"الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ" لزهية جويرو
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب "الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ" لزهية جويرو(*)
السياق المعرفي ومنهجية المقاربة:
"دعها حتّى تقع"، كذا رويت إجابة الإمام مالك عن سؤال أحد المستفتين وقد افترض حدوث نازلة.
ربّما تكون مثل هذه الإجابة مدخلاً مناسبًا لبيان أنّ ما سيشكّل أدب النوازل والفتيا في التاريخ الإسلامي عمومًا وفي إطار المذهب المالكي بالخصوص يمثّل نصوصًا صالحة لدراسة التاريخ والمجتمع على الرغم من الوعي بالاحترازات الكثيرة التي عبّر عنها جون سوفاجي مثلاً منذ 1943 في كتابه "مقدّمة لتاريخ المشرق الإسلامي"[1]، وقد حدّد ثلاثة أصناف من مصادر المعرفة آنذاك عن التاريخ الإسلامي هي المصادر الأرشيفيّة، والمصادر الأدبيّة، والمصادر الأركيولوجية محذّرًا من اعتماد المصادر التشريعيّة والفقهية في بلورة معرفة تاريخيّة، إذ أنّ تلك المصادر في نظره "هي أكثر المصادر التي ينبغي على المؤرّخ الاحتراز منها أثناء دراسته للحياة الاجتماعيّة، فالآفاق التي تفتحها على تاريخ المؤسّسات لا تعدو أن تكون ضربًا من الخطإ"[2]. وهو موقف عدّله منقّح كتاب سوفاجي بعد حوالي عشرين سنة من طبعته الأولى كلود كاهن، وكذلك فعل في مقال خاص بهذا الموضوع تحديدًا: "ملاحظات حول استعمال المؤرّخ كتب الفقه الإسلامي"[3]، ليستمر الجدل حول الموضوع نفسه بعد ذلك في عدد غير قليل من الدراسات تعرّض لها سعد غراب الذي انتهى في القسم التمهيدي إلى أنّه "وبصفة عامّة يمكن أن نقول إنّ مختلف الدراسات التاريخيّة الجادّة التي ظهرت في السنوات الأخيرة قد أبرزت أهمّيّة الاعتماد على مثل هذه المصنّفات" مشيرًا إلى دراسات برانشفيغ، ومحمّد الطالبي وروجي هادي إدريس، وهشام جعيّط، وفرحات الدشراوي[4].
إنّ الملاحظ من الأسماء التي ساقها سعد غراب أنّ المهتمين بالمغرب الإسلامي من المؤرخين هم من ألحّوا أكثر من غيرهم على أهميّة أدب النوازل في تبيّن الواقع التاريخي والمسألة الاجتماعية من خلال الفتاوي. ولعلّ ذلك ينطلق من اعتبار يكاد يكون مشتركًا بين الدارسين مفاده أنّ الفقه المالكي بصورة عامّة وكتب النوازل المالكيّة في ما يهمّنا تتسم بكثير من "الواقعيّة" إذا ما قورنت بفقه الحيل الدال على انفصال بين الفتوى والواقع، هذا بالإضافة إلى اعتماد المالكيّة على عمل أهل المدينة في التشريع، وهو ما فتح الباب أمام الفقيه والمفتي المالكي لمراعاة الظرف التاريخي والمكاني في الإفتاء. ومن هنا كان الاعتماد على مفاهيم العمل والعرف والعادة من خصائص الفقه المالكي، وهو ما ألحّ عليه جاك بارك[5].
كان لهذه الاعتبارات وغيرها ممّا قد نعرض له في هذه القراءة، أثر في طرق زهيّة جويرو لمبحث "الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ"[6] بالاستناد إلى مدوّنة مالكيّة مخصوصة في أدب النوازل هي "فتاوى ابن رشد الجدّ" (ت 520 هـ). ويمكن القول بصورة عامّة إنّ هذا البحث يأتي في سياق عام ميّز الجامعتين التونسيّة والمغربيّة بالخصوص يتلخّص "في لفت الانتباه إلى قيمة التراث النوازلي في تدشين اتجاه جديد في البحث التاريخي والحضاري، يقوم على توظيف كلّ أصناف المصادر والوثائق من دون استثناء، وعلى قراءتها بمقاربات جديدة منفتحة على مختلف العلوم الإنسانيّة وحتّى على بعض العلوم الصحيحة مثل الإحصاء، بما أتاح لهذه البحوث أن تقطع شوطًا مهمًّا في إعادة صياغة تاريخ الغرب الإسلامي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بهدف الكشف عن البنى الماديّة والذهنيّة التي حكمت ذلك التاريخ" (ص26).
في هذا السياق المعرفي والمنهجي يتنزّل بحث زهية جويرو غير أنّه من الجدير بالذكر تميّز هذا العمل باعتماده على أثر واحد في أدب النوازل هو فتاوى ابن رشد الجدّ، وهو أثر لم يلق في أعمال مشابهة سابقة الحظّ نفسه من الاعتماد مقارنة بكتب فتاوى أخرى متأخّرة مثل نوازل البرزلي (ت 841) أو معيار الونشريسي (ت 914 هـ). ويتميّز عمل جويرو مقارنة بما سبقه من أعمال تعتمد كتب النوازل والفتاوى للوقوف على الخصائص الحضارية والفكرية والبنى الذهنية للمجتمع الإسلامي في فترة تاريخية، معيّنة بضرب من المقاربة الشاملة، وهي قائمة بالأساس على "الجمع بين ثلاثة أصناف من المقاربات (ص ص 35-36):
1- مقاربة فقهيّة تقوم على توظيف المفاهيم والمصطلحات والمناهج الفقهيّة-الأصوليّة وتعتني بالكشف عن مضمون الأحكام وآليات استخلاصها من مراجعها، وببيان دورها في تنظيم المجتمع من جهة، وأثر الأوضاع التاريخيّة في تلك الأحكام من جهة أخرى.
2- مقاربة سوسيولوجيّة-تاريخيّة تعتني بتوظيف المعلومات التاريخيّة التي توفّرها النوازل في دراسة أوضاع المجتمع وفي الكشف عن أسس التنظيم الاجتماعي الماديّة والقانونيّة والذهنيّة.
3- مقاربة ثقافيّة تعتني بالكشف عن موقع الدين من الثقافة السائدة وأثره في الذهنيّة العامّة، وببيان وجوه التأثير المتبادل بين الإنتاج الفقهي وسائر أصناف الإنتاج الثقافي".
اخترقت هذه المقاربات أبواب البحث الثلاثة: "الإفتاء والمذهب الفقهي ومسار المأسسة" (ص ص 21-136)؛ و"الإفتاء وسياج المذهب الفقهي: الآليات، المراجع، والدلالات" (ص ص 137-296)؛ و"إكراهات التاريخ: المجتمع والدين والثقافة" (ص ص 297-426). وإن كنّا راغبين عن تلخيص ما ورد في هذه الأبواب الثلاثة تلخيصًا قد يكون مخلاًّ، فإنّنا سنسعى إلى بيان أهمّ ما جاء فيها منهجيًّا ومعرفيًّا والوقوف على أبرز النتائج المستخلصة من التحليل، دون كبير التزام بترتيب المباحث في العمل، أو ادّعاء أنّنا سنأتي على كلّ ما جاء فيه من مشاغل وقضايا.
الفتيا من النشاط المرسل إلى المؤسّسة:
لئن شكّل الباب الأوّل من الكتاب مدخلاً ضروريًّا ضابطًا للمفهوم المحوري في كامل البحث، ونعني الإفتاء والفتيا، فإنّه قاد إلى طرق عدد غير قليل من الإشكاليات المفهوميّة والتاريخيّة والخصائص المميّزة للإفتاء، لا في إطار الفقه المالكي فحسب، وإنّما أيضًا في إطار الفقه المالكي في المغرب الإسلامي وفي الأندلس تحديدًا، وفي فترة زمنيّة محدّدة هي العصر المرابطي في أواخر عهد ملوك الطوائف، لدى فقيه كان له دور فاعل في السياسة والثقافة.
إنّ مثل هذا التفصيل في البحث والتدرّج في تناوله من شأنه أن يزيل عدّة "أوهام" طغت على الدراسات العامّة التي تناولت قضايا مشابهة، فقد سقطت في ضروب من التعميم المخلّ من قبيل الحديث عن الفقه المالكي في كليّته دون الأخذ بعين الاعتبار تحوّلاته والظرف التاريخي الذي أنتج فيه المنتسبون إليه مصنّفاتهم، ودون الانتباه الدقيق إلى طبيعة المجتمع الذي عاش الفقيه والمفتي ضمنه. وهذا الأمر مهمّ جدًّا في ما نحسب، ويمكن أن ينبّهنا إلى أهميّة سؤال المستفتي في الدلالة على مشاغل المجتمع، لأنّه في الغالب يتمّ الاهتمام بمضمون الفتوى أكثر من الاهتمام بمضمون الاستفتاء. ولنضرب على ذلك مثالاً واحدًا من الكتاب يدلّ دلالة واضحة على وعي صاحبته بهذه النقطة تحديدًا. فأن يكون محور الاستفتاء سؤال سائل مفترض أو حقيقي عن "حكم أموال الظلمة والولاة المعتدين" وما في معناه من نوازل الغصب وبيع المضغوط وبيع الغبن إلى غير ذلك، فإنّ ذلك يشير إلى "صلة هذه المسألة بواقع عصر ابن رشد. ذلك أنّ افتراض سائل يسأل عن هذه القضيّة في حدّ ذاته دالّ على أنّها من القضايا التي تشغل الفقيه كما تشغل عصره بسبب استفحال مظاهر غصب الأموال والاعتداء على أصحابها، ومظاهر ظلم الولاة واستبدادهم بالنفوذ واستغلاله في تكديس الثروات بالغصب والمغانم وفرض الضرائب غير الشرعيّة" (ص122).
ومثل هذا الأمر في تقديرنا، يفتح مجالاً واسعًا أمام إعادة النظر في الكثير من القضايا المتعلّقة بالفقه والفتاوى عبر الحفر في النصوص وربطها بتاريخيّتها. ولعلّ تقليب زهيّة جويرو لمفهومي الفتيا والمشاورة والوقوف على الفروق بينهما يبقى من العلامات المهمّة على طريقة النظر في النصوص وربط المفاهيم، وبالتالي النشاط المتحدّث عنه بالواقع التاريخي. فقد أدّى بها البحث إلى تبيّن وجود نوعين أساسيّين من الإفتاء مارسهما ابن رشد الجدّ؛ النوع الأوّل يمثّله "الإفتاء المرسل"، والنوع الثاني هو "المشاورة"، وقد سمح الانطلاق من فتاوى ابن رشد "بالقطع بأنّ النشاطين منفصلان وإن جمع الفقيه الواحد بينهما، وبأنّ لكلّ واحد منهما قوانين تميّزه عن الآخر، فلئن ظلّت قوانين الإفتاء شرعيّة إن صحّت العبارة تتمثّل تحديدًا في الشروط التي أوجبها الأصوليّون في من يتصدّى للفتوى، وهو ما سمح لهذا النشاط بأن يظلّ مرسلاً وغير خاضع لتنظيم رسميّ يجعل من الفتيا خطّة رسميّة، فإنّ قوانين المشاورة كانت تنظيميّة ورسميّة ارتبط بفعلها هذا النشاط بأجهزة الدولة، وبالجهاز القضائي تحديدًا حتّى أصبحت المشاورة خطّة رسميّة فعلًا" (ص62).
من بين أهمّ ما يدلّ عليه هذا التمييز بين الفتيا والمشاورة، تاريخيّة مؤسّسة الفتيا وتطوّرها. فما يمكن تأكيده هنا أنّ الإفتاء مرّ بجملة من المراحل ينبغي الوعي بها، إذ أنّ المرحلة الأولى هي ما أسمته زهيّة جويرو ''مرحلة الإفتاء المرسل''، وهي مرحلة كان فيها الإفتاء أقرب إلى العفويّة ولا يتعدّى الاستفتاء محاولة إيجاد حلول لما يعترضه المسلم في حياته في مستوى العقيدة أو السلوك، ليتحوّل الأمر إلى مؤسّسة بعد التحوّلات الفكريّة والحضاريّة، وبالخصوص بعد أن تكرّست "السنّة" أصلاً ومرجعية في التشريع باعتبارها أهمّ المرجعيات التشريعيّة، هذا بالإضافة إلى تشكّل علم التفسير القرآني وخاصّة ذلك المعتني بالأحكام الفقهيّة، ثمّ تبلور علم أصول الفقه. إنّ هذا المسار الأوّل في المأسسة لم يكن أمرًا سلبيًّا، إذ أنّه ساهم في تطوير التشريع الإسلامي وفق البنى الذهنيّة والاجتماعية والثقافيّة السائدة. وهذا المسار في المأسسة لم يكن سلبيًّا أيضًا نظرًا إلى عدم وجود فتاوى جاهزة وإنّما هي بدورها متحرّكة وفق تحرّك المجتمع وما يطرأ عليه، وبالتالي وفق أسئلة المستفتين، هذا ما سمح بفتح أبواب الاجتهاد الحرّ على الرغم من الحرص على قواعد الاستنباط.
أمّا المرحلة التالية في مسار هذه المأسسة فكان واقعًا أساسًا تحت تأثير المذاهب الفقهيّة بعد استقرارها، فقد وقع الفقيه/ المفتي في سياج المذهب وضاقت عليه دائرة الاجتهاد والحريّة. ومن علامات ذلك أن أصبحت الفتاوى جاهزة في أغلب الأحيان وطغى التقليد. وما يمكن ملاحظته أيضًا أنّ الفتوى التي لم تكن لها صبغة إلزامية كالمشاورة الرسميّة غدت بدورها ملزمة بعد أن انتفت الحدود بين المفتي والقاضي، والتحم المفتي بالسياسي وطغى التمذهب على الاجتهاد. مثل هذه الملاحظة يمكن الوقوف عليها من خلال النظر في فتاوى ابن رشد الجدّ، وهي مدوّنة كتاب زهية جويرو الأساسيّة. وهو ما تمّ التركيز عليه من خلال الباب الثاني المتعلّق بـ "الإفتاء وسياج المذهب"، ذلك السياج الذي مثّل إكراهًا أوّل يُضاف إليه إكراه ثان هو "إكراه التاريخ" موضوع الباب الثالث.
الفتوى بين مطرقة المذهب وسندان التاريخ:
عالجت زهيّة جويرو فتاوى ابن رشد الجدّ من خلال مصادرها النصيّة ممثّلة في القرآن والسنّة، ومن خلال ما أسمته "المصادر الاجتهاديّة" ممثّلة في الإجماع والقياس، وكلّ ذلك انطلاقًا من عمليّة إحصائيّة لتواتر النوعين الكبيرين من المصادر ومواضيع الاستدلال بها وآليّاته. وبقطع النظر عن كلّ الاستقراء المهمّ لنصوص الفتاوي والأمثلة العديدة المقدّمة التي يضيق بها المقام الآن يمكن الإشارة إلى استنتاجات مهمّة تمّ التوصّل إليها، وهي استنتاجات، وإن انطلقت من فتاوى ابن رشد الجدّ فإنّها تكشف عمّا طبع المنظومة التشريعيّة الإسلاميّة بصورة عامّة.
يبدو أنّ الملاحظة الواضحة هي التفاوت الواضح بين حضور النصّ القرآني من ناحية وحضور السنّة من ناحية أخرى من جهة الكمّ، فالاستدلال بالسنّة كان أكثر حضورًا، وهو أمر كشف عنه الإحصاء، وهو ما "يؤكّد أنّ الأصل الأوّل من أصول الأحكام في الممارسة التشريعيّة الإجرائيّة هو الحديث، بينما لم يكن التصنيف المتّفق عليه في إطار النظريّة الأصوليّة ووضع بمقتضاه القرآن على رأس أصول الأحكام إلاّ "تصنيفًا إيمانيًّا" يعكس موقف المؤمنين من القرآن بوصفه كلام الله المنزّل ولا يعكس الحقيقة التشريعيّة" (ص222).
تشير هذه الملاحظة إلى أمر آخر مهمّ في تقديرنا ويتلخّص في أهميّة البعد الإجرائي في استنباط الأحكام. وهذا الأمر يتجاوز مستوى كثافة حضور السنّة مقارنة بالقرآن إلى مسائل أعمق على علاقة وطيدة بالمجتمع وتراتبيّته ومشاغله، فالإفتاء للعامّة يختلف كلّ الاختلاف عن الإفتاء للخاصّة. وهذا لا يتعلّق بموضوع الفتوى الذي يحدّده المستفتي فحسب، وإنّما يتجاوزه إلى مسألة تأصيل الحكم، ذلك أنّ المفتي كان ملزمًا بإرجاع ما تستفتي به الخاصّة من حكّام أو قضاة أو علماء إلى أصوله النصيّة، في حين استغنى عن الأدلّة حين تعلّق الأمر باستفتاء العامّي. هذا بالإضافة إلى أنّه "قلّ الاستدلال بالأصول النصيّة في المواضع التي حظيت باهتمام شيوخ المذهب فاستقرّت بفعل ذلك أحكامها وتعيّنت بدقّة وتكثّف مقابل ذلك الاستدلال بأقوالهم" (ص222).
ولكنّ السؤال الذي يبقى مطروحًا بإلحاح، وخاصّة حين يردّ المفتي الأحكام إلى النصّ فيثبت أدلّتها: هل فعلاً هو ينطلق من النصّ لاستنباط الحكم؟
إنّ ما توصلت إليه زهيّة جويرو يمكن أن يعتبر نتيجة مهمّة تجيب عن السؤال، ذلك أنّ حضور تلك النصوص في الفتاوى كان "في الغالب حضورًا "بعديًّا" بمعنى أنّ الفقيه يعيّن أحكام النوازل المعروضة عليه استنادًا إلى الروايات المنقولة عن أعلام المذهب أو إلى "ما يوجبه النظر" حسب عبارته، ثمّ يستحضر بعد ذلك النصّ ليستمدّ منه ما يبرّر به ذلك الحكم وما يشرّعه من وجهة نظره" (ص223). ومثل هذه النتيجة توصل إلى استنتاجات أخرى، أهمّها أنّ حضور النصوص في كتب الفتاوى والنوازل والفقه بصورة عامّة، هو حضور تبريريّ وهو إضفاء للشرعية النصيّة على حكم فرضه في الحقيقة التقيّد بالمذهب، وأنتجه ما حتّمته البنى الذهنية والقيمية المتحكّمة فيه، ومن هنا أمكن القول إنّ ما بدا أحكامًا شرعية نصيّة هي في "الغالب" أحكام بشريّة تاريخيّة. ونقول هنا "في الغالب" مجاراة لما ذهبت إليه زهية جويرو التي وقفت موقفًا "تنسيبيًّا" بين موقفين؛ أوّلهما ما ذهب إليه عدّة باحثين في الفقه الإسلامي من اعتبار ذلك الفقه إنتاجًا بشريًّا من صنيعة العقل محكومًا بالاجتماع، والموقف الثاني ما ذهب إليه الأصوليون القدامى وفي طليعتهم الشافعي الذي كرّس علويّة التشريع بالكليّة، فما ذهبت إليه جويرو هو أنّ "التشريع الإسلامي كان في الواقع مزيجًا من الاجتهادات البشريّة التي تتجلّى خاصّة في كيفيّات استنباط الأحكام وفي كثير من "المصادر الثانويّة" - التي كانت في الواقع أساسيّة كمًّا وكيفًا- ومن "التوقيف الإلهي" المتمثّل خاصّة في "المصادر النقليّة" قرآنًا وسنّة" (ص 156). ولكن هذا التنسيب لم يمنع من الميل في كثير من الأحيان إلى الإقرار بوطأة التاريخ وإكراهاته وأثره في استنباط الأحكام والفتاوى، ومن ذلك مسار البرهنة على فرضية من فرضيات الكتاب، والذي أوصل صاحبته إلى استنتاج "أنّ هذا التشريع بشري – تاريخيّ أضفيت عليه القداسة بفعل عوامل عديدة أبرزها حرص القائمين عليه من فقهاء وأصوليين على ربطه بنص الوحي وبسائر النصوص التي رأوها مكمّلة له ومخصصة للعامة ومفصلة لمجمله من الحديث النبوي وممّا أجمع عليه الأئمّة المجتهدون وممّا استنبطوه بواسطة القياس على تلك النصوص، وذلك بعد أن استقرّ الأمر في صلب علم أصول الفقه" (ص428).
يضعنا القول السابق في قلب التاريخ وأثره في الفتيا والأحكام الفقهيّة. وهو إن كان مؤثّرًا في كثير من الأحيان إلاّ أنّه بقي من جهة أخرى محدودًا من جهة الوعي بتاريخيّة التشريع الذي حاول الفقهاء دائمًا وأبدًا "تسييجه" "بحدود صارمة تُظهره بمظهر التشريع المتعالي" (ص429). وهو أمر ساهم في "نفي قدرة الإنسان على أن يشرّع لنفسه وبنفسه ما يراه مناسبًا لأوضاعه من قوانين" (ص430).
هذا النفي للإنسان ولقدرته هو ما نراه مستمرًّا إلى اليوم بعد أنّ فوّت الفكر الإسلامي لحظات مهمّة في المجال التشريعي، قديمًا مع بعض الأعلام المركّزين على المقاصد، وحديثًا وخاصّة في فترة النهضة العربيّة، لتركيز وعي تشريعي يعيد الاعتبار إلى العقل الإنساني وللحريّة. غير أنّ ذلك الاستمرار اليوم أصبح أكثر خطورة بأشواط، ذلك أنّ الإفتاء كان محكومًا على الأقلّ قديمًا بمبادئ أخلاقيّة أساسيّة، أمّا اليوم فمن الواضح وجود "فوضى الفتاوى" دون رقيب ولا وازع، وانتصبت أسواق الفتاوى على الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما أحوج إلى بحث دقيق مثل بحث زهية جويرو ينطلق من القديم، ولكنّ هواجسه راهنة. وهو ما ختمت به عملها معلنة أنّها فكرت في إنجاز بحثها "بدافع من هموم حاضرنا ومشاغله ومن آمال مستقبلنا" (ص440)، وهو أمر كان له صدى في أعمال أخرى لها وآخرها كتابها "الوأد الجديد، مقالات في الفتوى وفقه النساء"[7]، وهو المجال المعبّر أكثر من غيره اليوم عن الفوضى التشريعيّة والجمود الفكري وتوجيه المجتمع إلى القضايا الهامشية بعد أن كان الأمر موجّهًا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى معارضة الاستبداد والظلم والدعوة إلى التعليم وإصلاحه، وهو ما مكّن من حديث عن ردّة فكريّة، عبّر عنها عبد المجيد الشرفي في تقديمه للكتاب مخيّرًا عبارة "ردّة" على ما شاع من استعمال في عبارة "صحوة إسلاميّة".
* نشرت هذه القراءة في سلسلة الملفات البحثية "صناعة الفتوى"، إشراف وتنسيق، بسام الجمل وأنس الطريقي، قسم الدراسات الدينية، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2016
[1] Jean Sauvaget, Introduction à l’histoire de l’orient musulman. Éléments de bibliographie (Initiation à l’Islam), Paris, Librairie d’Amérique et d’Orient Adrien Maisonneuve, 1943.
[2] Ibid, p. 46.
[3] Claude Cahen, Considérations sur l’utilisation des ouvrages de Droit musulman par l’historien, in Atti del III Congresso di studi Arabi e Islamici (Ravello 1966), Naples 1967, 239-247.
وأعيد نشر المقال في:
Les peuples musulmans dans l’histoire médiévale, Damas, Presses de l’Ifpo, 1977, pp. 81-89.
[4] راجع حول هذا الموضوع: سعد غراب، "كتب الفتاوى وقيمتها الاجتماعيّة: مثال نوازل البرزلي"، حوليّات الجامعة التونسيّة، العدد 16، 1978، ص ص 65- 102، وانظر بالخصوص ص ص 65- 69.
[5] Jacques Berque, Essai sur la méthode juridique Maghrébine, Rabat, M. Leforestier, 1944.
[6] صدر الكتاب، وهو في الأصل أطروحة لنيل شهادة الدكتورا في اللغة والآداب والحضارة العربيّة في الجامعة التونسيّة، بدار الطليعة ببيروت، 2014، مع تقديم للأستاذ عبد المجيد الشرفي، وعلى هذه الطبعة نحيل بالأرقام الواردة في متن النصّ.
[7] صدر عن دار مسكلياني للنشر والتوزيع، 2014.