قراصنة المقدّس
فئة : مقالات
تعد إشكالية المقدس من أخطر الإشكاليات، وأكثرها حساسية وأعمقها صعوبة في حياتنا الثقافية المعاصرة؛ وتأتي هذه الصعوبة من حساسية المقدس نفسه الذي يلامس في كثير من الأحيان الأوتار الداخلية للوجدان الإنساني، وهي الأوتار التي تشكل نسيج العقائد الإيمانية والروحية التي تسكن في أعمق أعماق الإنسان، والتي تعبر عن أكثر معطياته الكونية أهمية وخطورة وحساسية. لقد لعب المقدس دورا تاريخيا كبيرا في توليد العطالة الفكرية وإفقار العقلية الإنسانية عبر عصور من الزمن، وشكل هذا المقدس نفسه المانع والممنوع والممتنع على مختلف أوجه التفكير والتداول. ومن هنا، تأتي الصعوبة المحفوفة بالخطر في مناقشة مفهوم المقدس نفسه وإخضاعه للمناقشة للجدل. ومع ذلك كله، ورغم هذه الحساسية الهائلة لهذا الموضوع، يبدو لنا أن مناقشة هذا المفهوم وإخضاعه للتحليل العلمي قضية تفرض نفسها في حياتنا الثقافية والفكرية المعاصرة. وهذه المناقشة لا تهدف أبدا إلى تجاوز حدود المقدس الذي يأنف التداول والجدل، بل تأتي في سياق مقالتنا هنا تأكيدا على جوهر هذا المقدس وتحديده وفصله عن مجاله الدنيوي الذي انغرس فيه إلى حدّ التهلكة.
جاء في لسان العرب أن المقدس هو تنزيه الله عز وجل، وهو المتقدس القدوس المقدّس([1]). ويميز كمال دسوقي في مفهوم المقدّس بين معنيين؛ حيث يعني القضايا والأشياء التي تتعلق بما هو إلهي من جهة، والقضايا التي يجب تجنب التعامل معها بخفة ورعونة أو عبث من جهة أخرى([2]). ولكن الموسوعة الفلسفية العربية لمعن زيادة تقدم تعريفا أكثر تطورا. فالمقدّس كما تعرفه هذه الموسوعة هو "كل ما لا يمكن تدنيسه أو تلويثه، ويمتلك المقدّس على قوة غامضة تجذب أحيانا وتنفّر أحيانا وتجذب وتنفّر في أحيان أخرى". ويضيف معن زيادة في تحليله لهذا المفهوم بأن المقدّس "هو ما يثير في النفس الخوف والرهبة والاحترام والخشوع الذي يبعدنا عنه ويرغبنا فيه في الوقت نفسه. وينتج عن المقدّس مجموعة من المشاعر المختلطة والمرتبطة من: الاندهاش، والرغبة، والانجذاب، والفضول والتحفظ والقلق، والفزع والخوف مما يجعلنا نحبه ولا نجرؤ على تناوله في الوقت نفسه"([3]).
ويأخذ هذا التعريف صيغته في تعريف رفعة الجادرجي، إذ يرى بأن "المقدّس هنا اصطلاح يشير إلى كيان يتجاوز ماهية الأشياء الدنيوية (...) ويتمتع بالضرورة بصفتين: أولا، تكمن في هذا الكيان قوة خارقة، لا تخضع لقوانين الطبيعة، ولا يخضع التعامل معها لقوانين السببية أو العقلانية. ثانيا، وتبعا للصفة الأولى، تتصف علاقة الفرد أو الجماعة مع هذه القوة بأن في إمكانهم أن يضموا صفة المقدّس كمقوم في هويتهم، ولذا يتمكنون أن يطلبوا منه الحماية والعمل على تأمين بقائهم([4]). ولأن المقدّس يتمتع بقوة خارقة (…)، فإنهم يخافونه في أعماق وعيهم الذاتي، كما أنهم يعتبرونه مقوّما فعالا في حماية هذه الهوية، ودعمها للآخر، وفي مواجهة العيش مع متطلبات التكيف مع الظواهر الطبيعة"([5]).
ويؤكد الباحثون في غالب الأحوال على البعد الديني لمفهوم المقدّس، إذ "تعود ألفاظ التقديس والقداسة والمقدّس -وهي مشتقة من فعل قدس بمعنى طهر وتبارك- إلى مرجعية دينية بالأساس، سواء أكان موضوع التقديس أماكن أو كتبا أو كائنات. ومن أسماء الله في العربية القدّوس؛ أي "المنزه من كل نقص وعيب". فلا غرابة، وأمر الاشتقاق اللغوي على ما ذكرناه، أن تكون الطهارة وانتفاء التدنيس خاصية مركزية من خاصيات السلوك الديني.([6])
ويرتبط المقدّس بالحرام Interdit فالحرام هو الشيء الذي يمنع إتيانه خوفا من عقاب السماء والآلهة أو عقاب الإنسان، ويلتزم الناس قيود هذا الحرام والتحريم لدواعي إيمانية ودينية صرفة. وهذا يعني أن المحرم "التابو" يرتبط جوهريا بمفهوم المقدّس، ويساعد على فهم طبيعته واتجاهه. فالحرام يرتكز على شروط الامتناع ويتلبّس لبوس المحظور". وينبني على ذاك، أن كل مقدّس هو حرام وممنوع وكل حرام يرتبط بمقدّس.
ويميز قاموس روبيرت Le petit Robert بين عدة أبعاد لهذا المفهوم أهمها: أن المقدّس يرمز إلى أمور وأشياء وكينونات لا تخضع للمعالجة الحسيّة أو المعنوية من قبل البشر. وبالتالي، فإن المقدّس كيان ممنوع ومنفصل ولا يمكن الاعتداء عليه وذلك بالمقارنة بالدنيوي، وغالبا ما يكون موضوعا للشعور المتنامي بالاحترام الديني المفعم بالتبجيل والتعظيم. والمقدّس في النهاية أمر يوحي بالاحترام المطلق، ويمتلك قيمة مطلقة لا يمكن أن تلامس أو تغتصب([7]).
هذا وتعرف مادلين كراوتس في معجم العلوم الاجتماعية بأن المقدّس "مفهوم ديني يشير إلى ما يتصل بالقوى الفوق طبيعية، أو إلى الآلهة وهو مفهوم يأخذ مكانه وفقا لتنوع الثقافات ودلالتها([8]). وهذا يعني أن المقدّس مفهوم ديني بالدرجة الأولى يتمثل في موقف الإنسان من الله والملائكة في الأديان السماوية ومن الآلهة في الأديان المكتوبة والوثنية، وهو شكل من أشكال التجربة الوجدانية التي تقوم بين الإنسان وموضوع المقدّس، وفي هذه العلاقة يتحول الإنسان إلى موقع المنفعل والخائف والمندهش إزاء قوى كونية بالغة السمو والقدرة والاقتدار.
وتعتمد منهجية تعريف المقدّس Le Sacré على مقابلته بمفهوم الدنيوي Le Profane أو المدنس L'Impureté، إذ غالبا ما يلجأ الباحثون إلى هذه المقابلة أو المشاكسة بين هذين المفهومين المتعارضين لتحديد جوهر كل منهما، حيث يشكل المقدّس والدنيوي قطبين متعارضين يحدد أحدهما الآخر. وهذا التقاطب أشبه بتقاطب الاتجاهات، إذ يكفي أن نعرف اتجاه الشرق لنعرف امتداد الغرب، ويكفي أن نعرف اتجاه الجنوب لنعرف اتجاه الشمال، والعكس صحيح في طبيعة العلاقة بين هذه الأطراف. وتعتمد هذه المقابلة على موقف فلسفي من الكون قوامه أن الكون يتشكل من لحظتين وكينونتين؛ هما كينونتا المقدّس من جهة، والدنيوي من جهة أخرى.
شكل المقدس الديني تاريخيا، وما زال يشكل، مصدر القدرة والقوة، وينبوع الحق والخير والجمال. إنه حقيقية تفرض نفسها ضياء يبدد ظلام الكون، وخيرا يفيض على العالم بأسمى المعاني، وقدرة كونية تحرك الوجود نحو آفاق سامية بلا حدود. ويتجسد جوهر هذا المقدس في سمو الله والملائكة والأنبياء والكتب السماوية. فالقداسة جوهر الدين وخاصته، والدين كما يقول محمد خاتمي "ذو صلة وثيقة "بالعلو" و"القداسة". وبعبارة أخرى، جوهر الدين حالة مقدسة متعالية؛ فلو سلخنا القداسة والتعالي من الدين كنّا قد نزعنا الدين عن كونه دينا، أينما كانت القداسة والتعالي كان الجزم والإطلاق (...) فالدين ذو صلة بالمقدس والمطلق وهذا هو جوهر الدين"([9]).
هذا المقدس يضفي على حياة البشر كل المعاني السامية التي تتمثل في الحق والخير والخلود والأمن الكوني. إنه يمثل حاجة أساسية ضرورية ملحة للبشر. والحياة من غير المقدس الديني تفقد تألقها وجمالها وبهاءها. وهذا ما أثبتته التجربة الحداثية التي أماتت المقدس وهتكت حجبه وفككته وانتهكت معانيه، فتحولت الحياة إلى جحيم يلهب ضمير البشر ويقض مضاجعهم. مع غياب هذا المقدس، فقدت الحياة الإنسانية أجمل معانيها وأبهى دلالتها وأعز ما تمور به من قيم. مع إزالة الطابع القدسي للحياة، فقد الإنسان الأمل والرجاء والحلم والأمن الوجودي، وتحولت الحياة إلى زمهرير يدك عظام البشر وإلى قيظ يهتك أحلامهم ويبدد أمانيهم. ومع موت المقدس، مات الإنسان وماتت أحلامه وسقطت أمانيه وتبددت قيمه. وهكذا كانت المسيحية لمسة رحمة للبشر، وكان الإسلام نسمة حب وفيض أمل، وكانت الأديان السماوية والمكتوبة قصائد كونية عليا تدعو إلى رحمة الإنسان وحب البشر.
وفي الدين الإسلامي يتحدد المقدس في الله جلّ جلاله وفي شخص النبي عليه الصلاة والسلام، وفي كتاب الله الكريم، ثم في سنة نبيه الكريم (ص)، وهذا ما يكاد يجمع عليه المفكرون والفقهاء والعلماء. وتلك هي الأقانيم الأساسية لمسألة التقديس الإسلامي. ووفقا لهذه المعادلة القدسية، يجب على المؤمنين الإيمان المطلق بالله وكتابه وسنة نبيه إيمانا لا يقبل المناقشة أو التدوال أو أي مظهر من مظاهر الشك والجدل، وذلكم هو عين التقديس والقداسة؛ فالناس يجب عليهم أن يخافوا الله، وأن يعبدوه ويحبوه ويطمعوا في حلمه وفضله ورحمته. ويترتب على هذا أن الله مصدر الخير والحق والجمال والقوة والخير، وأنه وهب نبيه الأكرم النبي محمد صلى الله عليه وسلم التكريم والعصمة والوحي والطهارة والقدسية، وهذا يعني أن شخص النبي (ص) وسيرته وتعاليمه تتألق في أعلى مرتبة من مراتب القدسية في الإسلام.
وباستثناء الله سبحانه وتعالى وشخص النبي وسيرته وسنته، فكل الأشياء والمظاهر الإسلامية الأخرى قابلة للمناقشة والتداول والجدل. فحياة الصحابة وأفكارهم وأخبارهم، واجتهادات الفقهاء والمؤمنين، والتراث الإسلامي وما جاء به الأولون والآخرون، وسيرة الحكام والخلفاء، جميعها قضايا دنيوية يحض الإسلام على أن تكون موضوعا للتفكير والمناقشة والتحليل والتفكيك في سبيل فهمها وإدراكها وتجديدها والإضافة عليها وقبولها ورفضها ضمن غائية إسلامية إيمانية نابعة من الإيمان بالإسلام وعقيدته ومقاصده الروحية السامية.
لقد ميز الإسلام منذ البداية بين حدود المقدس والدنيوي، بين الحقيقة الإلهية المطلقة والحقيقة النسبية الدنيوية؛ فكل ما يصدر عن الله ونبيه يأخذ طابعا قدسيا بالضرورة، وكل ما يصدر عن البشر يحمل في ثناياه طابعا دنيويا، حتى إن الإسلام كان يميز في النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يصدر عنه وحيا وما كان يصدر عنه كبشر. فهو كبشر قد يخطئ ويصيب تعليما للبشر، ولكنه كوحي ونبي فهو معصوم عن الوهم والخطأ. ونجد هذه الحقيقة حقيقة التمييز ما بين الإلهي والبشري في قول الخليفة الراشدي أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّه عنه عندما قال ينعى نبي الله محمد (ص) "أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى([10]). (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ). وفي هذا القول فصل في أن النبي عليه الصلاة والسلام بشر يموت، وأن العبادة لله وحده الحيّ الذي لا يموت.
وتأخذ هذه الحقيقة مداها وتجلياتها في أبلغ الصور فيما يقرره فقهاء الإسلام بأن البشر غير معصومين عن الخطأ مهما بلغت بهم المراتب، وأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء. لقد وقف فقهاء المسلمين وعلمائهم ضد أية محاولة لإضافة القدسية على كلام البشر باستثناء الكلام الذي صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام. وفي هذا يقول الإمام مالك رحمه الذي "ليس بيننا إلا من ردّ ورُدّ عليه إلا صاحب هذا القبر" ويعني محمدا عليه أفضل السلام وله خالص التسليم([11]). وهذا يعني أن القدسية والعصمة ليست لبشر بعد النبي الأكرم. وللإمام أبو حنيفة مواقف في هذا الشأن، حيث يقول عندما سئل: هل هذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه؟ فأجاب الإمام بقوله المشهور: "والله لا أدري فلعلّه الباطل الذي لا شك فيه"، ثم قال هذا رأي أبو حنيفة وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بخير منه فهو أولى بالصواب". وهذا يعني أيضا، أن ما يقوله البشر ليس معصوما أو قدسيا يحظى بالمطلق. وها هو الإمام مالك يقول في هذا الخصوص أجمل القول: "أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه"." ويستشهد الكواكبي ببعض الأمثلة من تاريخنا مستلا منها على حق الاجتهاد لكل مؤمن، فيذكر موقف الإمام مالك الذي قال فيه: "ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه، ومردود عليه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم". ويستشهد الكواكبي بما قاله أبو حنيفة أنه كان إذا أفتى يقول: "هذا رأي النعمان بين ثابت يعني نفسه، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب". ولم يكن الشافعي أقل من سابقيه مرونة في الأمور الاجتهادية، فروى الحاكم أن الشافعي رضي الله عنه كان يقول: "إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث، فاعملوا بالحديث، واضربوا بكلامي الحائط"، وأنه قال يوما للمازني: يا إبراهيم لا تقلدني فيما أقول، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين([12]). ويروى عن الإمام الشافعي رحمه الله قوله المشهور الذي أصبح دستور التواضع العلمي في العالم الإسلامي، وهو: قولي صحيح يحتمل الصواب وقولك صواب يحتمل الخطأ. ولا يفوت الإمام أحمد بن حنبل أن يعلن رسالة بلغت أقصى درجات السمو في مجال حرية القول وديمقراطية المعرفة حين يقول: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا تقلد الليث ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا([13]). تؤكد هذه النصوص بأن الإسلام حدد منذ البداية مضامين المقدس وخص ذات الله بالعبادة وشخص النبي عليه الصلاة والسلام بالعصمة. أما فيما عدا ذلك، فلا ينسحب عليه طابع المقدس الذي لا يناقش أو يعرض.
وفي هذه المعاني ما يدل على أن الإسلام فتح باب الاجتهاد والنقد والتحليل والتداول والبحث والتمحيص والردّ والقبول والرفض والتحليل والتركيب والتفكيك لكل مظاهر الحياة الوجود، فيما يقوله الفقهاء وفيما يقره العلماء، وفيما ينتجه البشر، إذ بعد النبي لا وصاية لبشر ولا حصانة أو عصمة أو قدسية لأي مظهر آخر من مظاهر الوجود البشري أو غيره. وهذا يعني أن الدنيوي في الإسلام يأخذ مداه ويتحرك بطاقته، وأن المقدس يحافظ على أمجاده في دائرة توازن حددها شرع الله وكتابه الكريم.
ولكن هذا التوازن والفصل بين المقدس والدنيوي في الإسلام فقد بريقه وتألقه مع حركة الزمن ودورة الأيام وقهر المصالح وتضارب الأيديولوجيات وسطوة الحكام. فاتسعت دائرة المقدس وتنامت مظاهره وزحفت جحافله لتحاصر معالم المجال الدنيوي الذي حدده الإسلام وأرساه وأكده في الرسالة النبوية. وفي إطار هذا الزحف "المقدس"، ظهرت آلهة جديدة، وأنبياء جدد وفقهاء خلعوا على أنفسهم كل انطباعات القداسة والعصمة. ولم يقف هذا الزحف ليشمل الانطباعات والعقائد والأشخاص، بل امتد ليشمل الأماكن والكهوف والمزارات التي أحيطت بطابع المقدس والمطلق. فأصبح حقل الوجود حقلا يضج بالمقدس ويضيق بكل إمكانية البحث والتقصي والاجتهاد؛ لأن ما يقع في دائرة القدسية يخرج من دائرة التداول والبحث والتقصي. فالمقدس كما نوهنا مرارا لا يقبل الجدل ولا يقبل الشك، لأن المقدس يرتبط بالمطلق وينهض بالمنعة ويمتاز بالقوة ويفيض بالرهبة. إنه حقيقة علوية كلية ساميّة بالمطلق، والمطلقات القدسية لا تخضع للمناقشة والجدل.
زحف المقدس:
ينزع البشر في سلوكهم وفي أوجه نشاطهم إلى بناء حقل آمن يوفر لهم أعلى درجة من درجات الأمن الوجودي، ويتضمن هذا الأمن بناء مسافة فاصلة بين حدود الخطر وحدود السلام. ويلاحظ في هذا السياق أن المجال الأمني يتجه وبعفوية إنسانية نحو التزايد والاتساع؛ فالإنسان ومن أجل السلامة أحيانا يبتعد عن مجال الشبهات أو كل ما يضعه قاب قوسين أو أدنى من الخطر.
ومن هذا المنطلق، تتسع دائرة المقدس في حقل الاعتقاد والممارسة الإنسانية. وهذا يعني أن حقل المقدس بدأ يتسع ويأخذ هالة أكبر مع تواتر الزمان واتساع المكان. ويتحدد هذا الاتجاه بأن المؤمنين ومن باب الإيمان المطلق بالرسالة والعقيدة بدأوا يضفون طابع القدسية على مختلف المجالات التي أحاطت بالنبي عليه الصلاة والسلام، وبدأت هذه الدائرة تتسع لتشمل الصحابة رضي الله عنهم جميعا، ومن ثم المحدثين والأئمة ورجال الدين، وامتدّ هذا التقديس ليشمل حقل القول والمعتقد والتفسير، ومن ثم تطاول ليشمل المكان والمعابد والأولياء الصالحين. ولم يقف زحف هذا المقدس عند هذا الحد، بل امتد أيضا ليشمل الحكام والقادة والزعماء. وباختصار أصبح العالم تحت فعل هذه الدينامية المقدسة عالما مسحورا بالمقدسات والممنوعات والتحريم والتابو. وأصبح التداول والمناقشة والتحليل العقلي "مقدسا" بذاته؛ أي أصبح عالما محاطا بالمنع والتحريم، لأن مجرد التفكير في هذا الكون يدفعنا إلى ارتكاب الخطيئة. وأدى هذا الفعل إلى تغييب العقلانية والاجتهاد والتفكير في عالم الإنسان المسلم. وشكل هذا المنع أو التابو أو المقدس منطلقا حيويا لمختلف مظاهر التخلف والانحراف بأشكاله الدينية والدنيوية في العالم الإسلامي.
وفي هذا الصدد، يبين لنا حافظ الجمالي الكيفية التي تم فيها زحف المقدس الديني إلى ما يجاوره من معطيات ومظاهر للحياة والوجود، فيقول: "إن ظهور الدين الإسلامي، في ظرف تاريخي ولغوي واجتماعي معين، أشاع القداسة الخاصة به على ما حوله، فلبست لغة تلك الأيام وشعرها وعاداتها وتقاليدها حلة القداسة التي كانت في الأصل للدين. ومن هنا كان حرص العرب على لغتهم وتعابيرها وصور بلاغتها، وتشبيهاتها وتورياتها، حتى ليبدو لهم أن كل خروج عنها هو بمثابة مروق من الدين نفسه"([14]).
ويقدم لنا حافظ الجمالي مثالا مقارنا واضحا لمثل هذه الوضعية التي ترتبط بهالة القداسة التي أضفاها الدين المسيحي على ما كان سائدا حوله من مفاهيم وأفكار وتصورات في العصور الوسطى. لقد أضفى الدين المسيحي على العقائد والأفكار الوثنية قداسته، ولاسيما ما هو معروف عن نظرية بطليموس الفلكية القائلة بأن الأرض مركز الكون، لقد قدر لفكرة بطليموس هذه أن تأخذ مجراها ومشروعيتها خلسة في عقول الكهنة ورجال الدين، فنهلت هذه النظرية من قدسية العقيدة المسيحية، وترتب على ذلك محاكمة غاليلو وكوبرنيكوس، وذلك لأنهما خرجا عن قدسية الفلك البطليموسي، وهو فلك وثني بطبيعته.
وعلى هذه الصورة، أخذت اللغة العربية التي كانت سائدة في عهد الرسالة النبوية بأساليبها وتصوراتها وبنيتها وطابعها العام طابع القداسة من قدسية الدين الإسلامي نفسه، ومن هنا بدأت تعابير هذه اللغة وأساليبها تتجمد في دائرة المقدس الذي لا يقبل التحويل أو التحوير.
فمشكلة المقدس الديني في أنه شكّل وما زال يشكّل مصدرا يضفي طابع القدسية على ما حوله من مظاهر الحياة والكون الذي يحيط بنا؛ فالمقدس الديني لا يقبل التداول أو النقد أو المعالجة، ولا يمكنه أن يكون موضعا للشك والجدل والمناقشة.
وفي سياق الحديث عن واقع المقدس الإسلامي والتشويهات التي تعرض ويتعرض لها، يرى هاشم صالح "أن المقدس الإسلامي قد استنفذ طاقته وفرّغ من معناه (…) لقد تحول إلى شكليات طقوسية وقوالب قسرية جف فيها نبض الإيمان. هذا اللهب الأولي، هذه الشرارة المقدسة التي أشعلها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في روابي مكة والحجاز. ماذا بقي منها الآن؟ كيف تحولت وتشوهت على أيدي الحركات الحالية، حتى أصبحت غريبة عن مقاصدها الأولية؟ (…) كيف استهلكت من كثرة الاستخدام بحق وبدون حق، كيف هرمت وشاخت وأصبحت عالة على التاريخ، وهي التي كانت تشحن التاريخ وتدفع العرب نحو الفتوحات والأمجاد؟ كيف خارت القوى، وانحطت العزائم؟ كيف أصبحت الآيات القرآنية تسحب في هذا الاتجاه أو ذاك، لتأييد هذا الزعيم أو ذاك بحسب الحالة أو الحاجة؟ كيف دخلنا في معارك الفتاوى الحامية التي تقذف بعضها البعض كالرجم بالصواريخ؟"([15]).
وتحت ضغط هذا المقدس الجديد، خبا تألق التفكير والنقد والاجتهاد في عصور الضعف والانحطاط، حيث قضى المسلمون خمسة قرون تقريبا (ق14 - 16) سلبوا فيها شخصيتهم وإرادتهم وحرياتهم وحقوقهم الإسلامية، وأنكرت عليهم حرية التفكير وطمست في نفوسهم القدرة على الاجتهاد، وأغلقت عليه كل أبواب الحرية الفكرية والحوار، فخبت مع ذلك كل إمكانيات الحضارة وغابت شمس العرب بعد أن جعلت من العالم في ربيع من التوهج الحضاري الدائم، بفضل ما وصل إليه المسلمون من عظمة الحرية، وأصالة الحوار، ومناعة الديمقراطية، وبفضل ما وفره الإسلام للإنسان بتعاليمه السمحاء من عظمة الحقوق، وقدسية التكريم، فجاء الإنسان في أتون البوتقة الإسلامية، صانعا للحضارة، ومنجبا للعبقرية، وفاعلا في التاريخ وصانعا لحضاراته.
القرصنة باسم الدين - تقديس رجال الدين:
يترتب علينا في البداية أن نميز ما نقصده بمفهوم "رجال الدين". يشمل هذا المفهوم "رجال الدين" مختلف فئات العاملين في مجال المعرفة والطقوس الدينية من فقهاء وأئمة وعلماء؛ وغني عن البيان أن هذه الطبقة الدينية -كحال أية طبقة أو فئة اجتماعية- تشمل فئات مختلفة ومتنوعة في مستوى المعرفة وفي مستوى الممارسة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى وجود فئة واسعة جدا من رجال الدين الذين يمارسون الطقوسية الدينية الشعبية بأقل مستوى من التعليم والتحصيل العلمي والمعرفي. ومن المعروف أيضا، أن قسما كبيرا من أفراد هذه الفئة الأخيرة يمارسون طقوسا دينية مغلوطة "والدين الإسلامي منها براء"، وهي طقوس أشبه بالتنجيم والسحر والتخريف والضرب بالمندل.
ونحن في هذه الدراسة، نعلن منذ البداية بأن رجال الدين الذين يوصفون بالسلبية هم من هذا النوع الذي يقع في دائرة الفئة غير المتعلمة أو الجاهلة أو المزيّفة أو هذه التي تمارس طقوسا منافية للدين الإسلامي وتعاليمه السمحاء. وإننا نعلن هنا تقديرنا وإكبارنا لعلمائنا ومفكرينا وفقهائنا الذين يرفعون لواء هذا الدين بالعلم والحق والمحبة والتسامح. كما نعلن بأن إشاراتنا السلبية أحيانا هي إشارات محددة لبعض الفئات المحددة التي يقدر بأنها تمارس الطقوس الدينية من غير حكمة الدين ومقتضياته الروحية والعقلية.
لقد امتدّ زحف المقدس عبر الزمن، ليشمل شريحة من رجال الدين فقهاء ودراويش ودعاة ومبشرين. وبدأ رجال الدين يأخذون أهمية أسطورية في بنية الثقافة العربية المعاصرة ويشكلون واحدا من أهم القطاعات القدسية في المجتمع وفي الثقافة، حيث بدأت قطاعات واسعة من هذه الفئة من الناس تخلع طابع القداسة على نفسها، وبدأت على هذا الأساس تمارس دور الوصاية على العقل والمعرفة عند عامة الناس وبسطائهم. ويكتسب هؤلاء طابع قدسيتهم من وضعية العمل في دائرة الطقوس الدينية والإشراف على هذه الطقوس (طقوس الموت والحياة والولادة والعبادة). وعلى أساس طبيعة العمل في دائرة المقدس، تنتحل هذه الفئة من البشر طابع القدسية. ولقد ساد في كثير من المجتمعات العربية، ولاسيما في أوساط البيئات الريفية الكادحة التمييز بين فئة الخاصة والعامة والمقصود طبعا بخاصة الناس فئة المشايخ الذين يمتلكون خصوصية دينية وثقافية يعتقدون أنها تميزهم كثيرا عن عامة الناس.
وفي هذا السياق، يمكن عرض الصورة المختصرة التي يقدمها زيعور لشخصية رجل الدين في البيئة اللبنانية. يقدم زيعور وصفا وافيا لهذه الفئة، ويتأسس هذا الوصف على منظومة من الممارسات الاجتماعية المتكلفة والمسطحة التي ترمي إلى ترسيخ الموقع الاجتماعي والديني للشيخ، وبالتالي إعطاء الشيخ طابعا سحريا وقدسيا. ومنها أن رجل الدين هذا يظهر نفسه في هالة من الخصوصية التي ينفرد بها عن الناس مثل التفرد بلكنة لغوية معينة ولهجة محددة وطريقة سلوك متفردة والقصد منها التزويق والتكلف، ومنها أن يسبغ على نفسه الألقاب كأن يسمي نفسه العلّامة الفاضل الشيخ فلان، أو صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ فلان، …إلخ. والآن بدأ لقب الإمام يرتسم أمام عدد كبير من أسماء المشايخ هنا وهناك.
أما الصورة التي نقدمها حول هذه الشخصية في بعض المناطق في سوريا، فهي أكثر إدهاشا وأغنى بتملقها وجهلها؛ فدعاة الفقه في الدين، يضفون على أنفسهم وآبائهم وأجدادهم صفة المقدس وطابع القدسية، حيث تنتشر ألقاب لمخاطبة هذه الفئة من دعاة الدين، مثل: قُدْس الشيخ فلان، وروح المقدس فلان، والعلاّمة فلان. وكثير من العامة في المنطقة لا يتورعون بأن يقسموا أعظم الإيمان بالأرواح القدسية للمشايخ والأولياء والصالحين. وبالطبع، استطاعت هذه الفئة من دعاة الدين في المنطقة نسج الأساطير والحكايات الدينية التي ينسبون فيها إلى أنفسهم وأمواتهم من آباء وأجداد كرامات ومعجزات لا تكون إلا للأنبياء. واستطاعت هذه الفئة عبر الزمن أيضا، أن ترسخ هذه المفاهيم والتصورات الخاطئة في لاشعور الناس وفي وعيهم الباطن. وفي هذا السياق، تأصلت في الوعي منظومة من الخرافات والأساطير الدينية والتيولوجية التي تحتقر العقل وتندد بكل أشكال العقلانية في الوجود. وبعبارة أخرى، استطاعت هذه الفئة عبر أجيال من ممارسة الخرافة ونشر الأساطير والغيبيات أن يضعوا العقل في دائرة الاستلاب والاغتراب.
ومن أجل تقديم صورة أفضل يترتب علينا القول بأن ممارسة الكهنوتية الدينية هنا لا تتم عبر ما يسمى بالتحصيل العلمي والمعرفي؛ فالأكثرية الساحقة من دعاة "المشيخة" يعانون من أمية مفرطة في مجالات الحياة المختلفة، وأكثرهم لم يدخل مدرسة ثانوية أو تخرج من جامعة. فالتقليد السائد في المنطقة هو أن الشيخ يكون بالوراثة، فهو يرث مهنته الدينية عن أجداده وآبائه كما يرث لون عينيه أو شعره. وحصاد رجل الدين في الغالب الأعم، مجموعة من الأدعية والخرافات والحكايات والخزعبلات التي ما أنزل الله بها من سلطان. والخلاصة أن رجل الدين في المنطقة يحتل مكانة سامقة في مراتب القدسية. ولذا، فإن ما يقوله وما يفعله وما يصدر عنه يأخذ طابعا قدسيا وتلك هي مأساة العقل الكبرى.
وفي وصف هذه السيطرة المتنامية لرجال الدين في الحياة الثقافية العربية، يقول مصطفى دحماني -ونعتقد بأن مصطفى يريد أن يتحدث عن دعاة المشيخة-: "هناك سيطرة هائلة لرجال الدين الإسلامي (دعاة الدين) على المجتمعات العربية الإسلامية قديما وحديثا ولا أحد يسلم من عواقب الخروج عن النص الديني (كما يحددونه) أو يجرؤ على مخالفة رجال الدين، أو حتى مناقشتهم بمعنى أنه لا يمكن للفرد أن يفكر تفكيراً عقلياً منطقياً وعلمياً دون جواز المرور في الإطار المرجعي الديني (المرجعية الشعبية)([16]).
وضمن السياق المقصود بوضعية فئة محددة من رجال الدين يقول علي زيعور: "يؤمن كاهننا بالحرية وبأن قيمة الإنسان قد تكون خارج الطقسية، وقلّ لأن نلاحظ اتخاذه لمواقف تحررية إزاء مجتمعه كله، وهو لا يهتم بالجانب الاجتماعي والنضالي للدين، وكأنه لا يعرف أن الرسول عالمي الدعوة، وأن الإسلام شمولي الرسالة" (…) وما زال هذا الكاهن "يحافظ على وظيفة العراف (…) وما زال يحيا بامتصاص دور الشيخ؛ أي الكبير السن ودور الحكيم والمتبصر والرئيس"([17]).
القرصنة باسم المقدس:
يبين علي زيعور، ولاسيما في بعض القطاعات الاجتماعية المحددة والجغرافية المحددة، أن رجل الدين، الذي أضاف لنفسه طابع القداسة، يعيش ويقتات على جهود غيره، ولاسيما البسطاء والفلاحين والمؤمنين الذي يقدمون لرجال الدين خلاصة جهدهم وعملهم. يقول زيعور في هذا الخصوص: "هذا الذي يقتات من تعب الناس هل هو جدير بقيادتهم؟ لا شك أنه قابل لأن يبيع ضميره وأقرب لأن يخضع لقانون العرض والطلب المعروف في دنيا الاقتصاد. ألن يكون علاجه بجعله يعمل؟ ففي المستشفيات العقلية، معروف جيدا نفع العلاج بالعمل والجهد المبذول وبممارسة مهنة ما، أو معاناة ما يدوية([18]).
أما الصورة التي عرفتها بعض القطاعات الاجتماعية في سورية، فهي أكثر إيلاما ومأساوية من هذه التي يقدمها زيعور. فعلى امتداد مئات القرى التي تتكون من البسطاء الذين يعملون في مجال الزراعة والكدح الإنساني الصعب، نجد ما يندى له الجبين خجلا من ممارسات القرصنة باسم الدين وتحت غطائه. آلاف مؤلفة من القراصنة الذي يرتدون أثواب الدين والتدين يعيشون على آلام ضحاياهم من الريفيين البسطاء والمؤمنين. لقد روج رجال الدين في هذه المنطقة المعنية فكرة وممارسة تقتضي بأن يدفع الفلاحون زكاة (مبالغ من المال ما استطاعوا إليها سبيلا) وهذه الزكاة تذهب إلى جيوب الشيخ بعد قراءة الفاتحة والدعوات؛ فالزكاة فرض وواجب في كل حين وفي كل لحظة يمتلك فيها الفرد أي شيء يبدأ من رغيف الخبز حتى وجبة الطعام. والزكاة بهذه الصورة هي إتاوات تفرض باسم الدين. والرهيب في هذه القضية أن الشيخ (المعني) أو رجل الدين هو الذي يتقاضى مباشرة هذه الزكاة (مع أنني أفضل تسميتها إتاوة أو ضريبة) يبحث من مكان إلى مكان، بمناسبة ومن غير مناسبة، في مواسم الفرح وفي طقوس الحزن، في الأفراح والأتراح، وفي كل لحظة على مدار الزمان والمكان، ليجمع الإتاوة أو هذه الزكاة التي ما أنزل الله بها من سلطان، والضحايا هم آلاف الفلاحين والفقراء والمسحوقين، الذين لا يكادون يجدون أود أنفسهم. وماذا يقدم الشيخ مقابل الزكاة أو الإتاوة المفروضة التي لا تقف عند حد من الحدود، فقانون الدفع ادفع ما تستطيع حبا بالله والمؤمنين، مقابل الزكاة هذه يقرأ الشيخ فاتحة، ويبتهل ببعض الدعوات والشعوذات الخرافية. وبعدها ماذا يفعل؟ يبث سموم الطائفية والعنصرية والكراهية بين صفوف الناس.
والسؤال هنا من هو هذا الشيخ؟ ما مستوى معرفته وثقافته؟ بكل بساطة أكثر من 90% منهم أمّيون وأغلبهم لم يتجاوز "القرتابة"؛ أي حدود القراءة والكتابة. أما كيف يمتهن هذه المهنة، فإن المشيخة هي بالوراثة، فمن كان أبوه شيخا في مرحلة تاريخية سحيقة هو شيخ بفطرته وطبيعته، فهناك دماء زرقاء قدسية تجري في عروقه ودمائه.
ومن أجل توضيح هذه الصورة، توجد هناك قرى من الشيوخ بكاملها؛ أي إنه يمكنك أن تجد قرية كاملة يوجد بها مئات من رجال الدين الذي اكتسبوا هذه المهنة بالوراثة عن آبائهم وأجدادهم.
الفصل بين المقدس والدنيوي:
وهذا يعني أن المنطلق الأساسي لتحرير العقل العربي وتأسيس النهضة العربية يكون في خطوتين أساسيتين هما: الفصل بين المقدس والدنيوي، ومن ثم ترسيم الحدود بين الطرفين على أساس إعادة الاعتبار إلى الدنيوي الذي حدده الإسلام في البداية. وهذا يعني أنه يتوجب التأكيد على قدسية القرآن الكريم كتاب الله وشخص النبي (ص) وسيرته وسنته، وهذا يعني أن القدسية والعصمة يجب ألا تكون لغير لله وكتابه ونبيه؛ إذ إنه "يحق للمسلم المعاصر، بل وينبغي عليه ألا يعترف بقدسية أي نص في الإسلام إلا بالقرآن والسنة والحديث النبوي الشريف، وإن ما عداه على الرغم من أهميته وتقديرنا له لا يستحق صفة المعصومية والقدسية (...)؛ فالعلوم على الرغم من عظمتها ليست إلا من صنع البشر، حتى ولو كان هؤلاء البشر هم الصحابة والأئمة والفقهاء أو رؤوس المذاهب الكبار. إن فضلهم علينا عظيم بدون شك، ولكن كلام الله فوقهم وفوق كلامهم فهو وحده المعصوم"([19]).
وتأسيسا على هذه المنهجية، فإن "الجانب المقدس في ثقافتنا هو النظرة الإسلامية إلى الأمور والأشياء، سواء ما تعلق منها بالفرد أو الجماعة أو الكون أو العلاقة بين هذه الأشياء، وهو الشيء الذي يجب أن يتمتع بالثبات والاستقرار، لأن فيه تكمن ذات الأمة وروحها"([20]). وغير ذلك من عادات وقيم وممارسات، فهي أمور تأخذ شأن دنيوي دينامي متحرك قابل للمعالجة والتجديد والاجتهاد. وهذا من شأنه أن يضمن ازدهار الحضارة ونمو التجديد والابتكار في ثقافتنا وحياتنا.
ومن هذه الأرضية، يؤكد محمد نجيب عبد المولى على الضرورة التاريخية للفصل المنهجي بين المقدس بصورته الحقيقية، وبين المظاهر الاجتماعية التي أُسبغت عليها خصائص القداسة. ومن هذا الموقع يؤكد أيضا على أهمية تدخل العقل الإنساني للتمييز بين العناصر القدسية والعناصر الدنيوية للحياة الثقافية العربية الإسلامية. وانطلاقا من ذلك كله يقول الكاتب: "إن الخروج من الأزمة لن يكون تنكرا للمقدس، بل سيكون بحثا عن المعقول فيه وقناعة بأن معقوليته متسترة لا بد من الكشف عنها. بذلك، لا يكون المعقول خارج سجل المقدس، بل هو مستتر في ثنايا الظاهر يأبى البروز إلا بفعل الذات العاقلة"([21]). والباحث هنا يريد أن يقول بضرورة تحرير المقدس من الإضافات الأسطورية التي تخللته عبر التاريخ وإعادة الاعتبار التاريخي للمقدس الحقيقي، وهذا يعني اكتشاف اللحظة العقلية في المقدس ذاته. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أعمال الكواكبي ومحمد عبده والأفغاني والطهطاوي ورواد عصر النهضة العربية الذين حاولوا تحكيم العقل في المقدس وعقلنته، ومن ثم ترويضه معرفيا في وقت ساد فيه الفكر الخرافي وهيمنت عقلية التواكل وانحسرت فعاليات العلم.
لقد كرس ابن رشد حياته العلمية انتصارا للعقل على قدسيات لاعقلية، وكان حريصا في ذلك على شموخ الحقيقية الدينية وسموها، وقد تأسس لديه أن سمو الحقيقة الدينية لا يمكنه بأي حال أن يتعارض مع دورة العقل، وفي سياق ذلك كله كان يؤكد بأن اعتماد العقل في فهم الدين هو الطريق الحقيقي نحو فهم الدين وتمثل قيمه. ولذلك وانتصارا لحكمة العقل، كان يرى بأن التعارض بين العقل وظاهر النص يجب أن يتم تجاوزه لصالح العقل أو بما يقتضيه العقل؛ وذلك تيمنا بمقولته الشهيرة بأن "الحق لا يضاد بالحق، بل يعاضده ويشهد له". وتأسيسا على ذلك، يمكن القول بأن العقلانية الرشدية كانت تتويجا للمقدس على أسس عقلية أو عقلنة للنص الديني، وهذا يقتضي تحرير المقدس من شطحات اللامعقول، وتحصينه ضد منظومة الخرافات والأوهام التي أحاطت به عبر التاريخ. وعقلنة المقدس وفقا لذلك تشكل اليوم المسار الحقيقي الذي يكفل للمقدس حالة الديمومة والاستمرار على أسس عقلية راسخة. "إن البحث عن مشروعية إعمال العقل في النص الديني كما في سائر المجالات الأخرى يبدو للوهلة الأولى مسألة نظرية تخص طبيعة المعرفة والأدوات المحققة لها، إلا أن المقصد العميق لابن رشد من كل ذلك هو تغيير طرائق التفكير حسب العبارة الكانطية والتسليم بأمر واحد هو قدرة العقل على تناول القضايا النظرية بما في ذلك تلك التي تناولها النص الديني"([22]).
رؤية إجمالية:
الفكر الإسلامي يتسم بطابع العقلانية في جوهره، وينطلق من أسس عقائدية تتسم بالوضوح في الفصل بين المقدس والدنيوي في الفصل بين الثابت والمتحول. ولكن الثقافة الإسلامية اليوم تعاني اليوم في بعض مظاهرها من غلبة التفكير اللاعقلاني الذي لا يستطيع الفصل بين الثابت والمتحول بين الجوهري والعرضي، وهذه النزعة اللاعقلانية، جاءت بتأثير عصر التخلف والظلام، حيث فرضتها قوى اجتماعية إقطاعية الجوهر متخلفة المضامين في كثير من أنحاء العالم الإسلامي([23]).
وليس من قبيل المصادفة وحدها أن الإسلام قلل مطلقاته إلى ابعد مدى، إذا هو قورن بالأديان الأخرى، وترك ما عداها للعقل والعقل وحده، فجاءت بعض الرؤى المذهبية المختلفة (…) فأغنت المطلقات إلى ما لا نهاية ولم تستغن عن شيء قدر ما استغنت عن العقل وأسبابه([24]).
رجال الدين في الغرب لا يقفون في ممارستهم الفكرية عند حدود النص الديني فحسب، بل يباشرون فعاليات علمية وفلسفية بالغة التنوع والخصوبة، فهم معنيون بمعرفة تيارات العلم الحديث ومناقشة موضوعاته بمنهجية علمية قدر الإمكان لنتائجه، بل إن بعض رجال الدين هناك يسهمون إسهاما مباشراً في الكشوف العلمية الجديدة، ويجمعون بين صفتي رجل الدين ورجل العلم والمعرفة العلمية. وعلى خلاف هذا، فإن كثيرا من رجال الدين (من غير أهل العلم والثقافة حصرا) في مجتمعاتنا يقفون عند حدود العموميات ومعلوماتهم العلمية سطحية وعامة، قد لا تمكنهم معالجة المشكلات الحيوية التي تطرحها المجتمعات المعاصرة في مستوى العلم والتقنية على مستوى العصر. فمازال كثير من رجال الدين لدينا يناقشون بعض البديهيات والمسلمات البسيطة أو المبادئ الأساسية للتفكير العلمي. وبالنتيجة، فإن العلاقة بين الدين والعلم تختلف من مجتمع تسوده النظرة العلمية إلى مجتمع ما يزال القيم التقليدية هي المسيطرة. المشكلة في الغرب هي: كيف يجد الإيمان الديني له مكاناً في مجتمع يحكمه التفكير العلمي وتشكل التقنية أسلوب حياته. أما في المجتمع الإسلامي، فالمسألة مختلفة وهي كيف يستطيع العلم تبرير نفسه في مجتمع تسوده مظاهر التخلف الحضاري والاجتماعي؟
[1] لسان العرب، الجزء السادس ص 168
[2] كمال دسوقي، ذخيرة علوم النفس، المجلد 2، الأهرام، القاهرة 1988
[3] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، المرجع السابق، ص 773، 774
[4] رفعة الجادرجي: العمارة المقدّسة، المستقبل العربي، العدد 251، يناير/كانون الثاني، 2000، ص ص (30-39)، ص 37
[5] رفعة الجادرجي: العمارة المقدّسة، المرجع السابق، ص 37
[6] محمد الجوّة، الحقيقة المقدّسة، المرجع السابق، ص 5
[7] Petit Robert Dictionnaire français sur C.D.
[8] Madeliene Grawitz, Lexique des sciences sociales, Dalloz, Paris, 1983
[9] محمد خاتمي، الدين في العالم المعاصر، قضايا إسلامية معاصرة، العددان 16/17، ديسمبر، 2001، (ص ص 120-140) ص 134
[10] صحيح بخاري الحديث رقم 1165
[11] إبراهيم مدكور & عدنان الخطيب: حقوق الإنسان في الإسلام، دار طلاس، دمشق، 1992، ص 17
[12] محمد إبراهيم المنوفي، نحو فلسفة تربوية لمواجهة ظاهرة الاستبداد السياسي، دراسات تربوية، المجلد العاشر، عالم الكتب، القاهرة، 1995
[13] محمد عبد العزيز أبو سخيلة: حقوق الإنسان، مرجع سابق، ص 238
[14] حافظ الجمالي: الثابت والمتحول في العقل العربي، المعرفة السورية، السنة 20، عدد 236، تشرين أول / أكتوبر، 1981، (ص ص 8-35) ص 11
[15] هاشم صالح، الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات، الوحدة، عدد 101 / 102، فبراير / مارس 1993، (ص ص 14-29) ص 25
[16] مصطفى دحماني: فضح الزمن الأصولي: قراءة تحليلية نقدية لبعض مفاهيم الحركة الإسلامية المعاصرة. دراسات عربية عددم7/8 أيار حزيران 1994، ص 54
[17] علي زيعور، التحليل النفسي للذات العربية: أنماطها السلوكية والأسطورية، دار الطليعة، بيروت 1987، ص 196
[18] علي زيعور، التحليل النفسي للذات العربية: المرجع السابق، ص 198
[19] هاشم صالح، الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات، الوحدة، عدد 101 / 102، فبراير / مارس 1993، (ص ص 14-29) ص 18
[20] تركي الحمد، عن الإنسان أتحدث: تأملات في الفعل الحضاري، دار المنتخب العربي، بيروت، 1997، ص216
[21] محمد نجيب عبد المولى، العقلنة فعل تنويري في الفكر العربي الإسلامي، الوحدة، السنة السابعة، العدد 81، يونيو/ حزيران 1991، ص ص 54-59، ص 55
[22] محمد نجيب عبد المولى، العقلنة فعل تنويري في الفكر العربي مرجع سابق، ص 55
[23] حافظ الجمالي: الثابت والمتحول في العقل العربي، المعرفة السورية، السنة 20، عدد 236، تشرين أول / أكتوبر، 1981، (ص ص 8-35) ص 29
[24] حافظ الجمالي: الثابت والمتحول في العقل العربي المرجع السابق، ص 30