قراءة في كتاب ماكس فيبر تحت عنوان "رجل العلم ورجل السياسة"
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب ماكس فيبر تحت عنوان
"رجل العلم ورجل السياسة"
ذ. زكرياء التوتي[1]
مقدمة:
أولا: توطئة
إن مجموع الوقائع والأحداث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية التي طبعت أوروبا خلال القرن التاسع عشر، خاصة في فرنسا وألمانيا كان لها الوقع الكبير في النشأة والتأسيس الفعلي لعلم الاجتماع كنمط خاص ومستقل من المعرفة، والذي من خلاله ثم معالجة الوقائع الاجتماعية المستحدثة أنداك ومحاولة إعطاء بناء نظري يحدد من خلاله موضوع ومنهج ينسجم مع علم الاجتماع؛ وذلك من منطلق ما أفرزته هذه التحولات من ظواهر اجتماعية وعلاقات ترابطية بين الفرد ومحيطه الاجتماعي اقتضت معالجتها سوسيولوجيا.
ولقد كان للرواد الأوائل لهذا العلم، الفضل الكبير في إرساء قواعد ومناهج علمية تمكنت من إحداث قطيعة مع أنماط التفكير الاجتماعي السابقة وإدراج علم الاجتماع ضمن لائحة العلوم الأخرى كعلم قائم ومستقل بذاته، ليشكل بذلك الشريعة العامة وخاتم العلوم حسب تعبير "أوغست كونت" مبتدع مصطلح "sociologie"، وينضاف إلى هذا الأخير رائد من الرواد الأوائل الذين ساهموا في استقلال علم الاجتماع بقواعد خاصة به المفكر وعالم الاجتماع "ماكس فيبر" الذي ساهم من خلال محاولته فهم الفعل الاجتماعي لتأويله، ومن تم تفسير عملية حدوثه ونتائجه لتبيان مدى عقلانيته في جواب عن سؤال المعنى والكيف.
كما قد ساهم فيبر بمساهمات متعددة الأبعاد من خلال كتاباته وأبحاثه المتتالية المتميزة بالنظر العقلي الخالص التي يمزج فيها في أغلب الأحيان السوسيولوجيا بالتاريخ والاقتصاد والسياسة[2]، والتي يبقى من أهم هذه الأعمال كتابه "رجل العلم ورجل السياسة" الذي حاول من خلاله ماكس فيبر التركيز على فكرة جوهرية مفادها الحياد والفصل المفترض أن يكون بين رجل العلم ورجل السياسة خلا ممارستهما لمهامهما، خاصة في الظرفية التي كانت تعيشها ألمانيا بعد خروجها منهزمة من الحرب العالمي الأولى.
ثانيا – نبذة تاريخية عن حياة المؤلف "ماكس فيبر"[3]
إن النسق الفكري لماكس فيبر، لا يمكن أن يكتمل إلا من خلال التطرق إلى الظروف التاريخية المحيطة بنشأته وأيضا السياق التاريخي لأفكاره وآرائه خاصة إذا تعلق الأمر بكتاب يمتزج فيه ما هو سياسي بما هو اجتماعي واقتصادي وفلسفي.
ولد "ماكسيمليان كارل إميل فيبر" "Maximilian Carl Emil Weber" والمعروف باسم ماكس فيبر "Max Weber" في وسط عائلي بروتستاني من الطبقة الثرية بمدينة إرفورت "Erfurt" في ألمانيا يوم 21 أبريل 1864، كان أكبر إخوته البالغ عددهم ثمانية، كان والده رجل قانون يعمل في السلك السياسي وعضوا في البرلمان، وكانت والدته تنتمي إلى عائلة بومغارتن (Baumgarten) المرموقة وحائزة لرصيد ثقافي كبير، حيث كان لها تأثير كبير على فكر ماكس فيبر وتوجهاته خاصة الدينية منها، كانت زوجته المؤرخة القانونية وعالمة الاجتماع الألمانية ماريا شنيتغر "Marianne schnittger" التي عرفت فيما بعد بـ "مريانا فيبر" (1870-1954)، والتي تحدثت كثيرا عن أعمال زوجها بعد وفاته وقامت بنشر العديد من أعماله.
بالنسبة إلى المسار العلمي والعملي لماكس فيبر، فقد بدأه بدراسته للقانون في جامعة هايدلبورغ "Heidelberg"، حيث اهتم بدراسة القانون في كلية الحقوق، وفي نفس الوقت تابع دراسته حول الاقتصاد والسياسة والفلسفة والتاريخ، وبعد ذلك سافر ماكس فيبر إلى "ستراسبوغ" سنة 1883م، لكي يقوم بواجب الخدمة العسكرية، عاد بعد سنة إلى ألمانيا ليستأنف دراسته الجامعية في جامعة برلين، حيث حصل سنة 1886 على شهادة الإجازة في القانون، انتقل بعدها إلى جامعة برلين ثم التحق بمحكمة بريس الجنائية، حصل على شهادة الدكتوراه سنة 1889 تحت إشراف ليفي غولدشميت، وكانت حول موضوع "تطور المجتمعات التجارية في إيطاليا العصر الوسيط" ليحضر بعد ذلك أطروحة لنيل درجة الأهلية حول موضوع "أهمية التاريخ الفلاحي الروماني بالنسبة إلى القانون العام والخاص"، وهو ما أهله لأن يصبح أستاذا بالجامعة، حيث اشتغل مدرسا للقانون في جامعة برلين ثم عين سنة 1893م وشغل كرسي في الاقتصاد السياسي في جامعة "فرايبورغ"، بعدها أصيب فيبر -سنة1897- بانهيار عصبي وظل مريضا بهذا المرض الذهني لمدة أربع سنوات في روما (إيطاليا)، وهو ما أثر على عمله كأستاذ جامعي، غير أنه استعاد عافيته بعد ذلك وعاد إلى نشاطه الفكري وداوم على القراءة والبحث ابتداء من سنة 1903 حيث اهتم خلال هذه المرحلة بالسوسيولوجيا، وأسس الجمعية الألمانية للسوسيولوجيا، وتولى بعد استقالته منها مهمة إدارة مجلة متخصصة في السوسيولوجيا، وفي سنة 1904م قبل الدعوة لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو العالم الجديد الذي خلف لديه أثرا عميقا، حيث حضر مؤتمر العلوم الاجتماعية ب "سان لويس" وقدم محاضرة حول الرأسمال والمجتمع القروي في ألمانيا[4]، وزار جامعة فيينا في نهاية الحرب العالمية الأولى.
وعليه، فقد كان ماكس فيبر عالمًا في الاقتصاد والسياسة، وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة، هو من أتى بتعريف البيروقراطية[5]، وأرسى نهج سوسيولوجي تفهمي[6]، زاول مهنة المحاماة وشغل منصب أستاذ جامعي إلى أن توفي بتاريخ 14 يونيو 1920م تاركا وراءه رصيدا معرفيا ومجموعة من الأعمال والمؤلفات والمقالات التي أثرت في السياسة والفكر الاقتصادي والسوسيولوجي خاصة[7].
ثالثا: توصيف لكتاب ماكس فيبر "رجل العلم ورجل السياسة"
يعتبر كتاب ماكس فيبر "رجل العلم ورجل السياسة" من أبرز الكتب التي طبعت الفكر السياسي والسوسيولوجي خاصة، حيث صدرت له ترجمة بالعربية نشر في طبعته الأولى سنة 1982 عن دار الحقيقة بيروت، وفي غلاف يحمل صورة مجموعة من الكتب المتراكمة وبناية ضخمة في تواز مع هذه الكتب يربطهما شريط لعله يجسد نوع الارتباط بين العلم والسياسة الذي نادى فيبر من خلال هذا الكتاب بضرورة فكه.
يحتوي هذا الكتاب على 116 صفحة، شكلت في مجموعها محور محاضرتين شهيرتين من بين آخر ما كتب وأقامهما في حياته توجه بهما إلى الشباب في ألمانيا في سياق الظروف السياسية والتاريخية التي كانت تعيشها ألمانيا على إثر هزيمتها خلال الحرب العالمية الأولى سنة 1919م، وفي سياق إحدى مشكلات زمان ماكس فيبر في المجال الأكاديمي التي كان الأساتذة الجامعيون يسلطون معتقداتهم ويقيمون نتائجهم بناء على منظور معين، وهاتان المحاضرتان تتوزعان على الشكل التالي:
- المحاضرة الأولى تمتد من الصفحة 5 إلى الصفحة 43 جاءت بعنوان حرفة ودعوة العالم، وقد خصها الكاتب لمناقشة العلاقة التي تجمع هذه الدعوى بين العالم، وبين الأستاذ المحاضر مستحضرا أمثلة ونماذج لتقريب الصورة وتوضيح المعنى أكثر.
- المحاضرة الثانية تمتد من الصفحة 45 إلى الصفحة 116 تحت عنوان حرفة ودعوة رجل السياسة، حيث تناول من خلالها السياسة والأشخاص القائمين بها والمخاطبين بالفعل السياسي في علاقتها بمؤسسة الدولة.
وسنحاول من خلال هذه القراءة في كتاب "ماكس فيبر" رجل العلم ورجل السياسة- العمل على إعطاء تلخيص وصفي للمحاضرتين معا؛ الأولى -حرفة العالم ودعوته- والثانية -حرفة ودعوة رجل السياسة (المحور الأول) على أن ننتقل بعد ذلك لإعطاء تحليل مقتضب لهاتين المحاضرتين (المحور الثاني)؛ وذلك من منظور الحياد المفترض بين الخطاب السياسي والخطاب العلمي داخل الجامعة وزاوية الحدود بين رجل العلم أثناء مزاولة مهامه، وبين رجل السياسة خلال ممارسة عمله.
المحور الأول: قراءة وصفية في كتاب ماكس فيبر "رجل العلم ورجل السياسة"
لقد عمل ماكس فيبر من خلال هذا الكتاب الذي نحن بصدد محاولة إعطاء قراءة في مضامينه على إبراز الشروط الموضوعية والشكلية التي يجب أن يتسم بها كل من رجل العلم ورجل السياسة في إطار نوع من الاستقلالية والحياد بينهما، وهذا ما سنحاول إبرازه من خلال تلخيصنا لأهم المضامين والنقط الجوهرية التي تناولهما ماكس فيبر، لا سواء في محاضرته الأولى التي جاءت تحت عنوان "حرفة العالم ودعوته" (أولا) وكذا في محاضرته الثانية المعنونة بـ "حرفة ودعوة رجل السياسة" (ثانيا)
أولا: توصيف المحاضرة الأولى "حرفة رجل العلم ودعوته"
لقد انطلق ماكس فيبر في محاضرته الأولى هذه من سؤال التمثلات المهنية للطالب الذي اتخذ العلم مهنة ودعوة في إطار الحياة الجامعية بعد أن أنهى دراسته الجامعية، ومن أجل الجواب عن هذا السؤال حاول ماكس فيبر إعطاء مقارنة بين الشاب الذي كرس نفسه للعلم، وبدأ عمله كأستاذ محاضر بين النظام الألماني والنظام الأمريكي.
فمن خلال هذه المقارنة أبرز فيبر أن الأستاذ المحاضر في ألمانيا بعد قبوله لهذا المنصب داخل الكلية، يبدأ بإلقاء محاضراته المختارة بنفسه في إطار مجاله الخاص ولا يتقاضى أي راتب ولا يحظى بأي أجر سوى ما يساهم به الطلبة، وبالتالي يجد رجل العلم هنا نفسه أمام مغامرة ومنعطفا لقياس درجة تمكنه من العيش اعتمادا على وسائله الخاصة لعدد من السنوات دون التأكد من محالفة الحظ لشغل منصب يمكن أن يؤمن له حياة كريمة؛ لأنه يبقى مهددا بالتسريح، في حين أن الطالب في الولايات المتحدة يتعاقد مع الجامعة ويبدأ كمعيد ويتقاضى راتبا ثابتا مند دخوله إلى المهنة، وعلى الرغم من أنه يشغل وضعا ثابتا على الأقل، فهو يبقى مهددا بالتسريح حين يخيب الآمال الموضوعة فيه، ثم إن الأولوية في المحاضرات الكبرى في ألمانيا تعطى إلى الأساتذة المحاضرين القدامى في حين يكتفي الأستاذ المحاضر الجديد بالمحاضرات الثانوية. أما في النظام الأمريكي، فإنه يسمح للمعيد الشاب القيام ببعض المحاضرات الكبرى، كما أن رجل العلم في ألمانيا مبني على أسس بلوتوقراطية؛ أي يتأثر بدرجة نفوذ الطبقة البورجوازية الثرية، غير أن رجل العلم في الولايات المتحدة مبني على أساس نظام بيروقراطي، ويخلص ماكس فيبر من خلال هذه المقارنة إلى أن العديد من مجالات العلم في النظام الجامعي الألماني أصبحت تأخذ منحى النظام الأمريكي، وهذا ما يجب العمل على تكريسه.
كما أضاف فيبر في هذا السياق، أن الصدفة تلعب دورا مهما في شغل منصب أستاذ جامعي، حيث إن العديد من الطلبة المتفوقين لم يحالفهم الحظ بسبب آلية انتقاء تعتمد على المزاج الفردي، وليس على أسباب موضوعية، وهذا ما يجعل الكلية تتدخل في هذا الانتقاء وتقترح المرشحين لتبقى مهمة تعيينهم موكولة بالدرجة الأولى إلى الدولة وفقا لأبعاد سياسية ارتأتها مسبقا، وهذا ما يقتضي بالضرورة إلى إدخال سوى الأسباب الموضوعية الخالصة في مثل هذه القرارات، وعدم ترك مصير الجامعة يحومه مجال كبير للصدفة.
إن كل شاب يعتقد في نفسه امتلاك الدعوة للعلم عليه أن يتيقن من أن المهمة التي تنتظره تمثل وجها مزدوجا، عليه امتلاك كفاءة العالم وكذلك كفاءة الأستاذ؛ لأنه بالإمكان أن يكون المرء عالما بارزا جدا، ولكنه في نفس الوقت أستاذا رديئا جدا وهذا ما سيؤثر على مساره المهني.
لتبقى الجامعة في ألمانيا تتنافس فيما بينها لاجتذاب الطلبة، وعلى هذا المعيار الكمي (أي غزارة الطلبة لدى الأساتذة) يتم تقييم الأستاذ هل هو جيد أو رديء، في حين أن صفة العالم الذي تكون مهامه مزاولة التدريس كأستاذ رديئة تقع ضمن حقل اللاملموس ويتم التشكيك فيه، والحال أن غزارة الطلبة لدى أستاذ ما قد تعود لأسباب عامة كالمزاج أو نبرة الصوت لكن مع ذلك، فإن التربية العلمية الرزينة تستهدف فقط أصحاب العقول الموهوبة.
و يشير ماكس فيبر إلى فكرة مهمة تتجلى في "إنه لمن الصعب أن يتوفر في الشخص الواحد البحث العلمي والتدريس في نفس الوقت"، وبالتالي فإن الشباب العلماء بعد تأهيلهم لمزاولة مهنة التدريس، فإن عليهم أن يتحملوا دون خسارة أو مرارة رؤية الرديئين عاما بعد عام مفضلين عليهم.
و بعد تناول ماكس فيبر في محاضرته هذه الشروط الخارجية لمهنة العالم السالفة الذكر، ينتقل بعد ذلك للإحاطة بالشروط الداخلية والاستعدادات الداخلية للعالم، وينطلق في هذا السياق من فكرة جوهرية مفادها أن أي فرد لن يستطيع الحصول على اليقين بإتمام شيء كامل في مجال العلم دون اختصاص حازم، هذا مع المرور مع الوقت لتخصصات أخرى مجاورة في إطار دينامية علمية متجددة، وهو ما يعطي للعالم نشوة في دعوته للعلم، ليبقى هذا الشغف الشديد الصادق والعميق ما هو إلا شرط أولي للإلهام الذي يبقى في آخر المطاف هو الحاسم الوحيد، وهذا الأخير لا يأتي إلا بعد العمل المستمر ولا علاقة له بالعلاقات الحسابية والمختبرات والإحصاء، بل هو مرتبط بكافة المجالات المرتبطة بالتفكير وبالعمليات الذهنية الفجة، حتى إن كان أصحابها باحثين هواة في العلوم الذين يتفوقون عن الاختصاصيين في بعض الأحيان، إلا أن ما يميز الأخصائيين عنهم غياب اليقين في أسلوب العمل مما ينتج عنه العجز في التدقيق وتقدير الاستغلال الدى الذي يصل إلى الحدس عندهم.
يرى ماكس في هذا السياق أن "...الأفكار التي تلاحقنا وتستفزنا، ونحاول العمل على الإجابة عنها بشغف هي مصدر الإلهام الذي يصادق العالم في المختبر والتاجر في المتجر، والعمل والشغف ينيران الحدس حينما يجتمعان.."، كما أن هناك اعتقادا أن التجربة المعيشة تشكل جزءا من ماهية الشخص، غير أن وحده الكائن الذي يضع نفسه في خدمة قضية يمتلك شخصية في عالم العلوم، والذي يضع كل قلبه في عمله يرتفع إلى سمو وكرامة القضية التي يخدمها.
إن اهتمام العالم بالعلم هو في سبيل العلم ذاته، وليس في سبيل تمكين الآخرين الاستفادة منه تجاريا أو تقنيا أو الكشف عن القوى الخارقة المتحكمة في الطبيعة، فالتقدم العلمي هو جزء مهم من عملية التثقيف التي نخضع لها منذ الآلاف من السنين، والعقلنة الثقافية ساهمت بشكل كبير في تطوير العلم والتقنية العلمية، وبالتالي فإن هذا لا يعني إطلاقا معرفة عامة ومتزايدة عن الظروف التي نعيش فيها، بل تعني إثباتا مبدئيا عدم وجود أي قوى غامضة تتحكم في مسار الحياة، أو لا يمكن التنبؤ بها، وبالتالي يمكن السيطرة على كل شيء بالدراسة مبتعدين كل البعد عن الأساليب السحرية بغية السيطرة على الأرواح أو طلب رضاها، بل اللجوء إلى التقنية والتوقع.
لقد أصبح يشكل مجال اللامعقول حسب فيبر موضوع وعي ومجال فحص دقيق، وأصبح المنهج العلمي العقلي واضحا بعدما كان الافتراض المسبق هو الأساس لكل حياة مشتركة مع الله تدفع الإنسان للتحرر من عقلانية وثقافية العلم.
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه في ظل انهيار الأوهام القديمة التي تربط المعارف بالحقيقة والحق هو مدى وجود علم خالص خال من الافتراضات المسبقة؟ ما دام أن أغلب الافتراضات تنفلت من كل إثبات ليبقى الحل النهائي. أما استحالة تغيير المعنى النهائي لهذه الافتراضات المسبقة، فهو القبول أو الرفض وفقا للمواقف الشخصية النهائية المتخذة تجاه الحياة.
إن مجال اللامعقول ووجود الله لا يستحق البرهنة عليه علميا، ما دام أن الافتراض متحقق والنتيجة موجودة مسبقا، في حين أن العلوم الأخرى تستحق عناء البرهنة والبحث العلمي للوصول إلى قوانين نهائية لسيرورة الكوسموس وإلى نتائج تكتيكية.
غير أن ما يركز عليه فيبر أن السياسة ليس مكانها في قاعة الدروس داخل الجامعات، ولا تهم الطلبة ولا المدرسين؛ لأن تبني موقف سياسي عملي هو شيء والتعليل العلمي للبنى السياسية ولفلسفات الأحزاب هو شيء آخر، إن تبني موقف سياسي معين والدفاع عنه داخل الخطاب الأكاديمي يؤدي إلى اتخاذ مواقف سياسية لدى الآخرين، وفي هذا السياق يقول ماكس فيبر: "..من العيب اتخاذ كلمات داخل الدرس تعكس الموقف الشخصي الذي يتخذه الأستاذ.."، ليبقى الأستاذ الحقيقي يمتنع بتاتا عن فرض موقف ما من أعلى كرسيه على مستمعيه، بل عليه الحرص على زرع بذور الفكر التأملي الواسع، كما أن الأسئلة المرتبطة بهذا المجال وبالطريقة التي يجب على المجتمعات السياسية سلوكه ليس فضاؤه في مدرجات الجامعة؛ لأن النبي والديماغوجي ليس مكانه في الجامعة، بل في الشارع والجمهور العام.
فإذا كان الأستاذ عليه الكلام داخل الدرس والطلبة محكوم عليهم بالصمت، وبعدم انتقاد الأستاذ من أجل ضمان مستقبلهم الدراسي والمهني فيما بعد، فإنه لا يتعين على الأستاذ انتهاز هذا الوضع لمحاولة وصم طلابه بتوجهات إيديولوجية خاصة عوض تقديم الفائدة لهم؛ لأن العلم يشرح بالأساس كيف هو العالم، وليس كيف يتوجب أن يكون.
وبما أن العلم خال من الافتراضات المسبوقة، فإنه يبقى على الأستاذ أن يفسر الأشياء تفسيرا علميا بعيدا عن العوامل الفوق طبيعية، ليستطيع المؤمن وغير المؤمن القبول بها.
لينبه فيبر بعد ذلك، أن خطأ الشباب في مدرجات الكلية هو انتظارهم من الأستاذ شيئا آخر غير التحليلات وتعينات الوقائع، وهذا أمر خاطئ؛ لأنه في هذه الحالة سيتم التفتيش عن أستاذ زعيم لا أستاذ فقط، والحال أن شغل كرسي لا يمكن أن يتم إلا من منطلق أستاذ وليس زعيما أو نجما.
وبالتالي يبقى على الأساتذة أن لا تكون لهم صفة الزعيم، وعليهم ألا يدعوا أنهم أبطال وزعماء في القضايا المتعلقة بأمور حياتنا؛ لأن قيمة الكائن الإنساني كيفما كانت لا ترتبط بصفات الزعيم التي يمكن أن يمتلكها أو لا يمتلكها؛ ففي كل الأحوال فإن المؤهلات التي تجعل من إنسان ما عالما بارزا وأستاذا جامعيا ليس بالتأكيد هي نفسها التي يمكن أن تجعل منه زعيما في مجال سلوك الحياة العملية، من يدعي ذلك، فعليه مباشرتها خارج مجال الدرس في الساحة العامة، لتقبل ردود فعل المعارضين والعموم على خلاف الطلبة داخل الدرس الذين يكونون محكوم عليهم بالصمت.
ليبقى السؤال مفتوحا على مصراعيه حول ما هو الإسهام والفائدة التي يقدمها لنا العلم في حياتنا العملية والشخصية؟
للجواب عن هذا السؤال، اعتبر ماكس فيبر أن العلم يضع تحت تصرفنا عددا معينا من المعارف التي تسمح لنا من السيطرة على الحياة تكنيكيا عن طريق التنبؤ المسبق، سواء في الأشياء الخارجية أو في نشاط الإنسان، كما يمنح لنا العلم أدوات وآليات منهجية فكرية كوسيلة نستعين بها من أجل الوضوح، ليبقى الاختيار بارزا بين الغاية والأساليب التي تتطلبها هذه الغاية، وهل الغاية تبرر الوسيلة كيفما كان شكلها؟
يستطيع الأستاذ وفقا لملكاته الذهنية وتجربته العلمية أن يبين للطالب ضرورة وأهمية الاختيارات المتاحة، وأن يبين له النتائج التي عليه أن يتحملها ويوافق عليها مسبقا بغية الوصول إلى الغاية المنشودة وفقا لدروس التجربة، وهذا ما يفيد أن الأستاذ عليه أن يولد الوضوح وحجم المسؤولية في نفس الآخرين عوض فرض قناعة ما على مستمعيه.
إن العلم باعتباره "دعوة" مبني على الاختصاص، ونشوء الوعي بذاتنا ومعرفة العلاقات الموضوعية لا يجب أن يكون هدفه منح خلاص النفس، وليس هو أيضا مكملا لتأمل الفلاسفة والحكماء الذين يسألون عن معنى الحياة؛ لأن منح خلاص النفس قد يوجد عند مخلص أو نبي، ولا ينبغي للأستاذ أن يتحول إلى نبي صغير متميز ومأجور من قبل الدولة يحاول لعب هذا الدور داخل المدرجات.
ثانيا: مقتضيات المحاضرة الثانية "حرفة ودعوة رجل السياسة"
لقد استبعد ماكس فيبر في بداية محاضرته إبداء رأيه حول المسائل التي كانت سائدة والراهنة في ألمانيا آنذاك، وما ينبغي أن يكون عليه الوضع فيما بعد كما كان متوقعا من الطلبة سماعه؛ وذلك تكريسا للحياد المعرفي الذي تحدث عنه في المحاضرة السابقة، ليقصر خطابه فقط على إعطاء توصيف وتحليل عام لمفهوم السياسة ولرجل السياسة وللمؤسسات السياسية مركزا على الأحزاب السياسية عامة، مع بعض الإسقاطات على النظام الألماني والأنظمة المقارنة الأخرى.
وعليه، فقد أعطى مفهوما للسياسة من خلاله ربطه بجهاز الدولة والسلطة، حيث اعتبر أن كلمة سياسة تعني "إدارة التجمع السياسي الذي ندعوه اليوم (الدولة) أو التأثير الذي يمارس على هذه الإدارة" فالدولة الحديثة لا يمكن تعريفها سوسيولوجيا إلا من خلال العنف الفيزيقي الذي تلجأ إليه الدولة، حتى تضمن بقاءها واستمراريتها، فهو عنف مشروع حسب تقديرها تستأثر به لوحدها دون أن تسمح لبقية التجمعات والأفراد بحق اللجوء إليه إلا بمقدار ما تسمح به الدولة.
فالسياسة بهذا المعنى، حسب ماكس فيبر هي "مجمل الجهود المبذولة بهدف المشاركة بالسلطة أو التأثير في توزيع السلطة، سواء داخل الدولة أو بين مختلف المجموعات داخل الدولة نفسها"؛ فهي نشاط عرفته الإنسانية مند القدم. لذلك كان من الطبيعي أن تشغل السياسة بال عالم الاجتماع وباحثا في مجال السوسيولوجيا كماكس فيبر.
وبناء على هذا التعريف الذي جاء به فيبر، فإن وجود الدولة يعكس علاقة سلطوية وسيادة إنسان على إنسان؛ أي إن هناك أسبابا تجعل أشخاصا داخل إقليم معين يقبلون بالسلطة، وهذا هو ما يفسره وجود أسباب داخلية تبرر هذه السيطرة ووسائل خارجية تستند عليه وتشرعن هذه التبعية، والتي حصرها ماكس فيبر في ثلاثة أسباب أساسية، وهي:
v السلطة التقليدية: تعتمد على الأعراف والتقاليد
v السلطة الكاريزمية: تعتمد على تأثير قوة الشخصية والعبقرية
v السلطة الشرعية: تعتمد أساسا على القانون كمصدر لها
وما حاول ماكس فيبر التركيز عليه في هذه المحاضرة هو النوع الثاني من السلطة، وهو السلطة الكاريزمية المشتقة من خضوع الرعايا للزعيم أو النبي أو الديماغوجي، واعتبر أن الطاعة لهؤلاء تتم على أساس الثقة وقوة التأثير بصفاته الشخصية بعيدا كل البعد عن العرف والشرع، واعتبر فيبر أن أنواع الحكم تسير في اتجاه تعاقبي، حيث تنتقل السلطة من النظام التقليدي إلى النظام البيروقراطي الحديث.
وكيفما كان نوع السلطة المتبعة وشكلها، فإنه يبقى مشروع السيطرة المتبع من قبل القوى السياسية المهيمنة من أجل تأكيد سلطتها مبني على استمرار وتسلسل إداري لابد منه وعلى آليات اشتغال، والمتمثلة خاصة في توجيه نشاط الرعايا تبعا للطاعة الواجبة نحو الأسياد الذين يدعون الإمساك بالقوة (أركان عامة إدارية)، ومن خلال هذه الطاعة إمكانية التصرف بالوسائل المادية التي هي عند الاقتضاء ضرورة تطبيق القوة الفيزيقية (وسائل مادية إدارية).
بذلك ركز فيبر على مفهوم القوة كركيزة أساسية لقيام الدولة الحديثة، فلو كانت هناك بنى اجتماعية تنتفي منها كل أشكال العنف لاختفى مفهوم الدولة، وعمت الفوضى بالمعنى الخاص للكلمة؛ فالعنف ليس هو الوسيلة الوحيدة العادية للدولة، بل هو مجرد وسيلتها النوعية، فقد كان فيبر يؤمن بفكرة القوة ويربطها بوجود الدولة فكل سلطة سياسية لابد لها من استخدام القوة.
وعليه، فإن الدول الحديثة قد اتخذت في شكلها تجمعا مهيمنا له طابع دستوري حاول بنجاح ابتكاره ضمن حدود جغرافية العنف الفيزيقي الشرعي كوسيلة للسيطرة ولضمان الاستمرارية، وجمع بهذا الهدف بين يدي الحاكم وسائل الإدارة، وبالنسبة إلى الأشخاص الذين كانوا فيما مضى يعتبرون أنفسهم موظفين يتصرفون في حقهم حلت محلهم الدولة وانتزعت منهم ملكيتهم السياسية.
وهذا ما أدى إلى ظهور نوع جديد من رجال السياسة يعرفون بـ "رجال السياسة المحترفين" الذين يشكلون صنفا جديدا من الرجال الذين لم يكونوا مطلعين للسياسة، ولا أن يمتلكوا طموح الزعماء الكارزميين لكن بحكم خدمتهم للأمراء دخلوا الصراع السياسي، ووفرت لهم إدارة مصالح الأمير السياسية كسب عيشهم ومضمون حياتهم المعنوي، وهو شكل جديد لم يكن معروفا فيما قبل نشوء الدولة ككيان اعتباري معنوي.
وبالرجوع إلى مضمون السياسة، فقد رأى ماكس فيبر أن للشخص طريقتين لممارسة السياسة؛ الأولى أن يعيش من أجل السياسة، والثانية أن يعيش من السياسة، واعتبر أن في الأولى يصنع الشخص من السياسة التي يحيا من أجلها هدف حياته، ويجعل من نفسه يخدم قضية تعطي لحياته معنى ما، وهذا يقتضي من رجل السياسة أن تكون له ثروة شخصية ومدخول فردي، وأن يكون مستقلا اقتصاديا عن الإيرادات التي يمكن أن توفرها له السياسة وهذا هو الصواب، حيث عليه لا يرى من السياسة مصدرا دائما للدخل تجعله يحيا من السياسة ذاتها.
وهذا ما يدفع إلى القول بأن السياسيين المحترفين ليسوا مجبرين مباشرة وبشكل دائم على المطالبة بتعويض مقابل خدماتهم السياسية مع بقاء الأفراد المحرومين من الثروة مضطرين إلى أخذ هذا الجانب الاقتصادي. وبالتالي، فإن النظام البلوتوقراطي لا يخلو من احتمالين؛ الأول يجعل ممارسة النشاط السياسة فخرا من طرف أشخاص مستقلين لهم ثروة شخصية، والثاني يفتح السلطة لعديمي الثروة وفي هذه الحالة، فإن النشاط السياسي يتطلب راتبا، ويمكن أن يجعل منه ذلك موظفا ذا راتب.
كما أشار فيبر أنه إذا كان شغل منصب إداري يعتبر نوع من تأمين على المستقبل ويحركه قوى توزيع الوظائف حسب المصالح، فإن هذا الوضع يتعارض مع تطور الوظيفة العامة المعاصرة التي تتطلب نخبة متخصصة ومثقفة تتوفر على كفاءات وتكوين، غير أن هذا الجانب حسب فيبر خص فقط المجال المالي والجيش والقضاء.
بالإضافة إلى ذلك، اعتبر ماكس فيبر أن الصحفي هو الآخر له قوة تأثير مثله مثل الديماغوجي غير أنه يفلت من أي تصنيف اجتماعي، ومع ذلك تبقى إمكانيتهم للوصول إلى مناصب إدارية سياسية وأن يصبحوا زعماء أحزاب هي مسألة ضعيفة واستثنائية، لتبقى مهنة الصحافة من أهم طرائق النشاط السياسي المهني.
وعلى عكس الصحفي الذي يمكن اعتباره الرجل السياسي المحترف الذي يمتلك ماضيا عريقا، فإن صورة موظف الحزب السياسي لم تظهر إلا مؤخرا، ويبقى فهم التطور التاريخي لهذا النموذج الجديد مرتبطا بالضرورة حياة وتنظيم الأحزاب السياسية.
المحور الثاني: قراءة تحليلية في كتاب ماكس فيبر "رجل العلم ورجل السياسة"
بعد إعطاء تلخيص لأبرز المضامين التي جاء بها كتاب ماكس فيبر، سنحاول في هذا المحور أن نتطرق إلى حدود مساهمة فيبر في دفاعه عن القطيعة التي ينبغي أن تطبع كل من رجل السياسة ورجل العلم؛ وذلك من خلال التحليل الذي سنقدمه لمضامين المحاضرة الأولى (أولا)، ثم بعد ذلك الانتقال إلى تحليل المقتضيات التي تصب في هذا المنحى، والتي جاءت في المحاضرة الثانية (ثانيا)
أولا: تحليل مقتضيات حرفة العالم ودعوته
من خلال هذا التحليل الذي سنقدمه، سنحاول تقسيم المحاضرة الأولى التي ألقاها ماكس فيبر على طلابه في الجامعة إلى نقطتين أساسيتين؛ الأولى متعلقة بالشروط الخارجية لمهنة العالم، حتى يتمكن من دعوته ويضع هذه الأخيرة في المسار الصحيح (أ)، ثم الثانية متعلقة بالشروط الداخلية والاستعدادات التي على العالم أن ينطلق منها في دعوته (ب)، وذلك من وجهة نظر طبيعة الدعوة التي على العالم كرجل العلم الاهتداء بها وتقديمها إلى المتلقين.
أ- الشروط الشكلية لرجل العلم
كما سبق الإشارة إلى ذلك، أن ماكس فيبر انطلق من فكرة أساسية في محاضرته الأولى التي حاول من خلالها إبراز العلاقة التي تجمع بين العالم والأستاذ المحاضر، ولتوضيح ذلك أعطى ماكس فيبر مقارنة في بناء المؤسسات الجامعية بين نظامين مختلفين؛ هما النظام الأمريكي والنظام الألماني الذي ينتمي إليه فيبر، وانطلق في ذلك من تجربته الخاصة، ومن الزيارة التي قام بها إلى الولايات المتحدة بالإضافة إلى تجارب زملائه وأساتذته الذين هاجروا إلى هناك، ولاحظ أن الشاب الألماني بعد أن يكرس نفسه للعلم ويبدأ عمله كأستاذ جامعي تواجهه مجموعة من الصعوبات سواء المادية أو المعنوية بشكل أقل نسبة مقارنة مع الوضع في الولايات المتحدة، ولعل هذا الوضع في ألمانيا هو ما يؤثر في شخصية الأستاذ المحاضر في ألماني وفي دعوته العلمية لأن هذا الوضع المزري يجعل منه إنسانا تابعا ومتأثرا بنظام بلوتوقراطي متحكم فيه يجعل من رجل العلم متحكما فيه هو الآخر، وتجعل أفكارهم ودروسهم تفتقد إلى الموضوعية وتتملق إلى النظام الحاكم أكثر منها علما.
كما أن هذه الحرفة/المهنة حسب تعبير ماكس فيبر هي محتكرة في الممارسة على فئة معينة تبعد عنها عدد كبير من الطلبة المتفوقين لبلوغ هذا المنصب لدواعي الصدفة، أو لأسباب سياسية أو إيديولوجية ذاتية بعيدة كل البعد عما هو موضوعي، وهذا ما يؤدي في غالب الأحيان إلى عدم وصول النابغين من الخريجين إلى مناصب الأستاذية، وهو ما يؤدي إلى إنتاج أساتذة لا يمتلكون كفاءة العالم لكن قد يكونون متفوقين في دورهم كأساتذة فقط من خلال الممارسة، حيث تقاس درجة نجاحهم بغزارة الطلبة الحاضرين الذين قد تجلبهم إلى المحاضرة مجرد المزاج الجيد والمرح للأستاذ أو نبرة صوته كما وضح فيبر في محاضرته السابقة.
ولعل هذا الوضع الجامعي الذي كانت تعيشه ألمانيا هو القائم حاليا في المجتمعات العربية/الإسلامية التي تفتقر إلى المعنى الحقيقي للأستاذ/العالم الذي يفصل بين الخطاب العلمي والخطاب السياسي الإيديولوجي، والذي يتفوق في وظيفة التدريس ليحظى بسمعة بين الطلاب ويبدع في بحثه العلمي المنتج للفكر وللمعرفة من خلال الكتابات والمساهمات العلمية بمختلف أشكالها التي ترقى به إلى مستوى العالم والأستاذ المحاضر، وهذا ما يحتم على الشباب في هذه المجتمعات بعد تأهيلهم لمزاولة مهنة التدريس أن يتسموا بالحياد في خطاباتهم العلمية وفصلها عن كل ما هو إيديولوجي سياسي، وكذا أن التمكن من التوفيق بين صفة العالم وصفة الأستاذ المحاضر، وأن يتحملوا تفوق الأساتذة الرديئين عنهم كما كان الحال عليه في ألمانيا سابقا، غير أن هذا الوضع مع ذلك لا يستثني وجود أساتذة أكفاء محايدين وعلماء في نفس الوقت على الرغم من قلة عددهم.
ب- الشروط الموضوعية لرجل العلم
إن ماكس فيبر كان صائبا، عندما انتقد بشدة الدعوة التي يقدمها رجل العلم، والتي تكون مشحونة بأفكار وتوجهات إيديولوجية وسياسية تحجب على الطالب روح التأمل والتفكير، وبالتالي يرى فيبر أن الأستاذ عليه أن يكون محايدا في خطابه ودعوته، ويتجنب استعمال العبارات التي تحمل فكرا وتوجها وتعكس وجهات نظر الأستاذ المحاضر الذي يكون من حقه الكلام داخل المحاضة في حين على الطالب المتلقي الصمت دون إبداء أية معارضة أو نقد الشيء، وهذا الوضع هو ما يتيح للأستاذ سوء استغلال السلطة الموكولة إليه على طلابه.
وفي هذا السياق، قد يدفعنا النقاش إلى الحديث عن عالم الاجتماع المحاضر الذي قد يغيب عنه هذا الحياد المعرفي، سواء بوعي أو بغير وعي؛ وذلك عندما يستجيب لرغبات الجمهور المثقف الذي ينتظر أن يقدم له علم الاجتماع من خلال خطابه إجابات وحلولا شاملة عن المشكلات الاجتماعية الإنسانية[8]، ويزداد هذا الوضع حدة، عندما يهتم عالم الاجتماع بدراسة الظاهرة السياسية التي لا يخلو أن يصير فيها عالم الاجتماع إيديولوجيا يمرر خطابات إيديولوجية أكثر منها علمية، وهذا ما يدفع إلى التشكيك في علمية علم الاجتماع.
بالفعل إن الباحث في علم الاجتماع خلال مقاربته للظاهرة السياسية، فإنه سيقدم حلولا وسيكون بذلك قد حشر نفسه في ما هو سياسي، وبالتالي سيكون موجها للسياسة من منطلق خدمة بعض المصالح، وهذا ما سيؤدي إلى التشكيك في حياده العلمي وفي عمله كعالم اجتماع، غير أنه مع ذلك يجب على عالم الاجتماع أن ينحصر دوره في حدود تشخيصه للواقع الاجتماعي وتحليله سوسيولوجيا، لينتهي دوره ويفتح المجال لرجال السلطة والساسة لتوظيف هذه المعطيات في إطار نوع من الاستقلالية والحياد فيما بينهما.
ويبقى في الأخير على الأستاذ المحاضر أن يوضح الصورة للطالب من خلال المعارف المكتسبة وأن يشعره بحجم المسؤولية في اختياراته المستقبلية من دون أي تأثير عليه وعلى فكره؛ لأن العلم في آخر المطاف يبقى وظيفة معرفية لتوضيح الفهم السليم وفق آليات وأدوات منهجية تمكن من بلوغ الغاية.
ثانيا: نقد النموذج المثالي للسلطة السياسية عند ماكس فيبر
من المعلوم أن السلطة سمة ملازمة للمجتمعات البشرية مند القدم، حتى وإن كانت ممارستها تأخذ على مر الزمن أشكالا مختلفة من عصر إلى عصر ومن مجتمع إلى آخر، ليبقى مفهوم السلطة السياسية من الأمور الشائكة التي تتداخل فيها بشكل كبير دراسة وتحليل النظم السياسية، حيث اختلفت نظرة المتخصصين لهذا المفهوم بين من اعتبرها تنظيما سياسيا يقوم على استغلال الأفراد واضطهادهم، وبين من يرى أنها لازمة ضرورية للحفاظ على الجماعات الاجتماعية ولتنظيم المجتمع وضمان توافقه وتجانسه.
وإذا كانت السلطة حسب فيبر هي تلك القدرة على إثبات الإرادة في إطار علاقة اجتماعية، على الرغم من المقاومات الممكنة التي تستلزم ممارستها توفر أشخاص لهم استعداد للطاعة وقبول السلطة، والتي اعتبرها كمدخل أساسي اعتمده في تعريف الدولة، فإن القانوني الفرنسي "ليون دوغي" انطلق من أجل ذلك للتمييز بين "الحكام" و"المحكومين"، واعتبر أن في كل مجموعة إنسانية من صغرها إلى كبرها، ومن الأكثر عرضا إلى الأكثر ثباتا، تمة من يأمرون ومن يطيعون[9]؛ أي إن هناك علاقة نفسية بين الحاكم والمحكوم، بين من يمارس السلطة، وبين من تمارس عليه السلطة حتى يتحقق نوع من التأثير على عقول وأفكار المحكومين، وجعلهم يخضعون للأوامر في إطار نوع من التبعية.
كما أن ماكس فيبر في نفيه وجود دولة قائمة بذاتها بلا قوة تستند عليها، فهو قد ركز فقط على الصراع من أجل السيطرة، وبنى مفهوم الدولة على القوة "الفيزيقية" المادية، هذه الأخيرة التي هي نوع من ممارسة القهر أو الإجبار بواسطة أخذ الأفراد على الآخرين، والتي تمارسه بشكل يضمن استمراريتها، لتحتل عنده مفاهيم الإكراه والقوة والعنف أساس تعريف الدولة الحديثة التي ينظر إليها فيبر بوصفها مشروعا سياسيا، يحتكر العنف المشروع داخل المجتمع وحيازة سلطة الإكراه، وعليه فإن أفكار فيبر ارتبطت حول الصراع والقوة، ولعل ذلك مرتبط بالوضعية التي كانت ألمانيا تعيشها خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أصبحت ألمانيا غير قادرة ومؤهلة لعقد تحالفات وامتلاك مستعمرات بعد أن كانت متمكنة اقتصاديا، وعلى قدر كبير من القوة وعرفت انحدارا في مسار الديمقراطية وظهور البيروقراطية، ولقد كان فيبر مجروحا جراء هذا الوضع في كرامته ووطنيته بكونه ألمانيا ويطغى على تصوره الشكل القوي الذي يجب أن يطبع الإمبراطورية الألمانية، حتى تقول كلمتها في مستقبل الإنسانية [10]، ولعل هذا ما انعكس على فكره ومواقفه السياسية، حيث اعتبر العديد من الباحثين أنه لم يلزم الحياد القيمي المطلوب منه، بدل أن يهتم بالأمة بوصفها مفهوما سوسيولوجيا ربطه بمفهوم القوة وكان همه الوحيد هو ما يتعين على الدولة القيام به لتكون قوية فقط[11].
لكن حتى وإن كانت القوة بهذا المفهوم تشكل مرتكز أساسي في كيان الدولة، فإن الدولة القوية هي التي تتمكن من إخفاء قوتها في شكل المؤسسات والعادات من دون حاجة إلى التلويح بها باستمرار والتضلع بها لفرض السلطة، حتى لا يبرز فيها الإكراه إلا بشكل غير محسوس تحقيقا لنوع من التوازن بين الشرعية والمشروعية[12]، العنف المادي في آخر المطاف لا ينتج إلا مزيدا من العنف...
وبخصوص مضمون السياسة الذي رأى ماكس فيبر من خلاله أن للشخص طريقتين لممارسة السياسة؛ الأولى أن يعيش ويحيا من أجل السياسة، والثانية أن يعيش من السياسة، فإننا نعتقد أن هناك تقاطعا وتداخلا بين المسألتين دون أي فصل بينهما؛ لأن من يعيش من أجل السياسة حتى وإن كان يخدم قضية تعطي لنفسه معنى بغض النظر عن الجانب المادي، فإنه مع ذلك يستفيد من الامتيازات التي تقدمها له السياسة والريع الذي يستفيد منه، وهذا ما يعود عليه بالنفع ويضمن له استقرارا ماديا وثروة متزايدة تجعله يحيا من السياسة بعد أن كان يحيا من أجلها.
أما بخصوص النماذج الثلاثة للشرعية الفيبيرية، فإننا نجدها تقابلها ثلاثة نماذج مثالية للأنظمة السياسية:
- ملكية/ السلطة التقليدية
- دكتاتورية/ السلطة الكاريزمية
- برلمانية وطنية/السلطة الشرعية
وما يعاب على هذه النماذج من السلط أنها لا تسير في منحى تعاقبي كما يرى فيبر؛ وذلك راجع لكون النماذج الثلاثة يمكن أن تتعايش في نظام واحد، بالإضافة إلى أن هذا النظام التسلسلي لم يحترم في تغيير نظام الحكم في المجتمعات البشرية، كما ربط ماكس فيبر البيروقراطية بالسلطة، وسعى إلى تبرير شرعية السلطة أو العقلانية البيروقراطية في عمل الدولة الحديثة[13]؛ أي إن التنظيم الاجتماعي لكي يؤدي وظائفه لابد للأفراد من قناعة وإيمان بمبدأ الشرعية ومن ضرورة وجود مبررات قانونية كمصدر للسلطة، وهذا ما يبرز تركيز فيبر على السلوك العقلاني والعلاقات غير الشخصية في البناء البيروقراطي، لكن ما يعاب على هذا التنظيم غياب التطرق إلى العلاقات الشخصية والاعتبارات غير العقلانية بالدرجة الأولى.
وحسب كارل لويث، فإنه من بين إحدى مآسي ماكس فيبر أنه لم يستطع تحقيق طموحاته السياسية في العمل السياسي المباشر، حيث لم يكن له إلا تأثير بسيط في حياته على العلوم الاجتماعية الألمانية، إلى درجة أنه لم يتمكن أبدا من تأسيس مدرسة خاصة به كما هو حال كارل ماركس، فيبر لم يقدم سوى تشخيص وليس علاجا، كما ركزت سوسيولوجيته على الدولة القوية والقيادة الكاريزمية والديمقراطية التمثيلية التي ينبغي أن تكون.[14]
خاتمة:
من خلال اطلاعنا على حياة ماكس فيبر والبعض من أعماله بما فيها الكتاب الذي قمنا بمحاولة إعطاء قراءة في مقتضياته، تبين لنا أن الظروف الخارجية والداخلية لعبت دورا كبيرا في نوع التوجهات الفكرية والمعرفية خاصة في المجال السياسي، حيث استفاد فيه فيبر من والده الذي كان من السياسيين البارزين الذين يقيمون صالونات فكرية وسياسية في بيته. أما في المجال الديني، فقد كان لوالدة فيبر تأثير كبير على فكره وتوجهاته، حيث اهتم بمبادئ الديانة الكالفينية التي كانت تنتمي إليها عائلة والدته، وهذا ما أثر على فكر وأعمال ماكس فيبر التي ساهمت هي الأخرى في وضع اللبنات الأولى والأسس الابستمولوجية والمنهجية للسوسيولوجيا كعلم مستقل بذاته[15].
كما يلاحظ من خلال كتابات ماكس فيبر، أن قيمه الشخصية تأثرت بتحيزه القومي، فقد كان مؤمنا بالقومية الألمانية وبضرورة تقوية الدولة الألمانية، فهو لا يحرص فقط على استقلالية الجامعة والعلم من الأهواء فحسب، بل إنه يؤكد على سبب مهم آخر يتجلى في الدفاع عن الدولة ومؤازرتها من خلال منع العلماء من التدخل في السياسة ومن التطاحن الفئوي وتصادم القيم؛ لأن ذلك يساهم في إضعاف الدولة الوطنية في آخر المطاف.[16]
في الأخير يجب الإشارة إلى أن ماكس فيبر من خلال كتابه "رجل العلم ورجل السياسة" كان موفقا إلى حد كبير في إبراز أوجه الارتباط الوطيدة بين العلم والسياسة كحرفة ودعوة، وسبل فك هذا الارتباط القائم بين رجل العلم ورجل السياسة في إطار نوع من الحياد الموضوعي، بعيدا كل البعد عن الذاتية وعن الخلفيات الإيديولوجية؛ وذلك حتى يتسنى للمجتمع نهضته وتطوره.
- لائحة المراجع
ü محمد ياقين، الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا الكلاسيكية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2020.
ü موريس دوفرجيه، علم اجتماع السياسة، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت، 1991.
ü فريديريك لوبرون، قاموس السوسيولوجيا، 250 كلمة من أجل فهم وممارسة علم الاجتماع، ترجمة زكرياء الابراهيمي، الطبعة الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2017.
ü سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر، إكرام عدنني، الطبعة الأولى، منتدى المعارف، بيروت، 2013.
ü ب.بورديو، ج. س. باسرون، ج.س.شامبوردون، حرفة عالم الاجتماع، ترجمة نظير جاهل، الطبعة الأولى، مطبعة دار الحقيقة، 1993.
ü قبارى محمد اسماعيل، علم الاجتماع الألماني، الطبعة الأولى، دون ذكر المطبعة، القاهرة، 1971.
ü ماكس فيبر وكارل ماركس/ كارل لويث، ترجمة عبد الله حداد، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، الطبعة الأولى، بيروت، 2020.
[1] - زكرياء التوتي باحث في السوسيولوجيا كلية الآداب ظهر المهراز فاس
[2]- قبارى محمد اسماعيل، علم الاجتماع الألماني، الطبعة الأولى، دون ذكر المطبعة، القاهرة، 1971: ص 339
[3]- للإحاطة أكثر بحياة ماكس فيبر يراجع:
- إكرام عدنني، سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر، الطبعة الأولى بيروت، 2013، ص: 251 وما بعدها
- قبارى محمد اسماعيل، م س، ص: 335 وما بعدها
[4]- محمد ياقين، مرجع سابق، ص: 223
[5]- البيروقراطية هي نوع من التنظيم يقوم على الخصائص اللاشخصانية للوظائف وعلى التنظيم العقلاني للعمل، إنها لا تميز الدولة فقط، وإنما تمتد إلى كل أشكال الفعل والتنظيم العقلاني، فهي بذلك مرتبطة بالشرعية
فريديريك لوبرون، قاموس السوسيولوجيا، 250 كلمة من أجل فهم وممارسة علم الاجتماع، ترجمة زكرياء الإبراهيمي، الطبعة الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2017، ص: 41
[6]- الفهم هو عبارة عن مقاربة ترنو إلى إعادة بناء المعنى الذاتي الذي يستثمره فاعل اجتماعي لحظة القيام بفعل ما، جعل ماكس فيبر من واقع فهم معنى الأفعال واحدا من الأسس التي تقوم عليها السوسيولوجيا، يقول في (الاقتصاد والمجتمع) "نسمي السوسيولوجيا ...العلم الذي يقترح فهم النشاط الاجتماعي من خلال تأويله، ومن ثمة تفسير كيفية اشتغاله وآثاره سببيا"
نفس المرجع، ص: 69
[7]- محمد ياقين، الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا الكلاسيكية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2020، ص: 223
[8]- ب.بورديو، ج. س. باسرون، ج.س.شامبوردون، حرفة عالم الاجتماع، ترجمة نظير جاهل، الطبعة الأولى، مطبعة دار الحقيقة، 1993، ص: 129
[9]- موريس دوفرجيه، علم اجتماع السياسة، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت، 1991، ص: 21.
[10]- قبارى محمد اسماعيل، م س، ص: 338
[11]- إكرام عدنني، م س، ص 150
[12]- نفس المرجع، ص: 148
[13]- فيليب برو، علم الاجتماع السياسي، ترجمة محمد عرب صاصيلات، المؤسسات الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع
[14]- ماكس فيبر وكارل ماركس/ كارل لويث، الطبعة الأولى، ترجمة عبد الله حداد، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، بيروت، 2020، ص: 25
[15]- من بين الأعمال المهمة في هذا المجال:
مقالات عديدة في نظريات العلم 1904/1917م، "الأخلاق البروتيستانية وروح الرأسمالية" المنشور سنة 1905م، "مقال حول بعض مقولات السوسيولوجيا الفاهمة"، 1913م، ثم كتابه "الاقتصاد والمجتمع" الذي نشر بعد وفاته بسنتين سنة 1922م من قبل زوجته، ويبقى من أهم كتبه التي كان لها الوقع الكبير على الفكر السوسيولوجي وعلم السياية كتابه "رجل العلم ورجل السياسة" 1919م وهو ما يهمنا في هذا المقام،
المرجع السابق، ص: 224
[16]- وسيلة خزار، الأيدولوجيا وعلم الاجتماع جدلية الانفصال والاتصال، الطبعة الأولى، إعداد منتدى المعارف، بيروت، 2013، ص: 154