كارين يوهلينبيك: عن النّسويّة والدّين والرّياضيات
فئة : حوارات
أجر الحوار: مانويل أنسيدي
ترجمة: محفوظ أبي يعلا
مراجعة: البشير عبد السلام
تقديم المترجم:
منحت أكاديميّة العلوم والأدب في النّرويج جائزة أبل المرموقة في الرياضيات، والّتي تعد بمثابة نوبل في الأداب، إلى عالمة الرياضيات والأستاذة الفخريّة في جامعة تكساس بأوستن الأمريكيّة كارين يوهلينبيك، لتكون أوّل امرأة تفوز بهذه الجائزة، بعد أن فاز بها تسعة عشر عالماً.
ولدت كارين يوهلينبيك Karen Uhlenbeck سنة 1942 في مدينة كليفلاند. درست الرياضيات، وأصبحت من أهم علمائها المعاصرين، واهتمت في دراساتها بنظرية التحليل وهندسة الزمكان، فكانت من النّساء القلائل اللّواتي اشتغلن في الرياضيات، ولاسيّما أنّها تنتمي إلى جيل كانت المرأة فيه تكتفي بالبقاء في المنزل وتربية الأبناء.
عندما بدأت كارين تبحث عن العمل في منتصف القرن العشرين، لم تكن تجد الكثير من الفرص، إذ لم تكن المرأة الغربيّة قد تحصلت على كلّ حقوقها، ولم يكن المجتمع الغربيّ يقبل بالمرأة العاملة، بل كانت هناك نظرة تقليديّة للمرأة تتلخص في تكوين الأسرة والقيام بالأعمال المنزليّة. ولولا نضالات الحركة النّسويّة، لما استطاعت الكثير من النسوة أن يجدن مكاناً تحت الشمس. ولهذا، فكارين يوهلينبيك تعتبر نفسها مدينة للحركة النّسويّة التي ظهرت في بداية القرن العشرين، حين طالبت بعض النسوة بحقهن في التصويت، ثم عقبتها موجة ثانيّة من النّسويّة الأمريكيّة ابتدأت بكتاب اللّغز الأنثوي لبيتي فريدان Betty Friedan (1921 - 2006) سنة 1963، وهو الكتاب الّذي تقوم أطروحته على أن دور المرأة كربّة أسرة وزوجة فقط، لا يجعلها تحقق هُويتها الّتي تبحث عنها، ولهذا فعلى المرأة أن تسعى إلى تحقيق ذاتها من خلال التعلم والعمل.
تقول كارين، إنّها لم تكن تفكر كثيراً أيامها في المشاكل السياسيّة، أو في صعوبة أن تلج النّساء حقل الرياضيات. كلّ ما كانت تفكر فيه هو أن تشتغل في الرياضيات. ولهذا، فهي حين تعيد التّفكير في الماضي، تجد نفسها مدينة لنضالات الحركات النّسويّة.
تلقت كارين رسالة تخبرها بفوزها بالجائزة أبل التي تقدر قيمتها بـ 600.000 أورو، حين كانت تهم بمغادرة الكنيسة يوم الأحد. ولهذا، سألها محاورها عن تدينها، فقالت إنّها تنتمي إلى كنيسة موحدة عالمية تؤمن بالعدالة الاجتماعيّة وبالتنمية الذاتية. والكنيسة الموحدة العالمية توجه ديني يؤمن بالتعددية والاختلاف، ولا يهتم بالعقائد الفردية أكثر من اهتمامه بنمو الفرد روحياً، ويرى هذا التوجه أن كل فرد تعبير عما هو إلهي، وبالتالي، فهو مقدّس. وتعتقد كارين أنه من الجيد الذهاب إلى كنيستها والتحدث مع أشخاص قلقين على الكوكب، ويقضون الكثير من الوقت في فعل الخير. وفي نظرها، أن الدّين جزء مهم جدّاً من الإنسانيّة، وأن للناس مكانا للدّين داخل أرواحهم. وأنّه ليس هناك تناقض بين التّفكير بهذه الطريقة والتّعرف على جمال الرياضيات.
بدت كارين يوهلينيك في حوارها مع صحيفة إل بييس الإسبانيّة كأستاذة مثقفة تحمل هموم الإنسانيّة والعلم. وهذه سمة تجدها في العلماء الذين لا يكتفون بما هو تقني أو علميّ، بل يكونون أصحاب مواقف من عدّة قضايا مرتبطة بالإنسان وبالإنسانيّة.
نص الحوار المترجم:
حوار مع كارين يوهلينيك[1]
لا أحبّ أن ينادونني بامرأة الرياضيات؛ أنا من شخصيات الرياضيات التي تصادف أن تكون امرأة.
تعترف الفائزة الأولى بجائزة "نوبل" الرياضيات بأنها مدينة للنضال النسويّ!
في يوم الأحد الماضي، وبينما كانت عالمة الرياضيات الأمريكية كارين يوهلينبيك تهم بالخروج من الكنيسة، انتبهت إلى رسالة في هاتفها النقال: من فضلكم، هل بمقدوركم قبول إحدى المكالمات من النرويج؟
ولدت كارين يوهلينبيك في مدينة كليفلاند قبل 76 سنة، وقد فازت بجائزة أبل، وتحصلت على ما مقداره 600.000 أورو، وجائزة أبل تعد بمثابة نوبل الرياضيات.
لأول مرّة منحت أكاديميّة العلوم والأدب في النّرويج الفوز لامرأة، وذلك بعد أن فاز بهذه الجائزة تسعة عشر رجلاً. تقول كارين الأستاذة الزائرة بمعهد برينستون للدراسات المتقدمة: "لازلت مصدومة ومصابة بالذهول".
أحدثت نظريات يوهلينبيك ثورة علمية على مفترق الطرق بين الفيزياء والرياضيات. وقد طبقت نظرياتها العلميّة الرائدة في عدة مجالات، مثل نظرية الأوتار وهندسة المكان ـ الزمان [الزمكان]. وكل ما حققته في عالم الرياضيات، كان رائعاً وممتعاً. غير أنه كان، من الناحية العمليّة، ممنوعاً على النساء إلى أن وصلت يوهلينبيك.
عندما بدأت كارين تبحث عن العمل في منتصف القرن الماضي، كان لا أحد يتعاقد مع نساء المشتغلات في الرياضيات، لأنه كان المفروض حينها أن تظل النساء بالبيت لتربية أطفالهن.
يوهلينبيك هي أيضاً أستاذة فخرية في جامعة تكساس في أوستن. تجيب عن أسئلة إل بييس عبر الهاتف من برينستون.
مانويل أنسيدي: يقول زميلكم تشارلز فيفرمان، إن الرياضيات مباراة شطرنج ضدّ الشيطان: يسحقك مرات عديدة إلى أن تتعلم الحيل وتنتصر عليه؛ ماذا تمثل الرياضيات بالنسبة إليكم؟
كارين يوهلينبيك: الرياضيات جهد إنساني جميل مع أفكار رائعة. إنّها لغة مدهشة. في الحقيقة، إني أستمتع بكوني عالمة رياضيات، وأنا جد سعيدة لكون الرياضيات التّي اشتغلت عليها كانت مثمرة ومفيدة.
مانويل أنسيدي: علمتم بفوزكم بجائزة أبل أثناء خروجكم من الكنيسة في صباح يوم الأحد. هل أنتم متدينون؟
كارين يوهلينبيك: لست متدينة بالمعنى الدارج للتدين. أذهب إلى كنيسة موحدة عالمية تؤمن بالعدالة الاجتماعية وبالتنمية الذاتية. أعتقد أنه من الجيد الذهاب إلى هناك والتحدث مع أشخاص قلقين على الكوكب ويقضون الكثير من الوقت في فعل الخير.
مانويل أنسيدي: الرياضيات والدين لا يبدوان صديقين واضحين.
كارين يوهلينبيك: الدّين جزء مهم جدّاً من الإنسانيّة. شخصياً لا أعتقد، بالضرورة، بوجود إله، لكني أعتقد أن الناس لديهم مكانٌ للدين داخل أرواحهم. ليس هناك صراع مباشر بين التّفكير بهذه الطريقة والتعرف على جمال الرياضيات.
مانويل أنسيدي: أنتم تعرفون أن هناك الكثير من النّاس ينظرون إليكم كامرأة عالمة في الرياضيات، وليس كعالمة رياضيات فقط؛ هل تتعبكم هذه النظرة؟
كارين يوهلينبيك: في الواقع، لا أحبّ أن ينادونني بامرأة عالمة في الرياضيات. أنا شخص الرياضيات، تصادف أن يكون امرأة. لا أشعر أبداً بالراحة، عندما أكون امرأة الرياضيات. أعتقد أن هذا الأمر تتشاركه جميع العالمات. فهن لا يحببن أن ينظر إليهن على أساس كونهن: امرأة، سوداء أو أمريكية، بل يحببن أن يتم تقديرهن من خلال ما يقدمنه، من خلال أعمالهن الخاصّة.
مانويل أنسيدي: هل من الصعب أن تكونوا مثالا للاحتذاء به؟
كارين يوهلينبيك: نعم، من الصعب ذلك؛ دائماً أقول إنّه من المهم للقدوة أن يبين أن الأشخاص قادرين على النجاح، رغم كل عيوبهم وأخطائهم. يجب أن نظهر أننا غير مثاليين. يجب أن نلهم النساء الشابات، ونجعلهن واثقات بأنهن يستطعن تحقيق ما يتطلعن إليه، حتّى وإن لم يكن مثاليات.
مانويل أنسيدي: كنتم أثناء حرب الفيتنام، في جامعة بيركيلي بين 1969 و1971. كانت تلك فترة الموجة الثانية للنسويّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة. اليوم نحن نعيش الموجة الرابعة للنسوية، كيف ترون تطور هذه الحركة؟
كارين يوهلينبيك: أعتقد أنها مرحلة جيدة للنساء؛ بعد الحرب العالمية الثانية، كانت السنوات 1950 و1960 فترة حرمان النساء من فعل الكثير من الأشياء. الموجة الأولى من النّسوية أدت إلى إعطاء النّساء حقهن في التصويت بداية من القرن العشرين. وأعتقد أن كتاب اللغز الأنثوي لبيتي فريدان كان الكتاب الذي جعل الحركة النسوية تبتدئ بالفعل [سنة 1963]، إذ سمح للنساء بعده بالقيام بأعمال خارج منزلهن. في تلك الحقبة، لم أكن أرغب في التفكير، أنه في الواقع لم يكن ينبغي على المرأة أن تشتغل في الرياضيات. لم أكن أرغب في التفكير في المشكلة السياسيّة، فقط أردت أن أشتغل في الرياضيات. غير أني، حين أعيد التفكير في الماضي، أرى أنني مدينة للحركة النّسويّة.
مانويل أنسيدي: ماذا تقولين للأشخاص الذين يعتقدون أن دماغ الرّجل والمرأة مختلفان، ولذلك، فإن هناك الكثير من الرجال في عالم الرياضيات؟
كارين يوهلينبيك: لا أعتقد أنه من الممكن تمييز الفرق بين الرياضيات الّتي يشتغل عليها الرّجال والأخرى التي تشتغل عليها النساء. وأيا كانت الحقيقة، فإن الرجال دائماً كانت عندهم مزايا إضافية. الفروق الكبيرة بين الرجل والمرأة ترجع للفوارق السوسيو اقتصادية.
مانويل أنسيدي: ذهبتم لتعلم التزلج في عمر الأربعين سنة. امرأة أربعينية فوق لوح التزلج ليست بصورة نموذجية لعالمة رياضيات؟
كارين يوهلينبيك: لقد قمت بأمور عديدة في حياتي [ضاحكة]. أشعر بالفخر أني قطعت على الدراجة، وفي يوم واحد طريق سانتري رايد، وهي طريق تمتد على طول 100 ميل [حوالي 160 كيلومتر].
مانويل أنسيدي: لماذا الكثير من الموهوبات يقررن ترك الرياضيات؟
كارين يوهلينبيك: لأسباب كثيرة؛ منها الضغوط الشخصية، والضغوط الاقتصادية، وعدم الارتياح في نوع العمل الذي يقمن به ... في الحقيقة، هناك أيضاً رجال يتركون الرياضيات. الكثير من النساء اللواتي ليس لديهن منصب مرغوب فيه، يشتغلن في حصص الرياضيات أو الإحصاء أو في أشياء أخرى. إن النساء يتركن الرياضيات بدرجة أقل مما يشاع عنهن. الحاصل غالباً، هو أنهن لا يملكن عملاً مرغوباً فيه، ولهذا يتركن الرياضيات.
مانويل أنسيدي: كثيرون ينظرون إلى الرياضيات كعلم منظم ودقيق، وأنتم تقولون إنكم لا تحبون النظام.
كارين يوهلينبيك: صحيح، إن نوع الرياضيات التي أشتغل عليها غير منظمة. إنّها مختلفة عن جميع الحقول الأخرى. ذات يوم قال عالم الرياضيات السويدي لينارت كارلسن: إن التحليل الخطي يشبه الحديقة والتحليل اللاخطي مثل الأدغال. وأنا أشتغل في التحليل اللاخطي، حيث لا يمكنك الجلوس، وبدء المشكلة إلى أن تصل للنهاية. ينبغي عليك أن تجرب خمسا وعشرين طريقة للتعامل مع المشكلة، علّك تصل إلى مكان ما، لكنه بحث مثير.
مانويل أنسيدي: تقولون إنكم بفضل طلابكم أدركتم أن نظريات التعليم لا معنى لها.
كارين يوهلينبيك: الأشخاص يفكرون بطريقة مختلفة؛ كل طلابي يفكرون بطريقة مختلفة عن بعضهم البعض. اكتشفت من تجربتي، حيث أدرس لطلاب الجامعة أن هناك تفاوتا في طريقة تفكريهم. هناك العديد من نظريات التعلم، غير أنها، في العادة، تأخذ طريقة واحدة في التفكير، رغم أن هناك طرائق أخرى.
مانويل أنسيدي: يقدر والداك الجهد العقلي، ولكنهما كانا يعتقدان أن جمع المال أكثر أهمية، وفقاً لم قلتم في كتاب رحلات النساء في العلم والهندسة: ليس هناك ثوابت كونية. وقيمة الجائزة التي فزت بها هي أكثر من 600.000 أورو. سيكون والداك فخورين بك في كلا الناحيتين.
كارين يوهلينبيك: غادر والدَاي الجامعة سنة 1932، وذلك بعد الكساد العظيم، كانوا قلقين على أبنائهم وكسبهم للمال. أنا أتفهم ذلك. نعم، سيكونان فخورين.
[1] الحوار من إنجاز مانويل أنسيدي، نشر بتاريخ 23مارس2019 على موقع صحيفة إل بييس الإسبانية عند الساعة 19: 41 بتوقيت وسط أوروبّا. رابط الحوار:
https://elpais.com/elpais/2019/03/22/ciencia/1553282571_242902.html?fbclid=IwAR2FhvBHXxhEbYNhyXiWsQ3uu7DnjZOyUikntXjEKH-EDHKNoNU-HEk7CBE