قراءة في سيرة الوليّ إبراهيم بن يعقوب (صَيْدُ عَقَارِبْ): من زعيم في البغي إلى ولّي للهدي


فئة :  مقالات

قراءة في سيرة الوليّ إبراهيم بن يعقوب (صَيْدُ عَقَارِبْ): من زعيم في البغي إلى ولّي للهدي

1- من عنف الإغارة الحربيّة إلى قداسة الولاية الصوفيّة:

كان إبراهيم بن يعقوب (ت 784هـ) كما يصوّره مقديش في كتابه "نزهة الأنظار"، "زميمًا في البغي[1]" وسيلته الوحيدة لاكتساب رزقه العنف والإغارة على القوافل، بمساعدة أصحابه الاثنين والستّين الذين كانوا يمثلون مجموعة مقاتلة ترتزق من الإغارة، وكانت لحظة اللّقاء بينه وبين شيخه العبيدلي (ت 748هـ) لحظة صدام بين غازٍ مُعتدٍ على القوافل، وحامٍ لها؛ فقد أغار إبراهيم بن يعقوب على قافلة كانت في حمى الشيخ العبيدلي قرب سيدي عمر بوحجلة من أرض القيروان، وكانت محمّلة بالنحاس والجلد وغيرهما من البضائع، ومتّجهة إلى "المحرس" وهي مدينة ساحليّة تبعد حوالي ستة وثلاثين كيلومترًا عن مركز مدينة صفاقس، ولم يكتفِ الشيخ العبيدلي باسترجاع ما نُهب من القافلة، كما كان يفعل كلّ مرّة، ولكنّه اتّجه إلى زعيم الجماعة المغيرة وبدأ "طقوس تعميد" تُذكّر بدوره الذي كان يضطلع به بين الأعراب وهو التوبة على يديه، ولكن تلك الطقوس اتّخذت شكلًا مختلفًا هذه المرّة؛ فقد اعتمدت وسائل متنوّعة منها ضرب العبيدلي زعيم الجماعة المغيرة على رأسه وظهره، ودعوته إلى التّوبة والرجوع إلى الله، مقابل ضمانات مقدّسة بالحماية له ولذرّيته. ودعا الشيخُ لإبراهيم بن يعقوب بالحرمة، ثمّ كساه الخرقة وأعطاه السّبحة بدلًا من حمل السّيف وسلب القوافل، فأخذه الجذب وجعل يذكر الله حتّى أخذه الوجد والحال، وانضمّ أصحابه إلى ركبه المقدّس بعد أن رشّهم الشيخ العبيدلي بريقه.[2] فأخذهم الوجد ما أخذ زميمهم[3]، وقالوا: "أطعنا هذا الشيخ، ولمّا كان زميمنا في البغي فهو زميمنا في الهدي والطّاعة"[4]. فكان انقلاب الفارس المغير وجماعته من الحرب المدنّسة إلى الكرامة المقدّسة إلاّ اثنين منهم اسْتَنْكَفُواواستكبروا، وتمثّل عمليّة التحوّل التي مرّ بها إبراهيم بن يعقوب ظاهرة أشبه بالطّهارة التي تهب الوليّ الصالح قداسة تنزع عنه رجس المدنّس.[5]

إنّ لحظة التحوّل تلك هي التي نقلت الفارس المغير من قائد حربيّ يُغِيرُ على أملاك النّاس، إلى وليّ صالح تأتيه زكاة المواشي والأموال طوعًا لا كرهًا؛ فبالرّيق تحوّل العنف تسامحًا، وبالدّعاء تبدّل حال الجماعة من الإغارة إلى الولاية والبركة، إنّها لحظة تحوّل من الفعل المدنّس الموسوم بالإغارة والرزق الحرام، إلى الفعل المقدّس الموسوم بالبركة والطاقة السّحريّة الخارقة؛ ولذلك أضحى "رشاشي" و"مريش" وهما فارسان من المجموعة التي كانت تغير مع إبراهيم بن يعقوب ملعونين؛ لأنّهما امتنعا عن الاستجابة لدعوة الشيخ العبيدلي وأعرضا عن طقوسه المقدّسة. وتجسّدت تلك اللعنة في كونهما كلّما قربا من متاع النّاس وجدا عنده أسدًا، وما كان أخذاه سابقًا وجدا فيه حيّة، فخاب سعيهما في البغي، وحُرِما من بركة الهدي، وبخروجهما من صحبة الوليّ الجديد إبراهيم بن يعقوب اكتمل العدد المقدّس فصار أصحابه ستّين.

مثّلت تلك الحادثة التي اقترنت فيها سيرة الوليّ إبراهيم بن يعقوب بسيرة الشيخ العبيدلي بداية مرحلة جديدة تأسّست بها زاوية صيد عقارب، فبتملّك الجماعة من حبّ الله تعالى مكّنهم الله من أرضه، فكان لهم "وادي عقارب" ليستوطنوا فيه ويمتلكوا من أراضيه، و"بئر العرائش" ليشربوا من مائه العذب؛ جزاءً لورعهم وتتويجًا لكراماتهم، فكانت تلك الأرض لهم كالجنّة الموعودة التي ينالها العباد الصالحون، ففيها عاشوا وتعبّدوا، وفي جوفها دفنوا وخلّدوا بملحمة شعريّة تناقلتها ألسنة الرواة[6].

2- الوليّ المقدّس:

لقد صارت للوليّ بركات وكرامات؛ فقد اعتقد النّاس في قدراته المقدّسة، وتوافدوا عليه من كلّ جهة، فأعطوه زكاة مواشيهم وحبوبهم.[7] وصارت زاوية "صيد عقارب" مزارًا للمعتقدين في بركته، بل إنّ أطرف ما تنقله الرّوايات الشفويّة عن هذا الوليّ كونه مثّل ملاذًا للمرأة الباحثة عن حرّيتها، والفارّة من جحيم الاستبداد الأسريّ السّائد في ذلك العصر؛ إذ كانت إرادتها مسلوبة وهي لا تمنح حقّ اختيار الزوج، فحين تُكره الفتاة على الزواج بمن لا تحبّ، وحين كان يميل قلبها إلى غيره من الرجال، فإنّها تتحصّن بالزّاوية من سلطة أبويها، وبالطّبع كانت الزاوية توفّر لها الحماية المادّية والمعنويّة، وتعتبرها "عقيلة على صيد عقارب"[8]؛ بمعنى متحصّنة بالزاوية من كلّ انتقام قد يقدم عليه أهلها، وكان ذلك يقيها من العقاب ويحميها من كلّ من يتربّص بها سوءًا، فلا تبرح الزاوية إلاّ وقد زوّجت بمن اختارت شريكًا لحياتها.

لقد استطاع إبراهيم بن يعقوب أن يتحوّل من مجرّد وليّ صالح يتبرّك به المعتقدون في كراماته، إلى اتّخاذه صورة الأسد وتسميته في متخيّل المصدّقين بقداسته (صيد في اللهجة العاميّة) ثمّ شاعت التسمية لتصير صفة ملازمة له، وتسمية "صَيْدُ عقارب" تعود في أصلها إلى حكاية إغارة أوباش البدو من بني عثمان لنهب ما اجتمع من زكاة الوليّ الصّالح إبراهيم بن يعقوب، فظهر لهم الشيخ بصورة أسد ضارٍ، وظهر لهم أصحابه بصورة النّار المحرقة، وكلّ من قرب منهم احترق. ولعلّ رمزيّة النار في أسطورة "صيد عقارب" هي؛ العقاب على أفعالٍ يأتيها الآثم والساعي إلى تدنيس المقام المقدّس، وتأكيد عن خروج العنف من طوره الدنيويّ المدنّس الذي كان يمارسه الفارس قديمًا وهو يقاتل القوافل، إلى الفعل السماويّ المقدّس الذي تتدّل فيه قوى خارقة لحسم الصراع؛ ولذلك فوظيفة النار التعبير عن عقاب أسطوريّ خارق للمتطاولين على حرمة الوليّ ومقامه المقدّس. وأمّا الأسد فرمز للشجاعة والإقدام والقوّة في الثقافة العربيّة الإسلاميّة.[9]

وتختزل هذه الحكاية كلّ معاني القوّة والقداسة (الأسد/ النّار) وهو تحوّل منقطع النظير في سير الأولياء الصالحين الذين ظهروا قبله وبعده على حدّ علمنا، وهي أقرب إلى إظهار سلطة الوليّ مطلقة لا حدود لها، بل لعلّها تتوّج مسار شيخه العبيدلي الذي عرف بإعراضه عن أصحاب السلطة الدنيويّة، فوهب سلطة أسطوريّة وغيبيّة، وكانت صورة الأسد تتويجًا لأحد مريديه باكتساب أعظم رموز القوّة وهي صورة الأسد والنّار.

والحكاية حمّالة في متنها لأبعاد رمزيّة لا تقف عند عتبات الفعل الخارق، وإنّما تعبّر من خلال تأبيد التسمية (صيد عقارب) عن تحوّل رمزيّ من الإغارة والاستيلاء على أموال النّاس كرهًا، إلى الولاية الصّوفيّة التي تمنح صاحبها أعلى مراتب السّلطة والمنعة والبركة، وتمكّنه من أموال النّاس حلالًا طيّبًا عن رضا وطواعيّة، إنّها تحوّل من العنف المدنّس والإغارة إلى السلطة المقدّسة والكرامة، وهو تحوّل من بشر يتقاتلون إلى جماعة يتبرّكون.

"صيد عقارب" هو رمز للقوّة الكامنة في التديّن، وإن كان شعبيًّا بسيطًا وعفويًّا قائمًا على الكرامة. إنّها قوّة الاتّصال بالعالم المقدّس وبركة الإعراض عن العنف المدنّس. وهي قوّة الاعتقاد في الذات الإلهيّة مصدرًا لكلّ قوّة غيبيّة. وقد كان "الاعتقاد في تخصيص الله بعض المؤمنين به، القائمين بأمره، بكرامة الدّعوة المجابة قديمًا هو الآخر قِدَمَ دخول الإسلام إلى إفريقيّة، فقد نسبت إلى الفاتحين الأوائل كرامات من هذا الصنف"[10]. وما "صيد عقارب" سوى امتداد لهذا الاعتقاد وتأكيد لرسوخه في ثقافة التونسيين من أهل البادية والحضر.

3- الولّي والنبيّ: تناصّ السّير.

لقد ارتقت سيرة الوليّ الصالح لتحقّق ضربًا من التناصّ مع سيرة الأنبياء؛ فعلامات الولاية تشبه بشائر النبوّة، ومن مظاهر هذا التأثّر بالسيرة النبويّة أنّ بعض ملامح الشخصيّة المقدّسة كانت بادية على إبراهيم بن يعقوب قبل أن يتمّ التحوّل السحريّ على يد الشيخ العبيدلي؛ فقد نشأ الوليّ الصّالح كالأنبياء غريبًا عن أبويه ألقاه الوادي كما ألقى اليمّ موسى في يد غريب يربيّه، وهو عامر بن جامع، وتأثّرا بسيرة الأنبياء بدت ملامح الولاية، من قبل أن يرشّه الشيخ العبيدلي بالريق السحريّ وتناله بركته ويأخذه الوجد الصّوفيّ؛ وذلك من خلال حكاية العروس التي وجدها إبراهيم بن يعقوب وأصحابه مهيّأة لدخول زوجها عليها، وطلبت بعد الحرب التي ألمّت بقومها من سيدي إبراهيم أن يحفظها حتّى يأتي أبوها. ولمّا كان وفيًّا بوعده وحفظ العروس، دعا الأب لسيدي إبراهيم بأن يجعله الله من أوليائه الصالحين. وطبعًا استجاب الله لدعائه. ولعلّ تلك الحكاية تتّخذ بُعدًا استباقيًّا لسيرة الوليّ الصّالح؛ فقد تحوّل لاحقًا إلى ملاذٍ للفتيات يحفظ عفافهنّ ويحقّق رغبتهنّ في الحماية.

تبدو نشأة الولّي الصالح إبراهيم بن يعقوب نشأة مقدّسة من خلال جمله من القرائن؛ فالأصل البدويّ يختزل قيم الشجاعة والعفّة، وحضور الدّعاء قويّ في سيرة الرجل[11] قبل أن يتمّ التحوّل المقدّس نحو الولاية، دعاء سيدي حرّاث على أسرته فرّق بينه وبينهم، وقُدّر له أن يعيش مع الشيخ عامر بن جامع، ودعاءه له مكّنه من أن يصير وليًّا صالحًا يتبرّك به النّاس. والنّاظر إلى الدّعاء في سيرة المتصوّفة يلاحظ أنّه عنصر مركزيّ تتمّ به بركة الوليّ، ويستكمل به شرعيّته وسلطته.

4- سلطة الرّمز وأثرها في الواقع:

لقد كانت سيرة الوليّ الصّالح إبراهيم بن يعقوب أنموذجًا لحكايات كثيرة حول كرامات الأولياء الصّالحين وبركاتهم، وهي تؤكّد رسوخ اعتقادٍ في ذاك الزمن، الذي حكم فيه الحفصيّون إفريقيّة، بسلطة الأولياء وقدراتهم اللّامتناهية.

لقد كانت رمزيّة الأسد والنّار في سيرة "صيد عقارب" خير تعبير عن اللاوعي الجمعي، والمتخيّل الأسطوريّ المرتبط بالمتخيّل الإنسانيّ عامّة؛ إذ يعتقد الناس في تلك الحقبة التاريخيّة، أنّه يمكن للبشر امتلاك قدرات خارقة لقهر الغزاة والأعداء. ولا يخفى أنّ للحيوان قيمة دلاليّة في ذاته، وقيمة رمزيّة ناجمة عن خصوصيّته؛ شكلًا ولونًا وحركةً، وعلاقةً بالعالم الإنسانيّ، وبنائه التنظيمي... إنّ الحيوان صورة معكوسة عن الإنسان، ومرآة يطلّ منها على نفسه، وواسطة تحكي منزلة الإنسان؛ ولذلك فخلف كلّ حيوان، تقريبًا، إمّا رمز أو حكاية رمزيّة"[12]. وقد ظهر "صيد عقارب" بمظهر أبطال الأساطير؛ "فالكائنات العليا، تعرف بما أنجزته من بطولات زمن قوّتها، وتأثيرها الفعّال، وهي أزمنة البدايات؛ فالأساطير تكشف إذن عن الفعاليّة المبدعة لهذه الكائنات العليا، وتميط اللثام عن قدسيّة أعمالها"[13]. ولكن من تحت ذلك السقف الميتافيزيقي الذي تهاوى تدريجيًّا تحت ضربات التّحديث، فعزّ عدد المعتقدين فيه، تتجلّى لنا الأبعاد السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة من وراء تلك الحكايات؛ فقد اضطلعت الزاوية بدور مركزيّ في العهد الحفصيّ؛ إذ كانت حامية للدّين من خلال تبسيط آليّاته، وضمان مسالك أيسر تتلاءم مع ثقافة العصر، وحدود معرفة العامّة بالشريعة. فكانت تلك المراكز خيرحافظ للدين زمن تراجع المسلمين، وقد ظلّت الزوايا في ذلك العصر أنجع وسيلة لنشر الإسلام بين البوادي والحفاظ عليه، وتجسيد الاعتقاد في الذات الإلهيّة من خلال الاعتقاد في بركة الوليّ الصالح. لقد كان التصوّف الشعبيّ استجابة لحاجات أهل إفريقيّة الذين كانوا "يتميّزون بتعطّشهم لديانة ذات عقائد بسيطة وعبارات موجزة، تدعو إلى الصبر والتواضع والإخلاص والتوبة والزهد والثقة في الله، وكانوا في حاجة إلى الاعتقاد بالخوارق التي هي في متناولهم، واحترام وليّ من أولياء الله يكون لهم شفيعًا ويمتّع هو نفسه ببركة عظيمة"[14]. وقد ساهمت ثقافة الأولياء الفقهيّة في إقامة مراكز لنشر الثقافة الدينيّة وتحفيظ القرآن وتيسير تعاليم الدّين؛ فقد كانت زاوية العبيدلي، مثلًا، تقرئ التفسير والحديث والفقه، وقد اضطلعت الزّوايا بدور مركزيّ في نشر العدل من خلال ردع الحكّام الظّلمة عبر آليّة الدّعاء وسلطة الوليّ، وحماية القوافل التجاريّة من الإغارة بعد أن عزّ الأمن وكثر قطّاع الطرق، وعجزت السلطة السياسيّة عن توفير الأمن للرعيّة.[15] وكانت للزوايا وظائف اجتماعيّة شتّى مثل؛ إغاثة الملهوف وإطعام الجياع وتوفير الأمن للضعفاء، وحماية النساء من الهيمنة الذكوريّة، و"ارتبطت المرابطة بإحياء الأرض وإقامة السّواني"[16].

لقد كانت الزاوية نواة "مجتمع مدنيّ" ومؤسّسة شهدت استقلالًا عن السلطة السياسيّة وإرادتها، بل إنّ أمثال الشيخ العبيدلي لدليل على قدرة تلك المؤسّسة على معارضة الحاكم وتجاوز سلطته، وأضحت للزوايا فاعليّة اجتماعيّة وثقافيّة مستقلّة نسبيًّا عن السلطة الحاكمة؛ فالإرادة الوحيدة التي تبسط نفوذها على الزوايا هي إرادة الوليّ الصالح وتعاليمه، وقوانينه أسمى من قوانين الدّولة، بل هي الضامن للنّظام وأساس الحماية لقوافل التجّار وأملاكهم.

وقد وَفَرَّتْ تلك الزوايا الحماية التي عجزت الدّولة عن توفيرها واستطاع الوليّ أن يبلغ بكراماته ما لم يبلغه السلطان بجنوده وجبروته؛ فالسّلطة الكارزماتيّة الممنوحة للوليّ الصّالح كانت أقدر على التأثير في الأنفس من سلطة ماديّة جسّدها الأمير والوالي والقائد والقاضي، ولهذا فقد وصل الأمر بالنّاس حدّ الاعتقاد في أنّ العدل لا يتحقّق إلاّ بأصحاب الكرامات؛ ولهذا فقد كان شرط صحّة الزواج في القيروان حضور الشيخ العبيدلي أو بعض أصحابه، وبذلك نافست سلطة الوليّ وأصحابه سلطة القاضي وتفوّقت عليها، ولم تكن السّلطة السياسيّة قادرة آنذاك على كسر شوكة الأولياء الصالحين؛ فالشرعيّة متبادلة وإن افترقت السّبل، فالأمن الذي يوفّره الأولياء الصّالحون يخدم أمنها ويضمن استقرارها ودوام ملكها، ثمّ إنّ منهم المرابطين الذين يحمون ثغورها ومنهم المحاربون الذين يطبّقون نظامها، ويمنعون البعض من أن يعتدوا على البعض الآخر.

إنّ دعاء الأولياء على أصحاب السلطة وبال عليهم، بينما دعاؤهم لهم نعمة تضمن دوام ملكهم ووفرة نعمهم، بل كان المتخيّل العربيّ الإسلاميّ في إفريقيّة في أوج ولعه بالأولياء الصّالحين؛ ولذلك فقد حاك حولهم الأساطير وضخّم من صورتهم حتّى صاروا حماة له ولحكّامه، فلا يستقيم أمر الدّنيا والآخرة إلاّ بهم وهم يجسّدون من خلال تلك الصوّرة رغبة جماعيّة في الأمن والحماية والبركة في زمن كثرت آفاته وتفاقمت أزماته، وأرجفت فيه السبل، وعزّ الطعام.

فهل نحتاج اليوم إلى أمثال الولي الصالح إبراهيم بن يعقوب ليكونوا تجسيدًا لإسلام المتسامحين، وهو الذي أطعم النّاس من جوع وآمنهم من خوف في زمن راجت فيه بضاعة العنف وصوّر بعض المعتقدين في الإسلام ذلك الدّين عنيفًا، يتفنّن أصحابه في قطع الرؤوس وسبي النّساء وتفجير السيارات وقتل الأبرياء وسلب متاع النّاس؟

إنّ هذه الصفحة المشرقة من تراثنا تجعل من "الوليّ الصالح إبراهيم بن يعقوب" أو "صيد عقارب"، كما شاعت التسمية، مثالًا لقدرة التديّن على التّحوّل إلى سبل السلم والأمن؛ فيستفيد من روح العطاء وجمع الزكاة ليكون وسيطًا بين الأغنياء والفقراء، محقّقًا للعدل، وضامنًا الطّعام لكلّ فم. إنّه إسلام يعامل المرأة كائنًا بشريًّا لها حرمتها وإرادتها وحرّيتها، ويحدّ من سطوة الهيمنة الذكوريّة، وهو إسلام أكرم المرأة بدل سبيها وتحويلها إلى متاع يحتفظ به الرجل في بيته، لتحقيق رغباته وإشباع نزواته، ويفوز بها المتقاتلون في الحروب باسم شريعة الغالب وشرعيّة الغنيمة؛ ففي ذلك العصر دروس لا عدّ لها ولا حصر، تؤكّد تهافت الآراء التي تستهجن الإسلام الشعبيّ وتزدريه من حركة التّاريخ، وتردّ على المؤرّخين الرسميّين وفقهاء البلاط الذين صوّروا الأولياء الصّالحين مشعوذين ودجالين وأصحاب بدعٍ تخرج من الإيمان إلى الكفر، فهل من الكفر إكرام المرأة؟ وهل من الكفر نشر العدل بين النّاس وإطعام الجياع وإغاثة الملهوف؟ وهل من الكفر تعليم قواعد الدين للبسطاء بعفويّة الوليّ وكراماته؟

إنّ تلك الحجج التي يتّخذها فقهاء البلاط وهم يستصغرون دور الأولياء الصالحين تظلّ متهافتة ودون سند تاريخيّ، وهي امتداد لحملات التشويه التي يرفع أصحابها راية الفرقة الناجية في وجه فرق الضالين والهالكين. والحق أنّ الهلاك الحقيقي يكمن في إسلام رسميّ يهيمن عليه أصحاب السلطة أو الطامعون فيها، ويفرض الإيمان قسرًا وفي ظنّه أنّه مجرّد أداء الطقوس مفرغة من كلّ روح، أو هو وهمٌ مستبدّ بأنفس تتصوّر إكراه النّاس على الإيمان باعتماد وسائل الرعب والتوحّش يمكن أن يحقّق للإسلام مجده وللمسلمين رفعتهم، والحال أنّ سيرة الأولياء الصالحين تكشف، بما لا يدع للشك، قدرة الإسلام المتسامح على التأثير في النفوس والحدّ من استبداد المتسلّطين، وتحقيق الأمن والسعادة للبشر بأيسر السبل بعيدًا عن لغة العنف وقهر السلّاطين.


[1]- يعني زعيمًا.

[2]- تقول نللي سلامة العامري: "لئن تذكر المصادر أمسيات توبة بواسطة التفل في الفم إلاّ أنّ هذه المرّة الأولى التي نقف فيها على مشهد توبة جماعيّة ووجد جماعيّ، على إثر عمليّة رشّ بواسطة ريق الوليّ. والملفت هنا استعمال كلمة "شفاء" واقتران التفل بالشّفاء فتحافظ الممارسة على وظيفتها -وإن كان الشفاء هنا معنويّا وليس ماديًّا- وهي تحقيق التماسك والاستقرار". الولاية والمجتمع، مساهمة في التاريخ الديني والاجتماعي لإفريقيّة في العهد الحفصي، ط1، تونس، منشورات كلّية الآداب بمنّوبة، 2001، ص ص 366، 367

وتجدر الإشارة إلى أنّ استعارة التفل في الفم تعني في العاميّة أن يكون الخلف نسخة من السلف؛ كأن يكون تفل الخال في فم ابن أخته أو العم في فم ابن أخيه معناه أنّه نسخة منه في السلوك والطباع. وفي هذا المقام يؤدّي التفل وظيفة انتقال الكرامة من الشيخ العبيدلي إلى إبراهيم بن يعقوب وأصحابه.

 -[3]الزميم كلمة عامّية تعني الزعيم.

[4]- للاطلاع على سيرة الولي إبراهيم بن يعقوب، انظر: محمود مقديش، نزهة الأنظار في معرفة عجائب الأخبار (تحقيق علي الزّواري ومحمد محفوظ)، ط1، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1988، ج2، ص ص 312- 316

[5]- يقول يوسف شلحد: "إلاّ أنّ الطهارة لها وجه إيجابيّ أيضًا، فهي ليست نفي النجاسة وحسب، بل هي أيضا نقيضها. إنّها لا تعني انعدام كلّ القوى الخطرة في الكائنات والأشياء؛ إذ إنّ الطهارة بالمعنى الدقيق، تتضمّن تلك القوى. لكنّها بدلًا من أن تكون ذات طبيعة شرّيرة، على غرار قوى النجاسة، تكون بالأحرى قوى خيّرة وحسنة النوايا تجاه الإنسان الذي يحترم النظام الأوّلي، فهي متّصلة بالعالم السماويّ ومقرّبة من الإلهيّ، وتكون الطّهارة، في تجلّياتها الأرفع، مرادفة للقداسة." بنى المقدّس عند العرب، ط1، بيروت، دار الطليعة، 1996، ص 37

[6]- ينقل مقديش بعض الأبيات الشعريّة التي تخلّد ملحمة الوليّ الصالح إبراهيم بن يعقوب وأصحابه وهي تصوّر المراحل المختلفة التي مرّ بها الولي من طور الإغارة إلى طور البركة والولاية الصوفيّة كقوله: باللهجة المحلّية ونضع بين قوسين مرادفها من الألفاظ الفصيحة:

التموّا (اجتمعوا) الستّــــــــين وداروا (تحلّقوا) بسيدهم ... وقـــــــــــــالوا: اقصد بنا موضعا نرضاه

قال الوطا (الأرض) معروف هيّا اقطروني (اتبعوني) ... ولكــــم وطا معروف يجري ماه (مياهه)

في ملتقا (ملتقى) الوديان بـطحــــــــاء عقـــــارب ...وبير (بئر) العرايش نشربو من ماه (من مائه)

انظر: نزهة الأنظار، ج1، ص 315

[7]- يقول لطفي عيسى: "تجمّعت لدى الوليّ الحرمة الدينيّة والسند المادّي والردعيّ الذي مثلته السلطة السياسيّة، الأمر الذي ساهم في إقبال السكّان على الزوايا ومدّها طواعيّة ودون إكراه بجانب من صدقاتهم في شكل إعشار أو فتوح." أخبار المناقب في المعجزة والكرامة والتّاريخ، ط1، تونس، درا سراس للنشر، 1995، ص 35

[8]- المقصود بهذه العبارة: أنّ المرأة تصير تحت حماية الزاوية لاجئة في حماها، ولا يجرؤ أهل البنت على انتهاك حرمة الزاوية.

[9]- انظر:

Malek Chebel, dictionnaire des symboles musulmans, 1ére édition, Paris, Albin Michel, 1995, p246.

-[10] زهيّة جويرو، الإسلام الشعبيّ، ط1، بيروت، دار الطليعة/ رابطة العقلانيين العرب، 2007، ص 69

[11]- "نتبيّن تحوّل الدّعاء إلى سلاح بيد الأولياء في علاقتهم بالسّلطة علما بأنّ لا فاعليّة لهذا الدّعاء إلاّ بوجود دعاء اعتقاد وإيمان بهذه الفعاليّة، وبالتّالي بالقدرة الخارقة للأولياء." نللي سلامة العامري، الولاية والمجتمع، ص 305

[12]- محمّد عجينة، موسوعة أساطير العرب عن الجاهليّة ودلالاتها، ط1، بيروت/ تونس، دار الفارابي/ دار محمد علي الحامي، 1994، ج1، ص 344

[13]- انظر: مرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، (ترجمة نهاد خياطة)، ط1، دمشق، دار كنعان للدراسات والنشر، 1991، ص 10

[14]- روباربرنشفيك، تاريخ إفرقيّة في العهد الحفصي من القرن 13 إلى القرن 15م (تعريب حمادي السّاحلي)، ط1، بيروت، دار الغرب الإسلاميّ، 1988، ج2، ص 333

-[15] تقول نللي سلامة العامري: "وفي المعالم العديد من العيّنات عن عدم الاستقرار وعن غياب الشعور بالاطمئنان، ممّا يفسّر تخوّف النّاس كلّما دعتهم الحاجة إلى الركوب والسّفر مدى أهمّية الدّور الذي ستلعبه الولاية في هذا المضمار." الولاية والمجتمع، ص 71

[16]- نللي سلامة العامري، الولاية والمجتمع، ص 92