قراءة في كتاب "الاختيار العلماني وأسطورة النموذج"
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب "الاختيار العلماني وأسطورة النموذج"(1):
طروحات حول عودة الدين في سياقات العلمانية والديمقراطية
قبل أن نعرض لمضامين الكتاب الذي نحن بصدد تقديم ورقة حوله، والمعنون بـ "الاختيار العلماني: أسطورة نموذج"، سوف نؤسس هذه القراءة على ثلاث عتبات أساسية تشكل الخيط الناظم لأفكار هذا الكتاب، ونعتبرها في هذا السياق فرضيات انطلق منها صاحب الكتاب الباحث المغربي سعيد ناشيد، لبسط فكره حول قضية "النموذج العلماني الغربي".
العتبة الأولى: تتحدد في كون كل نموذج يظل حالة خاصة غير قابلة للتكرار، فبناة الحضارة وصناع التاريخ يتصرفون من غير نماذج جاهزة، ولم يكن الثوار الفرنسيون يبحثون عن أي نموذج يعمدون إلى تكراره؛ فالوعي العلماني الأصيل لا يبحث عن أب بديل له؛
العتبة الثانية: النموذج الإسلامي ميت ابتداء ولا حاجة لجلد الذات تنكيلا بالجثة، وبصيغة الباحث: "العرض ممل، فليسدل الستار ولنناقش القضية في أقصى أبعادها"؛
العتبة الثالثة: لقد أصبح النموذج الغربي المفترض، جراء المناخ الثقافي المهيمن وطبيعة المنحى الاقتصادي الجديد، يهدد مستقبل الحداثة والديمقراطية وقيم التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية، وبدأ ينزاح عن وعود عصر التنوير متجها نحو أهداف يمينية، دينية، محافظة، وأحيانا استعمارية. إن هذا النموذج أصبح يهدد قيم العقل والمساواة والسلام العالمي وحماية مجال البيئة...إلخ.
انطلاقا من هذه العتبات الثلاث، والتي سيوسع فيها الأستاذ سعيد نشيد، فيما ارتأينا تسميته "بكشف عورات النموذج العلماني الغربي"، من خلال نهج نمط من الكتابة الحرة، الغرض منها استثمار المعطيات التاريخية وإعادة قراءتها على ضوء التحولات المعاصرة التي عرفها العالم. وبنهج نقدي بامتياز، نقد مزدوج للخطاب العلماني الغربي وللخطاب العلماني في العالم الإسلامي، يفكك سعيد ناشيد أسطورة البراديغم الغربي وينزع عنه تلك الهالة التي طالما تم تكريسها في كتابات عدة. أما منطلقاته النظرية، فنجدها تستند على مرجعيات متعددة، انطلاقا من فريدريك هيجل وفكرة "كسب الاعتراف" إلى سغموند فرويد وفكرته حول "قلق الحضارة"، مرورا بنظريات معاصرة في العلوم الاجتماعية، وخاصة رواد "الأصولية الجديدة"... وما إلى ذلك من الاتجاهات النظرية في الفلسفة وفي تخصصات العلوم الإنسانية التي شكلت أرضية لهذا المتن، والذي هو في الأصل عبارة عن مجموعة من المقالات جمعها الباحث في صيغة خمسة أبواب كونت هذا الكتاب.
إن قراءتنا لهذا الكتاب، والذي يشكل في اعتقادنا، واحد من الكتابات التي تفكك الخطاب العلماني الاستشراقي والاستغرابي على حد سواء، تستدعي استحضار النموذج الأول للعلمانية وتحولاته المعاصرة والحديثة، لأجل فهم صيغته الحالية.
يشكل المتن السبينوزاي (الفيلسوف الهولندي)، وبالأخص في كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة"، من أوائل فلاسفة فلسفة الحداثة الذين انتزعوا الدولة من التصور الثيولوجي اللاهوتي، وأسسوا لدولة التعاقد الاجتماعي وللدولة المدنية وللنموذج العلماني المعاصر -وإن كان قد تعرض لتعديلات وتغييرات كثيرة-، منذ هذه المرحلة سوف تحصل ثورة كوبرنيكية بمعنى الكلمة في مجال السياسية، إذ ستنتقل الدولة من فكرة الحق الإلهي إلى فكرة العقد والتعاقد الاجتماعي. هنا سوف يترعرع النموذج العلماني الغربي والحداثة في السياق الغربي بمفهومها الأنواري، والذي نسج معالمه الفكر الفلسفي الحديث من اسبينوزا إلى هيجل.
لكن مع مطلع القرن العشرين، سوف تعصف رياح تدهور النموذج الغربي العلماني، بانتشار النزعة المركزية الإثنية الأوروبية وبتغلغل الفكر الاستعماري وما تلاه من حروب شهدتها القارة الأوروبية، فتفككت صورة النموذج المثالي العلماني وتكونت اتجاهات فكرية تعيد التفكير في المنجز الأوروبي وفي الحداثة الغربية، وتشكلت مجموعة من النظريات اشتهرت بنظريات "ما بعد الحداثة" وأخرى أكثر راديكالية ذهبت لحد القول بأن "العلمانية لم تكتمل بعد" أو بالأحرى "لم تتحقق بعد". في سياق هذا التحول في البراديغم والتفكير في أنماط نقد النموذج الغربي، تكونت نظريات في دول العالم الثالثة تحاول أن تنتقد من جهتها أعطاب هذا النموذج، وبالفعل تعددت أشكال النقد واتجاهاته، إما بالعودة إلى الذات وتمجيدها، أو بالعودة إلى فكر الأخر ونقده في عقر داره. ويتميز النهج الذي يسير عليه سعيد ناشيد في هذا الكتاب بالجمع بين الطرحين، واستثمار إرث مفكرين من مرجعيات مختلفة بغرض تفكيك الخطاب الغربي وبالخصوص نقد "الأصوليات الجديدة" التي أصبح المجتمع الغربي المعاصر يشهدها بشكل بارز.
الباب الأول من الكتاب والمعنون بـ "مطارحات في أزمة العلمانية يثير إشكالية الانتماء والهوية وأنطولوجيا المقاومة، ويمكن أن نلخصه في السؤال الآتي: ما معنى أن يكون الفرد مسلما في العالم المعاصر؟ يجيب الباحث بقوله: "أن أكون مسلما اليوم معناه أن أكون عقلانيا وعلمانيا هنا الآن". هذه العبارة الوجيزة والمهمة من ناحية الدلالة والمعنى تلخص لنا الإشكالية السابقة، وتشكل المدخل الأساسي لنقد "نموذجية العلمانية الغربية".
إننا لن نتجاوز الأعطاب التاريخية والمتوارثة إلا حين أن نستأنف المشروع الذي أوقفه الغرب في منتصف الطريق، ويجب أن نسعى بعبارة سعيد ناشيد إلى "اعتراف الجميع بالجميع"، وخلق عالم علماني يعترف فيه الجميع بالجميع بمعزل عن فرضيات الدين والمعتقد. الغرض إذن من هذا الاعتراف – بالمفهوم الهيجيلي – هو تحصين مجتمعاتنا من الطائفية والفتنة والنضال من أجل الحريات الفردية والكرامة الإنسانية والمساواة بين بني البشر، والمقاومة من أجل قيم العقلانية وقيم التنوير والحداثة. خلاصة هذا الفصل، أن الطريق إلى العلمانية لن يكون طريق التبعية للغرب في كل تفاصيله، كما لن يكون عبارة عن مقاومة ورفض للعلمانية بصيغة غربية، باعتبار هذه الأخيرة هي مقاومة لأساطير النقاء العرقي، والانعزال الطائفي، والفرقة الناجية وأوهام شعب الله المختار...إلخ.
أما الباب الثاني عنوانه الباحث بـ "مطارحات في نقد الغرب الإلهي" وهو سفر في عوالم التاريخ الغربي وعرض لمطارحات سلطة الدين في سياقات متنوعة، من مباركة قداسة الدين إلى القول بعقلانية دين معين على دين آخر، وكيف أصبحت فكرة الإلهي تتغلغل إلى الحقل السياسي، ويستحضر الباحث هنا تحول حصل في خطاب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، على سبيل المثال، يتجلى في تبريره لتخلي الدولة عن الرعاية الاجتماعية بالرعاية الإلهية، نفس التحول وقع في الحالة الأمريكية والتي تشهد حضورا متزايدا للخطاب الديني في الحملات الانتخابية. إن "الديمقراطية الإلهية"، بتعبير الباحث، ليست خصوصية تميز فقط إيران، العراق وباكستان، وإنما هي خاصية أمست تطبع بشكل أساسي راعية الديمقراطية بالعالم؛ أي الولايات المتحدة الأمريكية والتي تبدو ديمقراطيتها اليوم وكأنها خليط غريب من التفويض الشعبي والتفويض الإلهي.
يثير الباحث كذلك في هذا الباب سؤال آخر يرتبط بقضية الحرية الدينية وحقوق الإنسان، وخاصة إشكالية التعارض بين مبدأ احترام الأديان وحقوق الإنسان؛ أي حينما تكون الأديان تسيء لحرية الإنسان، فهل نقد الأديان إساءة إلى كرامة الإنسان وحقوقه في التدين؟ وهل الحرية الدينية تعني حرية نقد الأديان؟
لا يثير الباحث فقط هذه الأسئلة، وإنما يعرض للإنتاج الفلسفي المحافظ، والذي يتجلى في كتابات ليو ستراوس، أحد الفلاسفة الذين اشتهروا بمعاداة الحداثة، بنقده لمشروع الحداثة السياسية، وبالدعوة إلى الفلسفة الكلاسيكية مع أفلاطون، الفارابي وابن ميمون.
الباب الثالث: مطارحات في العلمانية كواجب أخلاقي، يفتتح هذا الباب بقضية الأقليات الدينية، وخاصة فكرة العلمانية وإقصاء استحضار مفهومي الأقلية والأكثرية الدينية في الفضاء العمومي، مادام هذا الأخير يعبر عن إنكار أية حقوق دينية لأي طرف. السؤال كذلك يفتح النقاش حول عدة قضايا اخرى، أليست الأقليات الدينية تقويض لحقوق الإنسان وليس تعبيرا عن حمايتها؟ ومن بين المداخل التي يطرحها الباحث في هذا الباب، هي أن تركيز "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" على الحقوق الدينية للأفراد وللجماعات، وفي كل من الإطار الخاص والعمومي، قد ساهم في تردي الوعي العلماني داخل الكثير من منظمات حقوق الإنسان، فصارت الفضاءات العامة تشهد إطنابا في الحديث عن الحق في الدين وفي الحرية الدينية...إلخ، دون أن يوازن ذلك أي حديث عن الحق في إصلاح الأديان ولا عن الحق في العلمانية.
إن ما تشهده أوروبا كذلك من تمييز ديني وضع العلمانية الغربية في أزمة. فالعلمانية، كما يقول، تقتضي موقفين: إما الحياد الإيجابي، حيث لا تتدخل الدولة سوى للحد من تأثير الأديان في الفضاء العمومي، وذلك على أن تساوي في التدخل بين كافة الأديان، أو إما أن تتخذ الدولة الحياد السلبي، فترفع يدها على الحقل الديني وتترك المجال للمنافسة الحرة بين الأديان. لكن التمييز الديني في المجتمع الأوروبي يمس في الصميم مبدأ الحياد الديني للدولة الحديثة. وهذا بتعبير الباحث: امتحان آخر للمسلمين، إذ يؤكد بأن معركتهم في سياق المواطنة المعولمة اليوم هي معركة المواطنة الكاملة والمساواة في الحقوق والواجبات، وهي بالجملة معركة العلمانية والحياد الديني للدولة الحديثة وللمؤسسات الدولية، تجاه التمييز الديني الذي لم يكتسح فقط الدولة، وإنما اكتسح كذلك المؤسسات غير الحكومية.
وهذا يستدعي في نظر الباحث تكوين خطاب سياسي إقناعي عقلاني توافقي حول المنفعة العامة، بدل الركون إلى الخطاب الديني والحجاج الدينية أو إلى الخطاب العاطفي والقائم على المشاعر والانفعالات.
أما في الباب الرابع، والذي يحمل عنوان: "مطارحات في نقد الحاجة إلى الأوهام"، يطرح السؤال الآتي: "هل الشعوب في حاجة إلى الأوهام من أجل أن تعيش سعيدة، آمنة، مقاومة، مبدعة، صانعة للحضارة، أو لمجرد أن تعيش بسلام؟" ويجيب سعيد ناشيد بالإيجاب، وهذا ما يقول به الكثيرون من الفلاسفة المحافظين والسياسيين في فرنسا مثلا، علاوة على أن الأسلوب الأمريكي في تدبير حقوق الإنسان يعتبر بعض الأوهام في عداد الحريات الأساسية للإنسان.
إن خطابات حقوق الإنسان وفق هذا التصور، رسخت فكرة السعادة كوهم، وهم روج له في الكثير من المواقف، لدرجة غدت فيه هذه السعادة حقيقة يمكن بلوغها، ونسينا أنها مجرد أوهام، أو بالأحرى خطابات تم تحويرها وتزينها بلاغيا، حتى غدت أكثر مقنعة وأكثر واقعية، بتعبير فريديرك نتشه، أو بالأحرى، إنها بمثابة تلك العملة التي فقدت معالمها بفرط استعمالها.
لقد أصبحت العلمانية اليوم تعاني من أزمة خانقة، تكمن في أن أحد طرفي الاتفاق العلماني؛ أي الدولة المدنية، والذي افترض الكثيرون أنه هو الذي خرج منتصرا في الاتفاق، أصبح مهددا بالاختفاء وذلك تبعا لمقتضيات العولمة الرأسمالية. فشكلت أزمة تراجع المظاهر السيادية والرعائية للدولة، فرصة أمام الكنيسة لكي تخوض حروب استرداد للمواقع التي سبق لها أن خسرتها أمام الدولة الوطنية. كما أن تدهور بنيات دولة الرعاية الاجتماعية والتضامن والتكافل الاجتماعي، قد منح النزعات الدينية المحافظة مناخا ملائما للانتعاش والتكاثر.
أما الباب الأخير (الخامس) المعنون بـ: "حوارات حول مشروعية العلمانية"، فهو عبارة عن مخارج وأفق آخرى لمناقشة مواقف الكاتب باستحضار تصورات مفكرون يثيرون قضايا الإسلام واليسار الأوروبي وعودة الدين في أوروبا، وبالمقابل انتشار الاسلاموفوبيا، لذلك فإن السؤال المحوري في هذا الإطار يتجلى في الكيفية التي يمكن بها أن نعتبر العلمانية هي الحل في سياق يشهد فكرة "عودة الديني"؟
أما في السياق الإسلامي، فإن الحاصل هو الحاجة إلى العلمانية، باعتبارها تعاقد مدني نحو العقلانية، وبالتالي فإن فكرة التخلي عن العلمانية والاخذ بالعقلانية والديمقراطية، مفاهيميا عند محمد عابد الجابري، هو أمر يثير النقاش، فالعلمانية لا يجب أخذها بمدلولات تبسيطية كـ "فصل الدين عن السلطة" أو "فصل الدين عن الدولة"...إلخ، وإنما هي سيرورة عقلنة المجتمع والسلطة والدولة، وبذلك فإنها ستكون إجراء ضروريا للعقلانية والديمقراطية. ويختتم الكاتب كتابه هذا بحلول ومقترحات نلخصها في عبارات: "انتعاش النقاش العمومي" و"تعميم الفلسفة" كأفق للخروج من المجتمع الظلامي، والذي يحول دون طرح السؤال بمباركة الأجوبة التي تلقى رضا الجميع.
يطرح هذا الكتاب إذن، عدة مداخل لنقد عودة الدين وفهم أزمة العلمانية في سياقات "ديمقراطية"، هذا السؤال الذي شغل بشكل كبير الفكر الغربي مؤخرا، والذي هيمن في العقل الإسلامي بطريقة أخرى، يتشابه في الجوهر مع السؤال الغربي، ويختلف معه في الشكل، والذي نطرحه نحن بعبارة أدق: هل نقد النموذج العلماني الغربي هو تعبير عن البحث عن نموذج علماني آخر في مجتمعات لم تعرف العلمانية؟ كيف يمكن تأسيس هذا النموذج؟ هل بمفاهيم النموذج العلماني الغربي؟ ألسنا اليوم مثقلين بإرثنا الديني والفكري الخاص من جهة؛ والذي طالما كنا نبحث عن القراءة العقلانية له، ومن جهة ثانية، بإرث الآخر المفاهيمي والفكري والسياسي، وهذا ما يجعل حدة السؤال أكثر عمقا وأكثر تعقيدا، وأخيرا، هل المقصود ببناء نموذج علماني غير ذلك الذي يصوره لنا النموذج الغربي، هو مسح للطاولة وإعادة بناء لنموذج آخر؟
[1] ناشيد، سعيد. (2010). الاختيار العلمي وأسطورة النموذج. (الطبعة الأولى). بيروت: دار الطليعة.