قراءة في كتاب قرنفل حسن، ديمقراطية على المقاس
فئة : قراءات في كتب
مدخـــل
من بين المراحل التي استدرت بغزارة مداد أقلام العديد من الباحثين المنتمين إلى حقول متنوعة، وعلى رأسهم المشتغلون في العلوم السياسية والقانون الدستوري وبشكل أقل الباحثون في السوسيولوجيا والأنثربولوجيا، تلك التي عرف فيها المغرب مخاضا عسيرا مع مطلع التسعينيات، والذي توجب التناوب التوافقي (حكومة عبد الرحمان اليوسفي: 1998-2002). ففي سياق تاريخي تميز بهامش "انفتاح سياسي" عناوينه الكبرى "التراضي" و"التوافق" و"الانتقال الديمقراطي"...، وذلك استجابة لمجموعة من التحولات الخارجية (انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، تصاعد موجة العولمة...) والداخلية، الناتجة أساسا عن احتداد الأزمة الاجتماعية، بفعل تبعات سياسة التقويم الهيكلي وظهور مطالب اجتماعية جديدة. وقد ساهمت انتفاضة 14 دجنبر 1990، التي تعتبر المحطة الأخيرة في مسار العنف السياسي والعنف السياسي المضاد، الذي عرفه المغرب على مدى ما ينيف عن الثلاثة عقود، في إذكاء الوعي بضرورة إطلاق دينامية جديدة توجت بتجربة التناوب وإشراك الأحزاب التي كانت محسوبة على المعارضة آنذاك في تدبير السياسات العمومية، وهي التجربة التي لا زالت تطرح العديد من الأسئلة بخصوص تقييم مكاسبها وإنجازاتها.
يروم عمل حسن قرنفل[1]، الذي يندرج ضمن مشروع بحثي متواصل الحلقات حول إنتاج وإعادة إنتاج النخب السياسية والاقتصادية بالمغرب المعاصر، والذي دشنه بأطروحة لنيل دكتوراه السلك الثالث[2]، المساهمة في التحليل السوسيولوجي لآليات وسيرورات إنتاج النخبة السياسية خلال المرحلة الآنفة الذكر؛ عبر الاشتغال على محطة أساسية: الانتخابات التي نظمت في بداية التسعينيات (الجماعية: 1992 والتشريعية وانتخابات الغرف المهنية: 1993). وهو ما يطرح العديد من الأسئلة بخصوص طبيعة الإسهام والإضافة النوعية لمشروع المؤلف، من جهة، ولرصيد سوسيولوجيا المغرب وللمقاربة العلمية لآليات إنتاج النخب بالمقارنة مع إسهامات الباحثين في العلوم السياسية، من جهة أخرى؛ كما يطرح العديد من الأسئلة بخصوص مسألتي الصلاحية والراهنية واللتين تحيلان على إشكالات تثيرها طبيعة العمل– الذي يصنف في خانة السوسيولوجيا السياسية- بما أن مادته ومعطياته تعود بنا إلى ما ينيف على العشرين سنة.
محتويات الكتاب
بصدد تحليل آليات وسيرورات إعادة إنتاج النخبة بالمغرب حرص المؤلف على تفكيك إواليات ومنطقيات اشتغال النسق الاجتماعي برمته، وضمنه النسق الفرعي السياسي، امتثالا لنهج توليفي يجمع التحليل الوظيفي والبنيوي والنسقي. ذلك ما مكنه من بلورة تحليلات متعددة الأبعاد ليصهرها في بوتقة العلاقة الجدلية بين السلطة والمجتمع متجنبا بذلك السقوط في شرك الاختزال؛ أي الاقتصار على دراسة آليات اشتغال السلطة أو الدولة أو المؤسسة الحزبية. فبالإضافة إلى كل هذا، انصب عمل قرنفل على دراسة آليات اشتغال "نظام" الأعيان وبنيات الأحزاب ومقومات الثقافة السياسية، بغاية تشريح نسق سياسي يوحي بكونه مفتوحا والحال أنه غير ذلك. فهو لا يتيح الفرص لدوران النخب بقدر ما يعمل على إنتاجها وإعادة إنتاجها وفق شروط ومحددات وقواعد لعبة مرسومة سلفا، ويحرص على "تعددية تحث المراقبة"، إذا جاز لنا استعمال عبارة جان كلود سانتوشي[3]، بما لا يحيد عن منطق الإجماع كما يهندسه النظام السياسي المغربي.
لقد شكلت بداية عقد التسعينيات منعطفا في مسار علاقة الدولة بالأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية. ففي تلك الفترة تعزز الخطاب السياسي بترسانة مفاهيمية -من قبيل "الحوار" و"التوافق" و"التراضي"- واضعا بذلك أسس ثقافة سياسية جديدة تروم التهييء لمرحلة جديدة توجت بما سمي "تناوبا توافقيا". وللإحاطة بسياقات المرحلة استهل المؤلف الفصل الأول، الذي غطى ثمانية وثلاثين صفحة من الكتاب، والذي يحمل عنوانا يوحي لأول وهلة بحمولة أنثربولوجية: "طقوس الإعداد للانتخابات"، باستعراض النقاش الدستوري والقانوني الذي دار آنذاك بين مكونات الحكومة والمعارضة حول إجراءات وتدابير تنظيم وإجراء الاستحقاقات التي تضمنها "القانون الانتخابي الجديد"، مبرزا من خلاله عناصر الخلاف والتوافق بين الفرقاء ومبينا محدودية مقتضياته التي لم تحدث قطيعة مع سابقيه بقدر ما تضمنت "جرعات صغيرة" تخدم استراتيجية تفصيل "ديمقراطية على المقاس". وبالموازاة تطرق المؤلف لسياق وشروط ميلاد جبهة سياسية جديدة (الكتلة الديمقراطية) بفعل تكتل مجموعة من أحزاب المعارضة، مقابل تكتل آخر يتشكل من أحزاب كانت تنعت بأحزاب "الإدارة" (الوفاق)، كاشفا عن الاعتبارات والخلفيات السياسية الكامنة خلف هذه الخطوة وعن الأهداف المتوخاة منها. كما تطرق إلى حدث "الإعلان عن الدستور الجديد" (دستور 1992) مستعرضا ما حملته بنوده من تعديلات، بخصوص تحديد السلطات والعلاقات بين الملك والحكومة والبرلمان، ومستجدات -مقارنة مع سابقيه- والتي تجلت أساسا في التنصيص على إحداث مجلس دستوري وإنشاء وتنظيم مجلس اقتصادي واجتماعي (ص 23). وبالقدر الذي عرض به المؤلف بتفصيل المطالب التي تمت الاستجابة إليها، وضمنها تلك المتعلقة بالإصلاحات الدستورية التي تمت الاستجابة إليها جزئيا تماشيا مع الاستراتيجية المذكورة أعلاه، أفاض في استعراض مواقف الأحزاب من الدستور الجديد وما واكبها من نقاشات وسجالات فكرية وسياسية، بشكل ينم عن حس علمي وفي لرصد تفاصيل ولدقة ملاحظات مباشرة وغير مباشرة (عبر وسائط) اعتمادا على رصيد وثائقي غني.
وفي الفصل الثاني الذي يقع في خمسة وأربعين صفحة، والذي وضع له المؤلف كعنوان "دينامية إنتاج النخب المحلية"، عمل قرنفل على تحليل سياق وحيثيات تنظيم وإجراء الانتخابات الجماعية (1992) مستعرضا مواقف بعض الأحزاب والتنظيمات السياسية من المشاركة في هذه المحطة، ليعمد إلى بسط ما أفرزته نتائج ومستجدات الخارطة السياسية. لقد استعرض نسب المشاركة في هذه الاستحقاقات، استنادا على تحليل مقارن يستحضر المحطات السابقة ويفكك عوامل التفاوت المسجل. وقد توسل المؤلف بصدد تفسير نتائج الانتخابات الجماعية، من حيث نسب المقاعد المحصل عليها، بمعطيات تخص طبيعة التنظيم الحزبي ومسار تطوره والتجربة السياسية للمرشح وطبيعة علاقاته بالساكنة فضلا عن نمط الاقتراع المعتمد وطبيعة الوسط (حضري/ قروي). وبخصوص توزيع المستشارين في الأقاليم تم التركيز بالأساس على الفائزين اللامنتمين وعلى مرشحي حزب التجمع الوطني للأحرار صاحب المركز الأول من حيث عدد الأصوات. وفيما يتعلق بخصائص المستشارين توسل الأستاذ حسن قرنفل بمتغيرات عديدة، تعامل معها بشكل منفرد أحيانا وبشكل ثنائي أحيانا أخرى، من قبيل مهنة المترشح ومستواه التعليمي وانتمائه السياسي. وقد توج تفسيره لنتائج الانتخابات الجماعية لسنة 1992 بتحليل لبعض آليات ومظاهر استراتيجية "ديمقراطية على المقاس" من خلال استعراض سيرورات وآليات تشكيل مكاتب المجالس الجماعية، مبرزا مدى تأثير فسيفسائية الأحزاب على مسار هذه العملية وعلى بنيات المجالس المنتخبة وتأثير وضعية اللامنتمين في ترجيح كفة طرف على طرف؛ وكذا دور رجال السلطة في توجيه مجريات الأمور. وارتباطا بذلك تطرق المؤلف لمواقف بعض زعماء الأحزاب الحزبية وشبيباتها، بخصوص ظروف وملابسات تنظيم العملية الانتخابية، ليخلص إلى استنتاجات تنسجم وأطروحة الكتاب عبر تبيان طرق الإدارة في التأثير على العملية الانتخابية.
وبما أن القراءة السوسيولوجية تتميز نظيراتها في الحقول المجاورة بنظرتها الشمولية والنقدية فدراسة آليات اشتغال النسق لا تستقيم دون استحضار أدوار ورهانات واستراتيجيات مختلف الفاعلين، ابتداء بالفاعل السياسي الأساسي (الدولة) وزارة الداخلية اللاعب الأساسي) مرورا بالفاعل الحزبي وانتهاء بالناخب. وفي "محاولة لفهم سلوك الناخبين" خصص المؤلف الفصل الثالث من الكتاب للمحطة الموالية في المسلسل الانتخابي (الانتخابات التشريعية لسنة 1993) عبر "عرض نتائج بعض الدوائر الانتخابية التي تنتمي إلى مختلف الجهات الاقتصادية" (ص 94) تبعا للتقسيم الجهوي الذي نص عليه دستور 1992 (سبع جهات). ويحفل هذا الفصل -الأطول في الكتاب إذ يستحوذ على ما يقارب نصف عدد صفحاته (129)- بمعطيات وتفاصيل عديدة. ويبدو واضحا في هذا النهج أثر جون واتربوري[4] ريمي لوفو[5] على مستوى النهج من خلال استعراض خصائص ومقومات الفاعلين السياسيين والنخب المحلية وعلى مستوى أسلوب المؤلف في الوصف؛ مثلما يبدو جليا تأثير أسلوب بول باسكون[6] على مستوى الجرد المونوغرافي لخصائص الجهات السبع واستعراض التحولات الاقتصادية والديموغرافية والاجتماعية والإدارية التي شهدتها. في ضوء ذلك يرسم المؤلف صورة بانورامية لا تكتفي باستعراض نتائج الاستحقاقات في الأقاليم والدوائر بل تمزج بين أطياف متغيرات شتى تربط بين بروفايلات المنتخبين(مواقعهم ومستوياتهم التعليمية وأعمارهم وانتماءاتهم السوسيو مهنية) وخصوصيات الأوساط ومواقع الأحزاب.
إن "ديمقراطية على المقاس" هي بوجه ما "ديمقراطية المقص"، حيث يلعب التقطيع الانتخابي دورا قويا في التحكم المسبق و"الناعم" في النتائج بالشكل الذي يحول دون حدوث مفاجآت. وكذلك الشأن بالنسبة إلى نمط الاقتراع الذي "استغله الأعيان في الدوائر القروية وشبه القروية من أجل بسط نفوذهم، كما أن وزارة الداخلية كانت تقوي آثاره السلبية عن طرق الرفع من عدد الترشيحات في الدوائر من أجل تشتيت الأصوات" (ص 92). وتتوطد دعامات بناء "ديموقراطية على المقاس" بفضل مشهد حزبي "مبلقن" يعزز قابلية "تهجين" المشهد السياسي وبفضل الدور القوي للأعيان الذي يترجم من خلال علاقات مباشرة شخصية ومشخصنة بين الناخبين والمنتخبين-وهي بطبيعتها علاقات تفتقر إلى المأسسة ولا تراهن على قوة البرامج الحزبية بقدر ما تراهن على روابط الزبونية والمحسوبية والوشائج القبلية والعائلية...- واستعمال المال لشراء الذمم، والذي تحمل فيه المسؤولية ظاهريا للفاعل الحزبي وللناخبين، ناهيك عن "الحياد السلبي" للإدارة بشأن شروط النزاهة والشفافية والمنافسة الشريفة تدخل السلطة.
وبما أن النظام الانتخابي السابق على نظام الغرفتين[7] كان يعتمد محطتين إذ تجري الانتخابات في الأولى وفق نمط الاقتراع المباشر ويخصص لها ثلثا المقاعد في حين تجري الثانية وفق نمط الاقتراع غير المباشر (انتخابات الغرف المهنية وممثلي المأجورين) ويخصص لها الثلث الثالث/الأخير؛ فالباب يبقى مواربا أمام تدخل ما اعتبره المؤلف "يدا خفيا للسلطة" (ص 226). لذا، وبغاية استكمال صورة "ديمقراطية على المقاس" خصص الفصل الرابع من الكتاب، الموسوم بعنوان "الملف الأسود للانتخابات المغربية"، للنمط الثاني للاستحقاقات التشريعية. وتتبدى قابلية ما يمكن اعتباره "تهجينا" في هذا الفصل من خلال بنيات وآليات اشتغال الأحزاب السياسية، والتي انعكست في هذه المحطة على مستوى معايير اصطفائها للمرشحين ومن خلال مظاهر التفاوت بين نتائجها ونتائج الاقتراع المباشر (25 أكتوبر 1993). وتتعزز جرعات التهجين بفعل "تدخل الإدارة" الذي يتأسس على خلفيات، ويكتسي مظاهر شتى (ص235) فضلا عن "استعمال المال لشراء الذمم" ناهيك عن نمط الاقتراع المعتمد، أي الاقتراع النسبي باللائحة مع أكبر بقية (ص 237).
لقد شدد قرنفل على الدور الكبير الذي لعبته وزارة الداخلية بذهابه إلى أن هذا الوزارة، "لم تكن مرتاحة تماما للتحول في العلاقات بين العاهل المغربي والمعارضة" (ص92). صحيح أن نعث "أم الوزارات" الذي أطلق عليها يعكس إلى حد كبير دورها المحوري في مراقبة وتوجيه مجريات الأمور، لكن هذا الطرح لا يبرر اختزال الصراع بين طرفين: وزارة الداخلية وأحزاب المعارضة، ولا يعني حلول جهاز إداري محل النظام السياسي بتركيبته ودواليبه المعقدة. ألم يصرح الراحل إدريس البصري في أواخر أيامه أنه كان مجرد خادمة للنظام (femme de ménage).
إسهامات وحدود النقد السوسيولوجي في كتاب "ديموقراطية على المقاس"
تكمن الأهمية القصوى للمؤلف في إسهامه في دراسة التغير الاجتماعي من زاوية مغايرة ستساهم بالتأكيد في إثراء رفوف السوسيولوجيا السياسية بالمغرب، ولا سيما أنه يتمم اشتغال المؤلف على مرحلة مفصلية في تاريخ المغرب (منعطف التسعينات)، وهو ما يستثير في الذهن العديد من الأسئلة بخصوص علاقات الاتصال والانفصال بين السوسيولوجيا والتاريخ. ودون الخوض في تفاصيل هذه العلاقة- لأن المقام لا يسمح بذلك- نكتفي في هذا الصدد بقول لبيير بورديو بشأن التمييز بين منطق اشتغال المؤرخ والسوسيولوجي: "أعتقد أن المسافة الزمنية تنطوي على ميزة التحييد- التي يعرفها الجميع. ولكن في حالة السوسيولوجيا، فنحن نوجد دائما في ميادين ساخنة والأشياء التي نناقشها تتسم بكونها حية؛ فهي لم تمت ولم توار الثرى"[8]. وإن جاز لنا تأويل هذا الطرح بصدد مؤلف الأستاذ حسن قرنفل يمكننا التأكيد أن المسافة الزمنية الفاصلة بين تاريخ إصدار الكتاب والمرحلة التي يتناولها بالدرس والتحليل لا تعني أننا بصدد عمل تاريخي مادام أن وقائعه ومعطياته لا زالت تحتفظ براهنيتها العلمية. فرغم أنها تحيل على مرحلة تاريخية أصبحت جزءا من الماضي، فهي لم توف حقها بالتحليل السوسيولوجي العميق الذي يلامس مختلف الأبعاد. وبالتالي، فالكتاب يكتسي أهمية بالغة بتسليطه أضواء جديدة على المرحلة، ولا سيما أن جزءا كبيرا من الوقائع التي تناولها يتضمن أرضية لمساءلة عناصر الاستمرارية و"القطيعة" في سلوكيات وممارسات الفاعل السياسي على مدى ما يقارب ربع قرن. لقد شهد المغرب خلال هذه المرحلة العديد من المحطات السياسية المفصلية، أبرزها التعديل الدستوري لسنة 1996 وتجربة التناوب التوافقي (1998-2002)، واعتلاء محمد السادس عرش المغرب في 30 يوليوز 1999، والذي شكل نقطة بداية مرحلة جديدة وسمت بالعهد الجديد. وصدور دستور جديد سنة 2011، بعد أن عاش شأنه شأن العديد من البلدان تجربة ما سمي "ربيعا عربيا"... وفي ثنايا النقاشات حول هذه المحطات تتضارب الآراء حول تقدير وتقييم مدى وعمق التحولات المترتبة عنها. فبخصوص النقاش حول مسألة الانتقال[9] في مجملها وفي مختلف أبعادها- السياسية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعالقها وتداخلها- نسجل ندرة، إن لم نقل غيابا، لإسهامات البحث السوسيولوجي. ونعتقد أن بلورة أطروحات سوسيولوجية نقدية حول المسألة يقتضي تكثيف حجم الدراسات الرصينة والعميقة والمتداخلة التخصصات والممتدة على مدى زمني كاف والموجهة بحس نقدي ومنظور كلي وشمولي. ومن ضمن ما يزيد الأمور غموضا وضبابية هو بعض آليات تدبير الحقل السياسي من قبيل تلك المعتمدة في تشكيل الحكومات، منذ تجربة التناوب، إذ تجمع التحالفات الحكومية توليفات حزبية لا يراعى فيها التقارب الإيديولوجي بقدر ما يتم فيها تغليب منطق التبرير السياسي الذي يتوسل بمسوغات إيديولوجية عديدة تزعم الاستجابة لمنطق المصلحة الوطنية ويوحدها، في العمق، قاسم مشترك هو المصلحة الحزبية والحصول على نصيب من "كعكة السلطة". وتزداد ضبابية الصورة بفعل الاستعمالات المكثفة لبعض الصيغ المعبرة عما يمكن أن نسميه "وضعيات ارتهان"، من قبيل "تفعيل الدستور" أو "تنزيل الدستور"، "جيوب المقاومة"، "قوى التحكم"، "حكومة الظل"، "الدولة العميقة"...وإنه لمن السخف ربط كل هذه الوضعيات بتدخلات آنية ومباشرة للدولة مادام النسق السياسي يشتغل وفق قواعد أنتجها على مدى عقود ما بعد الاستقلال، بل إنها تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. لقد راكمت الدولة رصيدا يمكنها من توظيف مختلف المعطيات وتوجيه مختلف تيارات مشهد سياسي واجتماعي فسيفسائي، بل استثمار ما تنطوي عليه من تناقضات، في الاتجاه الذي يخدم استقرار الأوضاع. وإن كان هناك من "استثناء" مغربي -بما في ذلك طريقة تدبير الدولة لمحطة ما سمي "ربيعا عربيا"- فالفضل في ذلك يعود إلى هذه القواعد، وإلى ما راكمته من قدرات على الاحتواء والتدجين عبر العديد من لحظات "شد الحبل" في علاقة الدولة بالمجتمع.فهل التاريخ يعيد نفسه؟
لقد كتب الكثير عن النخبة السياسية في المغرب. وتنتمي الكتابات الراهنة في غالبيتها لحقل العلوم السياسية[10]، التي تنحو في مجملها منحى تنظيريا ينتصر لرصد اشتغال وتطور العلاقات القائمة بين المؤسسات السياسية. ونادرة هي الكتابات السوسيولوجية التي تفكك آليات إنتاج وإعادة إنتاج النخبة من خلال المزج بين الوصف والتحليل والتأويل والتنظير والعمل على فهم منطقيات اشتغال الفاعلين والمؤسسات مع استحضار خلفيات الثقافة السياسية الثاوية خلف الممارسات في نفس الآن. وغني عن البيان أن كتاب الأستاذ حسن قرنفل يندرج في خانة الصنف الثاني من الكتابات التي تتميز بحس أمبريقي يضع على طاولة التشريح مرحلة تاريخية وفق نهج يتعاطى مع الشروط الدستورية والقانونية والسياسية المؤطرة لدينامياتها في تعالقها وتمفصلها. وتكمن قوة الكتاب في اعتماده مقاربة مونوغرافية تحيط بالعديد من جوانب موضوعه، إذ يحفل بوقائع ومعطيات وأرقام عديدة وتفاصيل هامة تتخللها استنتاجات أو تنتهي إليها. وإذا كنا نلمس هيمنة أسلوب الوصف على حساب التنظير فذلك راجع في اعتقادنا إلى طبيعة الدراسة (دراسة مونوغرافية في المقام الأول) وإلى الموقع الذي يحتله الكتاب ضمن مشروع حسن قرنفل إذ يمكن اعتباره جزءا ثانيا لعمل نشر منذ عقدين. نقصد بذلك كتاب "النخبة السياسية والسلطة أسئلة التوافق: مقاربة سوسيولوجية للانتخابات التشريعية في المغرب" الذي ينهض على مجهود تنظيري قوي وأصيل. وبقدر ما يكتسي عمل قرنفل أهمية قصوى، وخصوصا بالنسبة لجيل الباحثين الذي لم يعش المرحلة التي يغطيها، فهو يطرح تحديا أمام مؤلفه بخصوص استكمال حلقات المشروع ودراسة المراحل اللاحقة بغاية الكشف عن جوانب "القطيعة" والاستمرارية وما طرأ من تحولات على علاقة الدولة بالمجتمع وتسليط المزيد من الأضواء على عملية إنتاج النخب في العقدين الأخيرين.
على سبيل الختم:
إذا ما حاولنا إدراج إسهام قرنفل ضمن نظريات التغير الاجتماعي في المغرب، نعتقد أن الكتاب يبسط أرضية سوسيولوجية لتحليل سيرورات وصيرورات التحول الذي عرفه المغرب المعاصر، ويتضمن مدخلا من مداخل البحث في عناصر التحول والاستمرارية في طبيعة العلاقة القائمة بين الدولة والمجتمع. ويمكن اعتبار كتاب "ديمقراطية على المقاس" بمثابة حجة دامغة على الانتقال من نمط مجتمع إلى آخر: من "المجتمع المركب" -بتعبير بول باسكون- إلى "المجتمع المهجن"[11] الذي يمكن اعتباره بوجه ما امتدادا له، إن لم نقل أنه يشكل وجها من أوجه تطوره. إن حياكة "ديموقراطية على المقاس" تتوقف بالأساس على التدخل الوازن والقوي للدولة في "إنتاج المجتمع" وعلى مراقبة "إنتاج النخب" وعلى ضخ "جرعات صغيرة" قمينة بتوجيه مسار التغير الاجتماعي، وما يقتضيه ذلك من سعي حثيث نحو تطوير آليات جديدة لاحتواء التناقضات ونزع فتيل التوترات أمام التزايد المطرد والمتسارع لمطالب اجتماعية والصعود القوي لحركات سياسية واجتماعية جديدة وأما تراجع دور الفاعل الحزبي والنقابي ...
[1]- أستاذ السوسيولوجيا وعميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية- جامعة أبي شعيب الدكالي، حاصل على دكتوراه السلك الثالث بجامعة سنة 1985 وعلى دكتوراه الدولة في السوسيولوجيا من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس (1996). من بين مؤلفاته: النخبة السياسية والسلطة، أسئلة التوافق: مقاربة سوسيولوجية للانتخابات التشريعية بالمغرب / الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 1997 حسن قرنفل، المجتمع المدني والنخبة السياسية إقصاء أم تكامل؟ الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2000 [1997]؛ أهل فاس: المال والسياسة، الرباط: دار أبي رقراق، 2007؛ الشغل بين النظرية الاقتصادية والحركة النقابية الرباط: إفريقيا الشرق، 2006
[2]- Hassan Qranfal, Le rôle des Fassis au sein de la bourgeoisie marocaine, Thèse de 3ème cycle, Université de Paris 7, 1985
[3]- Jean-Claude Santucci, Les partis politiques à l’épreuve du pouvoir. Analyse diachronique et socio-politique d’un pluripartisme sous contrôle, Rabat, REMALD, 2001
[4]- John Waterbury: Le Commandeur des croyants. La monarchie marocaine et son élite. Traduit et adapté de l'anglais par Catherine Aubin. Paris, Presses Universitaires de France,1975.
[5]- نقصد بذلك بالأخص القسم الثاني من كتابه "الفلاح المغربي المدافع عن العرش" والذي يحمل عنوان "لمحة حول الجغرافيا السياسية للمغرب الأقصى".
[6]- نشير تحديدا إلى الفصل من دراسته الشهيرة حول "حوز مراكش". انظر بهذا الصدد:
Paul Pascon, Le Haouz de Marrakech, Rabat, CURS, CNRS, INAV-Rabat, Tome 1, 1983.
كما يمكن أن نشير إلى مؤلفه المشترك مع باحثين آخرين حول "بني بوفراح" انظر الفصل من كتاب:
[7]- نص علية دستور 1996 (الفصل السادس والثلاثون) واعتمد منذ الانتخابات التشريعية منذ 1997.
[8]- Bourdieu, Pierre, Le sociologue et l'historien; préface de Roger Chartier, Marseille: Agone Paris: INA: Ra. 2010, p.23.
[9]- اختلفت أطروحات الباحثين في العلوم السياسية وفي القانون الدستوري حول تقييم مستوى وعمق المرحلة الانتقالية التي عرفها المغرب منذ منتصف التسعينات. فهناك من يتحدث عن انتقال ديموقراطي- طال أمده في نظر البعض- مقابل من يعتبر أن الأمر لا يعدو كونه تمظهرات انتقال سياسي يستجيب لضرورات المرحلة؛ ناهيك عن المواقف المتباينة المتعلقة بما اعتبر انتقالا دستوريا... ولتكوين فكرة عن طبيعة السجالات المتعلقة بمسألة الانتقال انظر على سبيل المثال لا الحصر:
Rkia El Mossadeq,Consensus ou jeu de consensus?: pour le réajustement de la pratique politique au Maroc» Casablanca, Sochpresse, 1995; __ «La réforme constitutionnelle et les illusions consensuelles», Annuaire de l’Afrique du Nord, 35, 1996, p. 573-582 __ Les labyrinthes de l'alternance Rupture ou continuité ? Imp.Najah El Jadida, Casablanca, 1998; __Les labyrinthes de la transition démocratique, Imp. Najah El Jadida, Casablanca, 2001; OmarBendourou et autres (dir) Alternance et transition démocratique, Rabat, Edition Konrad Adenauer, 2001, Coll. «Droit Public»; Gema Martin Muñoz, IsaíasBarreñada, «Emergence D'une Transition Démocratique Ou Alternance Par Le Haut? Après les élections législatives» dans CONFLUENCES Méditerranée, n° 31 Automne 1999, p.77-89; BouazzaBenachir, «Le Maroc entre la transition démocratique et une nouvelle renaissance socioculturelle»,Revue africaine des relations internationales Vol.8, n° 1et 2, 2005, pp. 65–90; Vairel Frédéric, «La transitologie, langage du pouvoir au Maroc», Politix, 2007/4 nº 80; Omar Bendourou, Rkia El Mossadeq et Mohammed Madani (cord) La nouvelle Constitution marocaine à l’épreuve de la pratique (Actes du colloque organisé les 18 et 19 avril 2013), La Croisée des Chemins, Casablanca, 2014.
[10]- يميز (Patrick Delaubier) بين السوسيولوجيا السياسية وعلم السياسة مستحضرا هيمنة الطابع المعياري على هذا الأخير لأنه "يروم تحقيق مشروع سياسي بالاستعانة بالتحاليل السوسيولوجية عند الاقتضاء" كما أنه "يتسم بقوة طابعه المركزي "مقارنة مع السوسيولوجيا التي يغلب عليها النزوع الشمولي". ويذهب أبعد من ذلك في توضيحه الفرق بين كلا الحقلين، بتناوله أحد الجدالات الدائرة في العلوم الاجتماعية، حول العلاقة بين النظرية والتطبيق: فالسوسيولوجيا هي "في نفس الوقت نظرية وعملية، لكنها أكثر ميلا للتنظير مقارنة مع علم السياسة، دون أن يعني ذلك أنها تتحول إلى ناظم للسلوكيات (أي معيارية) بل تشكل مقياسا لواقع اجتماعي".
Patrick de Laubier, Introduction à la sociologie politique, Paris, Masson, 1983, p.15.
[11]- صحيح أنه يمكن اعتبار جميع المجتمعات هجينة، وهي وضعية ازدادت تعقيدا بفعل تصاعد موجة العولمة واكتساح تكنولوجيات الاعلام والتواصل وتنامي نزوعات الاستهلاك المفرط... ونروم من استعمال توصيف "المهجن" بصيغة المفعول الدلالة على "خصوصية" تكمن في توجيه "إنتاج المجتمع" وفق استراتيجيات تحول دون حصول تغيرات مفاجئة، بل إنها تستبقها، عن طريق الخلط والمزج والمزاوجة بين أنماط ونماذج ومرجعيات عديدة. إن صيغة المفعول تحيل بالدرجة الأولى على طبيعة العلاقة القائمة بين دولة "نيوباترمونيالية" راكمت تجارب تتيح لها تكييف منطق "السلطوية" مع ما يستجد من تحولات في مناخ عالمي متقلب؛ ومجتمع يتطور في اتجاهات متباينة ووفق إيقاعات متفاوتة المستويات بفعل عوامل داخلية وخارجية. كما تحيل على سيرورات ومظاهر يمكن ملاحظتها في جميع مجالات ومفاصل الحياة الاجتماعية (الاقتصاد، التربية والتعليم، آليات واستراتيجيات تشكل الروابط والجماعويات الجديدة...) وفي السلوك اليومي للأفراد وفي "مشاريعهم الحياتية"، في ظل أشكال معقدة لتمفصل "المحلي" و"الكوني" والواقعي والافتراضي والتي تقتضي تكثيف الدراسات السوسيولوجية والأنثربولوجية المنفتحة على مناهج جديدة بغاية استكناه دلالاتها.