قراءة في كتاب "العلمنة والعلمانية في الفضاءات الإسلامية" للمفكر التونسي محمد الشريف فرجاني
فئة : قراءات في كتب
في الكاتب والكتاب
في الكاتب
محمد الشريف فرجاني (1951 م) مفكر وباحث فرنسي من أصول تونسية، يشغل منصب أستاذ العلوم السياسية والتاريخ الإسلامي بجامعة ليون الثانية بفرنسا. من أهم أعماله؛
-"السياسي والديني في المجال الإسلامي"، وهو كتاب أنجز باللغة الفرنسية نشر عن فايار سنة 2005م ترجم إلى العربية والإسبانية والإنجليزية.
في الكتاب
صدر كتاب "العلمنة والعلمانية في الفضاءات الإسلامية" سنة 2017 م عن دار التنوير للطباعة والنشر فرع تونس، ويتكون من 126 صفحة.
يتضمن الكتاب مجموعة من الحوارات التي أجراها الصحفي التونسي "محمد معالي" مع الشريف فرجاني ما بين سنتي 2011 و2013 م، بالإضافة إلى عمل محمد معالي على ترجمة العديد من المقالات التي نشرها الشريف فرجاني باللغة الفرنسية في نفس الموضوع إلى اللغة العربية، حتى يعتمدها من أجل صياغة الكتاب بشكل فلسفي متناسق.
على سبيل التقديم
يروم المفكر التونسي محمد الشريف فرجاني في كتابه "العلمنة والعلمانية في الفضاءات الإسلامية" قراءة التاريخ الإسلامي من خلال الفضاءات السياسية المحايثة له، اعتمادا على مقاربة جينيالوجية -تطبيقية- تتوسل مفهوما العلمنة والعلمانية منهجا فلسفيا للفهم.
وتأتي هذه القراءة في سياق محاولة الشريف فرجاني، الجواب عن الأسئلة المتعلقة بنجاح -النجاح بين قوسين- الانتقال الديمقراطي في بعض الفضاءات الإسلامية دون غيرها، بعد أحداث ما سمي بالربيع العربي من خلال كشفه عن عمليات العلمنة التي عرفتها حقب مهمة من التاريخ الإسلامي، والتي شكلت في اعتقاده أساس المواقف المتباينة اليوم في العديد من الفضاءات السياسية الإسلامية تجاه ما يسمى بالديمقراطية والنظام العلماني ومدنية الدولة.
كما حاول الشريف فرجاني في عمله هذا، البحث في الأسس التي تقوم عليها عملية أسلمة الدول التي تعرف انتشارا اجتماعيا لدين الإسلام، انطلاقا من الحفر في مسار تشكل مفهوم الخلافة في علاقته بالصناعة الفقهية داخل الفضاءات الإسلامية من جهة، وتحليل وجهة نظر الإسلام السياسي -المرتبط أساسا بجماعة الإخوان المسلمين- في ما يخص مسألتي الحاكمية وأصل السلطة من جهة ثانية.
لقد كان الهدف الأكاديمي من هذه القراءة هو أن إبراز الصيرورة التاريخية التي يعتمدها الإسلام السياسي لإقناع المجتمعات الإسلامية بأن الأصل في الدولة هو تطبيق الشريعة، ليست إلا عملية إخفاء قصدي للتاريخ الحقيقي للإسلام، والذي نجده مثقلا بالعلمنة في حقب سابقة عن حقبة ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية -وهي الحقبة التي شهدت مواجهات شرسة فكريا وسياسيا بين التيارين الإسلاموي والتحديثي- وتشكل الجمهورية التركية العلمانية مع أتاتورك.
ولعل هذا ما يجعلنا نتوصل مع الشريف فرجاني إلى نتيجة علمية أساسية مفادها؛ أن الإسلام السياسي إبستيمولوجيا يعاني من أزمة أسس ويبني تصوره الإيديولوجي على نزعة لا تاريخية.
ولوضع قراءة الشريف فرجاني في سياق التحليل والنقاش والعرض، نرى أنه لابد أن ننطلق من وضع الأسئلة التالية؛ كي نفهم المنهج الذي قارب من خلاله الشريف فرجاني تاريخ الفضاءات الإسلامية -خصوصا ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية-؛
ما العلمنة؟ ما العلمانية؟ هل المقصود بهما معاداة الدين والقضاء عليه، في ما يخص تحديد طبيعة السلطة السياسية التي يجب أن تسود المجتمعات الإسلامية، أم إن المقصود بهما معنى آخر غاب عن المجتمعات الإسلامية بمفكريها ورجالات دينها؟ ما الأسباب الفكرية والتاريخية التي جعلت الإسلام السياسي في بداياته يمثل أساس دعوة العودة إلى الخلافة؟ كيف شكل عداء الإسلام السياسي للعلمانية بعد انتهاء حلم عودة الخلافة أساسا ترويجيا لما يسمى دولة الشريعة أو الدولة الإسلامية؟ إلى أي حد خلقت فكرة الدولة الإسلامية توجسا إبستمولوجيا على مستوى الوعي السياسي الإسلامي والعربي تجاه فكرة الديمقراطية؟ ألا يمكن اعتبار معاداة الديمقراطية من طرف الإسلام السياسي أساس فشل عملية أدلجة الإسلام؟ هل بالفعل سيادة العدل والمساواة في المجتمعات الإسلامية يتطلب بالضرورة تأسيس السلطة السياسية على ما يسمى الشريعة أم أن هناك حلولا أخرى من بينها مثلا مشروع الدولة المدنية؟
1/ في معنى العلمنة والعلمانية
إن العلمنة تفترض الفقدان النسبي والتدريجي (مع احتمالات التقدم المتسارع والانتكاسات) لأهمية المكانة الاجتماعية (والفرد بالتتبع) للفضاءات الدينية في علاقة بالثقافة المشتركة (...). أما اللائكية -أي العلمانية- فهي بالمقابل، تهم في المقام الأول، المكانة والدور الاجتماعي للدين في المجال المؤسساتي، والتنويع والتحولات الاجتماعية لهذا المجال، في علاقة بالدولة والمجتمع المدني.[1]
إن العلمنة بهذا المعنى، هي سيرورة تاريخية، تسمح للفضاء السياسي والفضاء العلمي، والفضاء الثقافي، بأن تصبح فضاءات حرة، وأن يكون لكل من هذه الفضاءات استقلاليته عن باقي الفضاءات الأخرى بما فيها الفضاء الديني.
تفيد العلمانية إذن؛ طبقا لمبدأ استقلالية الفضاءات والحقول؛ نظاما من القوانين والتشريعات التي تؤطر عمل هذه الفضاءات والحقول دستوريا، بما يضمن وجود مبدأ الاستقلالية. إن العلمانية بهذا المعنى هي النتيجة المباشرة لعملية العلمنة.
ليست العلمانية إذن؛ نظاما سياسيا لا دينيا الغرض منه إقصاء الحقل الديني من الفضاء العمومي أو استئصال للدين والثقافة المشتركة لصالح ملة إيديولوجية، بل هي نظام ديمقراطي يبني قواعد الاحترام المتبادل بين الأفكار والعقائد والتوجهات بمختلف أشكالها، حتى لا يتم التمييز بين مواطني الدولة الواحدة على أساس أفكارهم أو عقائدهم أو توجهاتهم أو جنسهم.
العلمانية إذن، هي مسألة تطرحها طبيعة العلاقات الاجتماعية والأخلاقية بين الفئات المكونة للفضاء العمومي، وطبيعة القوانين التي يجب سنها لتنظيم عمل هذه الفئات بين بعضها البعض داخل الفضاء العمومي الواحد، وليس الدين.
ليس مفهوما العلمنة والعلمانية إطارا منهجيا لفهم مجموع التحولات التي تطرأ على فضاء عمومي معين فقط، بل يشكلا عمق العملية التحررية داخل هذا الفضاء العمومي، بما يحدد طريقة اشتغال هذا الفضاء دون أن يتم نفي وجود أي مجال من مجالاته بما في ذلك المجال الديني.
لكن هنا لابد من وضع سؤال أساسي حول العلمنة والعلمانية في الفضاءات الإسلامية، وهو لماذا لم تفهم العلمانية والسيرورة المنتجة لها -أي العلمنة- بهذا المعنى التحريري من داخل حقلي الفكر والسياسة في الفضاءات الإسلامية، خصوصا ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تستلزم العود الفاحص لماضي الفضاءات الإسلامية، خصوصا ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية حتى يتحقق الفهم.
2/ سقوط الإمبراطورية العثمانية بين بروز التجربة العلمانية مع أتاتورك وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين
لقد أدى سقوط الإمبراطورية العثمانية في بدايات القرن العشرين -نهاية الحرب العالمية الأولى- إلى نوع من التسابق بين القوى الاستعمارية الكبرى -بريطانيا وفرنسا- نحو اقتسام ما تبقى من تركة الرجل المريض، حيث كان سيصل الأمر إلى استعمار نقطة المركز في هذه التركة، وهي تركيا.
في هذه المرحلة، ظهر رجل عسكري التوجه علماني التكوين في جبة منقذ لتركيا الدولة، وذلك بتحويلها إلى جمهورية والقضاء على نظام السلطنة فيها، حتى لا تكون لقمة سائغة في فم الأعداء (المستعمر).
إن هذا الرجل هو كمال أتاتورك، القائد العسكري الذي درس في فرنسا، وتشبع إبان دراسته هناك بالفكر العلماني، هذا الأخير الذي كان بالنسبة إلى أتاتورك المنقذ الذي يمكن من خلاله الحفاظ على تركيا الفتاة.
تحرك أتاتورك في تطبيق علمانيته، بداية بإلغاء نظام السلطنة الذي يستمد مشروعيته من مبدأ الخلافة وإنهاء عمل المؤسسات الدينية -إلا المؤسسات التي عملت تحت سلطته- بمختلف أشكالها وتثبيت العمل المؤسسي باللغة التركية عوض اللغة العربية إلخ... وهي بعض التدابير التي تم اتخادها آنذاك تحت سلطته؛ إلا أن هذه المستجدات التر طرأت على الفضاءات الإسلامية شكلت صدمة لمؤسسات الحكم القائمة على فكرة الخلافة في باقي ربوع المجتمع الإسلامي، ما تسبب في ردود أفعال مباشرة إزاء ذلك.
ما طبيعة هذه الردود؟ ومن تبنى ممارستها؟
أ/ دعوة العودة إلى الخلافة وظهور جماعة الإخوان المسلمين
بعد سقوط السلطنة في تركيا، توالت ردود الأفعال المضادة لهذا السقوط من جميع بقاع العالم الإسلامي شرقا وغربا. لقد كان لهذا السقوط رمزية كبيرة؛ لأنه مؤشر على نهاية الأصل الذي بنيت عليه السلطة السياسية في الفضاءات الإسلامية لقرون متتالية، ألا وهو مبدأ الخلافة.
فالخلافة في نظر فقهاء السلطة هي ركن من أركان النظام الإسلامي الذي لا يكتمل إيمان الرعية إلا إذا آمنوا به؛ فالخلافة بمثابة "حراسة الدين وسياسة الدنيا "كما ادعى "رشيد رضا" في كتابه "الخلافة والإمامة العظمى".
لكن الخلافة في حقيقة الأمر -تاريخيا- ليست إلا الذريعة التي يتوسل بها السلاطين للتحكم في شعوبهم، وليست مسألة محكمة في النص القرآني. إنها من بنات أفكار واجتهادات الفقهاء الذين لا يمكن للفصل بين الديني والسياسي أن يخدم مصالحهم، حيث لا نلاحظ في النص القرآني أي تدقيق في مسائل "الأمر والطاعة والشورى"، فلا نعرف من هم الآمرون والمستشارون والمطاعون... لندعي أنهم الخلفاء.
إن ربط الديني بالسياسي في الحكم هو صنيعة مذهب ما يسمى؛ "أهل السنة". هذا المذهب الذي تبلور على يد أبي الحسن الأشعري وأتباعه. لقد أسس هذا المذهب لفكرة مفادها؛ أن السياسة أمر لا اختلاف فيه ولا تشابه. السياسة هي الدين والدين هو السياسة، ما جعل التعصب لمبدأ الخلافة مشروعا، بل وأكثر من ذلك، يمكن تكفير كل من خالف هذا الاعتقاد.
ولعل تكفير كمال أتاتورك مسقط الخلافة ومعاداة علمانيته، بل والعلمانية عموما، كان نتاجا لهذا الاعتقاد المذهبي. ولم ينل فقط أتاتورك لوحده هذا الحكم، بل نجد علي عبد الرازق وهو من الأزاهرة ينال نصيبا مثله، بسبب كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، هذا الكتاب الذي أماط اللثام عن دعوى الإسلام السياسي بأن الخلافة ركن من أركان الإسلام، حيث أكد علي عبد الرازق أن الخلافة صنيعة الفقهاء لتمكين السلاطين من الحكم الأبدي، فلم يكن الإسلام يوما بحاجة للخلافة ليستمر باعتباره دينا، بل السلطة السياسية أو مؤسسة الخلافة هي التي كانت دائما بحاجة إلى الإسلام لضمان بقائها.
وليس الإسلام ما كانت تحتاج إليه الخلافة، بل تأويلات الفقهاء للإسلام بما يتناسب مع أهواء الخليفة.
إذن؛ ليست الخلافة هي العروة الوثقى التي تربط بين المسلمين كما ادعى رشيد رضا مثلا -سليل التوجه السني الحاكمي- في كتابه "الخلافة والإمامة العظمى"، بل هي ذريعة للتسلط والحكم فقط، ولا علاقة لها بالإسلام، هذا الدين الذي يقوم على العدالة والحق وسلطة الشعب.
ولم تنته آثار إلغاء الخلافة في تركيا بالتدافعين الفكري والسياسي نظريا، بل تعداه ذلك إلى إقامة مؤتمرات للتداول في هذا الأمر على غرار "مؤتمر الخلافة" الذي عقد في مصر سنة 1926 م للتداول في شأن سقوط الخلافة، إلا أن هذا المؤتمر انتهى إلى استنتاج مفاده أن الظروف التي يعيشها العالم الإسلامي ليست مواتية لبعث العمل بالخلافة من جديد.
في هذا السياق الذي أعقب سقوط الخلافة في تركيا، ظهرت جماعة الإخوان المسلمين سنة 1924 م في مصر على يد مؤسسها حسن البنا.
لقد بدأت الجماعة عملها من خلال الترويج لدعوة عودة الخلافة الإسلامية، وبدا هذا واضحا من خلال مراسلة حسن البنا في خطاباته الأولى "عبد العزيز ابن سعود"[2] الذي استولى على السلطة في شبه الجزيرة العربية في تلك المرحلة، لرفع التحدي والعمل على استرجاع الخلافة التي أسقطها أتاتورك.
يقول حسن البنا حول الخلافة، في رسالة المؤتمر الخامس سنة 1938 م"... الإخوان يعتقدون أن الخلافة هي رمز الوحدة الإسلامية ومظهر ارتباط أمم الإسلام، وإنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها. والخليفة ملم بكثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم، النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي ودفنه، حتى فرغوا إلى تلك المهمة واطمأنوا إلى إنجازها".[3]
لم تجد الجماعة آذانا صاغية لما تحاول الرجوع إليه وإعادة بنائه حسب مصالحها، فاقتنع البنا وباقي الإخوان في الفضاءات الإسلامية الأخرى، أن الإسلام السياسي لم يعد له أي أثر في سيكولوجية الحكم. ولهذا عمل الإخوان على تحيين شعار الخلافة بشعار آخر، وهو "الدولة الإسلامية"، مع التركيز على التوجه بالخطاب نحو الجمهور بشكل مكثف.
إذن؛ ما المقصود بالدولة الإسلامية؟ وما أهم آليات اشتغالها؟
ب/ مشروع الدولة الإسلامية بين أدلجة الإسلام وتسفيه البعد الديمقراطي للعلمانية
قبل أن نعرف بمشروع الدولة الإسلامية، لابد أولا أن نبرز أهم حجة قامت عليها فكرة الدولة الإسلامية، ألا وهي حجة "الاستثناء الإسلامي".
تبرر هذه الحجة أن للفضاءات الإسلامية خصوصيتها التي لا تسمح بتحقق شرطي العلمنة والعلمانية فيها تاريخيا وواقعيا. ويبني الإسلام السياسي هذه الحجة على حجتين فرعيتين أساسيتين هما؛
الحجة الأولى تنطلق من اعتبار العلمانية مشروعا غربيا محضا، نتج عن صراع ثنائي بين المجتمع الغربي والكنيسة*[4]. وأن أي نقاش يهدف وضع المسألة العلمانية في الواقع الإسلامي هو انحراف مباشر عن السياق التاريخي لنشأة العلمانية.
إلا أن هذه الحجة يمكن الرد عليها؛ لأن صائغها يأخذ بالتاريخ، لكنه لا يأخذ بشروط وظروف نشأة هذا التاريخ، وهي نفس الشروط والظروف التي تحرك الواقع الإسلامي لقرون من الزمن، والتي يمكن تحديدها في واقع اجتماعي مزر وثقافة اقتصادية ريعية، وأنظمة سياسية تستغل الدين ورجاله من أجل السيطرة والتحكم وتثبيت دعائم أجندات غير عمومية وو... وهذه نفسها الظروف والشروط التي طرحت مسألة العلمانية في الغرب. فلماذا إذن لا تكون العلمانية مسألة ملحة في الفضاءات الإسلامية، ما دامت هذه الفضاءات تعيش نفس الظروف والشروط التي عايشتها الفضاءات الغربية؟
الحجة الثانية تعتبر العلمانية مشروعا غربيا الهدف منه استلاب الذات العربية والإسلامية من مقوماتها التاريخية والثقافية، بما يتوافق وتكريس التبعية للغرب.
إلا أن هذه الحجة يمكن الرد عليها؛ لأن صائغها لا يفقه شيئا عن الفضاءات الغربية، فالعلمانية ليست مشروعا تم طرحه في وقت محدد وتوجيه المؤسسات للعمل به، بل هي نتاج لسيرورة تاريخية من التحولات التي تنضبط لإرادة الشعوب في التحرر من الاستبداد والطغيان وأدلجة الدين.
زيادة على ذلك، إن العمل بهذه الحجة يؤدي إلى نوع من "التعالي التاريخي الإسلامي"، والذي يحرم الأمة من الانخراط الفاعل في التاريخ الإنساني الكوني، ما يسبب نوعا من الانحباس التاريخي لهذه الأمة.
ولعل هذا ما يفسر انخراط المجتمع في الذاكرة أكثر من انخراطه في الحاضر والمستقبل، بدعوى أنه لا يمكن للإمكان أن يكون خيرا مما كان.
إن هاتين الحجتين تخرج بالفضاءات الإسلامية من العالم والتاريخ نحو اللا عالم واللا تاريخ، ما يعطي فرصا أكثر للإسلام السياسي بأن يربح المعركة الاجتماعية نظرا لتأثيره في المجتمع بما لا يزيح حجاب الجهل بالتاريخين الإنساني، وحتى الإسلامي المثقل بالعلمنة، خصوصا وأن الإسلام السياسي يجيد الخطابات العاطفية المؤثرة والمغلفة بالتقية والطهرانية.
نرجع الآن إلى مشروع الدولة الإسلامية؛ فقد عرف الإخوان الدولة الإسلامية بأنها الدولة التي تطبق الشريعة بشكل حرفي؛ أي إن هذا الصنف من الدول يعمل بالشريعة بدل العمل بالقانون.
لكن المشكل المنطقي الذي يبرز هنا هو ما المقصود بالشريعة أساسا؟هل هي الدين أم الجزء المتعلق بالمعاملات في الدين، أم تأويلات الفقهاء للدين باعتباره تجربة للخلاص؟
أولا؛ إن مفهوم الدولة يعني مؤسسات وهيئات ومنظمات تتكفل بتدبير أمور المواطنين، وليست جماعة ابتهال وخلاص. فالدولة بالمعنى الذي طرحه الإخوان مستحيلة واقعيا؛ لأنها لا تنهل من الواقع والتاريخ من أجل صياغة القوانين، بل تنهل من اللاتاريخ؛ أي من مجموع القصص الميتافيزيقية للدين، والتي وجدت للعبرة وليس الحكم.
ثانيا؛ يصعب تحديد معنى الشريعة حتى يتم العمل بها، ففهم كلمة "شرع" فيه اختلاف كبير بين المجتمعات الإسلامية المتعددة. فإذا كان ابن رشد مثلا -في الأندلس- يفهم الشريعة باعتبارها طريقة للخلاص الفردي؛ ففي اليمن تفهم الكلمة على أنها الحلول الكفيلة بفض النزاعات من "المشارعة"...
لكن السؤال الذي لابد من وضعه هنا بإلحاح هو التالي؛ إذا كان الإخوان يعتقدون بأن الدول التي تشكلت تحت سلطة الإسلام كانت تطبق شرع الله؛ فلماذا إذن الدعوة إلى دولة الشريعة من الأساس؟ ألا يمكن أن يفيد هذا بأن تاريخ الحكم في الإسلام مثقل بالتمييز بين القانون والشريعة، وأن للإخوان مشروعا جديدا وخاصا؟ بمعنى آخر منذ متى أصبحت كلمة شريعة تعني القانون في مجتمعاتنا؟
لم تتصور الأنظمة السياسية قط الشريعة على أنها القانون بل فقط دين؛ أي طريقة للخلاص.
حيث إذا عدنا إلى التاريخ الإسلامي، خصوصا ما قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية وبداية انحطاطها، سنجد أنه لم يتم الخلط بين الشريعة والقانون. لقد كان القضاة يجتهدون في استنباط بعض الأحكام من الدين فقط لدعم الحكم في حالات محرجة سياسيا، إلا أن المحاكم بشتى أنواعها، سواء العسكرية أو ذات الصلة بالشرطة أو ما يسمى بدواوين المظالم والمنازعات كلها كانت تخضع لمعايير بشرية صرفة.
لقد اكتسبت كلمة شريعة معنى القانون، عندما وضعت تلك المجلات القانونية في ظل توحيد القوانين في بعض البلدان الإسلامية خلال نهاية القرن 19 م، وأطلقت على هذه القوانين تسمية "الشريعة الإسلامية" وكان هذا أمرا جديدا غير معروف في السابق[5].
إلا أن العمل بهذا المقتضى إلى أبعد حدوده، اقترن أساسا بانطلاق مشروع الإخوان من الهند حتى مصر في خضم التحول من المناداة بعودة الخلافة إلى الدعوة العامة لتأسيس الدولة الإسلامية.
تعمل الدولة الإسلامية انطلاقا من "الواحدية" في الحكم، والتي يرى الإخوان بأن الأمة كاملة يجب أن تنضوي تحتها حتى تكتمل دعوة الجماعة. ولعل هذا ما يثير القلق في الفضاءات الإسلامية من فكر الإخوان المسلمين؛ لأنه فكر إقصائي ينفي التعددية الحزبية والعمل بالديمقراطية.
إن الواحدية في نظر الإخوان تعبير عن الحاكمية، عن تطبيق شريعة الله في الأرض؛ لأن شريعة الله صالحة لكل زمان ومكان، إلا أن ما يجعل نية الجماعة الخفية والمتمثلة في السيطرة على كل البلاد الإسلامية متعددة الألوان والمشارب، هو توسيعهم لمجال اشتغال ما يسمى "النص الديني"، حتى تتسع الحاكمية، ليشمل ليس فقط القرآن والسنة، بل التفاسير والاجتهادات الفقهية كذلك، وسير بعض ممن يعتبرونهم السلف الصالح إلخ.... والعمل على تقييد نظر الأمة بفقهاء بعينهم وسير بعينها. ومرد هذا كله إلى أن الجماعة ليست جماعة تدعو إلى الله، بل تستعمل الدين بتأويلات معينة ومحددة حتى تتربع على عرش الحكم.
ولعل ما يدل عن هذا الكلام هو محاولة الإخوان سلب الشعوب قدرتها على تقرير مصيرها باسم الله، وأن الديمقراطية التي تدعو إلى ذلك هي مجرد كفر. يقول حسن الغضباني، وهو قيادي في حركة الاتجاه الاسلامي التونسي سنة 1984 م لمجلة جون أفريك: "الديمقراطية تعني سلطة الشعب، ونحن نريد سلطة الله" ليخلص إلى القول بأنه لا يمكن القبول بالديمقراطية في الإسلام[6]؛ لأنها في نظره تمرد على سلطة الله.
ويبرز هذا العداء للديمقراطية -ومن تم للعلمانية باعتبار هذه الأخيرة نتيجة للأولى- في فكر المؤسس كذلك. لقد اعتبر حسن البنا تعدد الأحزاب بألوانها المختلفة بدعة -في رسالته للمؤتمر الخامس للإخوان- بدعوى أنه لا يوجد إلا حزب واحد، وهو حزب الله الذي يمثله الإخوان. ولعل هذا ما جعل البنا في بداية التأسيس يطلب من الملك "الفاروق" حل جميع الأحزاب، وحثها على العمل من داخل تنظيم يخدم الأمة بما يتطابق مع مبادئ الإسلام (يقصد الإسلام من وجهة نظر الإخوان). وهذا يعني أن الدولة التي تخضع لحكم الإسلام السياسي الإخواني لن تقبل المختلف ولن ترحمه.
لقد أدى التوجه الواحدي في نظرية الإخوان عن الحكم إلى نوع من أدلجة الإسلام وتحديده في إطار عام وشامل ومستبد، يستغرق كل الحقول والمجالات ولا يترك هامشا من الحرية داخل الفضاء العمومي إلا وأنهاه.
ولعل هذا المعطى هو ما سيشكل أزمة الإسلام السياسي، خصوصا بعد فشل الثورة الإيرانية في تحقيق الواحدية عن طريق فكرة "ولاية الفقيه" الشيعية، والتي تعتبر صورة طبق الأصل لفكرة الخلافة أو الدولة الإسلامية التي دعا إليها الإخوان، ما سينتج تاريخيا العودة للعلمنة وتثبيت دعائم الحكم طبقا لمعايير التاريخ والواقع. إذن كيف تم ذلك؟
3/ أزمة الإسلام السياسي بين ضرورة التقويم العلماني واستمرارية العلمنة التاريخية للفضاءات السياسية الإسلامية
لقد أدت أدلجة الإسلام إلى نتائج عكسية على المستوى التطبيقي؛ لأنه عندما اصطدم الإسلام السياسي بالواقع الصلب -في التجربة الإيرانية- وجد أن الحكم وممارسة السياسة لا تتم برفع الشعارات الرنانة للثورة وإقناع الناس بالغيب وانتظار قدوم الإمام، بل الحكم يحتاج لاستراتيجيات عملية في مجالات عدة؛ اقتصادية، اجتماعية، علمية، فنية، فلسفية، استراتيجيات تعود بنا إلى الأرض والملموس؛ أي إلى علمنة التصورات والاحتفاظ بحق استقلالية المجالات عن بعضها البعض بما في ذلك المجال الديني.
هكذا أصبح فصل الديني عن باقي المجالات الأخرى، وعدم إخضاعها لسلطته أمرا ضروريا ليس للاستمرار في السلطة والحكم فقط، بل لحماية الدين من دنس التسييس الذي سيفقد الدين شرعيته لدى الجمهور، باعتباره آلية للتحكم لا آلية للحكم والتنمية والعدل.
لعل هذا ما نتج عنه في الفضاءات الإسلامية من تصورات وتوجهات سياسية وأخلاقية مخالفة لتصور الإسلام السياسي، والتي يمكنها أن تشكل حلا لأزمة الحكم من بينها الديمقراطية والتعددية الحزبية والعلمانية. ما يحتم على الإسلام السياسي أن يعود إلى السكة التاريخية التي تغتني من التعدد والاختلاف والمؤسس لعلمانية حقيقية، ليست كتلك التي فهمها الجمهور على غرار تجربة أتاتورك.
وليس هذا الأمر تنافيا مع الدين، بل من صميمه، حيث إن النبي كان يقول للعموم: "ما كان من أمر دينكم فإلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به".[7]
لكن هذا التوجه نحو العلمانية لم يفرضه فقط فشل مشروع أدلجة الإسلام، ولكن فرضته جذور تاريخية من العلمنة في الفضاءات الإسلامية استمرت انعكاساتها على هذه الفضاءات، حتى بعد ثورات ما يسمي بالربيع العربي.
لعل التاريخ القريب جدا سيوضح لنا ذلك، وبالضبط مرحلة ما قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية خير شاهد على هذه الحركة العلمانية. وفي هذا الإطار، سنسوق ثلاث تجارب بارزة تؤسس لهذا القول.
الأولى/ لقد أدى تأثر السلطان العثماني سليم الثالث بالثورة الفرنسية نهاية القرن 18 م وبداية القرن 19 م، إلى اقتناعه بإجراء تغييرات هيكلية على مستوى نظام الحكم الإمبراطوري لإنقاذه من التهاوي؛ وذلك بإدخال النظام العلماني إلى عمقه وتعزيز العمل بالفكر السياسي الأنواري، إلا أن محاولته باءت بالفشل نظرا لتآمر قيادات الجيش الانكشاري والطبقة العلمية -رجال الدين- على مشروعه خشية هلاك مصالحهم.
الثانية/ لما أرسل القائد محمد علي -وهو من بين أبرز قادة الجيش الانكشاري الذي تأثر بأفكار السلطان سليم الثالث- إلى مصر للحفاظ على النفوذ العثماني فيها نتيجة وصول نابليون إليها، أعجب محمد علي بالتخطيط والاستراتيجيات العلمية التي طبقها نابليون للسيطرة على مصر. هذا النوع من العمل العسكري والسياسي الذي ينبع من تصور علمي علماني للحكم لا يهدف إلى إنهاء ثقافة ولغة ودين المهيمن عليه كما كانت تفعل الإمبراطورية العثمانية في الكثير من مناطق نفوذها، بل يهدف إلى الهيمنة من خلال نشر الفكر العلماني ونوعية الثقافة المرتبطة به.
بعد رؤية محمد علي ما رآه، انكب هذا القائد على إعادة تكوين قادة الجيش العاملين تحت سلطته وأرسلهم في بعثات علمية إلى أوروبا يترأسها علماء ومثقفو ن. ولقد كان من بين من ترأسوا هذه البعثات "رفاعة رافع الطهطاوي" صاحب كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص بريز"، هذا الكتاب الذي يحكي فيه الطهطاوي عن الحياة والحرية في فرنسا، وأقر بأن مبدأ الحرية لديهم هو نفسه مبدأ العدل لدينا، وقام بترجمة كلمة دستور من الفرنسية إلى العربية بكلمة "الشرطة"؛ أي ما يشرط الأفعال، واعتبره أساس الحكم. ولما رجع إلى مصر لم يعد إلى الأزهر، بل أسس "مدرسة الألسن" التي اهتمت بترجمة كل ما هو غربي للاستفادة منه، وكانت بذلك أول مدرسة تهتم بالتعريب في تاريخ الإسلام.
الثالثة**/[8] إذا ما تقفينا آثار الدساتير التي أنجزت على مستوى الفضاءات الإسلامية، سنجد أن أغلبها لا يقر بمبدأ إسلامية الدولة. فلا الدستور العثماني 1816 م، ولا الدستور التونسي 1861 م، ولا الدستور المصري 1874 م تمت فيها الإشارة إلى إسلامية الدولة.
لقد كان لمثل هذه التجارب والتراكمات السياسية العلمانية -والتي هي كثيرة في تاريخ الفضاءات الإسلامية، منذ العصرين الأموي والعباسي حتى ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية- أثر بالغ في تحديد مصير الكثير من الانتقالات الديمقراطية في الفضاءات الإسلامية بعد ثورات ما يسمى بالربيع العربي.
هذه الثورات التي منها ما فشل، ومنها ما نجح، ومنها ما يزال معلقا. لكن ما حدد نجاح بعضها وعلى وجه الخصوص التجربة التونسية هو هذا الاستمرار للعلمنة التي عرفتها الفضاءات الإسلامية تاريخيا خصوصا داخل الفضاء السياسي التونسي. إذن، كيف يكون هذا الكلام صحيحا؟ وبأي معنى، خصوصا وأن الثورة في تونس أفرزت الإسلام السياسي الممثل في حركة النهضة من خلال العملية الانتخابية؟
التجربة التونسية بين العلمنة والعلمانية
لم يأت نجاح التجربة التونسية من عدم -فالطبيعة تخشى الفراغ- بل هو نتيجة منطقية لسيرورة تاريخية من العلمنة يمكن رصدها على الأقل من القرن 19 م، حتى فترة حكم بورقيبة. لقد سبق وذكرنا بأن واحدا من أهم الدساتير التونسية، وهو دستور 1861 م لم يكن يحمل في طياته مبدأ إسلامية الدولة، بل وأكثر من ذلك وضع بشكل متوازن يجعل من الدولة تنظم الروابط الاجتماعية بين الأفراد والجماعات بما لا يتيح للحركات المتعصبة للدين أن تنخرط سياسيا بشكل يومي على المستوى الاجتماعي.
لقد كان لتجارب مثل عهد الأمان والمدرسة الصادقية... أثرها، وذلك بتشكل تجارب حقوقية مهمة بداخلها تعنى بحقوق الإنسان والمرأة على وجه الخصوص؛ فمثل هذه التجارب في تونس هي من جعلت المجتمع المدني التونسي يتربى على الديمقراطية والفكر العلماني، سواء سياسيا أو حقوقيا أو نقابيا...
لعل تجربة استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي خير دليل على هذه التجارب الاجتماعية المشبعة بالروح النقابية، حيث لم يكن للجيش التونسي دور كبير -كما كان للجيش المصري مثلا مع الضباط الأحرار أو الجيش العربي في تجربة البعث بسوريا والعراق- في الاستقلال؛ لأن الدبلوماسية والمجتمع المدني لعبا دورا حاسما في مسألة الاستقلال. ورغم أن فترة بورقيبة تميزت بعدم القطع النهائي مع المستعمر، إلا أنها لم تتح للمستعمر إمكانيات للتدخل في الشأن الداخلي التونسي. ما عزز من قوة الدولة وشخصيتها.
زيادة على ذلك، لا يمكن نفي أن بورقيبة احترم المسار التاريخي للعلمنة بتونس، وعزز دور المجتمع المدني وحقوق الإنسان، ولم يعتمد قط في سلطته على منهجية الاستقواء بالجيش.
لقد كون هذا المسار العلماني داخل المجتمع التونسي طبقة وسطى واسعة تؤمن بالديمقراطية، وهو ما صعب على حركة النهضة الإسلامي التي فازت بانتخابات ما بعد سقوط حكم بنعلي، أن تطبق فكرة أخونة الدولة ووضع الشريعة الإسلامية أساسا للحكم على المستوى الدستوري.
كما نلاحظ من خلال التجربة التونسية أن الرأي العام لم تخادعه شعارات الإخوان بالقضاء على الفساد وادعاء التقية السياسية وو.. -ما خدع الكثير من الرأي العام في الفضاءات الإسلامية الأخرى- بل بقي الشعب مستميتا إلى أن فرض الديمقراطية أمرا واقعا على النهضة، بما غير من السلوك السياسي لهذه الحركة.
إن التجربة التونسية بعد الربيع العربي على المستوى الديمقراطي تثبت أن هناك من الفضاءات الإسلامية من حافظ على الاستمرار التاريخي للعلمنة. وتعلمنا أن ما يعتبر في فضاءات إسلامية أخرى مستحيلا، فهو ممكن الحدوث إذا بنيت قواعده جيدا ووجد من يدافع عنه.
عود على بدأ
حاصل القول؛ إن مواجهة العلمانية من طرف الإسلام السياسي وعدم القبول بها داخل أغلب الفضاءات الإسلامية -خصوصا في المرحلة الممتدة بين سقوط الإمبراطورية العثمانية حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية- هو ما أدى إلى فشل ثورات الربيع العربي في الكثير من الفضاءات الإسلامية. ما ضيع على الشعوب العربية والإسلامية فرصة الانخراط التاريخي في الديمقراطية وحماية الدين من التدنيس والاستغلال السلطوي.
إن نجاح التجربة التونسية بعد الربيع العربي، لم يكن مشهدا نوعيا يعبر عن قطيعة مع ما سبق، بل هو نتيجة لسلسلة من العمليات المعلمنة للفضاءات الإسلامية عموما والفضاء التونسي، خصوصا منذ القرن 19 م حتى مرحلة بورقيبة.
لا يمكن للعلمانية أن تصبح نظاما للفضاءات الإسلامية، إذا لم يتم طرحها بشكل دقيق يفند كل ادعاءات الإسلام السياسي المشوهة لها. ولهذا، فالمعركة من أجل العلمانية بما هي إرساء لدعائم القانون والدولة المدنية وحماية العقيدة الدينية من الاستغلال السياسي، لا يمكنها أن تنجح إذا لم يوجد من يخوضها.
[1] محمد الشريف فرجاني، العلمنة والعلمانية في الفضاءات الإسلامية، دار التنوير للطباعة والنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2017، ص؛ 09
[2] لقد وجد الإخوان المسلمون في المرجعية الوهابية التي تبناها آل سعود إبان إنشاء حكمه نقطة التقاء مع الأطراف التي أسست للتباين مع نظام الحكم الجديد في تركيا.إلا أن هذا الارتباط بين الإخوان والوهابية ظل حذرا حتى فجره راشد الغنوشي الذي اعتبر الخميني أحد قادة الإسلام السياسي خصوصا بعض الثورة الإيرانية، وهو الأمر الذي لم تستسغه السلطات السعودية، مما أدى إلى تحول الحذر مباشرة إلى عداء سياسي بين الطرفين.
[3] نفسه، ص؛ 38
[4]* لعب مفهوم الكنيسة دورا محوريا في التحجج الإيجابي من عداء الإسلام السياسي للعلمانية، بل أكثر من ذلك لقد ساهم هذا المفهوم في حجب المفهوم الحقيقي للعلمانية عن الكثير من المفكرين العرب، مثل محمد عبده الذي ادعى أنه لا وجود لسلطة دينية في إسلام.وذلك لأن السلطة يمارسها دائما البشر وليس الله، ولأن ليس هناك ما يمثل الله في الفضاءات الإسلامية مثل مؤسسة الكنيسة في الغرب.لكن في أي سياق يمكن وضع سلطة الفقيه والمفتي وو....
[5] محمد الشريف فرجاني، العلمنة والعلمانية في الفضاءات الإسلامية، دار التنوير للطباعة والنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2017، ص؛ 43
[6] نفسه، ص؛ 48
[7] محمد الشريف فرجاني، العلمنة والعلمانية في الفضاءات الإسلامية، دار التنوير للطباعة والنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2017، ص؛ 69
** إلا أن هذا الأمر لم يوطن في دساتير البلاد الإسلامية شرقا وغربا في مرحلتي؛ ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى ومواجهة الاستعمار ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولعل سبب ذلك ليس تحكم الإسلام السياسي في المجتمعات، بل سببه إيجاد طرق ملموسة وفعالة اجتماعيا وسياسيا لمواجهة الاستعمار على أساس هوية مشتركة تميز العرب والمسلمين على الأتراك والغرب المسيحي، خصوصا وأن هذه المرحلة بالذات كانت تدار عن طريق العسكر وجنرالاته وبعد النخب التابعة له.
[8] وبالعموم؛ إن ما كان يجمع بين عرب المشرق في مواجهتهم للأتراك وسياستهم التتريكية هو العروبة، بينما استقر مواطنو شمال إفريقيا من عرب وبربر على الهوية الإسلامية كمبدأ لتمييز ذاتهم عن ذات المستعمر الفرنسي المسيحي.