قراءة في كتاب ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة
مثلت بيعة العقبة، في العام الحادي عشر للبعثة النبوية، أوّل إرهاصاتِ التحوّلات الكبرى التي شهد عليها المجتمع الإسلامي؛ إذ شكلت النواة الرئيسة التي انبنت على نتائجها أسس الدولة الإسلامية. صحيح أنّ الرسالة المحمدية كانت، في مكة، دعوةً دينية (عقدية أخلاقية)، لكن هذا لم يحل دون اشتمالها جانبًا سياسيًا مضمرًا تدثّر بلبوسٍ أخلاقيّ، وتمثّل في دعوتها إلى المساواة والعدالة الاجتماعية من طريق التضامن والتكافل، وأنه لا فضل لعربي ("مواطن") على عجمي ("أجنبي")، ولا لأبيض ("سيد") على أسود ("عبد") إلا بالتقوى. لكنّ التجلي الحقيقي للسياسي بدأ - كما قلنا آنفا- مع بيعة العقبة؛ أو بيعات العقبة الثلاث، ومبايعة الأنصار (سكان يثرب) الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن يمنعوه من يمنعوا منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم.
يمكن القول، إذن، إن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت المحطة الأبرز في قيام دولة إسلامية، انتقلت بموجبها الجماعة الإسلامية من فئة مستضعفة إلى جماعة ذات شوكة، تعقد رايات الحرب، وتدخل في تحالفات، وتبرم اتفاقات، وتضع مواثيق؛ فخطّت نظامًا قانونيًّا قوامه "العدل" والمؤاخاة بين المسلمين، ونظامًا سياسيًّا أساسه "القوة" و"المنعة".
صارت الهجرة من مكة إلى المدينة أكثر من مجرد حدثٍ تاريخيٍ، مكّن المسلمين من تغيير مناخ الاضطهاد، بمَناخٍ يتنشّق فيه المسلم عبق الحرية؛ حيث إنّها أضحت النقلة الأهمّ والتحوّل الأكبر في اتجاه التكوين السياسي للجماعة المسلمة. شكلت هذه المرحلة من تاريخ الإسلام منعطفًا كبيرًا، تحوّل من خلالها الإسلام إلى قوّة إقليميّة منفتحةٍ على الجوار، دخلت في تحالفات مع القوى المحيطة، ممّا زادها منعة وعزّة. هكذا بدأت معالم الدولة تتشكل ككيان سياسيّ مستقلٍّ، وصارت لها هويّة سياسيّة موازية لهويتها الدينيّة، وسار الديني إلى جانب السياسيّ ملتمسين سبيل الرشاد في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، ونشر قيم الإخاء والعدالة والتسامح. وممّا يُرجّحُ لديَّ أن "الدولة المدنية"، التي تشكّلت في يثرب، كانت ملهمةً لفلاسفة الإسلام - بعد ذلك- "بالمدينة الفاضلة" رغم وجودهم تحت كنف خلافة ممتدة الأطراف؛ فالمدينة المنورة كانت شبيهة، إلى حدٍّ كبيرٍ، بمدينة أفلاطون، سعت – إلى حدّ ما- إلى تحقيق قيم الفضيلة والعدالة الاجتماعيّة، رغم أنّها لم تخلُ من منافقين و"خونة". إنها مدينة حكمها "النبي" المتصل بالعقل الفعّال، وهي الصفات التي نجدها لدى كلٍّ من الفارابي وابن رشد في مدينتهما الفاضلة.
ظهرت، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، خلافات عديدة، تمّ احتواء بعضها في حينه، بينما مازالت تبعات آثار أخرى سائرة في المجتمع الإسلامي، إلى يوم الناس هذا، تغذيها النعرات الطائفية، والاختلافات المذهبية. ولعل المحطّات المفصليّة في تاريخ الأمّة الإسلاميّة، التي نجمت منها انقسامات، وتمزيق للّحمة التي كان يصون بيضتها النبي، ومن بعده الخليفتان: أبو بكر وعمر، بدأت عراها في الانفصام في زمن عثمان ابن عفان؛ فحلّت الفتنة التي لها ما بعدها، لتجرّ خلفها سلسلة من الفتن، حروبا وانقسامات في صفوف الجماعة الإسلامية. كان لابد أن تنجم من هذه الأزمة السياسية فرق مختلفة، احتاجت إلى غطاء فكريّ يشرعنُ وجودها، وينافح عنها.
لم يكن السبب السياسي وحده وراء ظهور المذاهب الفكريّة، رغم أنه أهمها، فقد كانت هناك أسباب أخرى أذكت حدة الاختلاف، وساهمت في بزوغ نجم الفرق الكلامية، ولعل أهمّ هذه الأسباب، إضافة إلى السبب السياسي، هو الاختلاف في تأويل النصّ الدينيّ. وهنا ملاحظة لا بد من الإشارة إليها، وهي محدودية النص الديني، في مقابل لا تناهي الوقائع والحوادث المعيشة، مما احتاج معه التأويل، الذي لم يعد ترفاً فقهياً، وإنما صار ضرورة يمليها الواقع. ناهيك بتمدّد رقعة الدولة الإسلامية، وما أفرزه من تنوعٍ في فسيفساء النسيج الاجتماعي، وانتشار الذميين، من يهود ونصارى وصابئة، وغيرهم ممّن بقوا على مللهم مقابل الجزية؛ فكثرت الشبه التي يلقيها هؤلاء على العقيدة الإسلامية، فكان لزاماً أن تنبري للرد عليهم طائفة من المسلمين، وأن يلتمسوا العقل لا النص طريقاً للإقناع؛ إذ الدليل النقلي غير مجد في جدال من لا يؤمن بالنص. ساهم هذا العامل، بشكلٍ خاصّ، في رواج "تجارة" الكلام، وكثر الإقبال على بضاعتهم بحسبانها السيف المسلول في وجه أعداء الدين، من المشككين في صدق الرسالة المحمديّة من الديانات والملل السابقة، غير أنّ علم الكلام سيأخذ منحى آخر مع تولية المأمون إمارة المؤمنين، وتأسيس بيت الحكمة، وازدهار الترجمة مع حنين ابن إسحق وثابت بن قرة وابن المقفع، وغيرهم. هكذا استلهم علم الكلام المنطق الأرسطي، وصار إلى التفلسف أقرب منه إلى التدين؛ فثار في وجهه الفقهاء، وألّبوا العامّة على المتكلمين والفلاسفة على حدٍّ سواء، فكانت عداوة مستحكمة إلى يوم الناس هذا، بين من ينتسبون إلى الفقه، ومن ينتمون إلى الحكمة والفكر.
لن ندخل في تعريف الفرق من معتزلة وأشاعرة وماتريدية وغيرهم، فهذا ليس الهدف من هذا البحث؛ لأن الغاية، هنا، إظهار النفس الإصلاحيّ لابن رشد، والذي حدا به إلى تأليف الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، ومن قبله كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال؛ وذلك لن يتأتى لنا من دون الوقوف عند دور المتكلّمين في هدم بناء جماعة المسلمين. لقد فرقوا بين قلوب الناس، واشتغلوا بالتكفير بدل التفكير، وأصبح الحجر على الإيمان والتعامل معه بوصفه "حُرماً" لا يطرقه إلا من مُنِح صك القبول. هكذا احتكر الإيمان جماعة يوزعونه على الناس، حسب أهوائهم، فيثبتونه لهؤلاء وينفونه عن أولئك، بمنطق الموافقة والمخالفة لآرائهم ونزوعهم الفكري والعقدي، بل وحتى لانتمائهم السياسي، كما ينبغي الوقوف عند دور المتصوفة في صرف الناس عن الاشتغال بالعلوم وبأمور دنياهم، والبحث عن الخلاص من طريق التدرج في مسالك العارفين، وبالمحبة والزهد. من هذا كله يتبدّى، بما لا يدع مجالاً للريبة، البعد الإصلاحي لكتاب ابن رشد، الذي رام من خلاله رفع اللبس عن المسائل الشرعية الخلافية، وإظهار أن مدار الخلاف فيها هو سوء فهم مقاصد الشرع المتأتيّة من سوء تأويل النص الدينيّ. وهذا ما زجّ بالمتكلمين في أتون تأويلات بعيدة عن مقصود الشارع؛ فتعصّبوا لها، ونفوا كلّ تأويلٍ مخالف، بل وكفّروا صاحبه، ممّا أشعل نار الفتنة بين المسلمين. الأولى نبذ الخلاف، وتوحيد الكلمة، والقبول بالرأي الآخر، وهو ما لن يتمّ من دون تحديد منطلقات نرتكز عليها في بناء فهمٍ سليمٍ لنصوص الدين، بعيداً عن أي تأويلٍ ينتصرُ لمذهبٍ، أو طائفة، أو فرقةٍ؛ فالهدف هو "تصحيح عقائد شريعتنا مما داخلها من التغيير"[1].
لقد قسّم الجابري، في معرض تعليقه على الكتاب، الإصلاح الرشديّ إلى ثلاثة أنواع: إصلاح ديني، تمثّل في إبراز مقاصد الشرع التي رام من خلالها حملَ الناس على الإيمان، وفنّد كلّ الطرق التي تبتغي غير سبيل الشرع شِرْعةً ومنهاجاً، وأنّ سبيل الشرع واضحٌ جليّ، لا لبس فيه، ولا حاجة له بالتأويل المتعسف الذي يخرج النصوص من سياقها الذي أُنزِلت من أجله، وإصلاحٌ فلسفيّ تبدّى جلياً في كتابه "فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال"، وإصلاحٌ علمي دشنه بكتابه "الكليات في الطب".
يستهل ابن رشد كتابه بمقدمة يبين فيها الدوافع التي حدت به إلى خط كتابه هذا، الذي اعتبره تكملة لعمل بدأه في كتبه السابقة، وخصوصاً، كتابه فصل المقال، والذي قسّم فيه الشريعة إلى قسمين: قسم ظاهر، وقسم مؤول، وخصّ كل قسم بتحديد من وجب النظر فيه، فقصر الظاهر على العوامّ من الناس، وحصر المؤوّل في الخاصّة (الراسخون في العلم). لا يجوز عنده، إطلاقاً، فتح باب التأويل في وجه العامّة؛ لأنّ ذلك يفتح أبواب الشرور التي يصعُب غلقها، مستدلاًّ بمقولة منسوبة للإمام علي بن أبي طالب "حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذّب الله ورسوله"[2]. لذلك، فهو يرمي، من خلال تأليف هذا الكتاب، إلى فحص الظاهر من العقائد التي وجَّهها الشرع إلى الجمهور، وقَصَد حملهم عليها.
اختلف النّاس في تأويل النّص الديني، وظن كل واحد منهم أنّ تأويله هو التأويل الصّحيح، بل ذهبوا إلى ليّ أعناق النصوص لتوافق آراءهم ومذاهبهم؛ فكثر الاختلاف، واشتدّ بينهم الخلاف، وتوارى التفكير، وفشا فيهم التكفير؛ فتطاول العامّة على العلماء، واستُبيحت الأموال والدماء، وذاك هو الزيغ والضلال الذي مأتاه من سوء فهم مقاصد الشريعة، والجهل بمقصد الشارع.
وقد وجّه ابن رشد سهامَ نقده للمشتغلين بعلم الكلام، فاختصّ منهم أربع فرق، هي الظاهرة على غيرها في زمانه، هذه الفرق التي خصّها بنقده هي: الأشعرية أو الأشاعرة، والتي تنسب نفسها إلى أهل السنّة والجماعة؛ المعتزلة؛ الباطنية الصوفية؛ الطائفة الحشوية أو النّصّية أو الصّفاتية.
يبين ابن رشد كيف أنّ هذه الفرق الأربع قد حادت عن النّهج القويم، والصراط المستقيم، حين اعتقدت في الله جملةً من الاعتقادات، وصرفت كثير من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزَّلوها على تلك الاعتقادات، وزعموا أنَّها الشريعة الأولى، التي قصد بالحمل عليها جميع النّاس"[3]. أكثر من ذلك، لم يكتفوا "بضلالهم وزيغهم"، بل رموا كلَّ من خالف نهجهم، ولم يسر سيرهم ويقتفي أثرهم بأنه إما مبتدعٌ أو كافر. لكن ما يتبدّى من عرض أقوالهم هذه على الشرع هو أنّ جلّها أقاويلُ محدثة وتأويلات مبتدعة- حسب ابن رشد- الذي يتعهّد في خاتمة مقدمته القصيرة هذه أن يُجَلّيَ الحقَ، ويتحرّى مقصد الشارع، مُمَحِّصاً كلّ العقائد الواجبة شرعًا، والتي لا يقوم الإيمان إلاّ بها، ماحقاً كلّ الشوائب والأدران العالقة بها جرَّاء التأويل غير الصحيح.
قسَّم ابن رشد كتابه إلى ثلاثة أبواب، ناقش في الباب الأول آراء الفرق الكلامية، من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية ممّن اشتغلوا بالجدل والكلام، وطريقتهم في إثبات وجود الصانع، أن الإيمان بالله لا يكون إلاّ من طريق العقل، وهم في ذلك يخالفون مبدأ الصِّفاتية، الذين يروا ضرورة الوقوف عند الظاهر من النصوص، بلا إعمال للعقل. أمَّا موقف ابن رشد، فإنّه وإن كان من أنصار إعمال العقل، فإنّه قد خالف طريق المتكلمين، خصوصاً الأشاعرة منهم، وبيّن "فساد" أدلتهم، وأنّ ما من طريق للتدليل على وجود "الصانع" إلاّ طريقان: طريق الشرع (القرآن والسّنة)، وكذا طريق النظر العقلي(الفلسفي)، دليلان لا ثالث لهما، دليل العناية، ودليل الاختراع، وأمّا دليل المتكلمين- الأشاعرة بوجه خاص- فهو لا يرقى إلى مستوى الاستدلال البرهاني، كما لا هو بالدليل الخطابي، النقلي المتضَمَّن في النّص الديني. أمّا الباب الثاني، فقد خصّصه لمسألة الصّفات، وإبراز علاقتها بالذات، ومسألة التنزيه، ونفي الجسمية عن الله، ليخلص إلى أنّ الاعتساف في التأويل هو ما أدّى إلى تمزيق الشرع، وخلق الفتنة والفرقة بين المسلمين. أما العارف بالله، فيعلم بحق أن لا تعارض بين العقل والنقل بين الحكمة والشريعة. خصّص ابن رشد الباب الثالث للأفعال، فتطرّق فيه إلى حدوث العالم، وإثبات السببية من حيث إنّها إثبات لوجود الصانع، ونفيها فيه إنكار وجحود للصانع، وذكر الوحي وبعث الرسل، والمعجزات، ومسألة القضاء والقدر، ومسألة الجور والعدل، والمعاد وأحواله، قبل أن يختم كتابه بتسطير قانون ينظم التأويل، ويحدّ حدوده، ويُعَيّن من يجب في حقه ومن لا يجوز له النظر.
إذن فالذي يتبين لكل دارس لهذا الكتاب أن صاحبه إنّما ألفه ردّاً على الأشاعرة الذين تقوم بينه وبيهم عداوة مستحكمة، وصراع حول القضاء استحال صراعاً عقديّاً. علاوةً على هذا كان الكتاب فرصة لابن رشد للرد على الغزّالي وإفحامه لتهجّمه على الفلاسفة، والحكم بتكفيرهم، ممّا ألَّب العامّة عليهم، وهذا كلّه إنّما جرّه عليه سوء تأويله للنّص الديني؛ فكان لزاما على أبي الوليد أن ينبري للذّود عن الفلاسفة، والرد على علم الكلام وبيان تهافت أدلّته الجدلية، التي لا ترتقي إلى مرتبة البرهان العقلي، ويرفع من شأن التأويل، فيضن به عن العامة والدهماء من الجمهور، فيُعملون فيه أهواءهم، ويخضعونه لرغباتهم؛ فصنعة التأويل -عنده- شريفة، ومكانته عزيزة، لا يبلغها إلاّ الراسخون في العلم من خاصّة العلماء والحكماء.
أولاً: في الذات؛ الأدلة على وجود الصانع
استهلّ ابن رشد هذا الباب بالتعرض لآراء الفرق الكلامية في إثبات وجود الصّانع، وقارنها بمقاصد الشرع المُفْضية إلى معرفة الصّانع، والتي يعتبرها من أوجب ما يجب على المكلف معرفته من أمور دينه. قلنا إنّه قام باستعراض أدلة الفرق المشهورة، ويتلقفها بالنقد والتحليل؛ فيبتدئ بالحشوية، أو الظاهرية التي كفَّت العقل عن النظر، واكتفت بالأخذ بالظاهر من النصوص. إن معرفة الله ومعرفة أحوال الغيب لا طاقة للعقل باستكناه خباياها، وسبر أغوارها. هذا ما دفع ابن رشد إلى الحُكم بضلال هذه الفرقة، وقصورها عن بلوغ مراد الشرع، لتجاهلها الآيات الدّاعية إلى إعمال العقل لمعرفة الذات الإلهية، والتفكر في الآيات الكونية الشاهدة على بديع صنع الخالق، من قبيل قوله تعالى "إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنّهار لآيات لأولي الألباب"[4]. لقد تواترت الآيات الداعية إلى إعمال العقل لبلوغ المعرفة اليقينية، مدعومة بأدلة عقلية، غير أنّ هذه الأدلة ليست شرطا في صحَّة إيمان المؤمن؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يعرضها على أتباعه عند دعوتهم إلى الإسلام، مع العلم أنّ العرب كانت تؤمن بوجود خالق؛ فقد ذكر القرآن لرسول الله "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولُنَّ الله".
1. طريقة الأشاعرة
ينتقل بعد ذلك ابن رشد إلى استعراض أدلّة الأشاعرة، الذين يتفقون معه في أن التصديق بوجود الخالق لا يتمُّ إلاّ من طريق العقل، لكنهم اختلفوا عنه في المنهج؛ أي في الطريق المؤدية إلى هذا التصديق؛ فهم قد سلكوا- والقول لابي الوليد- سبلًا غير شرعية ودعوا النّاس من خلالها. هذا أول أسباب فسادها. أمّا السبب الآخر لفسادها، فيتمثّل، في رأيه، في كونها انبنت على فكرة تركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأنّ الجزء الذي لا يتجزأ فهو محدث، إذن فالجسم محدث بحدوث أجزائه. يبين ابن رشد أن الطريقة التي اعتمدوها طريقة جدلية عقيمة تعتاصُ عن أصحاب الصنعة من المتكلمين؛ فأنَّى لها أن تلامس أفهام الجمهور، ناهيك بأنها طريقة غير برهانية، لا تُفضي إلى معرفة يقينية بوجود الباري تعالى. وقد اعتمدوا في التدليل على آرائهم على دليل الجوهر الفرد، والذي اعتمده عامّة الأشاعرة، والذي ينبني على ثلاث مقدمات: أول هذه المقدمات أنّ الجواهر لا تخلو من الأعراض، وثانيها أنّ الأعراض حادثة. أما الثالثة، فهي أنّ ما لا ينفكّ عن الحوادث فهو حادث، بعبارة أخرى؛ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. بعد أنْ بسط هذه المقدمات، على عادة أستاذه أرسطو، شرع في الرد عليها وتفنيدها، وبيان بطلانها الواحدة تلو الأخرى، بالبرهان المنطقي، فألمح إلى أنها محفوفة بالشكوك، ومحل تضارب وتناقض. من ذلك، مثلا، لا يوجد إجماع على وجود جوهر غير منقسم من المتكلمين أنفسهم؛ فليس في مُكن صناعة الكلام التخلص من هذا التناقض، وإنّما تلك مهمّة منوطة بعلم الطبيعة، الذي يعتمد الدلائل البرهانية، في مقابل الإثباتات الجدليّة الخطابيّة التي يعتمدها الأشاعرة. ويضرب ابن رشد مثالًا على استدلالهم، بمثال الفيل والنملة، هذا الاستدلال الذي يفنّده ابن رشد، ويبين مدخل الخطأ فيه، ومكمن اللبس الذي ذهل عنه الأشاعرة، وهو عدم قدرتهم على التمييز بين الكم المنفصل والكم المتصل، والفروق بينهما. إنما يصدق على الكمية المتصلة لا يصدق بالضرورة على الكمية المنفصلة؛ فالكمية المتصلة تصدق على الأجسام بينما تصدق الكمية المنفصلة على الأعداد، وهذا ما زجَّ بهم في شكوك لا فكاك لهم منها، وليس في مُكن صناعة الجدل حلّها. فإذا وجب ألّا تُجْعَل مبدأ لمعرفة الله تبارك وتعالى، خصوصاً للجمهور، لاحتياجه إلى طرق أوضح وأيسر.
وكما كانت المقدمة مثار شكّ فإنّ المقدمة الثانية لم تخلُ منه هي أيضاً، وذلك بقولها بحدوث جميع الأعراض؛ فهذا مما لا ينطبق على الأجسام السماوية التي ينبغي أن يكون الفحص فيها من طريق الحركة، وهي الطريق التي أعتبرها مُفْضيةً بالسالكين إلى معرفة الخالق عزّ وجلّ؛ إنها طريق الخواص، "التي خص به الله إبراهيم عليه السلام في قوله "كذلك نري إبراهيم من ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين" الآية. وهكذا سار في تفنيد أقوالهم على نفس المنوال، يستعرض الشبهة، ثمّ يبيّنُ ما يخالطها من شكوك تُفضي إلى بطلانها، وأنّها ليست من البرهان في شيء، وليست من الأقاويل التي يتمُّ من خلالها إقناع الجمهور؛ أي البراهين البسيطة التي "كلَّف الله بها الجميع من عباده الإيمان به"[5]. كان هذا ردُّه على الطريقة الأولى التي اشتهرت عند الأشعرية، أمّا الطريقة الثانية التي عرَضَ لها فكانت طريقة أبي المعالي الجويني.
2. طريقة أبي المعالي الجويني
هذه الطريقة التي انتهجها أبو المعالي في رسالته المسمَّاة "العقيدة النظامية"، والتي كانت بأمر من الأمير السلجوقي نظام الملك، والتي مبناها على مقدمتين: أولاهما أن العالم -بجميع ما فيه- جائزٌ أن يكون على خلاف ما هو عليه، حتى إنّه يمكن أن يكون أكبر، أو أصغر مما هو"[6]، أو أنّ حركاته يجوز أن تكون بخلاف الحركات التي هو عليها. أما المقدمة الثانية، فحاول فيها إثبات أن ما هو جائز فهو مُحدَث، وله مُحدِث؛ أي إن هناك فاعلا اختار وفضل أحد الجائزين عن الآخر وأقرّه. وكعادته دائما، يبدأ ابن رشد باستعراض أدلة خصومه، ثم يناقشها ويبين زيفها وتهافتها. لقد أظهر أن المقدمة الأولى خطاب في بادئ الرأي، يَظهر كذبها عند محاولة تعميمها على سائر أجزاء العالم؛ فلا يعقل وجود إنسان، مثلا، "على خِلقة غير هذه الخِلقة التي هو عليها"[7] فضلًا عن أن قول بالتجويز ينفي صفة الحكمة عن الصانع الذي أوجد الموجودات على وجه معين، لحكمة مخصوصة؛ فكل شيء عنده بمقدار، فتنتفي الغاية من الوجود، وينعكس ذلك على المخلوقات، ويفسد النظام الطبيعي المبني على التوازن والتناغم والانسجام. إِنّهَا هذه المقدمة الخطابية -حسب ابن رشد- وإن كانت صالحة لإقناع الجمهور، فإنها من جهة ثانية، كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع. كما وأنه يعيب على ابن سينا إذعانه لهذه المقدمة على ما يعتورها من العلل، أوضحها ابن رشد وخفيت عن ابن سينا.
ينتقل بعد ذلك إلى إبطال المقدمة الثانية، القائلة إنّ الجائز محدَث، وبيَّن اختلاف العلماء، أصحاب البرهان، فكيف تتكشّف لمن هو دونهم، أمّا الجويني فإنّما أراد أن يصل إلى بيان أن الجائز لابدّ له من مُجيز، يُفضّلُ أحد الوجهين عن الآخر، هذا المجيز لا يكون إلا مريداً، والموجود عن إرادة هو حادث بالضرورة، كما وأنّه ناقش الإرادة، وهل هي قديمة أم محدثة، وعلاقتها بالفعل، ليخلص في نهاية نقده طريقة أبي المعالي الجويني، ومن ورائه كل طرق الأشاعرة المشهورة التي "ليست طرقاً نظرية يقينية، ولا طرقاً شرعية يقينية".[8] ومخالفتهم لما جاء في نصوص الكتاب العزيز(القرآن)، التي تعتمد طرقاً غايةً في البساطة ومقدماتها قليلة، وتأتي نتائجها قريبة من البديهيات.
3. طريقة الصوفية
بعد نقده لطرق الأشاعرة، وبيان بطلانها وبُعدها عن مقاصد الشارع، انتقل ابن رشد إلى فرقة أخرى، على النقيض تمامًا من الفرق الكلامية، وهي الصوفية، فبيَّن أن طرقهم هي كطرق سابقيهم، ليست طرقاً نظريّة، كونها لا تعتمد مقدمات وأقيسة، وإنما مبناها على الحدس لمعرفة الله، ومعرفة غيره من الموجودات، بتوسل التزكية وتطهير النفس من العوارض والشوائب الشهوانية، ودليلهم في ذلك من النقل، آيات من قبيل "وعلمناه من لدنا علماَ"[9]؛ و"واتقوا الله ويعلمكم الله"[10]؛ و"والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا"[11]، وغيرها من الآيات التي يُظنُّ أنها داعمة لرأيهم. وإن كان ابن رشد يُسَلّم بوجود هذه الطريق، إلاّ أنه يقرُّ أنها ليست متاحة لكل الناس؛ لأنها لو كانت عامة ومقصودة لبطل النظر، وكان وجوده بين الناس محض عبث، وهو ما يخالف صريح القرآن، الذي هو في مجمله دعوة إلى النظر، والتفكر والاعتبار، وتنبيه على طَرائق التأمل والتفكير.
أمّا المعتزلة، فلم يتطرق إلى فكرهم، ولم يخض فيه بنقد، مُتَعللا بعدم تحصُّله شيئا من فكرهم، جراء عدم وصول كتبهم بلاد الأندلس، وهذا شيء عُجاب.
بعد أن انتهى ابن رشد من أدلة الأشاعرة والمتصوفة، تحليلاً ونقداً، انصرف إلى التوطين للطريقة التي يراها ناجعة للجمهور والعلماء، على السواء، والتي توافق مقاصد الشارع في الآن عينه. يرى ابن رشد أن هناك دليلين غفل عنهما المتكلمون، وهما دليلان أثبتهما الشرع من طريق القرآن، وهما دليل العناية ودليل الاختراع، فأما دليل العناية يتمثل في أن سائر الموجودات إنما أوجدت بشكل يجعلها موافقة لوجود الإنسان، هذه الموافقة لا يمكن أن تكون بمحض الصدفة. أما دليل الاختراع، فهو ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء، والموجودات، مثل اختراع الحياة والجمادات والإدراكات الحسية، وغيرها. لقد قصر ابن رشد الأدلة الوجودية للصانع عليهما، من حيث إنهما دليلان يصلحان طريقة للعوام من الجمهور، كما يصلح طريقة للخاصّة من أولي العلم، وأما الاختلاف بينهما ففي التفصيل؛ فبينما يقتصر الجمهور على المعرفة الأولى، يزيد عليهم العلماء بالإدراك الحسي والبرهاني، وساق مجموعة من الآيات التي شدّ بها أزر استدلاله، من قبيل "فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صبّاً، ثمّ شققنا الأرض شقّاً، فأنبتنا فيها حبّاً، وعنباً وقضباً"[12]. ساق هذه الآيات كاستدلال على دليل العناية، كما ساق آيات أخرى للتدليل على دليل الاختراع، نذكر منها قوله تعالى: "الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء"[13]، وهكذا، قصر أدلة وجود الصانع على دليلين لا ثالث لهما، وهما دليل العناية، ودليل الاختراع.
4. القول في الوحدانية
تطرق ابن رشد في هذه المسألة إلى الأدلة القرآنية الدالة على وحدانية الله؛ أي إن أبا الوليد حاول إثبات وحدانية الخالق انطلاقاً من الآيات القرآنية، سيراً على الطريقة الشرعية النقلية، فاستدلّ بقوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا"[14]. كما ساق آيات أخرى تصُبُّ في المنحى نفسه، الذي هو نفي الشريك في الملك عن الله، لما يخلقه وجود الشريك من التنازع، وتضارب المصالح، مأتاهُ من اختلاف الإرادات يؤدي، لا محالة، إلى فساد السماوات والأرض، إلاّ أن يكون أحد الشريكين فاعلاً، والآخر عاطلا؛ وذلك منتف في صفة الآلهة؛ "فإنّه متى اجتمع فعلان على محل واحد، فسد المحل ضرورة"[15]. هنا يقف ابن رشد عند دليل الممانعة عند الأشاعرة، المستنبط من الآية نفسها السالفة الذكر، ويبين بطلانه لعدم موافقته لا للأدلة الشرعية (النقلية)، ولا للأدلة الطبيعية (العقلية)، وما ذلك إلّا لأنه يعسر على الجمهور فهمه، فضلاً عن أن يقتنعوا بصحة مدلوله. بين أوجه الضعف في هذا الدليل، حيث إنهم فرضوا اختلاف الآلهة بالمطلق، وبنوا على هذا الاختلاف، في حين أنه يجوز الاتفاق بينهم، وهو الأجدر بهم بحسبانهم آلهة، حسب ابن رشد؛ فكما يتفق صانعين أو أكثر على مصنوع، فإن اتفاق الآلهة هو من باب الأولى، ودليل الممانعة الذي اعتمده الأشاعرة يعرّفه المناطقة بالقياس الشرطي المنفصل، في حين يُعرّفونه هم بدليل السبر والتقسيم، فـ "الدليل الذي في الآية، الذي يعرف في صناعة المنطق بالشرطي المتصل، هو غير المنفصل"[16]، لأن الفرق بين الدليلين ظاهر جلي لمن كان له معرفة بصناعة المنطق.
يختم ابن رشد قوله، في هذا الباب، بأن الطرائق الشرعية المؤدية إلى الإقرار بوحدانية الله، ونفي الألوهية عمّن سواه، متضمنة في كلمة التوحيد: لا إله إلاّ الله، من نطق هذه الكلمة وصدَّق بمعناها؛ أي وجود الباري، ونفي الإلهية عمّن سواه" فهو المسلم الحقيقيّ الذي عقيدته صحيحة، أمّا من لم تكن عقيدته مبنية على هذه الأدلّة فهو، بحسب ابن رشد، مسلم بالاسم فقط.
ثانيا: في الصفات الإلهية
بعد أن انتقد ابن رشد أراء خصومه في مسألة التوحيد، انبرى للحديث عن الصفات الإلهية، فأثبت ابتداء أنها أوصاف الكمال الموجودة في الإنسان، وهي سبعة: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. وقد أفرد لكل من هذه الصفات حيّزاً لشرحها، ودحض شبه المتكلمين، خصوصاً، حولها.
بدأ ابن رشد بصفة العلم، واستدل بالنقل لإثبات هذه الصفة للباري، استناداً إلى قوله تعالى: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"[17]، فبيّنَ أنّ صفة العلم صفةٌ قديمة، بحيث لا يجوز في حقّه تعالى أن يتّصف بها حيناً دون حين، مع الاحتراز من التعمُّق في هذا القول، وإلاّ سقط في شبهات المتكلمين الذين قالوا إنّ الله يعلم الحدث في وقت حدوثه بعلم قديم، وهو ما يلزم عنه- والقول لأبي الوليد- "أن يكون العلم المحدث في وقت عدمه وفي وقت وجوده، علماً واحدا، وهذا أمرٌ غير معقول"[18]، فإن الموجود شرطٌ للعلم بوجوده، والموجود يوجد فعلا، ويوجد قوة، ما يجعل العلم به مختلفاً.
أمّا الصفة الثانية، فهي صفة الحياة، التي يرتبط وجودها بوجود صفة العلم؛ لأنّه لا علم من دون حياة، وقد وافق المتكلمين في انتقال الحكم من الشاهد إلى الغائب كشرط لإثبات صفة الحياة، ليستكمل عمله في إثبات الصفات الأخرى، كالإرادة، التي جعل من شروطها القدرة، والكلام. هذا الفعل الإلهي أثار فتنة كبيرة بين المسلمين، والتي عرفت بفتنة خلق القرآن. بنى ابن رشد قوله في الكلام على أن هذا الفعل لا يكون إلاّ بوساطة؛ فهو إما أن يتم بواسطة ملك، أو يكون وحياً، أو يكون بواسطة لفظ يلقيه الله في روع المختص بكلامه. يستدل ابن رشد على ذلك بالآية التالية "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا، فيوحي بإذنه ما يشاء".[19] انتقل بعد ذلك إلى الخوض في علاقة الذات بالصفات، والسؤال المطروح حول هذه الصفات، هل هي صفات معنوية، زائدة على الذات؟ أم هي صفات نفسية؟
يعتبر ابن رشد الخوض في هذه المسألة من البدع المحدثة، فقول الأشعرية بالصفات المعنوية، وأنها زائدة على الذات فيه شبهٌ كبيرٌ من قول النصارى بالأقانيم الثلاثة: الوجود، والحياة، والعلم. كل واحد منها قائمٌ بذاته، والآخر قائمٌ بغيره، فأوجبوا جوهراً وعرضاً؛ حاملاً ومحمولاً. الجوهر قائمٌ بذاته، والعرض هو القائم بغيره، وجوهر الخلاف بين ابن رشد وعقيدة النصارى، هو أنّ اعتقادهم في كثرة الصفات جنح بهم إلى تعدُّد الآلهة. الإله عندهم واحد وثلاثة، ثلاثة من جهة أنه موجود، وحي، وعالم، وواحد من جهة احتيازه هذه الصفات كلها. ينتقد بعد ذلك قول المعتزلة بأن الذات والصفات شيء واحد، وهو قولٌ مردود لأنّ العلم يجب أن يخالف العالِم، والمعتزلة لا يملكون برهاناً على وجوب هذا في الأول سبحانه، وليس لديهم برهان على نفي الجسمية عنه، والذي ينبني على وجوب الحدوث للجسم بما هو جسم؛ وذلك ما لم يكن في مُكنهم البرهان عليه.
تكلم ابن رشد عن تنزيه الخالق عن النقائص، ونفي المماثلة عنه، فأورد الأدلة النقلية والعقلية الدالة على وجوب تنزيه الخالق، ونفي مماثلة الخالق بالمخلوق. يقوم هذا النفي الذي على وجهين: أولهما، ألا توجد في المخلوقات من صفات الخالق شيء؛ وثانيها، أن يوجد في الخالق صفاتٌ للمخلوق على جهة أتمّ وأفضل مما لا يتناهى في العقل. نفى الخالق عن نفسه صفات النقائص، كالموت، والنوم، وما تقتضي الغفلة والسهو، والنسيان والزلل. أمّا الجسمية، وإن كانت من الصفات المسكوت عنها شرعاً، إلاّ أنّ أبا الوليد قد خاض فيها كما خاض فيها المتكلمين، الذين تراوحت أفكارهم فيها بين النفي والإثبات. أمّا هو، فيرى أنّ الشرع أقرب إلى إثباتها منه إلى نفيها. عزا ابن رشد ذلك إلى أنّ الجمهور يرى أنّ الموجود هو المتخيل والمحسوس، وأن غير المتخيل، وغير المحسوس هو بمثابة العدم، وهذا هو المُدخل الذي استند إليه من أثبت الجسمية للخالق، لكنّ أبا الوليد يقف موقف الشرعِ من هذه المسألة، فيتوقف، فلا هو يثبت الجسمية في حق الله، ولا هو ينفيها. أما جواب المسألة، فيكون في قوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع العليم"[20]، فلا يجب التصريح للجمهور بما يَؤُولُ عندهم إلى إبطال ظواهر النّص؛ لأنّ تأثير الشريعة عليهم لا يتمُّ إلاّ من خلال الظاهر منه، فالتأويلات المتعسِّفة للفرق الكلامية هي التي مزَّقتِ الشرع، وأبطلت الحكمة المقصودة منها، كذلك الشأن بالنِّسبة إلى الجهة، فرغم ثبوتها بالأدلة النقلية والعقلية، إلاّ أنهم اعتقدوا أن في إثباتها إثباتٌ للمكان، وهو ما يستتبعه ضرورةً، إثبات الجسمية لله، وهو ما يراه ابن رشد غير لازم، لكون الجهة غير المكان، واستفاض في إثبات ذلك، وفي أنّ أكثر ما دخل الأمّة من البلاء كان من احتكار تأويل المتشابه من الآيات، وحملها على غير ظاهرها، بل إنّ أكثر التأويلات التي زعموا أنها موافقة لمقصود الشارِعِ لا دليل لهم على صحَّتها، ولا برهان لهم على مطابقتها لمقاصد الشارع، بل هي قاصرة عن أن تؤثر في الجمهور تأثيرَ الظاهر في القبول لها، والعمل بها. فالواجب في حقِّ الجمهور العمل، أما العلم والعمل فهما منوطان بالعلماء. هكذا يكون التأويل أحدُ أهمِّ أسبابِ الفرقةِ بين المسلمينَ، والتي مزّقتْ لحمةَ الأمّةِ، وشتّتتْ شملها. فكانت كالدواء الذي يوصفُ لغير صاحبه، فيكون ضرُّهُ عليه أكثر من نفعه، وذاك حال المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة والصوفية، ليأتي بعد ذلك الغزالي ويطُمَّ الوادي على القرى؛ أي يغرقها في لُجَّةٍ من الفرقة والبغضاء، وما ذلك في نظره إلاّ لأنه صرّح بالحكمة للجمهور، ممّا نجم منه الإضرارُ بالحكمة وأصحابها، وحدا بالجمهور إلى الخوض في صنعةٍ ليسوا أهلاً للخوض فيها، ولا دراية لهم بتشعُّباتها، فانقسموا بذلك إلى قسمين: فريق نذب نفسه لِذَمِّ الحكماء، وفريق تجرأ على التأويل، وصرفه إلى غير وجهته، وهذا خطأ، بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره، ولا يصرح للجمهور، ولا بالجمع بينه وبين الحكمة، فالحكمة غير مخالفة الشريعة، بل هي شاهدة لها، وموافقة لها.
ثالثا: في الأفعال
خصَّص ابن رشد الباب الثالث لمسألة الأفعال، والتي خصَّ فيها الحديث عن خمسِ مسائلَ في الأصول، هي مدار التفصيل في هذا الباب، وفي إثبات خلق العالم، ومسألة بعث الرسل، والثالثة في القضاء والقدر، والرابعة في العدل والجور. أمّا الخامسة، فقد خصَّصها للمعاد.
استهلّ قوله في المسألة الأولى ببيان قصد الشارع من الخلق، وأن العالم مخلوق، وليس موجوداً بالصدفة والاتفاق؛ فالطريق التي سلكها الشرع في تقرير هذا الأصل يختلف عن الطريق التي سلكها الأشاعرة. طريق الأشاعرة المبني على كثرة المقدمات المتكونة من كثرة الأقيسة المركبة الطويلة، التي تستعصي على أفهام الجمهور، ولا يستعملها الشارع، فالشارع لا يستعمل ما لا يطيق الجمهور فهمه، فقد استدلّ الشرع على خلق العالم من طريق أدلة بسيطة، وقليلة المقدمات، نتائجها قريبة من البديهيات. أما النزوع عن هذا السبيل وسَلْكِ طريق الأشاعرة، فإنه ينِمُّ عن جهلٍ بقصد الشارع، فقد لجأ إلى دليل قطعي بسيط، ارتكز على أصلين مُجمَعٌ عليهما، ومعترفٌ بهما من الجميع، وأول هذه الأدلة، دليل العناية، والذي سبق أن أثبت به وجود الخالق، ليتوسّله هذه المرّة لإثبات خلق العالم، هذا العالم الذي كلّ ما فيه من المخلوقات موجود بالكيفية التي توافق وجود الإنسان. يعتبر ابن رشد أن هذا الدليل دليلا قطعيّاً وبسيطاً في الآن نفسه؛ إذ إن مبناه على أصلين مُجمَعٌ على صحتهما، فهو من جهة هندسته التي شُكِّلت بكيفية تجعله ملائما للوجود الإنساني، وبذلك فإنه موجود لغاية، وما وُجِدَ لِغايةٍ فهو مخلوقٌ ضرورةَ، وأنَّ له صانعاً. واستدل على ذلك بآيات قرآنية تُعزّزُ استدلاله، مثل قوله تعالى "وبنينا فوقكم سبعاً شِداداَ، وجعلنا سراجاً وهَّاجاً"[21]، ليستشفّ من هذه الآية أن القرآن عبّر بلفظ البنيان عن اختراع السماوات، وعن الاتقان الموجود فيها، والنظام والترتيب الذي يسودها، وهكذا استخرج كل الآيات التي تصبّ في نفس المعنى، وعلّق عليها بشكلٍ جعله يستلّمن بين ثناياها دلائل تعضد مواقفه.
بعد ذلك انبرى للرد على الأشاعرة الذين يقولون بالتجويز؛ أي إنه يجوز في العالم أن يكون على وجهٍ غير الذي هو عليه، وهو ما ينفي، في نظره، الحكمة عن الخالق ابتداء، ثمّ ينفي وجود الموافقة بين وجود الإنسان، وبين باقي الموجودات، ويضع الوجود برمَّته تحت رحمة العرَضية والصدفة، ليصل إلى نتيجة مفادها أن إنكار المسببات هو جهلٌ بالصناعة والصانع، كما يترتب عنه جحود الصانع الحكيم، وهذا قولٌ بعيد عن مقتضى الحكمة، بل هو مبطلٌ لها، فهو أقرب أن ينفي وجود الصانع من أن يدل على وجوده، علاوة على أنه ينفي الحكمة، فالوجود الجائز على أحد الوجهين يمكن أن يصدر عن الاتفاق والصدفة، ثمّ إنّ الذي دفع الأشاعرة إلى توسل هذه الطريق، كان الهروب من القول بفعل القوى الطبيعية "التي ركّبها الله تعالى في الموجودات التي ها هنا، كما ركّب فيها النفوس وغير ذلك"[22]، خوفاً من أن يجعلوا مع الله شريكاً في الخلق، لكنّ الله هو مخترع الأسباب، ومسبِّبُها، و"كونها مؤثرة هو بإذنه، وحفظه لوجودها"[23]، كما خافوا أن يتسرب إليهم ليقول إن العالم صادرٌ عن سببٍ طبيعي، وغاب عنهم أنّ الطبيعة نفسها من صنع الخالق، وأن لا شيء أدلَّ على وجودِ صانعٍ حكيمٍ من الانسجام والتناغم الطبيعي، ولم يعلموا أنّ في نفي الطبيعة إسقاطٌ للاستدلال على وجود الصانعِ العالِم.
يعود ابن رشد مرة أخرى إلى القول إنّ رأي الأشاعرة مأخوذ من بادئ الرأي، الذي كان يُظنّ معه أنّ معنى الإرادة أن يفعل المريد الشيء وضده، لذلك لمّا أثبتوا الإرادة للخالق، أثبتوا التجويز، "كأنهم لم يروا الترتيب الذي في الأمور الصناعية ضرورياً، وهو مع ذلك صادر عن فاعل مريد"[24]، فأنكروا بنكرانهم أفعال الطبيعة "جندا من جند الله تعالى، سخّرها الله تعالى لإيجاد كثيرٍ من موجوداته بإذنه، ولحفظها"[25]، وبهذا فإنّ الطرق التي سلكها الشرع لإقناع الجمهور هي طريقٌ واضحةٌ جليّةٌ، تشبه في ظهورها في العقل، ظهور الشمس في الحس، وأمّا الآيات التي ليس عليها مثالٌ في الشاهد، فواجبٌ أن تؤخذ كما هي، ولا يتم تأويلُ شيءٍ منها للجمهور، أو أن تُعرض على غير الوجه الذي أنزلت عليه، لأنّ ذلك ممّا يُبطل الحكمة الشرعية.
1. مسألة بعث الرسل والمعجزات
أمّا هذه المسألة، فقد قسّمها إلى قسمين: أحدهما في إثبات الرسل، وثانيهما أنّ النبي واحد منهم، وليس كاذباً في دعواه. وكعادته، بسط آراء المتكلمين من معتزلة وأشاعرة، وبيَّن وجه القصور فيها، وأنّها، وإن كانت فعَّالة في إقناع الجمهور، فإنّها لا تخلو من اختلالات تكتنفها، وتضرب مصداقيتها في مقتل، أمّا الدليل الذي لا يبغي عنه بديلا لإثبات النبوة، فهو ظهور المعجزات على يدي النبي، فظهور المعجزة دليل على النبوة، وأنّ المعجزات لا تُستفاد من الصنائع الغريبة، أو التي تكون من طريق التخيّل، فإنها خاصة بالأصفياء من الرسل، وتوسَّعَ في التدليل على وجود الأنبياء بالضرورة، مستدلاً على وجودهم بأدلّة متواترة، لا ينكرها إلاّ من يجحد التواتر، كما نُقِل إلينا وجود الفلسفة والفلاسفة بالتواتر، ولئن كانت معجزات الأنبياء أفعالاً معجزة، فإنّ معجزة النبي عليه السلام هي القرآن، بما تضمّنه من علوم لا يتم اكتسابها بالتعلم، بل فقط من طريق الوحي، وكذلك بإعلامه بالغيوب، ثمّ من نظمه المخالف لِنَظْم سائر الناس. وأورد أدلة على أنه كلام الله، ومن ذلك أمثلة عقلية ونقلية من القرآن نفسه، ويدخل في مقارنة مع الشرائع السابقة، فيستدل بوجود شرائع سابقة على شريعة لاحقة.
يؤكد ابن رشد أن الرسل موجودون، وأنّ الأفعال الخارقة لا تأتي إلا من طرفهم، وأن تلك الخوارق هي الدليل على صدق النبي، ويقصد ابن رشد بالمعجز شيئين: "المعجز البراني"، الذي يليق لإقناع الجمهور فقط، و"المعجز المناسب"، الذي هو طريقٌ مشتركٌ بين الجمهور والعلماء، وهو الطريق الذي سلكه الشارع.
2. في القضاء والقدر
يعترف ابن رشد أن هذه المسألة من أعوص مسائل الشرع؛ لأن الأدلة النقلية والعقلية في شأنها، الغالب عليها التعارض، فقد اشتمل القرآن آياتٍ عديدة تدل في عمومها على أن كلّ شيء بقدر، وأن الإنسان مجبور على أفعاله، بينما تنصّ أخرى على أن للإنسان اكتساباً بفعله، وأنه حرٌّ في أفعاله. كذلك الشأن بالنسبة إلى الأحاديث النبوية، فظاهرها التعارض. هذا وقد افترق المسلمون إلى فريقين: فريق يعتقد أنّ كسب الإنسان هو سبب الشرِّ والخير، وهؤلاء هم المعتزلة، ورتبوا على ذلك ربط العقاب والثواب بحرية الاختيار (المسؤولية)، وهو دليل عندهم على صفة العدل، أحد الأصول الخمسة لدى المعتزلة، فكون أن اللهَ عادلٌ لا يمكن أن يجبر العباد على فعلٍ، ثم يحاسبهم عليه؛ لأن ذلك منافٍ لمبدأ العدل، الذي اتفقت كل الفرق على أنه صفة إلهية، بينما ذهب الفريق الثاني إلى أن الإنسان مجبور على أفعاله، مجبور على أفعاله، مُسيَّر غير مُخيّرٍ، وهؤلاء هم الجبرية، أو القدرية، وبين هؤلاء وأولئك، تَمَوقع الأشاعرة في موقفٍ وسط، ، وقالو بالكسب؛ أي إن أفعال العباد مخلوقة، لكن الكسب فعلٌ إراديٌّ للإنسان، وبذلك فهم أحرار في الكسب، وبالتالي فهم مستحقون للثواب أو العقاب. ينتقد ابن رشد هذه الآراء جملةً واحدة، لأن الظاهر من مقصد الشرع هو الجمع بين المسموع والمعقول، لا التفريق بينهما، فالتوسط في هذه المسألة هو الحق، فالظاهر أن الله خلق لنا قوى نقدر بواسطتها من الكسب لأشياء هي أضداد، ولمّا كان الاكتساب لتلك الأشياء لا يتم إلا بموافقة الأسباب التي سخرها الله لنا من الخارج، وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلى العباد تتم بالجمع بين الأمرين، فالأفعال التي من الخارج مُتمِّمة للأفعال التي ننوي القيام بها، أو عائقة عنها على مقتضى الحال، وهي أيضا السبب الذي يدفعنا إلى إرادة أحد المتقابلَين؛ أي الرغبة في أحد الشيئين المختلفين، هذه الرغبة أو الإرادة، إنما هي شوق لنا، عن تخيُّلٍ أو تصديقٍ لشيء. هذا التصديق الذي لا دخل فيه للإرادة، وإنما هو شيء يعرض لنا من الخارج، ويورد مثالا على ذلك، "أنه إذا ورد علينا أمر مشتهىً من خارج، اشتهيناه بالضرورة من غير اختيار، فتحركنا إليه، وكذلك إذا طرأ علينا أمرٌ مهروب عنه من الخارج، كرهناه بالضرورة، فهربنا منه"[26]، وبهذا، فإن إرادتنا رهنٌ بالأمور التي من الخارج، ومرتبطة بها. هذه الأمور تسير وفق نظامٍ محدَّدٍ بحسب حكمة الخالق تعالى، وإرادتنا لا تتم إلاّ بموافقة الأسباب التي من الخارج، وبذلك فإن أفعالنا تجري على نظام محدود؛ أي إنها توجد في زمنٍ مخصوصٍ، على وجه مخصوص، هذا النظام هو ما يسميه ابن رشد بالقضاء والقدر، وهو في اللوح المحفوظ.
هكذا تكون أعمالنا اكتسابا، يسير بمقتضى القضاء والقدر، وهذا هو الجمع الذي رامه الشرع بتلك الآيات العامة والأحاديث التي يُظن أنها متعارضة، "وهي إذا خُصِّصت عموماتها بهذا المعنى، انتفى التعارض"[27] وبهذا تزول كل الشكوك.
ويردّ على الذين يقولون إن هذا الدليل، وإن كان يوافق النقل والعقل، ينجم منه وجود شريك في الفعل مع الله، هذا الشريك هو الأسباب الطبيعية، وقد اتفق المسلمون قاطبة على أن لا فاعل إلا الله، فيرد على الغزالي في مثاله الذي يساوي فيه في فعل الكتابة، بين الكاتب والقلم الذي يكتب، ويبين ضعف هذه القول من حيث إن الكاتب ليس هو خالق القم، بل إنهما يشتركان فقط في اللفظ، وإنما يكون التمثيل مُعتَبراً لو كان الكاتب هو مخترع القلم، والحافظ له، وهذا ما يجب في حقِّ الله تعالى، فهو خالق جوهر الأشياء التي تقترن بها أسبابها، فتخصيص الله تعالى بالفعل هو أمر مشهود لهمن الحسِّ والعقل والشرع، فيرى أن النظام الجاري على الموجودات هو مِن قبيل أمرين: "ما ركَّب الله فيها من الطبائع والنفوس، والثاني من قِبَلِ ما أحاط بها من الموجودات من خارج"[28]، ويضرب لذلك أمثلة بحركات الأجرام السماوية، واختلاف الليل والنهار، وغيرها من الظواهر الطبيعية، كما يستشهد بالفلاّح الذي يحرث ويبذر ويزرع. لكنه لا يملكُ من أمره شيء؛ فالمعطي لخِلقة السنبلة هو الله تعالى. يستشهد ابن رشد، هنا، بآيات من القرآن تثبت أن الخلق لله وحده، وهكذا فإن اسم الخالق هو أجدر وأليق بالله تعالى، فاسم الخالق، إذن، اسم مخصوص لله تعالى، وفعل الخلق لا يُشرِك فيه مخلوق، لا باستعارة قريبة ولا بعيدة. إذا كان المعنى؛ الخالق هو المخترع للجواهر.
3. إبطال الأسباب، إبطالٌ للحكمة والعلم
في هذه الفِقرة يبدأ ابن رشد قوله بعبارة "ينبغي أن تعلم"، إذن فنحن أمام تقرير منه، فهو يقرر أن جحود كون الأسباب مؤثرة بإذن الله في مسبِّباتها، مؤدَّاهُ إلى إبطال الحكمة، وإبطال العلم "ذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها (الفاعلة)، والحكمة هي المعرفة بالأسباب الغائية" وهكذا فإنّ تخصيص الله سبحانه بالفعل، لا يجب أن يفهم منه نفي وجود الفاعل قطعاً في الشاهد، إذ انطلاقا من وجود الفاعل في الشاهد، قام الاستدلال على وجود الفاعل في الغائب، لكنّه تقرّر لدى ابن رشد أن ما سوى الخالق لا يكون فاعلا بذاته، وإنما بإذن الغائب وعن مشيئته. بذلك خطّأ رأي المعتزلة والجبرية، الذي يقول بأحد أطراف هذه المسألة، على التضاد بينهما، وأما الذين سلكوا مبدأ الوسطية من الأشاعرة الذين يرومون أن يكونوا من أصحاب الحق، فلا حق لهم، ولا وجود أصلا لما قالوا، فهم لا يجعلون للإنسان من اسم الاكتساب إلا بالقدر الذي يعنيه الفرق بين الحركة الإرادية، والحركة اللاّإرادية (الرعشة)، إذ قالوا: إنّ الحركتين ليستا من قِبَلنا، "لأنه إذا لم تكونا من قِبلنا، فليس لنا القدرة على الامتناع منهما، فنحن مضطرون"[29]، وهذا استواء في المعنى بين الرعشة والحركة التي يسمونها كسبية، والفرق بينهما والفرق بينهما لا يجاوز اللفظ، واختلاف اللفظ لا يوجب حكما في الذوات، كما يقول.
4. مسألة الجور والعدل، أو مسألة الشر والخير
جريا على عادة أستاذه أرسطو، وكما دأب هو في تضاعيف هذا الكتاب، يستهل هذه المسألة باستعراض رأي خصومه من الأشاعرة، ويتناوله بالنقد والدحض؛ لأنه ممّا لم يصرح به الشرع، بل هو يضاد ما صرّح به الشرع. وما ذلك إلا لأنهم قالو باختلاف الغائب (الله) عن الشاهد (الإنسان)، وأن الشاهد اتَّصف بالعدل والجور بناء على حدودٍ حدّدها الشارع، فموافقتها خير، ومعاكستها شرّ، فهو مناط التكليف، وأمّا من ليس بمكلف ولا يخضع لضرورة الشرع، غير المكلف، فإن أفعاله كلها عدل، ولا يحق فيه القول إن في فعله جور، وهو ما يعتبره ابن رشد قول في غاية الشناعة؛ لأن الخير معروف بنفسه أنه خير، والجور معروف بأنه شرّ، وضرب أمثلة من القرآن على اتصاف الله تعالى بالعدل، ونفي الظلم عنه، وهو هنا يستنجد بما عابه على غيره، من المتكلمين للآيات التي في ظاهرها تناقض، والذي برَّره بكون تفهيم الأمر على ما هو عليه للجمهور، هو ما اضطره إلى الخوض في ذلك.
5. المعاد وأحواله
اتفقت الشرائع على وجود المعاد، وأقامت عليه الأدلة والبراهين. أما مكمن الاختلاف بينها، فكان في صفة وجوده، ولم تختلف في صفة الوجود، وإنما اختلفت في الشواهد التي مثلت بها للجمهور تلك الحالة الغائبة؛ وذلك أن من الشرائع من جعل البعث والمعاد روحانياً؛ أي بعث ٌ للنفوس دون الأجسام، ومنهم من جعله بعثاً للأجسام والنفوس معاً. هذا الاتفاق في المعاد مع الاختلاف في شكله، مأتاه من اتفاق الوحي على ذلك، وقيام البراهين الضرورية عند الجميع. فوجود حياتين دنيوية وأخروية، ممّا حصل عليه إجماع الشرائع والملل، وذلك انطلاقا من كون الإنسان خلق لغاية، ولم يُخلَق عبثاً، ولم يترك هملا، فللإنسان هو خلق من أجله، ووجود الغاية في الخلق أظهر من أن تحتاج إلى دليل، وإن كانت الآيات القرآنية حبلى بالتدليل على ذلك، كقوله تعالى "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون"[30]، وقد أقر الوحي في كل الشرائع على خلود النفس، وبقائها، لكنها اختلفت في تمثيل أحوال تلك الأنفس بعد الموت، فمنهم من مثّلها بأمور دالة على الأحوال الروحانية ولذاتٍ ملائكية، ومنهم من أخبر أن الله تعالى يعيد النفوس السعيدة في أجسام تنعم فيها أبد الدهر، وهؤلاء إنما التمسوا هذا التمثيل لعلمهم بأن الجمهور أشد فهماً بالمحسوسات، منه بالمجردات، وهذه شريعة الدين الإسلامي، التي مثلت للمعاد والبعث بأمثلة من باب قياس إمكان المساوي، وقياس وجود الأقل والأصغر على خروج الأعظم والأكبر للوجود، وقياس العودة على البدأة، وهما متساويان، وغيرها من الأقيسة التي اعتمدها الشرع للتدليل على حقيقة المعاد واليوم الآجر. فالشرائع كلها تتفق على أن للنفوس أحوال بعد الموت، من السعادة والشقاء، لكنها تختلف في تمثيل هذه الأحوال، وإقناع الناس بوجودها، وينتصر ابن رشد للتمثيل الإسلامي، بحسبانه الأكثر إقناعاً وإفهاماً لأكثر الناس، فالجمهور يؤثر فيه التمثيل الحسِّي، أكثر ما يفعل فيه التمثيل الروحاني، لذلك نجده (التمثيل الجسماني) أشد قوة لدى المتكلمين، والمجادلين من الناس. وقد انقسم المسلمون في فهم التمثيل المتضمّن في شريعة الإسلام في أحوال المعاد، ثلاث فرق: فرقة اعتقدت بالرأي القائل إن النعيم الأخروي هو من نفس طينة الوجود الدنيوي، من حيث اللذة والنعيم، وإنما يختلفان من حيث إن الدنيوي فانٍ منقطع، بينما الأخروي دائم متصل. وطائفتان رأتا أن الوجود متباين، لكنهما اختلفتا في شكله. ترى الأولى أنه روحاني، نعيمٌ للنفس وخلودٌ لها، وأنّ التمثيل إنما يُرادُ به البيان، واستدلوا على ذلك بحجج كثيرة من الشريعة مشهورة. أمّا الطائفة الثانية، فقد أخذت بالظاهر من النصوص، ورأت أنّ المعاد جسماني، لكن أجساد الدنيا تختلف عن أجساد الآخرة، فالأولى فانية، بالية، والثانية خالدة باقية.
بعد مناقشة ابن رشد للأدلة على وجود المعاد، وعلى نوعه، هل هو بالنفس والجسد، أم بالنفس فقط؟ يثبت أنّ الحق في هذه المسألة رهين بما توصَّل إليه كل إنسان بنظره، شريطة ألا يؤدي نظره إلى إبطال هذا الأصل جملة، وإنكار الوجود، ويوجب تكفير من ينكر البعث والمعاد، لكونهما معلومان للناس بالشرائع والعقول، وهنا يسقط ابن رشد سقطة كبيرة، فيلِغُ في فيما نهى عنه، ويستحسن ما سبق أن استقبحه، فيقع في التكفير، وهو الذي ما فتئ يرفع شعار التسامح مع المخالفين، ويعيب على أبي حامد جرأته على التكفير.
يختتم ابن رشد كتابه بوضع قانون يحدد فيه درجات التأويل، ويعيّن الأشخاص المخول لهم الخوض فيه، ويمنع غيره عنه.
6. قانون التأويل
يقسم ابن رشد المعاني الموجودة في الشرع إلى خمسة أصناف، صنف غير منقسم، وصنف ينقسم إلى أربعة أقسام؛ فالأول يوافق المعنى الموجود بنفسه، المعنى الذي صرّح به الشرع، والصنف الثاني، يكون المعنى المصرّح في الشرع مخالف للمعنى الموجود، و"إنما أخد بدله على جهة التمثيل"[31]، فالصنف الثاني ينقسم بدوره إلى أربعة أقسام، وانتصر- لأول مرة لتقسيم الغزالي في الوجود- حيث قسَّمها إلى خمس مراتب: الوجود الذاتي، والوجود الحسي، والوجود الخيالي والعقلي والشبهي، وجعل التمثيل موافقاً لكل مرتبة من هذه المراتب، فينزل كل دليل منازله حسب الصنف المعني بالإقناع، فلكل صنف نوع من الدليل الذي يستصيغ فهمه، وهناك أصناف من التأويل وجب أن تُمتَنع عن الجمهور، يقول[32] "إلاّ أن هذين الصنفين متى أبيح التأويل فيهما تولّدت منها اعتقادات غريبة وبعيدة من ظاهر الشريعة، وربما فشت فأنكرها الجمهور". وهذا ما حدا بابن الرشد إلى القول إنّ مُدخل الشرور، وإحداث الفرقة، وفشوِّ التكفير والتبديع، هو تطاولُ من لم تتميز له هذه المواضع، ومردُّ ذلك كلّه إلى الجهل بمقاصد الشارع، وهو ما يعتبره ابن رشد تعدٍّ على الشرع، فباب التأويل لا يجب أن يكون مشرعاً في وجه كلِّ عابر، لذلك وجب تقنين هذا المجال، بتحديد شروط التأويل، وتعيين الفئة المخولة للتأويل.
على سبيل الختم
لا يمكن فهم كتاب الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة من دون الاطلاع على كتاب فصل المقال وكتاب تهافت التهافت، ومن دون فهم الأسباب التاريخية، والصراعات السياسية التي كُتِبت في إبانها هذه المؤلفات، كما لا يجب أن نغضّ الطرف عن الصراعات الشخصية، خصوصاً، على تولية قضاء قرطبة، وموقفه من الغزالي، الذي لم يغب ذكره في المؤلفات الثلاث، حتى عده الدارسون لفكر ابن رشد، السبب الرئيس في تأليفها.
إن ما يسترعي الانتباه عند قراءة كتب ابن رشد، هو المنهج الأرسطي الطافح من كتاباته وفكره، فتأثير أرسطو في فكر ابن رشد يبدو واضحاً جلياًّ في الكتب الثلاثة، في ظلِّ غياب بارز للأثر الأفلاطوني، والذي يعطينا الحقَّ في الزعم أنّ أسلوب أرسطو العلمي، التجريبي، دعت إليه طبيعة الكتب من حيث إنها سجالية، جدالية، تروم إقناع المناصرين، وإفحام المعارضين، ما جعله يتوسل المنطق الأرسطي في بناء براهينه، وتفنيد آراء خصومه. لكنّ هذا التوسل بأرسطو هو ما جرَّ عليه، نقمة الفقهاء، ناهيك بالخطأ الشنيع الذي ارتكبه في حقِّ الخليفة أبي يعقوب المنصور، عند وصفه للنعامة في شرحه لكتاب الحيوان لأرسطو، عندما وصفه بملك البربر، هذه الأسباب إضافةً إلى أخرى كانت السبب في المحنة الشهيرة التي عاشها، غير أن فكر ابن رشد ظلَّ شامخاً كالطود العظيم، تناقلته الأيادي حتى بلغ ذكره الآفاق، واستفادت منه الحضارة الغربية، بأكثر مما استفاد منه المسلمون، فاستحقّ أن يُخلَّد ذكره بينهم، ويشكروا له فضله، بينما توارى عند أهله تحت الترى، ولم يذكر له بين أهله أثر، حتى نفض عنه المستشرقون التراب، فأعادوا له اعتباره، فتنافس المسلمون للاحتفاء بفكره وذكره.
المرجع
ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة أو نقد علم الكلام ضدا على الترسيم الأيديولوجي للعقيدة ودفاعا عن العلم وحرية الاختيار في الفكر والفعل، مع مقدمة تحليلية وشروح للمشرف على المشروع محمد عابد الجابري (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، 1998
[1] ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة أو نقد علم الكلام ضدا على الترسيم الأيديولوجي للعقيدة ودفاعا عن العلم وحرية الاختيار في الفكر والفعل، مع مقدمة تحليلية وشروح للمشرف على المشروع محمد عابد الجابري (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، 1998، ص.70
[2] المصدر نفسه، ص.99
[3] المصدر نفسه، ص.99
[4] سورة ال عمران: الآية 190
4 ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، سبق ذكره، ص. 111
[6] المصدر نفسه، ص. 112
[7] المصدر نفسه، ص. 112
[8] المصدر نفسه، ص. 11
[9] سورة الكهف، الآية، 65
[10] سورة البقرة، الآية، 282
[11] سورة العنكبوت الآية، 69
[12] سورة عبس، الآيات 22-29
[13] سورة البقرة، الآية 22
[14] سورة الأنبياء، الآية 22
[15] ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، سبق ذكره، ص123.
[17] سورة الملك، الآية 14
[18] ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، سبق ذكره، ص 129
[19] سورة الشورى، الآية 51
[20] سورة الشورى، الآية، ص.11
[21] سورة النبأ، الآية 12-13
[22] ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، سبق ذكره، ص 169
[23] المصدر نفسه، ص. 170
[24] المصدر نفسه، ص: 170
[26] المصدر نفسه، ص. 189
[27] المصدر نفسه، ص. 190
[28] المصدر نفسه، ص. 191
[29] المصدر نفسه، ص. 194
[30] سورة المؤمنون، الآية، 115
[31] ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، سبق ذكره، ص. 205
[32] المصدر نفسه، ص. 208