الزوبعة الفقهيَّة والاجتماعيَّة، التي أثارها معاوية عندما استلحق زياداً بن سميَّة بأبيه أبي سفيان، وإلى التساؤلات والتحقيقات التي أثارها نسب العلويّ إدريس الأصغر مؤسّس دولة الأدارسة، والعودة أيضاً إلى القرمطيّ وادّعائه النسب الشريف. وقد حلّل ابن خلدون (من خلال هذه الأمثلة وغيرها) أهمّيَّة تثبيت النسب في المجتمع القبلي، وذلك عبر الاحتكام إلى الذاكرة الجمعيَّة والمحقّقين في الأنساب القادرين على أن يكشفوا كذب مدَّعي الشرف. انظر: عبد الرحمن بن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيَّام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، 1999، ج1، ص 33- 45؛ ج5، ص 14–16
[81] . تحمّل الباحثة إدوارد سعيد مسؤوليَّة نفور الدارسين اليوم (في حقل الإسلاميَّات) من آراء هؤلاء المستشرقين والنتائج التي صاغوها في شأن الإسلام وتاريخه. أيَّام محمَّد الأخيرة، ص 249