قراءة في كتاب: نَظْمُ القُرْآنِ قراءةٌ جديدة فِي تَجَانُسِ إيقاعِهِ وَتَلَاحُمِ بِنَائِهِ للمؤلف جوهر محمد داود
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب: نَظْمُ القُرْآنِ قراءةٌ جديدة فِي تَجَانُسِ إيقاعِهِ وَتَلَاحُمِ بِنَائِهِ
للمؤلف جوهر محمد داود[1]
صدر عن دار مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث عام 2022 مؤلف جديد، لصاحبه جوهر محمد داود، وهو إصدار عنونه بـ: "نَظْمُ القُرْآنِ قراءةٌ جديدة فِي تَجَانُسِ إيقاعِهِ وَتَلَاحُمِ بِنَائِهِ"
جاء الكتاب موزّعا على ستة فصول ومذيلا بخاتمة مفصلة، وقائمة من المصادر والمراجع وفهارس للأعلام والألفاظ.
صرح الكاتب في مقدمة كتابه، أن هذا الكتاب يقترح نظرية جديدة يتتبع فيها الخيط الرابط بين موضوعات السورة المتعددة انطلاقا من تلاحم البناء اللغوي، قصده من ذلك تقديم تفسير شامل للإعجاز الكامن في نظم القرآن ليس من خلال ما قدمه القدماء في تعاملهم مع النص القرآني أمثال عبد القاهر الجرجاني، وإنما من خلال التلاحم اللغوي الذي يقوم عليه بناء السورة، بعيدًا عن قواعد النحو والبلاغة ومذاهب التفسير.
وعلى ضوء هذا، قسم الكاتب عمله إلى فصول تأتي كالآتي:
تتبع الكاتب في الفصل الأول، مصادر الإيقاع في القرآن من حيث الحروف والتنوين والضمائر، بوصفها أدوات تتكرر وفق إيقاع تفرّد به القرآن عن الشعر والنثر، على اعتبار أن للصوت قيمة كبيرة في القرآن؛ فقد جاء في سورة المزمل/4 (ورتل القرآن ترتيلا)؛ لأن في ذلك شد للأسماع وتأثير على القلوب والنفوس؛ والقارئ أو المستمع لآيات القرآن يتلذذ بألفاظه وأصواته المناسبة لها، فترتاح نفسه ويطمئن قلبه، ولعل في ذلك إعجاز ربّاني تمثل في القرآن. ولبيان الفرق بين الكلام الإلهي والكلام البشري، أجرى الكاتب مقابلة بين الشعر والقرآن، فأوضح أن الشعر يقوم على الوزن والقافية في قصيدة تتكون من شطرين متساويين (صدر-عجز)، في كل واحد منهما مقاطع صوتية تتكرر بانتظام حسب وزن من الأوزان التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي، سواء كان من الأوزان الصافية حيث تتكرر تفعيلة واحدة، أو من الأوزان الممزوجة التي تتكرر فيها تفعيلتان مختلفتان، مع الاحتفاظ بالقافية ووحدة الروي، حرصا على موسيقى تطرب لها الأذن، ويرى الكاتب أن هذه الأوزان هي قيود تكبل الشاعر وتفرض عليه أن يختار من الألفاظ ما يناسب الإيقاع أو بحر القصيدة، ويتلو ذلك رتابة تتجلى في التردد المنتظم للحركات والسكنات. بخلاف ذلك، لاحظ الكاتب أن آيات القرآن لم تكن متساوية تتردد بانتظام، والسبب لأن "القرآن ليس موزونًا ولا مقفًّى، وإن كانت فيه الفاصلة التي تشبه القافية ولكن لا تماثلها، كما سنرى. فآيات القرآن تتفاوت في طولها تفاوتًا شديدًا. فبعضها يتكون من كلمةٍ واحدة، وبعضها من بضع كلمات، وبعضها من عدد من الجمل، وبعضها يغطي ربع الصفحة أو ثلثها أو نصفها في المصحف. ومن ثَمَّ فليس من الممكن أن تتساوى مقاطعه على النحو الذي نجده في الشعر".
ومن ثمة، يظهر الاختلاف البيِّنُ في النظم بين القرآن وبين الشعر، ويكشف عن المرونة الكبيرة التي يتمتع بها نظم القرآن إذا ما قِيسَ بالقيود الكثيرة التي تحيط بنظم الشعر. والسر في ذلك، يقول الكاتب، أن الإيقاع في القرآن ينبعث من حروفه وكلماته وفواصله جميعًا. إنه ينبعث من تردد الحروف والتنوين والضمائر وأدوات النحو والفواصل في أنساقٍ متنوعةٍ ومتجددةٍ لا تكاد تُحْصَى. وعلى الرغم من استهجان بعض القدماء للتكرار في الشعر أو النثر، ومنهم ابن الأثير وأبو هلال العسكري والباقلاني كما ذكر المؤلف، فإن ذلك التكرار في القرآن لم يستنكره أحد، ولعل السبب يعود إلى إيمان هؤلاء المطلق بإعجاز القرآن الذي لا يقارن بالكلام المنظوم أو المنثور. ولم يغفل الكاتب دور الباحثين في العصر الحديث ومنهم سيد قطب الذي حاول تتبع مواطن الإيقاع في القرآن الكريم لكن ذلك غلب عليه العموم وقلة الأمثلة، ولا سيما ما تعلق بالإيقاع الداخلي الذي يتجاوز الفاصلة القرآنية، وبالتالي لم يضع يده على الباقي من مصادر الإيقاع في القرآن. كما أشار الكاتب إلى كتابين رآهما مهمين؛ الأول كتاب "النبأ العظيم" لمحمد عبد الله دراز، والثاني "إعجاز القرآن" لمصطفى صادق الرافعي، وذكر أن صاحب الكتاب الأول؛ أي دراز، فيرى أن القرآن متفرد بتأليفه الصوتي الذي يشعر المستمع بالاتساق والائتلاف. بينما اكتفى صاحب الكتاب الثاني؛ أي الرافعي بالحديث عن تلاؤم الحروف وأصواتها والكلمات وحروفها، ويشير الكاتب جوهر، أن الرافعي حين تناوله لذلك لم يقدم أمثلة من القرآن، وإنما اكتفى بذكر ما ذكره ابن الأثير في المثل السائر. واستخلص المؤلف أن الكاتبين المذكورين غلب على نهجهما في الكتابة طابع السرد النظري الجدلي لصور الإعجاز.
واستنتج كاتبنا بعد ما عرضه من جهود القدماء والمحدثين بخصوص الإيقاع في القرآن الكريم، أن أهم المصادر التي تشمل خصائص الإيقاع في القرآن لم يبلغها الباحثون، وبالتالي كان عزم كاتبنا الدكتور جوهر هو استجلاء هذه الخصائص من خلال نصوص القرآن، وتتبع الوظائف الإيقاعية التي تؤديها العناصر اللغوية حروفا وتنوينا وضمائر وغيرها من العناصر التي يزخر بها القرآن.
ووفق ما تقدم، انطلق الكاتب جوهر من الوقوف عند الحروف بوصفها مصدرا من مصادر الإيقاع في القرآن، موضحا أن ثمة وظيفتين أساسيتين للحروف في النظام اللغوي؛ الأولى أن الحروف تشارك في بناء الكلمات، وهي وظيفة تؤديها جميع الحروف من ألفها حتى يائها، والثانية تساهم في بناء النظام النحوي للغة، وهي وظيفة نحوية تؤديها فقط بعض الحروف، مثل اللام التي تؤدي وظائف عديدة مثل لام الجحود، ولام الأمر، ولام الابتداء ولام الجر، بالإضافة إلى حرفي النون والميم وغيرها من الحروف التي وقف عندها الكاتب وعززها بأمثلة من القرآن الكريم. كما عرض إحصاء دقيقًا لنسبة شيوع كل حرف في كل القرآن. وبعد تناوله الحروف بالتمييز بين الوظيفة الهجائية والوظيفة النحوية، أضاف الكاتب وظيفة ثالثة تتعلق بالإيقاع المنبعث من تردد الحروف في القرآن، منها كثيرة الشيوع وقليلة الشيوع، والحروف الأخيرة مثل حرف العين والقاف والسين والحاء والجيم والشين والصاد، قليلة الشيوع تشد الأسماع. وقد تعمق الكاتب في طرح أمثلة من آي القرآن لبيان أثرها على الأذن وتأثيرها في النفس، ومنها حرف القاف وحرف الجيم وحرف العين وحرف الباء وحرف الصاد. وإلى جانب الحروف، وقف الكاتب عند التنوين بوصفه مصدرًا من مصادر الإيقاع في القرآن، على اعتبار أن التنوين حركة قصيرة تليها نون ساكنة من الناحية الإيقاعية، وبالتالي فالاسم المنون يقرع السمع بقوة؛ لأنه يشمل رنين صوتين لا صوتا واحدا، و"القرآن يستعمل التنوين في مواضعَ كثيرةٍ لِمَا له من إيقاع عالٍ ورنَّان، وخصوصًا حين يتوالى، ولِمَا له كذلك من القدرة على لفت انتباه القارئ إلى مواضعَ ذاتِ دلالةٍ مهمَّةٍ في النص".
وإلى جانب ما تقدم، ذكر الدكتور جوهر أن الضمائر تمثل بدورها مصدرًا من مصادر الإيقاع في القرآن، بوصفها المرآة التي نرى من خلالها الشخصيات، وعلى ألسنتها يجري الحوار، "كما أنها هي التي نرى من خلالها الأحداث التي يعرضها القرآن، والقضايا التي يناقشها، والموضوعات التي يتناولها. فمن خلال الضمائر نعرف مَنِ المتكلِّمُ، ومَنِ المخاطَبُ، ومَنِ المتَحَدَّثُ عنه، وهي فوق هذا كله أغنى مصادر الإيقاع في القرآن وأكثرها تنوعًا". فالكاتب يرى أن الضمائر مصدر إيقاع غني؛ لأنها تتضمن صوتين متحرك وساكن، "تُمْ" و"كُمْ" في المخاطبين، و"همْ" في ضمير الغائبين، أو صوتا واحدا متحركا حركة طويلة، وقد عرض الكاتب الضمائر بنوع من التفصيل مراعيا ترتيبها المنطقي، بدءا بضمائر المتكلم، وضمائر الخطاب، ثم ضمائر الغائب، كما كشف عن دورها الإيقاعي في عدد من السور القرآنية. ولم يغفل في معرض حديثه عن مصادر الإيقاع في القرآن حرف "لا" بنوعيها النافية والناهية، ثم النافية للجنس، و"ما" الموصولة والمصدرية وتكرار جميعها في القرآن، وهو ما يمنح الأذن وقعاً جميلا. كما وقف عند الفاصلة وذلك لما لها من أثر على أذن السامع، فهي آخر ما يبقى في الآية، ولاسيما في السور القصيرة، وإن تعددت أشكالها في سور القرآن وتنوعت، يقول الكاتب: "إنَّ هذا التنوع العجيب لتوزيع الفاصلة في القرآن يثري إيقاع النظم القرآني، ويدل على انفساح مداه ومرونة تراكيبه. ولكن إيقاع الفاصلة على تنوعه وثرائه يبقى عنصرًا واحدًا من عناصر الإيقاع الكثيرة في القرآن".
ويمثل الفصل الثاني إطارا نظريا تدور حوله فكرة الكتاب، وفيه اشتغل الكاتب على استحضار بعض السور المكية وأخرى مدنية، ليوضح أن التلاحم اللغوي هو قانون عام ينطبق على القرآن كله، حيث أوضح أن "السورة هي الوحدة الأساسية التي على أساسها ينقسم القرآن إلى مائةٍ وأربعَ عشرة وحدة مستقلة لها بداية ونهاية. والسورة فوق تنوعها في الموضوعات التي تشتمل عليها تتنوع كذلك في فاصلتها". وعلى الرغم من أن القرآن يتميز بالتشابه والتكرار، فإن الدكتور جوهر أكد أن ثمة طريقتين تؤكدان أن مقاطع السورة الواحدة تنتمي كلها إلى أصل واحد:
*- الطريقة الأولى، هي البحث عن الخيط الرابط بين موضوعات السورة المختلفة، على نفس النهج الذي اتبعه سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن، وهي طريقة انطباعية - كما يراها كاتبنا- تختلف نتائجها من مفسر إلى آخر.
*- الطريقة الثانية، وهي النظر إلى النسق الذي تعرض به موضوعات السورة، كما في السور التي تناولت القصص، والتي تتكون من ثلاثة عناصر هي التمهيد والقصص والتعقيب، وضرب الكاتب لذلك بعدد من سور القرآن، وهي طريقة يرى الكاتب أنها أوثق من الأولى، رغم أن سور القرآن ليست جميعها مما يعرض القصص عرضا متسلسلا. لذلك اقترح الكاتب طريقة ثالثة.
*- الطريقة الثالثة: وتعنى بدراسة معجم السورة قصد الكشف عن الخصائص اللغوية التي تنفرد بها السورة عن غيرها من السور الأخرى، وهي طريقة يرى كاتبنا أنها امتداد للطريقة الثانية لكن بشكل أعمق وأشمل، يقول الكاتب: "إنّ هذه الطريقة الثالثة هي المنهج الذي نستعمله في هذا الكتاب للكشف عن تلاحم البناء اللغوي في السورة القرآنية. فهي طريقة تتكامل، ولا تتعارض، مع الطريقتين الأولى والثانية، ولكنها، كما في الطريقة الثانية، تقدم دليلًا مادِّيًّا ملموسًا على تلاحم أجزاء السورة، وعلى وجود هندسةٍ دقيقةٍ بالغةِ الدقة في بناء النص القرآني".
وبعد طرحه للطرائق الثلاث، وأكد على أهمية الطريقة الثالثة، تساءل الكاتب عن مفهوم تلاحم البناء اللغوي في القرآن، ليجيب بقوله: "إنَّ المقصود بتلاحمِ البناءِ اللُّغَوِيِّ في القرآن هو أنْ يَعْمِدَ النَّظْمُ القرآنيُّ إلى عنصرٍ لغويٍّ معين، فَيُكَرِّرَه في مَقَاطِعَ مختلفةٍ من السورة، لِيَدُلَّ ذلك التَّكرارُ على تلاحم تلك المقاطع، ثم لا يُكَرِّرَ ذلك العنصرَ اللغويَّ في أيِّ سورةٍ أخرى في القرآن". فالتلاحم اللغوي في القرآن لا يعني العلاقات النحوية بين أجزاء الكلام، وإنما يقصد به ما وراء العلاقات النحوية، والتلاحم اللغوي في القرآن يخالف التماسك النصي الذي يعتمد على العلاقات النحوية؛ "فالعلاقة التي تنشأ بين العناصر اللغوية التي يقوم على أساسها تلاحم البناء اللغوي في القرآن علاقةٌ هندسيةٌ فيها التصميم وفيها التناظر.". فإذا كان الشعر يقوم في تماسكه على الوزن والقافية وروي واحد في كل القصيدة، فإن النص القرآني يعتمد في بناء تماسكه على تكرر أنساق لغوية مبثوثة في ثناياه.
أما في ما يتعلق بشروط تلاحم البناء اللغوي في القرآن، فقد أشار كاتبنا إلى أن القرآن ليس كله كسورة "الشعراء" التي يتكرر فيها النسق الاستهلالي، وبالتالي فإن التلاحم اللغوي ينشأ من خلال تكرر عنصر لغوي معين وبشروط معينة، هذا العنصر المكرر أطلق عليه كاتبنا الآصرة اللغوية، والتي وضع لها شروطا، منها: أن يكون العنصر المكرر متفردا بخاصية لغوية معينة، وأن يقع في موقعين متباعدين؛ لأن من شروط الآصرة اللغوية الربط بين مقاطع متباعدة، ثم يكون العنصر المكرر في سياقين مختلفين. ووفق هذه الشروط، تقوم قاعدة تلاحم البناء اللغوي في القرآن حسب رأي الكاتب.
وفي السياق ذاته، عرض الكاتب لأنواع تلاحم البناء اللغوي في القرآن، والتي حددها في ثلاثة أنواع رأى فيها الصور التي يتحقق بها تلاحم البناء اللغوي في السورة القرآنية، وإن كان النوع الثاني منها هو الأكثر شيوعا في القرآن؛ لأنه يعتمد على التركيب. ولم يقف الكاتب عند الجانب النظري والتعريف، بل تعمق في عرض أمثلة من سور القرآن لكل نوع من الأنواع المذكورة، وخلص في نهاية هذا الفصل إلى نتائج مفادها: أن القرآن نص متلاحم الأجزاء، ويستطيع القارئ أن يتلمس فيه خصائص وشيات لغوية. كما أن الدقة الهندسية التي تميز بها القرآن من خلال سوره على تباعد مواقعها وتباين موضوعاتها، تفيد أن القرآن وحي أوحى به المولى عز وجل على نبيه الكريم، وأكد في النتيجة الأخيرة أن التلاحم اللغوي الذي يتحقق بين العبارات المتناظرة في السورة الواحدة يصاحبه تلاحم بينها في الغرض.
وخصص الكاتب الفصل الثالث، للحديث عن القصة في القرآن وعلاقاتها المتفردة بسورتها التي ترد فيها؛ وذلك لبيان صدق التلاحم اللغوي من خلال التركيز على موضوع القصة في القرآن، وعلل سبب اختياره للقصة بوصفها تشتمل على خصائص، منها أنها ذات بناء سردي، وذات أعلام، مثل قصة آدم وقصة نوح وقصة إبراهيم وقصة موسى، ولها أدوات سردية تؤذن ببداية الأحداث، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ترتبط القصة بالسورة التي تقع فيها من خلال أواصر لغوية، زد على ذلك الحوار كتقنية تسهم في تحريك الأحداث من بدايتها وحتى نهايتها. ويشير كاتبنا إلى ما يميز القصة في القرآن كذلك التكرار، حيث تتكرر حلقات في سور مختلفة بألفاظ شديدة التقارب، وفي هذا دليل على الإعجاز القرآني، بل إن الدكتور جوهر أكد أن التكرار أساس الإبداع في القرآن خلافا لمن حاول من العلماء الدفاع عن القرآن ظنا منهم أن التكرار تهمة علقت بالقرآن، فالتمسوا أعذارا بلاغية مختلفة. ومن ثم، اعتمد في دراسته للقصة في القرآن على نموذجين من القصص هما قصة آدم وقصة موسى، وقد علل اختياره بأسباب منها أن قصة آدم هي القصة البشرية الأولى، وأن قصة موسى هي أشد القصص تكرارا في القرآن، وعرض أمثلة من السورتين متتبعا الروابط اللغوية ومظاهر الالتحام والدقائق المعقدة، غايته من ذلك إثبات تلاحم القصة مع سورتها في القرآن، والتأكيد أن النص القرآني نص متعال على الذاكرة البشرية.
وتناول الكاتب في الفصل الرابع بالدرس سورة الأنعام كاملة قصد إثبات قانون التلاحم على مستوى السورة الكاملة، موضحا أن سبب اختياره لسورة الأنعام هو كونها سورة لا تقبل القسمة إلى مقاطع مستقلة، وتتجلى فيها خصائص القرآن المكي الذي عرف الناس بربهم من خلال "هو الذي" التي تكررت في القرآن ستا وخمسين مرة، ومجادلة المشركين الذين انكروا الوحي والبعث، وتزويد النبي بالحجج والبراهين وتلقينه الكلمات التي يدافع بها عن الحق، فالسورة مثال دال على تلاحم السور المكية. ومن ثمة عرض الكاتب أمثلة دالة على تلاحم البناء اللغوي في سورة الأنعام، وقد بلغ عددها عشرون مثالا، ليخلص إلى نتائج مفادها أن التلاحم اللغوي في سورة الأنعام حقيقة تقوم تصميم هندسي يراعي التناظر بين الآيات في ألفاظها، وأن وراء هذا التصميم مصمم، ومن الصعوبة بمكان أن ينتجه عقل بشري، بل هو من صنع حكيم خبير، بل إن هذا التصميم – يضيف الكاتب في استنتاجه الثالث- لا يمكن تحقيقه حتى في عصرنا هذا، كما أن تدوين القرآن ساعد على ملامسة الدقة المعجزة في انتقاء الألفاظ والتراكيب، وأن السورة القرآنية لها شخصية لغوية مستقلة.
وانكب الكاتب في الفصل الخامس، على دراسة سورة الكهف، لكونها سورة تقبل القسمة إلى مقاطع مستقلة خلافا لسورة الأنعام، قصد بيان تلاحم البناء اللغوي فيها، يقول الدكتور جوهر: "وهدفنا من هذه الدراسة هو إثبات أن موضوعات هذه السورة - على تباينها واستقلالها - تلتقي في أغراضها العامة، وتتلاحم في خصائصها اللغوية الخاصة، وتُشَكِّلُ - من ثَمَّ - وحدةً نصيَّةً أُحْكِمَ بناؤها إحكامًا لا يسمح بدخول عنصرٍ غيرِ ربانيٍّ فيه، ولا يمكن أن يُنْتِجَ مثْلَه عقلٌ بشري. ويهمنا على الأخص في دراسة هذه السورة، الردُّ على مطاعن المستشرقين بإثبات أن أجزاء السورة متماسكة وليست مفككة ولا مبعثرة، وأن القصص الأربع الواردة فيها تجمع بينها علاقات معنوية مشتركة، كما تجمع بينها خصائص لغوية متشابكة. وحتى نستطيع الرد على هذه المزاعم بشيء من التفصيل، فإننا نتحدث أولًا عن العلاقة المعنوية بين القصص الأربع في سورة الكهف، قبل أن ننتقل إلى الحديث عن تلاحم البناء اللغوي فيها". والقصص الأربع في هذه السورة هي: قصة أصحاب الكهف – قصة صاحب الجنتين – قصة موسى والعبد الصالح – قصة ذي القرنين، أبطالها الرئيسيين غير أنبياء. وتتميز القصص بكونها جاءت متناسقة يربطها خيط بارز هو الاحتفاء بالفرد الصالح في المجتمع. لها خصائص تكشف عن التلاحم اللغوي والبناء المحكم من خلال نصوصها المختلفة؛ بدءا بالفاصلة المتفردة التي تحدث إيقاعا عاليا وسم السورة بنغم صوتي موحد. وبذلك انطلق الكاتب في عرض الأمثلة التي بلغ عددها عشرون مثالا، وتحليلها تحليلا دقيقا خلص فيه إلى أن سورة الكهف رغم تعدد قصصها تشكل لحمة واحدة في تشابكها اللغوي والمعنوي، رغم أن لكل قصة وحدة سردية لها بداية ولها نهاية، وهنا يبرز الإعجاز الإلهي في الرد على كل من زعم أن القصص الثلاث الأولى من أساطير الأولين.
وشمل الفصل السادس دراسة لسورة يوسف؛ لأنها قصة طويلة تناولها القرآن من أولها إلى آخرها، ورغم ذلك، فإن التلاحم اللغوي حاضر فيها، مما يشي أن النظم القرآني – يقول المؤلف – لا يتخلى عن طريقته في أشد السور تلاحما وتماسكا. فما يميز سورة يوسف هو ذلك التلاحم الحاصل بحكم وحدة الموضوع، وبالتالي يصح القول إن تلاحم البناء القرآني ظاهرة قرآنية عامة ووسيلة أساسية لتنظيم النص فيه. لذلك عرض الكاتب أمثلة بلغ عددها عشرون مثالا عمل على تحليلها وتتبع مظاهر التلاحم اللغوي فيها، مؤكدا أن النظم القرآني لا يتخلى عن طريقته في تنظيم السورة.
وخلص الكاتب في خاتمة كتابه إلى الحديث عن الأحرف السبعة وقصة جمع القرآن، وإثبات أن القرآن لم يكن يوما متعدد الألفاظ، وأنه دوّن وجمع في حياة النبي. مؤكدًا أن القرآن محفوظ ولم يتعرض للتحريف، "والدليل على ذلك هو أنّ السورة القرآنية تشكِّل وحدة نصية مستقلة تحمل سمات لغوية تنفرد بها عن سائر السور في القرآن، وأنّ هذا الاستقلال اللغوي - على ما بين السور من تشابه كبير، وعلى ما في القرآن من تكرار كثير - دليلٌ على وجود تصميم محكم من وراء بناء السورة القرآنية. ويترتب على هذا أنه لو لم يُدَوَّنِ القرآنُ فور تنزله، ولو لم يُقيَّد بالكتابة من أول يومٍ لِتَدَاوُلِه بين الناس، لاختلفت به الألسنة، ولَمَا وصل إلينا بهذا الإحكام اللغوي المعجز، وبهذا التناسق المدهش، والتوافق العجيب بين بنائه اللغوي واتجاهه المعنوي".
أما سبب اختياره لعنوان الكتاب، والذي جاء موسوما بـ "نظم القرآن"، فيعود إلى كون النظم واسع المدلول، يقول المؤلف: "فالنظم يعني التركيب، أيْ دخولَ الكلمة في علاقات نحوية مع غيرها من الكلمات لتكوين الجملة، ثم النص. ويعني كذلك الترتيب، أيْ تنسيقَ الكلمات والجمل والفقرات على نحو معيَّن يُخْرِجها من حيِّز الفوضى إلى حيِّز النظام، فيَجمعها بعد تفرُّق، ثم يكسوها الجلال والجمال. ويعني كذلك الأسلوب، أي الطريقةَ التي يسلكها كل نص للتعبير عن أغراضه، ويتميز بها عن غيره من النصوص سواء في إيقاعه في السمع أو تأثيره في النفس. ويعني كذلك تنظيم الأفكار والمعاني في أجزاء النص الواحد بحيث يرتبط بعضها ببعض، ويتصل السابق منها باللاحق، والمقدمة بالنتيجة".
ويجدر التنبيه إلى أن الأستاذ جوهر محمد داود توسل في كتابه بالمنهج الاستقرائي؛ وذلك بانتقاله من الخاص إلى العام ومن الجزء إلى الكل، غايته في ذلك استجلاء صدق قاعدة تلاحم البناء اللغوي في القرآن انطلاقا من سور وقع اختياره عليها، وهي: سورة الأنعام، والكهف، وسورة يوسف؛ فقد عرض أمثلة من السور وتناولها بالمناقشة والتحليل ليخلص إلى نتائج عددها الكاتب تباعا، وهي تكشف في مؤلفه عن طريقة القرآن في تحقيق التلاحم بين أجزاء السورة المختلفة، تميزا عما تناوله القدماء في دراستهم للقرآن الكريم ومنهم عبد القاهر الجرجاني الذي طابق بين علم النحو والنظم.
ويمكن القول إن الكاتب أصاب في اختيار الموضوع وأجاد، وتفنّن في طرحه ومناقشته عبر التحليل والاستنتاج، ليقدم للقارئ عملا متكاملا يتضمن نظرية جديدة مكن اعتبارها قيمة علمية مضافة للمكتبة العربية والإسلامية.