"تزيفتان تودوروف - تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية"
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب "تزيفتان تودوروف - تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية"
1ـ تزيفتان تودوروف أو الموسوعية المغامرة:
إنّ موسوعية تودوروف المشرئبة نحو الكتابة في كل المواضيع، وبالنفس الطويل ذاته، والشديد العمق، فمرة في السياسة، ومرة في الحضارة وتاريخها، وأخرى في نقد الايديولوجيات، ناهيك عن درس الأخلاق والقيم، وقبل ذلك عن النقد الأدبي وتاريخ السرديات، والصراعات الدولية، موسوعية تدعونا بشكل ملح إلى أن نرجع إلى ماضيه وسيرته الحياتية الغنية والدائمة الترحال بين الدول والتيمات والمفاهيم، ولو بشكل مختصر علّنا نفهم سر الغنى الذي تحظى به كتابات تزيفتان، والرحابة التي وسم بها مع إنتاجاته الغزيرة الدالة على كرم في التأليف، وترف وثراء في معالجة قضايا بشرية بالغة الدقة والحدة.
ولد تزفيتان تودوروف سنة 1939 بصوفيا في بلغاريا، في بيت تسوده الثقافة، وغارق حد الإيغال في الكتب، يقول عن طفولته: "أراني تحيط بي الكتب، كان والداي يمارسان مهنة قيم المكتبة، وفي البيت كثرة مفرطة من الكتب. كانا يضعان باستمرار تصاميم جديدة لاستيعابها، وأثناء ذلك تتراكم الكتب في الغرف والممرات مشكلة أكداسا هشة يلزمني أن أحبو وسطها، تعلمت سريعًا القراءة وأخذت في التهام القصص الكلاسيكية (...)، ألف ليلة وليلة (...) ذات يوم في سن الثامنة قرأت رواية بأكملها، لا شك أنّني كنت شديد الفخر بذلك، لأنّني كتبت في يومياتي الخاصة: اليوم قرأت على ركبتي جدي، كتابا من 223 صفحة، في ساعة ونصف!"[1]، ليحاول سريعًا نظم قصائد اعتبرها رديئة، ومسرحيات في ثلاثة فصول، وليشرع في كتابة روايات لم يتخط فيها الصفحة الأولى، وليقرر بعد ذلك دراسة الآداب في جامعة صوفيا سنة 1956، وسط أجوائها الشيوعية التي جعلت الأدب والمعرفة في قبضة الأيديولوجيا الرسمية وأداة تحت تصرف مصالحها.
لكن سرعان ما ضاقت بأديبنا بلاده الشيوعية جدًّا، ليجد نفسه ذات يوم من أيام ماي 1963 في السوربون، وهو في عمر الرابعة والعشرين، بفرنسيته المتعثرة ورغبته في تعلم كل ما يجده أمامه وقراءته، ليلتقي هناك برفيقي دربه رولان بارت كبير البنيوية وإمامها، وليوطد صداقته العميقة بجيرار جينت الذي سيؤسس معه مجلة "الشعرية"، حيث سيحدد معه المفاهيم الأساسية للسرديات. وفي سنة 1972 سينشر "المعجم الموسوعي لعلم اللغة" الذي سيقدمه للعالم اسمًا لا غنى عنه في دراسة نظريات الأدب، ومع تكرر زيارته وجولاته إلى المكسيك، بدأ عند تودوروف اهتمام بالغ بسكان أمريكا الأصليين، وبحملات الغزو الإسباني للسواحل الأمريكية، وبدأ معهما هاجس البحث وهوسه عن التاريخ من خلال رؤية أخلاقية، للبحث عن جذور الشر في العالم وفي الإنسان، ولأجل البحث عن أدوية ضد الشوفينية القاتلة، ومعها وصف العلاجات ضد الخوف المشرئب الرأس من المرجعيات المتطرفة والمجنونة، لتتوالى كتاباته عن الآخر، والتي تظهر نبل تودوروف وكرمه الإنساني الذي عبر عنه بجلاء في كتاباته هذه، وحواراته التي ينتقد فيها الغرب، بل والعالم أجمع في خطاباتهم المنافقة عن الديمقراطية والتضامن الكوني والتحاور البشري، والسلم العالمي، منتقدا وبكثير من القسوة والصرامة جرائم الجيش الأمريكي، وغزواته للعراق وأفغانستان، وليؤكد لنا عبر أعماله كلها ضرورة خلق الجسور بين الشعوب، كما بين سائر الحقول المعرفية، بدل هدمها وإدانتها. والبحث عن المشترك الإنساني بدل إقامة الأسوار والحصون بين حضارات بني البشر، الحصون المرسخة لفكرة الخوف من الآخر، هذا الخوف الذي يوشك أن يجعلنا برابرة لاعتقادنا أنّ الآخرين هم أيضا برابرة، لذا فقد أتت عناوين أعماله ضاجة ومحتفية بقيم الحب واحترام الآخر وبضرورة التعدد من قبيل: حول التنوع الإنساني"، و"الحديقة المنقوصة تركة الإنسانية"، و"الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات"، و"أعداء الديمقراطية الحميمون"، و"الفوضى العالمية الجديدة تأملات مواطن أوربي" و"الأديان القاتلة"، وغيرها من المؤلفات التي تؤكد أنّ الحضارة هي تراث بشري مشترك يخص الإنسان حيثما وجد.
2- بين يدي الكتاب:
صدر كتاب "تزيفتان تودوروف: "تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية"" هديةً للعدد 82 من مجلة الدوحة القطرية، لشهر أغسطس 2014، بترجمة جميلة ورشيقة لمحمد الجرطي، جمع فيها قراءات صحفيين لكتب تزيفتان، ومقالات للكاتب نفسه، وحوارات له مع مجلات وجرائد فرنسية، ليأتي الكتاب مقسمًا بحسب أبواب ثلاثة، موزعة على 171 صفحة، وهي عدد صفحات الكتاب، لتوضع على صفحته الرئيسية صورة لتودوروف، وهو يتصفح كتاب رومان غاري في دلالة موغلة في إيحاءاتها على التعدد والاختلاف الذي مثله هذا الكاتب الغريب الذي فاز بجائزة "الغونكر" الأدبية لمرتين مرة باسمه ومرة باسم مستعار هو"إميل آجار". وقد اخترقت هذا الكتاب موضوعات أساسية: هي العنصرية، صراع الحضارات، الهيمنة الأمريكية وإشكالات الهوية والعنصرية والمخاطر المهددة لمستقبل الديمقراطية وعلاقة الغرب بالإسلام.
3- العنصرية ورم البشرية الذي لم يستأصل بعد:
لا شك في أنّ أشد مفكري فرنسا احترامًا[2] لا يتورعون ولا يتأخرون عن اعتبار العنصرية جريمة ضد الإنسان وضد تاريخه، إذ يرتفع بها إلى مقام الممارسات الأكثر هولًا، ونفيًا لحقيقة الإنسان باعتباره إنسانًا، فالناس جميعا متساوون بحسبه، ولا داعي لأن يعتبر بعضهم نفسه التجسيد الحقيقي والمنطلق للفضيلة والعلم والإنسانية، وأن يكف أيضا عن تعاليه الذي يجعله يزدري الآخرين وينتقصهم. ففي ذاك الازدراء نفسه، يكمن إسفاف المتعالي بنفسه، من خلال طمسه لفضائل الآخرين.
يضعنا تودوروف أمام خيار لا ثاني له، وهو يتمثل في أنّه ليس هناك حل لصراعات أطراف مجتمع ما غير التعايش، فسائر المجتمعات متعددة، ولا وجود لمجتمع متجانس تمامًا، بل كل المجتمعات هي خلاسية هجينة كما ثقافاتها المتمايزة والمختلفة ذات الأصول البعيدة والقريبة.
لهذا يحاول تودوروف إقناع البلاد المستقبلة بأنّ أمر الهجرة لا يدعو إلى الخوف، مادامت الهجرة تمثل غنيمة عند أوربا التي ما تزال تستفيد من فضائلها، فإلى جانب كونها تستفيد من إقبال المهاجرين على ممارسة مهن يأنف منها سكان أوربا الأصليين، إلى جانب إقبالهم على العمل بأجور زهيدة بالمقارنة مع غيرهم، فإنّهم يضخون في روح أوربا طموحًا ودينامية تؤجل شيخوخة دولها وتؤخر انهيارها، فككل الوافدين يمتاز المهاجرون بحسب تودوروف بروح المبادرة والقدرة على الابتكار، لهذا يدعو فيلسوفنا البلغاري السياسيين والمجتمعات المستقبلة إلى ضرورة احتضان المهاجر لا الحذر منه، ما دام ملتزمًا بالانخراط في العقد الاجتماعي، باعتباره قاعدةً أساسيةً تحدد عمل الجميع، منبهًا على أنّ مهمة البلاد المستقبلة ليست ممارسة الرقابة على الهوية الوطنية والإدماج الكلي للمهاجرين، بل تركهم ينضمون طوعًا لجوقة الأصوات المتعددة والمشكلة لسمفونية ثقافة البلد. وإنّما يجب اللجوء إلى آليات الديمقراطية للحكم على العادات الأجنبية التي تنتهك القانون وتشيع اللاأمن، من قبيل طقوس الزواج التي يتم فيها فرض الزوج بقوة ودن رضا الزوجة ومن قبيل جرائم الشرف عندما يعمد الأب والإخوة لحبس بناتهم وتعنيفهن بقسوة[3].
إنّ سعي تودوروف الحثيث نحو بناء مجتمع صحي وسليم، جعله يتخذ موقفه الرافض للعنصرية والمشجع على القضاء عليها بشكل نهائي من تراب المجتمعات التي تحترم نفسها، وتحترم مشاعر الإنسانية داخله، فسلوكنا اتجاه الآخر يجب أن يسعى نحو التوحيد لا التفرقة والعزل، وذلك انطلاقًا من استثمار أموال الدولة لأجل أن تكون هناك مدارس مفتوحة أمام الجميع ومستشفيات تضمن رعاية مختلف الأعراف والأجناس، وتوفر وسائل نقل يمكن للمرء الجلوس فيها حيثما يريد.
يستعين تودوروف لأجل رسمه لمجتمع ما بعد العنصرية بنماذج تاريخية وإثنولوجية مختلفة
و بفلاسفة مختلفي الانتماءات وبنماذج واقعية آنية، من أجل أن ينفي عن نفسه النظرة الحالمة الموغلة في الملائكية والطيبة، متهمًا في الوقت نفسه السياسات الاجتماعية الأوربية بكونها هي سبب الفشل في التعامل مع جحافل المهاجرين وجعلهم طبقات متكدسة من الفشل والذوات المهانة الفاقدة لأي اعتبار.
4- صدام الحضارات أو وهم الصراع:
تصدى تودوروف بحزم وجرأة لكتاب صدام الحضارات ولاستنتاجات صاحبه الحاسمة والمصنفة للشعوب وحضارات العالم وفق معيار ديني ضيق الأفق، يرسخ الخوف من الآخر ويوقظ هواجس الرعب والحذر منه، الشيء الذي يؤدي إلى تسليح الهويات وتجييش مشاعر البغض والكراهية، لتتمزق خرائط العالم إلى كيانات منغلقة وخنادق محصنة بعبوات وألغام تنفجر هنا وهناك، فيصبح البربري هو الذي لا يتكلم لغتي، أو الذي لا يصلي بصلاتي، أو الذي لا يفكر من خلال أفكاري، والذي لا يعيش وفق نمط حياتي ومقاسها.
تودوروف يحاول وسط كل هذا أن يكون صوت أوربا المعتدل، ونقطة توازن في الفكر الغربي، ليبشر بنبوءة الحرية واحترام الثقافات الأخرى والهوايات، التي تغني العالم وتزيد من ألوان لوحاته الثقافية. إنّه الصوت الحريص على تجاوز مقولة "صدام الحضارات" الهينتنغتونية، والاستعاضة عنها بضرورة فتح النقاش من جديد للبحث عن نموذج يضمن تنوع الخصائص الثقافية، ضمن نزعة كونية تضمن وتكفل الحق في الانتماء، دون صدم المشاعر لأجل أن تتخلص البشرية من آفات الصراع والصدام القاتلين، لذا فإنّه يسخر مواهبه عبر جل كتبه لإقناع الغرب، مفكرين وشعوبًا بالكف عن تغذية فكرة "الخوف من البرابرة المتخلفين" والتخندق داخل نزعة مانوية مقيتة.
إنّ صراع الحضارات عند تدوروف هو وهم كبير يتهدد الحضارات نفسها، حيث يضعها في وضع حرج قد يجني على الإنسان، ويتجنى على مستقبله وماضيه؛ فالقول بصراع الحضارات هو صنع للكراهية التي تجعل الوضع الدولي عند تودوروف عبارة عن مجموعة من المعارك ضد أعداء وهميين، وعند استكمال لحظات النشوة بعد الانتصار عليهم أو بالأحرى القضاء عليهم، تدفعنا نظرية الصراع الدائم إلى البحث عن مرشح جديد كفيل بلعب الدور نفسه، وهذا ما يؤكده مستشار الثقافة الحربية الأمريكية هنتنغتون بقولته: "الكراهية جزء من إنسانية الإنسان. لتحديد هويتنا وإذكاء مشاعرنا، سنكون في حاجة إلى أعداء".
يصف تودوروف مشاعر العالم من الصراعات القطبية المتوالية: بأن العالم والعالمين سئموا جميعا مشاع الخطر المحدق بهم جراء سياسة اختيار العدو الموالي: فبعد أن تنفس العالم الصعداء مع انهيار جدار برلين، ونهاية ما سمي بالحرب الباردة، ها هو السلم العالمي يتآكل من جديد مع نظرية صراع الحضارات، هذه الحضارات التي يحاول أن يعيد تودوروف تركيبها بصيغة المفرد، ما دامت في صيغتها هذه تتعارض مع البربرية؛ لأنّ جوهر مفهوم الحضارة هو الاعتراف بالإنسانية الكاملة وبالتعدد الثقافي للآخرين؛ فالحضارة قائمة إجمالاً على الانفتاح لا على الانكفاء والتقوقع، ومفهوم "صراع الحضارات" هو مفهوم قبل كل شيء قابل للنقد والتفكيك والدحض، إذا الصدام لا يحدث بين الحضارات، بل بين دول ومجموعات من الدول الأخرى التي يضج بها العالم اليوم، ولا يمكن مهما جاهد البعض، ليوهمنا بأنّ هذه الصراعات دينية فالحق أنّها صراعات سياسية، وليس ثمة وجود لمشاكل مع الإسلام، بل هناك فقط وجود لمشاكل مع عدد من البلدان، وليس مع كل البلاد الإسلامية[4].
5- هوية أم هويات؟
يقدم تودوروف النموذج الأوربي بوصفه نموذجًا عالميًّا لمعالجة إشكالية الهوية، حيث أنّه النموذج الذي جعل من الاعتراف بالغيريات، وجعل من التعددية سمة ملازمة لهويته، فلا يكون التنوع عائقًا أمام التعايش ما دامت الحياة المشتركة تنتظم ضمن مبادئ المساواة والعدالة، هذا دون أن يلزم الجميع والعالم ليقتدوا بأوربا أي أن ينخرطوا في عملية تأورب (européanisation) واسعة، هذا دون أن ننسى تنبيهه لأوربا بألا تغوص في نزعتها الملائكية بأن تبتعد بذهنها بعيدًا عن احتمال قيام صراعات مسلحة يومًا ما[5].
إنّ الخيار الذي يجب أن تسير ضمنه الهوية هو الانفتاح على باقي الهويات؛ فالانغلاق والتقوقع وانكفاء الذات على ذاتها والاحتماء بأسوار الثقافات الوطنية أمر يضر بالهوية نفسها، ويجعلها موطناً لعيوب كثيرة، أهمها أنّ الانغلاق يقف حاجزًا أمام تنميتها وتخصيبها من الداخل فلا إسهامات ولا تأثيرات، لذا ينتقد تودوروف بشكل صارم الخيارات السياسية الملتزمة والراكبة على حصان الحفاظ على الخصوصية، فيعتبر خيار نيكولا ساركوزي مثلا الهادف لإنشاء وزارة للهوية الوطنية خيارًا شعبويًّا مشكوكًا في مصداقيته[6]، معيبًا عليه تغاضيه عن حركة الأشياء وتنوعها، فالهوية الفرنسية ليست مقتصرة ومحصورة على نفسها على الدوام، فالتوق إلى ثقافة أخرى انطلاقًا من الهوية الذاتية هو الشرط الضروري لتأليف شخصية إنسانية متكاملة وعالمية.
إنّ معالجة مسألة الهوية يقودنا مع تودوروف إلى وضع حلول جذرية لمسألة الصراع التي تقض مضجع السلم العالمي، فتعقيد مسألة الهويات، واللعب على شعارات الخصوصية والهوية الوطنية بشكل تبسيطي هو درع القائلين بنظرية صراع الحضارات، والمؤسس للسياسات العالمية المؤسسة على أساطير ضاربة في المانوية القائمة هي الأخرى على نزوعات الصراع بين الخير والشر، بين الحضارة والبربرية، وبين محبي الحياة ودعاة الموت، هذه النزعة التي تقود الدول الأقوى إلى أن تعيش تحت رحمة الخوف من كل شيء، ومن الآخرين أيضا وفق ما يؤكده المحلل الأمريكي فريد زكريا في كتابه "عالم بعد أمريكا"[7].
يتحدى تودوروف أن تكون هناك هوية تملك ثقافة واحدة، بل ليس هناك غير هويات متعددة قادرة على الاندماج أو الظهور في شكل مجموعات متقاطعة[8]، فأصل ثقافة ما غالبًا ودومًا ما يكون حاضرًا في ثقافات سابقة، إمّا من خلال التلاقي بثقافة ذات أبعاد متناهية الصغر، أو عند تفكك ثقافة أكثر انتشارًا أو في التفاعل مع ثقافة مجاورة[9]، إنّها الهوية المتعددة والمتنوعة الهويات، لهذا فالهويات مكتوب عليها التغير والتجدد الدائم، فالهوية الثقافية التي لا تتغير هي على وجه الدقة والتحديد هوية وثقافة ميتة، والحديث عن وجود ثقافة وطنية خالصة ومتجانسة هو حديث خرافة، والبحث عن هوية وطنية صافية هو بحث لا جدوى منه، لهذا فتودوروف ينتقد أي محاولات لإدماج الجميع داخل هوية محددة، ما دامت الهوية الفرنسية مثلاً لا حصرًا متكونة من تقاليد متعددة، بل ومتناقضة، وهي دومًا في حالة من التحول المستمر، بسبب نوافذ أفواج المهاجرين الآتين من هنا وهناك.
6- الإسلام والتبرئة الجميلة:
تعدّ مواقف تودوروف من الإسلام والمسلمين على العموم معتدلة جدًّا، وقريبة جدًّا من الموضوعية، وأشدّ قربًا من النبل بالمقارنة مع مواقف عدد من مفكري الغرب، أظهرتها بشكل جلي مواقفه من الرسوم الكاريكاتورية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلمة البابا في راتيسبون، حيث ثار تودوروف على ما وصفه بـــــ"خطف التنوير" من قبل "المدافعين المحافظين في الثقافة الغربية السامية"[10]، ويزداد موقفه وضوحاً حين وقوفه ضد التدخل الأمريكي الغربي في العالم الإسلامي والمنبني على ذرائع ثملة بالالتباس والغموض، والعلل المشبوهة معتبرًا أنّ الحل ليس في الضربات العسكرية التي تعرّض المثل العليا التي يدافع عنها الغرب إلى الكثير من النقد، حيث تصير قيم الحرية المسماة حقوق الإنسان تمويهًا مفضوحًا لبسط السيطرة الغربية على العالم.
ويسعى تودوروف من هنا في كثير من كتاباته إلى تخليص الإسلام من تهمة الإرهاب، إذ يرهن نجاح العالم في محاربة الإرهاب بفصله له (الإرهاب) عن الدين الإسلامي، وبدل إلصاقه لتهم الإرهاب به يجب البحث عن جذور الإرهاب المذلة والمهينة التي تمس شريحة كبيرة من سكان العالم[11]، واعتباره بأنّ العجز عن التمييز بين الإسلام والإسلام المتطرف، والإسلام المتطرف والإرهاب هو الذي يقود بعض الدول إلى الحلول السهلة، وهي استخدام القوة ردةَ فعل على البربرية المزعومة. ويرمي باللائمة على الولايات المتحدة معتبرًا طريقتها في معالجة الإرهاب العالمي غير جيدة، وغير مثالية، فهمجية تدخلاتها لأجل إخضاع الآخرين غالبًا ما تثير مشاعر الكراهية ضدها، مما يولد لدى الشعوب على الرغم عنها مواقف الانتقام والتوحش في ردات الفعل، لينقسم بذلك العالم إلى دول خائفة وهي العالم الغربي، ودول هي مصدر خوف الدول الخائفة المتمثلة في الدول العربية المسلمة.
إنّ العلاقة بين الغرب والشرق، بين ورثة المسيحية والعالم الإسلامي لن تنمحي من الوجود، لهذا يقول تودوروف، إنّه يجب حل قضايا الشعوب المسلمة الأكثر بروزًا وجذباً للأنظار ومعالجتها، وهي القضايا التي يبقى الغرب مسؤولاً عنها نظرًا إلى ماضيه الاستعماري مع هذه الشعوب وطمعه الآني في خيرات المنطقة، فمعالجتها هي طريق لأن تهتم هذه الشعوب وتلتفت لمشاكلها الداخلية التي هي بدورها علل أساسية وراء خيبات الإنسان المسلم وإخفاقاته.
في مقال له عنوانه: "التخلص من الأعداء" في الكتاب نفسه موضوع قراءتنا يشرح تودوروف بكثير من العمق خطابات اليمين المتطرف والدوائر السياسية والفكرية في الغرب المتهمة للإسلام بالفاشية، معتمدة على نماذج منظمات دولية كالقاعدة، والمهاجرين المسلمين في الدول الأوربية وخطرهم الذي تضخمه الآلة الإعلامية بأنّه اتهام من صيغة الاتهامات التي كانت تزود بها الأنظمة الاستعمارية شعوبها للتغطية على فشلها، فحتى الشعوب التي تعيش في حالة السلم، يكون فشل الحكومات مستعدًّا، لأن يعزى ويلصق بأعداء خارجيين، وإلى جحافل من الأوباش والبرابرة، والمخبرين والجواسيس المستعدين لوأد مشروع هذه الأنظمة، وكردة فعل على محاولات ذاك العدو تكون مشاريع الأنظمة لإحباط مشاريع العدو البربري بعمل مضاد لأجل تدمير قواه وشل حركته وتجفيف منابع دعمه، فيصبح القتل واجبًا أخلاقيًّا لا جريمة، ويصبح ممثلو الإسلامية الراديكالية هدفًا مؤهلاً ومرشحًا رئيسًا وجديدًا للعب دور العدو لبعض الأنظمة الغربية التي قسمت العالم إلى "نحن" و"هم"، فيحدث الصراع المنتظر بين أطراف حليفة، ومن طرف حلف الأعداء، فيأخذ الإنسان في تصوير لوحته الوحشية ويصوغ بمداد من دم وألم تاريخه، وتجد بالتالي الاعتداءات الإرهابية للتنظيمات المتطرفة تبريراتها المضفية لشرعية تفجيراتها في التعذيب الممنهج في سجن "أبو غريب" ومعسكر غوانتانامو وأحداث أخرى يكون العالم الإسلامي غالبًا هو ركحها الذي تدور عليه جل سيناريوهاتها العنيفة والمغرقة في الدموية والقتل، إمّا بدعوى رد الفعل أو بدعوى الحرب الوقائية.
7- الديمقراطية وأعداؤها الحميمون:
يساهم تودوروف بشكل جريء في إعادة التفكير في الديمقراطية، وذلك عن طريق إعادة النظر في الاستخدامات النظرية للديمقراطية، برصده لانحرافاتها وانزياحاتها المرضية التي جعلته يؤكد أنّها أمست تحتضر أو بالأحرى كونها على سرير المرض، فواقعها في دولة كالولايات المتحدة، أضحى مشبوهًا ومحل شكوك وتساؤلات جمة، مفترضًا أنّ الديمقراطية الغربية لم يعد لها أعداء يهددونها من الخارج، كما كان الأمر في عهد النظريات الكلنيانية، ولكن أمسى لها أعداؤها من داخلها، حيث يصفهم تودوروف "بالأعداء الحميميين" أو "الأبناء غير الشرعيين"، مما جعل الحديث عن نهاية الديمقراطية أو التكلم عن طريقها نحو الزوال أمرًا لا مفرّ منه خاصة مع فقدها لفاعليتها وشرعيتها مع العديد من التجارب في دول الشمال وكذا دول الجنوب.
ينظر تودوروف إلى حال الديمقراطية الآن باستياء كبير، حيث أنّها أصبحت لديه عبارة عن نظام منفصل، وأمسى حالها مؤسفًا للغاية من حيث قابليتها للذوبان في نزعة تسلطية جامحة تقدم السلطة السياسية مظاهر متعددة لها، لذا يتساءل ما جدوى الديمقراطية إذا لم تعد قادرة على تدعيم الأنظمة التي تحكمها المبادئ الدستورية للحرية واستقلال السلطة؟[12].
إنّ الديمقراطية أصبحت عند تودوروف لعبة بيد الداعين لها وأصبحت غطاء لجرائم دولية، لقد تحولت إلى قناع لارتكاب أفعال شريرة باسمها، في الوقت الذي يفرغها البعض من حقيقتها ويختزلها في الفعل الانتخابي ورفض سائر فضائلها الأخرى كالتعدد وفصل المؤسسات، وهو ما يجعله يحذر وبكثير من القلق والخوف، من استغلال الديمقراطية بشكل منحرف وقاتل، من خلال العمل على استشارة الشعب الذي بدونه لا إمكان ولا مجال للبحث عن الديمقراطية، حيث يمكن الهيمنة على رأيه والسيطرة عليه إعلاميًّا بشكل فج وفض للغاية، ومن تم توجيهه بحسب إرادة اللاعبين السياسيين، حيث يدفع بالجماهير إلى اتخاذ القرار تحت ضغط التأثير في عواطفهم وأهوائهم، بعيدًا عن كل تفكير عقلاني[13].
هكذا يبرز وجه تزيفتان الحقيقي، باعتباره ذاك البلغاري المتعدد والمضياف الذي اختار الابتعاد عن وطنه الضيق الأفق بشوفينية الأيديولوجيات المقيتة، متوجهًا إلى بلاد الأنوار، وفضل الانتقال من عوالم النقد الأدبي إلى عوالم أخرى أحسن فيها الكتابة، وأجاد التحدث باسم أسئلتها الحارقة، دون مواربة ولا مخاتلة، في سعي متواصل وجريء منه إلى رفع الاحتقان والتوتر الذي أمسى يخنق رئة العالم ويكبد إنسانية الكائن البشري خسائر كبرى، سيتضرر منها التاريخ وستضيع معها حقيقة الكائن البشري.
[1] تزفتان تودوروف، الأدب في خطر، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، الطبعة الأولى 2007، ص 5
[2] صاحب هذا الوصف عن تودوروف هو باسكال بونيفاس صاحب كتاب "المثقفون المزيفون" الذي رفض 14 ناشراً فرنسيًّا نشر مخطوط هذا الكتاب عن بعض مثقفي فرنسا من هؤلاء الذين يكذبون بوعي على الجمهور العريض، ويظلّون مع ذلك نجوم وسائل الإعلام. تحت حجّة هؤلاء الناشرين من كونهم لا يريدون "إثارة غضب بعض الأقوياء في أوساط النشر والإعلام الفرنسي".
[3] ينظر تزيفتان تودوروف، التعايش مع ثقافات مختلفة، ضمن تزيفتان تودوروف: تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية، ترجمة محمد الجرطي، ع 82، 2014، الدوحة، ص 81
[4] ينظر تودوروف، ليس ثمة وجود لصراعات حضارية، ضمن تزيفتان تودوروف: تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية، ص 148
[5] ينظر باستيان انجلبيش، دفاعًا عن الحضارة، ضمن تزيفتان تودوروف تأملات في الحضارة، ص 24
[6] نفسه، ص 21
[7] ينظر هل ثمة وجود لبرابرة متخلفين، ضمن تزيفتان تودوروف، تأملات في الحضارة، ص 25
[8] تودوروف، التعايش مع ثقافات مختلفة، ضمن تزيفتان تودوروف تأملات في الحضارة، ص 73
[9] نفسه، ص 73
[10] ينظر تزيفتان تودوروف: سميولوجي، مؤرخ وفيلسوف، ص 17
[11] ينظر باستيان انجلبيش، دفاعا عن الحضارة، ضمن تزيفتان تودوروف تأملات في الحضارة، ص 23
[12] باتريس موند ونغامويتي أعداء الديمقراطية الحميمون، ص 49
[13] تودوروف، ديمقراطية تفرز بنفسها أعداءها، ص 124