قراءة في كتاب "التاريخ الطبيعي للدين" لديفيد هيوم
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب "التاريخ الطبيعي للدين" لديفيد هيوم[1]
صدرت عن "دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع" في دمشق، سوريا، سنة 2014، الطبعة الأولى للترجمة العربية لكتاب "التاريخ الطبيعي للدين" The Natural History of Religion للفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم David Hume (1711-1776)، ترجمة حسام الدين خضور.
يتألف هذا الكتاب من مئة وست وعشرين صفحة، موزعة على؛ مقدمة، وخمسة عشر قسماً، وفهرست المحتويات، كل قسم من هذه الأقسام خصه هيوم لمناقشة قضية من القضايا التي لا تنفصل عن التاريخ الطبيعي للدين.
غني عن البيان، أن المجال الفكري والفلسفي الذي ينتمي إليه هذا الكتاب هو مجال "فلسفة الدين"، لكونه يخوض في موضوع "التاريخ الطبيعي للدين"؛ أي يناقش المصادر الأولى للدين، من خلال إثباته بأن الدين الأول للإنسان هو تعدد الآلهة، وليست ديانة التوحيد كما يزعم البعض، لأن هذه الأخيرة قد نشأت من خلال الاعتقاد بالآلهة المتعددة، مما سيدفع هيوم إلى عقد مقارنة بين ديانة الشرك أو تعدد الآلهة وديانة التوحيد في مجموعة من القضايا "كـاضطهاد والتسامح"، و"الشجاعة والذل"، و"حضور العقل واللاعقل" في هاتين الديانتين، وأخيراً "الشك والإيمان". وتكمن قيمة وأهمية هذا الكتاب –من وجهة نظرنا- في كونه يعتبر المدخل الأساس لقراءة إشكالية الدين، وما تثيره من قضايا فلسفية عند هيوم، حيث لا يمكن للقارئ الإحاطة بموقف هيوم من الدين دون الاطلاع عن كُنه أفكار هذا الكتاب الدينية والعقائدية، وهذا هو ما سنتعرض له فيما يلي.
الكتاب من الداخل:
تتوزع محتويات هذا الكتاب على:
مقدمة: (من الصفحة 7 إلى 8)
القسم الأول: تعدد الآلهة هو الدين الأول للناس (من الصفحة 9 إلى الصفحة 15)
القسم الثاني: أصل الإيمان بآلهة متعددة (من الصفحة 17 إلى الصفحة 21)
القسم الثالث: الموضوع نفسه يستمر (من الصفحة 23 إلى الصفحة 29)
القسم الرابع: آلهة لا تعد خالقة ولا مكونة للعالم (من الصفحة 31 إلى الصفحة 41)
القسم الخامس: أشكال مختلفة لتعدد الآلهة: الحكاية الرمزية وعبادة البطل (من الصفحة 43 إلى الصفحة 49)
القسم السادس: نشوء الاعتقاد بإله واحد من الاعتقاد بآلهة متعددة (من الصفحة 51 إلى الصفحة 58)
القسم السابع: تأكيد هذه العقيدة (من الصفحة 59 إلى الصفحة 61)
القسم لثامن: المد والجزر في الاعتقاد بآلهة متعددة والإيمان بإله واحد (من الصفحة 63 إلى الصفحة 66)
القسم التاسع: مقارنة هذه الأديان في ما يتعلق بالاضطهاد والتسامح (من الصفحة 67 إلى الصفحة 73)
القسم العاشر: مقارنة هذه الأديان في ما يتعلق بالشجاعة والذل (من الصفحة 75 إلى الصفحة 77)
القسم الحادي عشر: مقارنة هذه الأديان في ما يتعلق بالعقل أو الشيء المنافي للعقل (من الصفحة 79 إلى الصفحة 82)
القسم الثاني عشر: مقارنة هذه الأديان في ما يتعلق بالشك والإيمان (من الصفحة 83 إلى الصفحة 102)
القسم الثالث عشر: المفاهيم غير الورعة للطبيعة المقدسة في كل من الدينيين الشعبيين (من الصفحة 103 إلى الصفحة 111)
القسم الرابع عشر: التأثير للأديان الشعبية في المبادئ الأخلاقية (من الصفحة 113 إلى الصفحة 120)
القسم الخامس عشر: خلاصة عامة (من الصفحة 121إلى الصفحة 126)
القسم الأول: تعدد الآلهة هو الدين الأول للناس
ينطلق هيوم في هذا القسم من فكرة مفادها "يبدو لي إذا أخذنا المجتمع الإنساني بالحسبان، من بداياته الأولى إلى حالة أكثر كمالا، أن تعدد الآلهة، أو الوثنية، كان، بالضرورة، هو الدين الأول والأكثر قدما للإنسانية"[2]؛ فمن خلال هذه الفكرة الجوهرية، يثبت هيوم بأن الإنسانية كانت قبل نحو 1700 عام متعددة الآلهة، وآية ذلك، إذا رجعنا إلى العصور القديمة سنجد الإنسانية مغمورة في تعددية الآلهة، وهذا هو ما تعبر عنه مناطق الشمال والجنوب والغرب والشرق، فليس باستطاعة أي كان حسب هيوم أن يفند هذه الفكرة.
إن هيوم إذن، ينتقد في هذا القسم الرأي السائد في عصره القائل بأن أصل الدين هو ديانة التوحيد مفنداً هذا الطرح بقوله إن الأصل هو التعددية، لأن الإنسانية في بداياتها الأولى لم تكن لديها القدرة على التفكير في وحدانية الله لكونها كانت بربرية وجاهلة، ولهذا فإن "القبائل المتوحشة في أمريكا وأفريقيا وآسيا كلها وثنية"[3]، لأنه إذا وجد إنهم جاهلون ومتوحشون، فإنهم إذن، وثنيون، ولا يمكن حسب هيوم أن يكون هذا التصور خاطئا، لأنه لا يصح القول بأن الإنسانية في بداياتها الأولى آمنت بديانة التوحيد عندما كانت جاهلة ومتوحشة، ووقعت في الخطأ، بعد أن تعلمت وتخلقت، فغدت تؤمن بتعدد الآلهة..
القسم الثاني: أصل الإيمان بآلهة متعددة
يناقش هيوم في هذا القسم الثاني مسألة أصل الدين من خلال تحليله لقضية الإيمان بآلهة متعددة في الدين البدائي للبشر غير المتعلمين. وفي نفس الوقت، يثير هيوم موضوعا آخر غاية في الأهمية، وهو أن "أفكار الدين الأولى لم تنشأ من التأمل في أعمال الطبيعة، بل من الاهتمام بما يتعلق بأحداث الحياة ومن الآمال والمخاوف المتوالية، التي تشغل عقل الإنسان"[4]، فالإنسان البدائي لم يعبد الطبيعة من أجل أن يفهم كنهها وأسرارها، وإنما نتيجة خوفه الشديد من قوى لا يعرف أصلها ولا مصدرها، ولهذا نجده يخضع نفسه لسلطتها، لأن تصوره للحدث الطبيعي كان ينطلق من كونه "محكوم بقوة ذكية ما، ولا شيء سواء كان مواتياً أو غير مواتٍ، يمكن أن يحدث في الحياة، يمكن ألا يمتثل لصلوات أو تقدمات شكر خاصة"[5].
إن عقيدة الإيمان بآلهة متعددة عند الإنسان البدائي حسب هيوم تقوم بشكل كبير على زمرة من العواطف التي تقنع هؤلاء البرابرة، وهي التي تتمثل عادة في التطلع إلى السعادة، والخوف من بؤس المستقبل، والرعب من الموت، والتعطش إلى الانتقام، والشهية إلى الطعام وضرورات أخرى[6]..، فوسط هذه العواطف المضطربة، حسب هيوم، بدأ الإنسان يرى الآثار الغامضة الأولى لله..
القسم الثالث: الموضوع نفسه يستمر
ففي هذا القسم، يستمر هيوم في شرح أفكار القسم الثاني بطريقة مفصلة ومدققة، حيث يستفيض في نقاش تلك العواطف المضطربة وسط حيرة الإنسان، لكن هذه المرة حيرة الإنسان الحديث وليس فقط الإنسان البدائي، إزاء خوفه من مجموعة من الشرور التي يمكن تصيبه، وهذه "العواطف الإنسانية أن تقودنا إلى فكرة القوة الخفية والذكية، الأمل كما الخوف، العرفان بالجميل كما البلوى: لكن إذا فحصنا قلوبنا، أو راقبنا ما يدور حولنا، فسنجد، أن الناس غالبا ما يركعون بسبب الحزن أكثر مما يفعلون ذلك استجابة للعواطف الجميلة"[7].
فهذا الخوف هو الذي يجعل الناس يحسون بشكل مباشر بالدين، من خلال إخضاع إحساساتهم للعناية الإلهية المقدسة، وفي آخر هذا القسم يتساءل هيوم عمّا هو العمر أو فترة الحياة التي تكون أكثر إغراء بالمعتقد الخرافي؟ إنها الأكثر ضعفاً والأكثر جبناً، وما هو الجنس؟[8] يستند هيوم في الجواب عن هذا السؤال بقول سترابو: القادة والأمثلة على كل نوع من المعتقدات الخرافية هم النساء. هؤلاء يحفزن الرجال على التقوى والتضرع والتقيد بالأيام الدينية"[9]، لأنه من النادر جدا أن نجد الرجال يعيشون معزولين عن النساء؛ ففي أيام سترابو، حسب هيوم، أن الشخص قد يمارس التبتل، وفي نفس الوقت، يتظاهر بالطهارة والعفة، وفوق ذلك يحافظ على أوثق العلاقات والتعاطف الكلي مع ذلك الجنس الأكثر جبناً وورعاً[10].
القسم الرابع: الآلهة لا تعد خالقة ولا مكونة للعالم
ينطلق هيوم في هذا القسم من إثباته بأن هناك نقطة وحيدة نتفق عليها في علم اللاهوت اتفاقاً شاملا ً، وهي، "أنه ثمة قوة خفية ذكية في العالم: لكن ما إذا كانت هذه القوة هي عليا أم تابعة، وما إذا كانت محصورة بكائن واحد، أو موزعة بين كائنات، وما صفات أو خصائص أو علاقات أو مبادئ الفعل التي يجب أن تعزى لتلك الكائنات، في ما يخص هذه النقاط، هناك الفرق الأوسع في المنظومات الشعبية للاهوت"[11].
يؤكد هيوم بأن هناك اتفاقا في مسألة وجود قوة خفية وذكية تحكم العالم، لكن هناك اختلافا حول طبيعتها، أهي عليا أم تابعة لهذا العالم، وهل هي محصورة بإله واحد أم بآلهة متعددة؟ وعليه، يقدم هيوم رأي أسلافه في أوروبا الذي كانوا يؤمنون بوجود رب واحد أسمى، هو الذي خلق الطبيعة، مع أنها في ذاتها يتعذر التحكم بها أو ضبطها، غالباً ما مارستها ملائكته وكهنته، الذين نفذوا رغباته المقدسة[12]، ونفس الأمر كذلك بالنسبة إلى الديانة المصرية القديمة، وغيرها من الديانات القديمة تستبعد الرب والآلهة والملائكة وتستبقي الجنيات والعفاريت، مما يجعلنا نستخلص بأن الآلهة لا بخالقة ولا بمكونة للعالم حسب هيوم.
القسم الخامس: أشكال مختلفة لتعدد الآلهة: الحكاية الرمزية وعبادة البطل
ليس هناك مظهر واحد لدى الناس حول تعدد الآلهة، بل هناك مظاهر مختلفة لهذا التعدد حسب هيوم في ضوء طبيعة الإنسان، وهذا التعدد في مظاهر تعدد الآلهة ساهم في إبداع مجوعة من الحكايات الرمزية فيها ما هو أخلاقي وما هو جسدي، "فطبيعي أن يمثل إله الحرب غاضباً عنيفاً ومتهوراً: وإله الشعر متأنقاً ومهذباً وأليفاً: وإله التجارة، لاسيما في الأزمنة الأكثر قدماً، لصاً مخادعاً"[13]، هذا بالإضافة إلى الحكايات التي كانت تنسب لهوميروس ومجموع المهتمين باللاهوت في القديم، ولكن حسب هيوم بالرغم من اختلاف الحكايات الرمزية، فإن الوثنيين يتفقون في المبادئ العامة والمفاهيم، وحتى الشخصيات الخاصة والمجالات التي يحددون لعبادتهم، ليست مختلفة جداً، وفي هذا الصدد قدم لنا هيوم مثال "الفاتحون الإغريقيون والرومانيون الذين وجدوا ألهتهم في كل مكان من دون مشقة كبيرة، وقالوا، هذه هي مركوري وتلك فينوس؛ وهذا مارس وذلك نبتون.."[14].
القسم السادس: نشوء الاعتقاد بإله واحد من الاعتقاد بآلهة متعددة
يتحدث هيوم في هذا القسم عن نشوء عقيدة التوحيد/الاعتقاد بإله واحد من عقيدة تعدد الآلهة/الاعتقاد بآلهة متعددة، مؤكداً أن عقيدة الإله الأعلى الواحد بوسمه خالق الطبيعة عقيدة قديمة جداً، وقد اعتنقها أناس من مراتب وطبقات متعددة، وسيسجل هيوم بعض الملاحظات عن معتقدي ديانة التوحيد الذين يقول عنهم: "ما دام عامة الناس، في الأمم، الذين اعتنقوا عقيدة التوحيد، فإنهم لا يزالون يبنونها على مبادئ غير عقلانية وخرافية، ولا يتوصلون إلى ذلك الرأي وفق أية عملية تقوم على البرهان، بل بتسلسل تفكير أكثر ملائمة لعبقريتهم وأهليتهم"[15].
إن هيوم يقر بأن حضور هذا الجانب الخرافي وغير العقلاني في ديانات التوحيد مثله يمكن أن يكون قد حدث في ديانة تعدد الآلهة، إذ إنه بالرغم من اعتراف الناس بوجود مجموعة من الآلهة، فإنه يوجد رب واحد يجعلونه بطريقة خاصة موضوع عبادتهم وتأليههم الأول، "ويمكنهم إما أن يفترضوا، أنه، في توزيع السلطة والمناطق بين الآلهة، أخضعت أمتهم لسلطان ذلك الإله الخاص، أو في تبسيط الأشياء المقدسة إلى نموذج أرضي، يمكن أن يمثلوا أحد الأرباب كأمير أو حاكم أعلى على البقية.."[16]. فمع ديانة التوحيد سترسخُ فكرة الإله الأعلى، في مقابل تقلص كل عبادة أخرى كيفما كانت طبيعتها، ومقصود هيوم هنا ديانات تعدد الآلهة، وإن كانت هذه الأخيرة تتفوق عن ديانة التوحيد حسب هيوم في زمرة من القضايا كما سنرى الأقسام القادمة.
القسم السابع: تأكيد هذه الديانة
إن هذا القسم السادس هو استمرار كذلك للنقاش الذي فتحه هيوم في القسم الخامس، إلا أنه في هذا القسم يقدم تصور عامة الناس الذين يعتقدون بديانة التوحيد للذات الإلهية المفترضة، الذي يعتبره هيوم في العديد من مواقع هذا القسم تعاملاً سخيفاً، لهذا يقول في بداية حديثه في هذا القسم: "على الرغم من أن الأفكار الأصلية للعامة تمثل الإله كائناً محدوداً ولا تعده إلا سبباً خاصاً للصحة أو المرض، الوفرة أو الفاقة، الازدهار أو المعاناة، إلا أنه عندما تلح الأفكار الأكثر روعة عليهم، فإنهم يحترمونها خشية أن يرفض موافقتهم"[17]، إن فكرة الناس الحقيقية عن الذات الإلهية، على الرغم من لغتهم المنمقة حسب هيوم "لا تزال بائسة وسخيفة كما كانت دائماً"[18]. وفي هذا السياق، يقدم مثال ديانة التوحيد المحمدية قائلاً: "يسأل أتباع الديانة المحمدية. حتى أعماله الأكثر نبلا، إذا قورنت به، ليست إلا غبارا وهراء"[19] يقول هيوم كذلك: "إلى أي مدى يجب أن يقصر مفهوم الإنسان عن كمالياته غير المحدودة؟ تنقل بسمته ورضاه الناس إلى سعادة أبدية.."[20] فحسب هيوم، لا يجب أن يحصر الإنسان في كمالياته غير المحدودة.
لا يتوقف هذا الأمر عند ديانة التوحيد المحمدية، وإنما يستحضر هيوم بشكل ساخر مثال الجيتيين (GETES) الذين يسمون بشكل عام الخالدين، من اعتقادهم الراسخ بخلود الروح، كانوا موحدين ورافضين حقيقيين للتثليث، هم أكدوا علنا أن زامولكيس، إلههم، يجب أن يكون الإله الحقيقي الوحيد، وشددوا على عبادة كل الشعوب الأخرى يجب أن توجه إلى مجرد قصص خيالية وكائنات خرافية.. كانوا كل خمس سنوات يضحون بإنسان، يرسلونه رسولاً إلى إلههم، ليخبره بحاجاتهم وضروراتهم. وعندما ترعد السماء، كانوا يستفزون بشدة، إلى درجة، يطلقون سهامهم عليه ليعيدوا تحديهم، ويرفضون القتال غير المتكافئ[21]. هذه الرواية حسب هيوم نقلها هيرودوت عن الديانة التوحيدية للجيتيين الخالدين.
القسم الثامن: المد والجزر في الاعتقاد بآلهة متعددة والإيمان بإله واحد
في هذا القسم، يناقش هيوم مسألة المد والجزر في العقل الإنساني؛ أي أن الناس عادة ما يكون لهم ميل للارتقاء من الوثنية إلى التوحيد، والانحدار ثانية من التوحيد إلى الوثنية؛ لأنه في الحقيقة حسب هيوم "كل الناس، باستثناء قلة قليلة، كونهم جاهلين وغير متعلمين، لا يطورون تأملهم إلى السموات أو ينفذون في أبحاثها إلى سر تركيب جسم النباتات أو الحيوان إلى حد يكتشفون فيه عقلا أعلى أو عناية إلهية أصلية، تسبغ النظام على كل جزء في الطبيعة"[22]، فهيوم ينظر إلى أن بعض الموحدين، لا سيما اليهود والمسلمين، مدركين، كما يبدو من استبعادهم لكل فنون النحت والتصوير وعدم سماحهم بالتمثيلات، حتى للشخصيات الإنسانية لأن تقدم بالرخام أو الألوان، خشية أن يتسبب الضعف العام لدى الناس بعودة الوثنية بعد ذلك..[23] لهذا كانوا يتصورون أنه لا يمكن إقناع الناس ضعيفي الفهم بتصوير الإله روحاً صرفة ذكاءً كاملاً، مخافة من أن ينقلهم هذا الضعف من تصور إله روحي كلي القدرة إلى إله جسدي محدود، ومن إله جسدي محدود إلى تمثال أو تمثيل مرئي...
القسم التاسع: مقارنة هذه الأديان في ما يتعلق بالاضطهاد والتسامح
سيعقد هيوم في القسم التاسع مقارنة بين الأديان الوثنية والأديان التوحيدية في مسألة الاضطهاد والتسامح، حيث سيقول عن الأولى: "إن الروح المتسامحة لدى الوثنيين، في الأزمنة القديمة والحديثة، شيء واضح جدا لأي شخص، مطلع قليلاً على كتابات المؤرخين والرحالة. عندما سئلت عرافة دلفي، ما هي الشعائر أو العبادة الأكثر قبولاً للآلهة؟ أجابت العرافة، تلك التي أنشئت بطريقة قانونية في كل مدينة"[24]، إن الكهنة في هذه العصور كانوا يحثون الناس عن الصفح والتسامح مع الآخرين من الجماعات الأخرى المختلفة، ولقد "تبنى الرومان بشكل عام آلهة الشعوب المحتلة، ولم يشكوا أو يفندوا صفات تلك العبادات المحلية والوطنية، في تلك الأراضي التي استقروا فيها"[25]، إن هيوم إذن، يقر بأن الديانة الوثنية كانت أكثر تسامحاً وأقل اضطهاداً من الديانات التوحيدية.
أما بالنسبة إلى الديانات التوحيدية، فإن هيوم يخبرنا بأن "عدم تسامح كل الأديان تقريباً، التي دافعت عن وحدانية الله هو أمر مثير للانتباه مثل المبدأ المعاكس لدى الوثنيين. فالروح الضيقة المتعنتة لدى اليهود معروفة جدا. وانتشرت المحمدية الطرق الأكثر دموية، وحتى إلى يومنا هذا ترسل اللعنات، مع أنه ليس بالنار والحطب، إلى كل الطوائف الأخرى"[26]، إن ديانة التوحيد إذن، المتمثلة حسب هيوم في الديانة اليهودية والديانة المحمدية كانت أقل تسامحاً من ديانات التعدد، إذ الديانة اليهودية كانت روحها ضيقة، والديانة المحمدية كانت طرقها أكثر دموية، ولا يتوقف هيوم عند هذا الحد، بل يتحدث حتى عن أنصار زرادشت الذين أغلقوا أبواب السماء في وجه الجميع إلا المجوس، ليخلص في أواخر هذا القسم قائلا: "يمكنني أن أغامر في التأكيد على أن المفاسد القليلة في الوثنية، وتعدد الآلهة أكثر ضرراً للمجتمع من هذا الفساد في التوحيد".[27]
القسم العاشر: مقارنة الأديان في ما يتعلق بالشجاعة والذل
سيعقد هيوم في هذا القسم العاشر، مقارنة بين الأديان الوثنية والأديان التوحيدية في مسألة "الشجاعة والذل" إذا كانت ديانات التوحيد تمثل الله، باعتباره متفوقا على الإنسانية إلى مالا نهاية، فإن عقل الإنسان يصبح خاضعاً ومذلولا لهذا التفوق والرهبانية الإلهية، عن طريق إماتة الشهوات والندم والخضوع والتواضع والمعاناة كلها تساهم في انتفاء شجاعة الإنسان عن طريق التسليم بوحدانية الله وعظمته، لهذا كان مكيافيلي يقول: "إن عقائد الدين المسيحي (يعني الكاثوليكية، لأنه لم يكن يعرف عقائد أخرى) ذكت الشجاعة السلبية والمعاناة، وأخضعت الروح الإنسانية، وهيأت الناس للعبودية والخنوع فحسب"[28].
أما بالنسبة إلى الأديان الوثنية، وخصوصا نموذج البطولة الإغريقية الذي يقدمه هيوم، قد عرفت بالبطولة والشجاعة والتحدي، لهذا كانت أحد الإغراءات الكبيرة للإسكندر التقي في حملاته الحربية منافسة هرقل وباخوس، الذين تظاهر بالتفوق عليهما تماما[29]. وعليه، فإن هيوم يؤكد في هذا القسم بأن الشجاعة كانت منتفية داخل ديانات التوحيد في مقابل حضور البطولة والتحدي في الديانات الوثنية..
القسم الحادي عشر: مقارنة هذه الأديان في ما يتعلق بالعقل أو الشيء المنافي للعقل
يؤكد هيوم في هذا القسم على مسألة أساسية، وهي: أنه إذا فحصنا الميثولوجيا الوثنية القديمة، كما عرضها علينا الشعراء في قصائدهم، فإننا لن نجد فيها أي شيء شرير مناف للعقل، ويمكننا أيضا أن نثبت من خلال التصورات والرؤى التي قدمها الوثني لتفسير مبادئ هذا العالم المرئي والناس والحيوانات، بأن هناك مخلوقات ذكية عاشت في هذه العصور، في حين أن الديانات التوحيدية التي تزعم أنها تفكر تفكيراً عقلانياً ما هي حسب هيوم إلا "قصصاً تقليدية وممارسات خرافية أكثر منها برهاناً وجدلاً فلسفياً"[30]، لأنه حيثما يشكل التوحيد المبدأ الأساسي لأي دين شعبي، يقدم عقيدته على أساس أنها منسجمة وعقلانية، وتكون بالموازاة مع ذلك مهمة الفلسفة مهمة تستجيب للنظام اللاهوتي أكثر من النظام العقلاني، وقواعد هذه النظام يتم استنباطها من الكتاب المقدس، مثل القرآن أو أية سلطة مرئية، مثل بابا الكاثوليكي... فهذه المظاهر حسب هيوم كلها مضللة، لكونها تخدم أغراض الخرافة وبعيدة كل البعد عن كل ما هو عقلي وجدلي وفلسفي...
القسم الثاني عشر: مقارنة هذه الأديان فيما يتعلق بالشك والإيمان
يتحدث هيوم في هذا القسم عن الشك والإيمان في الأديان، وهو كذلك استمرار للنقاش الذي فتحه في القسم الحادي عشر؛ فالناس حسب هيوم لم يجرؤوا على الاعتراف، حتى في سرهم، بالشكوك التي يفكرون بها حول هذه الموضوعات: فهم من يصنعون فضيلة الاعتراف الضمني، وفي نفس الوقت يتنكرون لأنفسهم عن كفرهم الحقيقي؛ أي كانوا متشككين في الدين، ولا يستطيعون البوح بهذا الشك، فكان إيمانهم غير مبني على قناعة صلبة، كما أن السبب حسب هيوم في تفكك الدين القديم بالمقارنة مع الدين الحديث، "هو أن الأول كان شفهياً والثاني كتابياً، والشفهي في الأول كان معقداً، متناقضاً، وفي مناسبات عديدة، ريبياً؛ لذلك ربما لا يمكن أن يقلص إلى أي معيار أو شريعة، أو يتحمل أية مواد حاسمة في الإيمان"[31]، فقصص الآلهة التي كانت في هذا الدين كانت متعددة، مثل أساطير البابوية، وكان لم يكن بإمكان الجميع أن يصدقها، فلم يكن تسلسل هذه القصص منطقياً؛ أي كانت خيالية مهلهلة ومشكوك في أمرها، فبدا الدين يتبدد مثل السحاب، متى اقترب منه المرء وتفحصه جزءاً فجزءاً[32].
لم تكن الحكايات والقصص الخرافية للديانة الوثنية معقدة وحسب، بل كانت حسب هيوم خفيفة وسهلة ومألوفة، من دون شياطين أو بحار من الكبريت أو أي شيء يمكن أن يصيب الخيال بالرعب، من يمكنه أن يمتنع عن الضحك، عندما يفكر بقصص حب مارس وفينوس MARS AND VENUS، أو حفلات سمر جوبيتر وبان JUPITER AND PAN الغزلية.. [33]، إنه حسب هيوم كان ديناً غزلياً شاعرياً حقيقياً. وعليه، فإن الفرق كبير بين اللاهوت التقليدي والدين المنهجي المدرسي؛ فالأول حسب هيوم، هو الأكثر عقلانية، باعتباره مكوناً فقط من عدد وافر من القصص، وإن كانت لا أساس لها، فهي لا تتضمن سخافةً واضحةً ولا تناقضاً جلياً، فهي تستقر في أذهان الناس بسهولة ويسر... ولا تثير انطباعاً عميقاً في المشاعر والفهم.
القسم الثالث عشر: المفاهيم غير الورعة للطبيعة والمقدسة في كل من الدينين الشعبيين
يناقش هيوم في هذا القسم بعض المفاهيم غير الورعة لدى الأديان الشعبية متحدثاً عنها بقوله: "الأديان الشعبية هي الحقيقة، في تصور مريديها الأكثر سوقية، نوع من الإيمان بالعفاريت، وأنه بقدر ما تمتدح الألوهية على نحو أكثر علواً بالقوة والمعرفة، يكون أدنى مرتبة في مسار الطيبة والإحسان؛ مهما كانت صفات المديح التي يمكن أن يغدقها عليه محبوه المذهولون… يمكن أن تكون الكلمات مزيفة، وتكذب الآراء السرية.."[34]، لأن العبادة هنا خوفاً وخشيةً وليست حباً، إنه خوف شديد من أحداث المستقبل، قد يتجلى في صور انتقام والقسوة والعنف والكراهية، والوهم كذلك يضاعف هذه الأشياء أكثر فأكثر، فلقد كان لاهوتهم مبني على الترويع والخوف، مما دفع بالإنسان إلى الاعتراف بتفوق إله ما عن باقي الموجودات الأخرى. وعليه، بدأت الإنسانية تمجد فكرتها عن الألوهية أكثر فأكثر، وهي ليست نابعة من طيبتهم، وإنما من خوفهم وسلطة الإله وجبروته عليهم.
القسم الرابع عشر: التأثير السيئ للأديان الشعبية في المبادئ الأخلاقية، والقسم الخامس عشر(خلاصة)
في الفصل الرابع عشر من هذا الكتاب، سيناقش هيوم التأثير السيئ للأديان الشعبية في المبادئ الأخلاقية، من خلال حضور ذلك الجانب اللاأخلاقي القهري الإلزامي في هذه العبادة، متحدثا عن نموذج إيجينا AEGINA، التي حاكمت إحدى الجماعات المنشقة مؤامرة واغتالت بطريقة وحشية وغادرة سبعمائة من مواطنيهم، ووصل غضبهم بعيدا، إلى درجة، أن أحد الباقين البائسين الذي هرب إلى المعبد، قطعوا يديه، اللتين أمسك بهما في البوابات، وحملوه إلى خارج الأرض المقدسة، وقتلوه من دون تأخير. بهذه اللاتقوى.. وكذلك نموذج الكفارات البراخمانيين والتلابيين، ذلك أن رمضان لدى الأتراك الذي من خلاله يبقى المعوزون الفقراء لأيام كثيرة، غالبا في الشهور الأكثر حرارة في العالم من دون أكل وشراب من قبل شروق الشمس إلى غروبها. فرمضان هذا، حسب هيوم، يجب أن يكون أشد قسوة من ممارسة أي واجب أخلاقي، حتى للأكثر فسادا وفسوقا من الناس.. وكذلك نموذج أوقات الصيام الأربعة عند الموسكوفيين، والممارسات الصارمة عند بعض الرومان الكاثوليك، تبدو شيئاً كريهاً أكثر منه حلماً وإحسانا...[35] إن هيوم إذن في هذا القسم يناقش بعض الأمور اللاأخلاقية والإلزامية التي تحضر في الدين بوسمها نوعا من الطقوس التي يتقرب بها العباد إلى الله..
أما في الفصل الأخير (الخامس عشر) الذي هو عبارة عن خلاصة عامة للكتاب، فإن هيوم يلخص فيه جميع أفكاره التي تطرق إليها في الأقسام السابقة، فمن خلال بحثه في التاريخ الطبيعي للدين من خلال مناقشته لمجموعة من الإشكالات المرتبطة بالدين منذ أصله الأول (تعدد الآلهة) وصولاً إلى ديانات التوحيد، يتساءل هيوم عن أي امتياز نبيل للعقل الإنسان؟ هل يحصل على معرفة الكائن الأعلى من الأعمال المرئية في الطبيعة، أم يتمكن من استنتاج مبدأ سام مثل خالقه الأعلى؟ إن المبادئ الدينية التي سادت في الأمم السابقة غير مقنعة بتاتاً، إنها مجرد "أحلام أناس: مرضى: أو ربما سوف نعتبرها نزوات مرحة لقرود في هيئة بشر أكثر منها توكيدات دوغمائية إيجابية جديدة لكائن ما، يبجل نفسه باسم العاقل"[36]. فهيوم يوصينا بالإنصات للاحتجاجات الشفهية لكل الناس، فلا شيء عندهم مؤكد في معتقداتهم الدينية، وإذا أردنا أن ندرك هذه الأمر، فما علينا حسب هيوم إلا أن نفحص حياتهم العادية، ومما لا شك فيه، أننا سنجدهم لا يضعون أدنى ثقة في معتقداتهم الدينية..
على سبيل الختم:
إذا كان الدين الطبيعي هو تعبير يعود استعماله إلى القرن الثامن عشر، ويشير عادة إلى الاعتقاد في وجود الله وخلود الروح، دون الاعتقاد في الوحي النبوة، فهو إذن، مجموعة اعتقادات بوجود الله ورحمته، وبروحانية النفس وبخلودها، وبالطابع الإلزامي للعمل الأخلاقي، باعتبارها كلها من وحي الوعي و"النور الداخلي" الذي ينور كل موجود إنساني[37]، فهل كان هيوم يؤمن بهذا الدين؟
إن الإجابة عن هذا السؤال، لا تنفصل طبعاً، عما ناقشه هيوم في كتابه "التاريخ الطبيعي للدين"، وقد حاولنا قدر الإمكان أن نلخص أهم أفكاره في الأقسام السالفة الذكر، وعموما يمكن أن نخلص من خلال ما سلف: أن هيوم يرى أن منبع الدين هو أحداث العالم المرئي للإنسان وخوفه من المستقبل أو المجهول. وعليه، فإن منبع الدين الطبيعي هو حب الوصول إلى الحقيقة والسعي إليها عبر بناء تصور متجانس ومنتظم للعالم يحكمه القانون والنظام، فالدين كما بينه هيوم في كتابه هذا يحركه الخوف والأمل في نفس الوقت، وتجدر الإشارة كذلك، إلى أن هذا التصور المتعلق بالدين الطبيعي قد آمن به بعض الفلاسفة، إلا أن هيوم يرفض هذا الدليل الذي يقر بحقيقة وجود الله، بل يشكك فيه عن طريق نزعته الريبية، مستخلصا أنه لا يوجد ديناً توحيدياً خالصاً، لأن الدين التوحيدي حسب هيوم لا زال يتأرجح بين التوحيد والشرك، وبين الإيمان والشك، وبين العقل واللاعقل (الخرافة)، وبين الشجاعة والذل...إلخ، فلا وجود إذن، لدينٍ متجانسٍ ومكتملٍ، والشيء الوحيد الذي يمكن أن نراهن عليه هو الشك المتعمد الذي يُدعم بالعقل، والذي تكون غايته البحث عن الحقيقة باعتبارها سعيا دؤوبا، لكن إلى متى سيبقى هذا الشك والريب المتعمد؟ كيف سنفكر إذن في المستقبل؟ أليس الأمل عن طريق الشك الأبدي المتعمد في حقائق المستقبل قد يجعلنا نموت وفي أنفسنا شيء من حتى؟
المصادر والمراجع المعتمدة:
- ديفيد هيوم، التاريخ الطبيعي للدين، ترجمة: حسام الدين خضور، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 2014
- عثمان الخشت، مدخل إلى فلسفة الدين، دار قباء، 2001
[1]- مجلة ذوات العدد 41
[2] ديفيد هيوم، التاريخ الطبيعي للدين، ترجمة: حسام الدين خضور، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 2014، ص: 9
[3] نفس المصدر، ص: 10
[4] نفس المصدر، ص: 19
[5] نفس المصدر، ص: 10
[6] نفس المصدر، ص: 21
[7] نفس المصدر، ص: 27/28
[8] نفس المصدر، ص: 29
[9] نفس المصدر، ص: 29
[10] نفس المصدر، ص: 29
[11] نفس المصدر، ص: 29
[12] نفس المصدر، ص: 31
[13] نفس المصدر، ص: 44
[14] نفس المصدر، ص: 49
[15] نفس المصدر، ص: 53
[16] نفس المصدر، ص: 54
[17] نفس المصدر، ص: 59
[18] نفس المصدر، ص: 60
[19] نفس المصدر، ص: 60
[20] نفس المصدر، ص: 60
[21] نفس المصدر، ص: 61 (بتصرف)
[22] نفس المصدر، ص: 63
[23] نفس المصدر، ص: 65
[24] نفس المصدر، ص: 69
[25] نفس المصدر، ص: 69
[26] نفس المصدر، ص: 70
[27] نفس المصدر، ص: 71
[28] نفس المصدر، ص: 77
[29] نفس المصدر، ص: 76
[30] نفس المصدر، ص: 80
[31] نفس المصدر، ص: 94
[32] نفس المصدر، ص: 95 (بتصرف)
[33] نفس المصدر، ص: 95
[34] نفس المصدر، ص: 107
[35] نفس المصدر، ص: 118
[36] نفس المصدر، ص: 124
[37] محمد عثمان الخشت، مدخل إلى فلسفة الدين، دار قباء 2001، ص: 20