قراءة في كتاب: "النّزعة الإنسانيّة في مؤلّفات ابن المقفّع" للدّكتور محمد فريد غازي
فئة : قراءات في كتب
يعتبر كتاب "النّزعة الإنسانيّة في مؤلّفات ابن المقفّع" للباحث التونسي محمد فريد غازي (1929-1962)[1] أنموذجا واضحاً للتجديد في مستوى التعامل مع النصوص الأدبيّة والحضاريّة؛ فقد انبرى صاحب هذا العمل ينقّب عن أسس ومناهج جديدة في التعامل مع الموروث الأدبي والديني والثقافي والحضاري العربي والإسلامي، إذ دفعته همّته إلى الاستعانة بعلوم أخرى في التعامل مع هذا التراث. وما من شكّ في أنّ ثقافته الثريّة المتنوعة ولغته المزدوجة ساعدتاه على أن يعوّل على مناهج البحث الغربيّة والاطلاع على البحوث العلميّة الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فاستفاد من فلاسفة عصر التنوير ومن النظريّات والمناهج الحديثة والمتطوّرة والحريصة على التجرّد والموضوعيّة[2]، ذلك أنّه حاول تجاوز النظرة التقليديّة في التعامل مع الظاهرة الدينيّة ومع التراث الأدبي والفكري العربي، بنظرة تنأى عن التمجيد والتقديس، وترنو إلى القراءة الرصينة المحكمة وإلى إخضاع الكتابة إلى محكّ النقد. لقد اعتمد مناهج تقوم على المقارنة واستفاد من علم التاريخ والاجتماع قصد الاهتمام بالمحيط الاجتماعي والسياسي والثقافي للشخصيّة المدروسة وبغية التعرف على العوامل المساهمة في تنشئتها والمؤثّرة فيها وما يحدوها من عزائم، وما يعتريها من مشاعر وتصوّرات، يقول المؤلّف: "وخرجنا في كلّ هذا عن السنّة الشرقيّة المألوفة المتمثّلة في إطراء كل مؤلّف مهما كان مغموراً أو متواضع الإنتاج، وهي سنّة لم تفض إلى حدّ الآن إلاّ إلى ركام من الأوهام ولم تسفر إلاّ عن نتائج مزيّفة ... واتبعنا في القسم الأوّل من الدراسة المناهج التي رسمتها اكتشافات الاستشراق المعاصرة فأفضت بنا إلى آفاق جديدة كانت مجهولة ... فأصبحت إعادة التفكير في الأدب أمراً ضروريّا، ولكنّ إعادة التفكير في الأدب تقتضي إعادة التفكير في الأطر التاريخية والاجتماعية البالية وإخضاعها إلى حتميّة تاريخيّة تنير جوانبها وهو تجديد حقيقي أنجزته الدراسات الاستشراقيّة ...".[3]
والكتاب في الأصل أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه عنوانها: "عبد الله بن المقفّع كاتب ذو نزعة إنسانيّة من القرن الثّاني الهجري/القرن الثّامن الميلادي" وقد أنجزها بإشراف الأستاذ ريجيس بلاشير، وناقشها الأديب محمد بن غازي بباريس سنة 1957، وهي أوّل دكتوراه دولة يتحصّل عليها تونسي. وقد صدر الكتاب في تونس سنة 2005 بعد أن عرّبه الأستاذ رشيد الغزي وراجعه وقدمه وحيّنه الأديب محمود طرشونة.[4]
ومن الضروري أن نشير في هذا المقام إلى أقسام هذا البحث العلمي الأكاديمي؛ فقد اشتمل كتاب غازي على ستّة أبواب: تحدّث في الأوّل منها عن "حياة ابن المقفّع وعصره"، فدرس طفولة ابن المقفّع في عهدي الدولتين الأمويّة والعبّاسيّة، وضبط خصائص البيئة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي عاش فيها وملامح طبقات المجتمع والنظام المالي للدولة.
واهتم في الثاني الموسوم بـ "ابن المقفّع كاتب دواوين" بثقافة ابن المقفّع وما ورثه من عادات وتقاليد إيرانيّة، وتحدّث عن طبقة الكُتّاب، ثم انشغل بالكشف عن خصائص شخصيّة حياة ابن المقفّع المنظّر السياسي والمصلح الاجتماعي، فقدّم مقترحاته الإصلاحيّة للمؤسّسات السياسيّة والماليّة والعسكريّة.
وانصرف في الباب الثالث إلى دراسة "ابن المقفّع أديبا ومفكراً"، فعرض أسلوبه في الكتابة وما احتواه أدبه من مثل إنسانيّة وتأنّق وظرف، وضبط تفكيره الديني، فلاح له شخصيّة مميّزة اعتنق عدّة مذاهب، وتأثر بعدّة تيّارات، وآمن بأنّ ما يجمع الأديان هو جملة من الأخلاق والمبادئ التي ينبغي على الإنسان أن يسلكها ويعمل بها، وقال بحرّيّة الاعتقاد وأنّ الإنسان مخيّر في أعماله، وبخضوع المرء لسلطة القضاء والقدر.
أمّا الباب الرابع، فقد خصّصه غازي لدراسة آثار ابن المقفّع والكشف عن أهمّيتها، ولإبراز دوره في تمازج الحضارتين الفارسيّة والعربيّة الإسلاميّة ونقل التراث الإيراني إلى العربيّة، فرأى فيه معلّما بارعاً ومربّيا فاضلاً.
ودرس في الباب الخامس تأثير كتب ابن المقفّع في الأدب الغربي والعربي وغير العربي، وكشف عن تنوع مصادر كتابه كليلة ودمنة وعن إشعاع الكتاب بين العرب وعند الأدباء الغربيين، ولاسيّما لافونتين "La Fontaine".
وعنون الباب السّادس بـ "الموضوعات والأنماط في "كليلة ودمنة ""، فحلّل مضمون الكتاب وخصائصه الأسلوبيّة والفنّيّة وكشف خصائص فنّ الحكاية عنده، فتبدّى ابن المقفّع رائد هذا الفن في الأوساط العربيّة، وسبب بروز فنّ النمنمات العربيّة الإسلاميّة.
ونخلص من خلال قراءة هذا الكتاب إلى أنّ محمد فريد غازي اهتمّ في هذا المؤلّف برصد ملامح شخصيّة ابن المقفّع قائداً فكريّا ومبدعا أدبيّا ومصلحا سياسيّا واجتماعيّا، وبيّن دوره الكبير في نقد مؤسّسة الحكم في الإسلام، وما قدّمه من أسس تقوم عليها الدولة الإسلاميّة في العهدين العبّاسي والأموي، ونقل من خلاله مظاهر الفساد المالي والإداري والسياسي في تلك الفترة، وعرض عقيدته الدينيّة، وعرّف بأهمّ كتبه فراح يمحصها ويفضح منهجه في التعامل مع العقائد والأديان، وكشف رغبته الجامحة في تأسيس دولة إسلاميّة تنهل من مقوّمات الحضارة الفارسيّة فتستفيد من مؤسّساتها الإداريّة والتنظيميّة. ومن الواضح من خلال مؤلّفات ابن المقفّع التي درسها غازي أنّ الرجل رسم مؤسّسة الخلافة، وتحدّث عن المؤسّسة العسكريّة، وأوجب الحياد عن الدين والسياسة. فهدف إلى نزع القداسة عن الإمام والسّلطان وإلى تكريم الإنسان.
ويلحظ المتّبع لكتاب غازي أنّ ابن المقفّع لم يتوان في نقد الفكر الخرافي والأسطوري الإسلامي، فحاول نزع الأسطرة عن شخصيّة النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلم، وعمل على نقد السيرة النبوية، فتطرّق إلى ما شابها من تهويل وغلوّ، فكان الرجل صاحب عقل ناقد، ومن أهل الجرأة والجسارة، ولم يخش قوّة السّلطان ولكنّه رمي بالزندقة والشعوبيّة، بيد أنّ غازي دافع عنه، وحاول ردّ هذه التّهم والشّبهات حول الرجل كاشفا تحامل أهل السنّة عليه.[5]
وتتجلّى النزعة الإنسانيّة في كتب ابن المقفّع في مناداته بضرورة احترام الإنسان وتقديره وتحقيق حرّيّته ونشر المساواة الاجتماعية بين جميع البشر، وإرساء قيم العدالة داخل المجتمع مهما تعدّدت معتقداته وأجناسه وتفاوتت فئاته الاجتماعية، وحاول أن يتّبع مبادئ أخلاقيّة مشتركة بين جميع الأديان، نادى بالرّأي والاجتهاد وباستقلاليّة القضاء، فضمّه إلى أتباع مدرسة أهل الرأي بالعراق. وقد سبر ابن المقفّع عصره فرأى أهمّيّة البذل والاجتهاد حتّى يتمكّن الإنسان من أن يتطوّر ويحقّق السّعادة ويحسّن معيشته[6]. والإنسان في تقديره، يعيش بين حرّيّة الإرادة وقدر الله وقضائه، فلا مناص من اعتماد العقل ملاذاً لبلوغ المآرب والأحلام وتجاوز الجهل وتخطّي سبل السلام،[7]مما حدا بفريد غازي إلى اعتباره لائكيّاً، واللاّئكيّة تيّار فكري يدعو إلى حرّيّة الاعتقاد والفكر، ويقوم على مبدإ فصل الدّين عن الدّولة وعلمنتها قصد تحقيق استقلاليّة الدّولة والأمّة عن المسلّمات الغيبيّة، فتعتبر أنّ الإنسان هو المسؤول الأوّل أمام مصيره، وأنّ التديّن أمر يهمّ الحرّيّة الشخصيّة.[8]
أثبت غازي إثر تمحيصه لمؤلّفات ابن المقفّع أنّ هذا الأديب سبق عصره[9]؛ فقد ماثلت أفكاره السّياسيّة والأدبيّة أفكار فلاسفة التّنوير وزعماء الفكر والأدب الغربيّين المحدثين. انبرى بعزيمة شديدة في إرساء أسس التغير، واندفع اندفاعاً لا حدود له في البحث عن الحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة، ديدنه نقد الموجود وتغييره وتحقيق الانفتاح الحضاري، رام فصل السّلط لتحقيق الحرّية ومقاومة الاستبداد وبات صاحب نزعة ثوريّة، وتفكير إنسانيّ عميق، ولذلك لا يستبعد غازي أنه ظُلم وقتل لأجل هذه الأسباب.
إنّ مردّ إعجاب صاحب هذا المؤلف بفكر ابن المقفّع، يتلخّص في تعويله على روافد دينيّة وثقافيّة وحضاريّة مختلفة فضلاً عن تقديسه لسلطان العقل ولقيمة الحرّيّة، ولما ألفاه في كتاباته من انصهار لافت للنظر بين العقلانيّة الإيرانيّة والحكمة العربيّة، وما لقيه في آثاره من ملامح إنسانيّة راقية وبراعة فنّيّة عالية.
[1] محمد فريد غازي: كاتب وناقد وأستاذ جامعي تونسي، كتب الرّواية والقصّة والشّعر والمقالة باللّغتين العربيّة والفرنسيّة.
[2] استفاد غازي من نصائح شارل بلا Charles Pellat وريجيس بلاشير Régis Blmachère ووليام مارسي William Marcais هنري كوربان Henri Corbin وهنري لاووستLaous Henri وكتاباتهم وبحوثهم: راجع النّزعة الإنسانيّة في مؤلّفات ابن المقفّع ص32
[3] انظر: محمد فريد غازي، النّزعة الإنسانية في مؤلّفات ابن المقفّع، تعريب رشيد ثابت، مراجعة وتقديم وتحيين محمود طرشونة، نشر اللّجنة الثقافيّة بجربة وبلديّة جربة حومة السّوق، ط 1، 2005، مقدّمة المؤلف، ص ص 20-21
[4] النّزعة الإنسانيّة في مؤلّفات ابن المقفّع، ص7، وانظر: فوزي الزمرلي، محمد ابن غازي (فريد غازي) حياته، آثاره: (مؤلّف جماعي: أعمال الملتقى الأوّل، جربة، 5-6-7شتنبر1987)، تونس، دار صامد، ط 1، 1990، ص ص 7- 26
[5] النزعة الإنسانيّة في مؤلّفات ابن المقفّع، ص ص 245و287- 289. و297-299
[6] النّزعة الإنسانيّة في مؤلّفات ابن المقفّع، ص ص 324-327
[7] النزعة الإنسانيّة في مؤلّفات ابن المقفّع، ص ص 493-593
[8] فتحي القاسمي، العلمانيّة وانتشارها غربا وشرقا، الدّار التونسيّة للنّشر، سلسلة موافقات، 1994، ص ص60- 90. وانظر: النّزعة الإنسانيّة في مؤلّفات ابن المقفّع، ص ص 220-224
[9] النزعة الإنسانيّة في مؤلّفات ابن المقفّع، ص 690