كيف أكون نيتشوياً؟
فئة : مقالات
كيف أكون نيتشوياً؟
«وحيداً أمضي الآن يا مريدي! وأنتم أيضاً ستمضون الآن، وحيدين! هكذا أردت لكم.»
نيتشه، هذا هو الإنسان، ص11
يضعنا نيتشه أمام مفارقة كبرى مقتضاها، أنه لكي تكون نيتشوياً يجب أن لا تكون كذلك، ومن ثمة فلا سبيل لمن أراد أن يكون نيتشوياً، إلا أن ينسلخ عن الإيمان الدوغمائي بأفكار نيتشه، بل محاولة التنكر له والبقاء بعيداً عنه. إنها دعوة غريبة من فيلسوف الشارب الكث، الذي أراد من تلاميذه ومريديه أن ينفضوا عنه، فلا يكونون أوفياء له، لذلك يخاطبهم قائلاً: «والآن أطالبكم بأن تضيعوني وأن تجدوا أنفسكم، وإني لن أعود إليكم إلا عندما تكونون قد أنكرتموني جميعاَ»[1]، يخاطب نيتشه هنا أنصاره آمراً إياهم أن يضيعوه ويبحثوا عن ذواتهم، حتى يتمكنوا في آخر المطاف من الرجوع والعودة إليه من جديد، وكأنه كان يخشى أن تتحول فلسفته من مجرد مطرقة تفتك بأوثان الفكر وأصنامه، إلى فلسفة تكرس الإيمان بمذهب جديد، لذلك يؤكد على ضرورة الابتعاد عن الانصياع والطواعية والوفاء، والتحلي بالشدة والقسوة ثم التنكر، فبدل الحفاظ على أواصر العلاقة بين الشيخ والمريد، يقترح نيتشه إعادة ترتيب هذه العلاقة، بشكل يسمح لأطرافها بالفُرْقة والوحدة بدل الألفة والمؤانسة.
لا يمكنك أن تجد نيتشه يحثّ القارئ على ضرورة الاطمئنان إلى أفكاره؛ «فالمرء يمكن أن يقرأ نيتشه حتى النهاية دون أن يعثر لديه على أدنى الرغبة في أن يحيل قارئه إلى تابع. فالمرء يستطيع أن يستقبل الأنوار المنبعثة من روحه بسعادة غامرة دون أن يشعر بأنه متنازل عن حريته إزاء هذا الشغف الخلاق»[2]؛ لأنه يعتقد أن المرء يجب أن يسلك مساره الخاص دون أن يتنازل عن حريته الفكرية، تماماً كما فعل هو عندما ثار في وجه شوبنهاور، وصديقه الأعز فاغنر، وفي وجه كل مجسد لروح عصره عامة. لقد كان نيتشه شديد الإعجاب بفلسفة شوبنهاور، إلى حد جعله يظن أن صاحب كتاب "العالم كإرادة وتمثلاً" إنما يكتب له، «فكان يقرأ ويتلو صفحاته باذلاً جهداً مضاعفاً ليستحضر روح شوبنهاور الحية، ويجالس شخصه المتحرك، ليربط علاقة خاصة بهذا الكتاب، علاقة تفجرها جملته غير البسيطة: "كتاب كأنه كتب لي"»[3]، لكنه بعد ذلك لم يعد متحمساً لفكرة الإرادة عند شوبنهاور ولنظرته التشاؤمية للعالم، كما أنه لم يعد يلزم نفسه بأي من عقائده، رغم اعترافه الدائم بفضل أستاذه عليه، الذي أفرد له كتاب "شوبنهاور مربّياً".
لم يقتصر إعراض نيتشه عن فلسفة شوبنهاور فحسب، ولكن عُدوله ذلك طال حتى موسيقى فاغنر، الذي شكل تعرفه عليه أعظم حدث أثر في حياته، حيث «كان الأداة الكبرى التي استعان بها القدر ليخلق من نيتشه عبقرياً على النحو الذي كان عليه»[4]، لكن مع ذلك كله لم يكن نيتشه وفياً لفاغنر ولصداقته التي كانت تربطه به، رغم أنه كان شديد الإعجاب بموسيقاه إلى حد جعله لا يقدر على «تحمل أيام شبابه دون موسيقى فاغنر»[5]، غير أن تنكر الرجل لأحد أكبر من أعجب بهم لم يكن وليد سبب من تلك الأسباب التي ذكرها أنصار فاغنر المتعصبين، ولا لأنه قرر خيانة أحد أعز أصدقائه، بل إن السبب في ذلك يعود إلى استجابة نيتشه لنداء فكره الذي أصبح لا يطيق روح فاغنر الهزلية[6]، رغم ما جناه نيتشه من عواقب وخيمة جراء خسارته لصداقته الاستثنائية بفاغنر، حيث كان لزاماً عليه أن يتجشم عناء ألم فراق صديقه، وتحمل الإهمال الذي طال أفكاره من طرف معاصريه، حيث لم تعد تلقى أفكاره ترحيباً كبيراً، خاصة من أنصار فاغنر آنذاك.
لقد كان نيشته من طينة الفلاسفة الذين يتمتعون بطباع القوة والمقاومة، الشيء الذي جعله يهاجم كل معتنق لفكرة معية أو مؤمن بحقيقة ما إيماناً راسخاً، لذلك تجده ينفر من الذي يؤمن إيماناً أعمى، فلا يسائل الجاهز أبداً، حيث يقول على لسان زرادشت: «تقولون إنكم تؤمنون بزرادشت؟ لكن ما أهمية زرادشت! وإنكم تؤمنون بي، لكن ما أهمية كل المؤمنين! أنتم لم تبحثوا بعد عن أنفسكم: هكذا وجدتموني، كذا يفعل كل المؤمنين. ولذلك ليس الإيمان شيء ذي بال»[7]، لم يرغب نيتشه أن يشاركه أحد أفكاره، وبالتالي لم يكن يريد أتباعاً يتمسكون بما يكتب، ولا يجرؤون على وضع مسافة فاصلة بينهم وبينه، بل كان يطمح دائماً إلى جعل المهتمين به يسلكون طريقهم بعيداً عنه، حيث يأمرهم دائماً بأن ينفضوا عنه قائلاً: «انصرفوا عني واحترسوا من زرادشت! بل وأكثر من ذلك اخجلوا من جرائه! فلعله قد خدعكم. إنه لا ينبغي على الإنسان العارف أن يحب أعداءه فحسب، بل عليه كذلك أن يكون قادراً على كره أصدقائه»[8]، يجب من منظور نيتشه أن نسلك الحذر في التعاطي مع ما يقوله زرادشت، فلربما خدعنا، وأن نتحلى بما يكفي من اليقظة للكشف عن انزلاقاته، وأن نبتعد عن كنفه من أجل أن لا نحصر أنفسنا فيما قاله، فلا نتمكن من تجاوزه. إن أول ما يلزمنا به نيتشه كي نكون نيتشويين هو عدم اتباعه؛ ذلك أن الذي يعتقد أنه نيتشوي، هو في الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك؛ لأن التسليم بما يقوله نيتشه قد يوقعك في مطبات عديدة ويجني عليك مخاطر كثيرة لا قبل لك بها، ولا قدرة لك على تحملها.
أكثر ما كان يخشاه نيتشه أن تتحول فلسفته إلى عقيدة أو إيمان جديد، لذلك نجده يفضل أن يكون مهرجاً بدل أن يكون قديساً، حيث يقول في كتابه "هذا هو الإنسان": «لا أريد أن أكون قديساً، بل أفضل أن أكون مهرجاً...ولعلني بالفعل أضحوكة»[9]؛ فالمهرج يشعرك دائما بالمرح والحبور ويفسح لك المجال لتحس بالفرح، فيجعلك تتصرف بكل عفوية وتلقائية لتكتشف ذاتك، بعيداً عن إكراهك على قول الحقيقة والتحلي بالحزم والجد، لذلك كان يفضل نيتشه أن يكون مهرجاً يضحك الجمهور على أن يكون قديساً يخاطب الناس بنبرة الواعظ الذي يجعلك تطمئن وتعتقد فيما يقول دون فحص ولا تمحيص.
لا يريدنا نيتشه أن نظل مجرد تلاميذ عنده، بل يدعونا باستمرار إلى الابتعاد عنه وتمزيق إكليله، حيث يقول: «إنها لمكافأة رديئة للمعلم أن يظل المرء مجرد تلميذ. فلم لا تريدون تحطيم إكليلي؟»[10]، فالهدية الثمينة التي يمكن أن يقدمها التلميذ لمعله هي أن لا يكون ومخلصاً له، بل يجب عليه أن ينكره، لكي يتمكن من إيجاده والعودة إليه، فشرط الانتساب إلى النيتشوية يكون عبر التنكر لها ومحاولة الابتعاد عنها، وليس عبر الوفاء بها وربط علاقة معها؛ يطبعها الإخلاص والألفة ثم الصداقة، وإنما عبر ضياعها والتنكر لها، لذلك يشترط نيتشه على أصدقائه القراء أن لا يتصفوا بالسذاجة وبساطة التفكير، كي لا يكونوا عالة على الفكر وعلى أنفسهم، حيث يريد منهم أن يتصفوا بأعلى قدر من الحنكة والذكاء، حتى يتمكنوا من رسم مسارهم الفريد الذي يخصهم، دون اتباع صَنَم ما، يكون سببا في أي خطر قد يحدق بهم فيقضي على استقلاليتهم ونباهة تفكيرهم.
لا يخجل نيتشه أبداً من البوح بما يراه صواباً، بل تجده يدافع بشراسة على أفكاره، لكنه يحرص دائماً على جعل صديقه الوفي على أهبة الاستعداد للانقلاب على نفسه، ليعرج بها إلى مرتبة الأعالي، وليتسلح بالمطرقة التي لا يستطيع أحد أن يَقْرع بها خصومه، إلاّ إذا كان قادراً على التنكر لكل العقائد والقيم الواهية وعدم الاطمئنان والاستكانة لها.
من هنا لا يحق لنا أن ننصب أنفسنا رعاعاً تابعين خانعين غير مكثرتين بمن يحاول إيهامنا بوجود حقيقة ثابتة، تماماً كما يفعل أصحاب العقول المتحجرة، الذين لا يجد نيتشه أدنى حرج في مهاجمتهم، فلا يتركهم ولا يبتعد عنهم إلاّ إذا حولهم إلى رماد وهشيم تدروه الرياح، إذ يقول:
«نعم، أعرف أصلي!
شره كاللهب،
أستهلك نفسي، متوهجاً!
نوراً يصبح ما ألمسه،
فحماً يمسي ما أتركه
مؤكد، أنا لهب»[11].
[1] ف. نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2003، ص11
[2] رودولف شتاينر، نيتشه مكافحاً ضد عصره، ترجمة وتقديم: حسن صقر، دار الحصاد للنشر والتوزيع، سوريا، الطبعة الأولى 1998، ص206
[3] محمد صلاح بوشتلة- محمد الناجي- رانز ج. هانش، مكتبات الفلاسفة، ما الذي كان يقرأه نيتشه؟ مكتبة المعرفة، مراكش، الطبعة الأولى 2023، ص43
[4] عبد الرحمن بدوي، نيتشه، خلاصة الفكر الأوربي، سلسلة الفلاسفة، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الخامسة 1975، ص، ص55-56
[5] صفاء عبد السلام علي جعفر، محاولة جديدة لقراءة فريدرش نيتشه، دار المعرفة الجامعية، ط، 1999، ص135
[6] يصرح عبد الرحمن بدوي بهذا الخصوص في كتابه "نيتشه" قائلا: «فنيتشه إذن لم يتنكر لفجنر لأن من شيمته الخيانة والغدر، أو لأن مرضاً عقلياً قد غزاه وبدأ يفعل فعله منذ أن كتب كتابه «إنساني، إنساني جدا»، كما ادعى خصومه من أنصار فجنر المتعصبين. وإنما كان هذا التنكر استجابة لرسالته الفكرية، وتحقيقاً للغاية التي وجد من أجلها؛ فكان الدافع إليه دافعاً جوهرياً صادراً عن طبيعة فكره، ومقتضيات تطوره الروحي، وكان قضاءً لا مرد له ولا حيلة لنيتشه في دفعه، كي يستطيع أن يحقق المصير الذي ينتظره. فكان مرغماً عليه، مضطراً إليه، لا خيار له فيه. وإلا، فقد كان يعلم أن هذه القطيعة بينه وبين فجنر ستسبب له الكثير من الآلام، وتأتي بشتى صنوف العذاب: عذاب الوحشة، وعذاب عدم الاكتراث له من جانب الجميع. فمنذ غادر فجنر، ظل وحيداً، لا يأبه له إنسان؛ ولم يعد ينعم من الناس حتى بنعمة الخصومة، إن كان ثمت في الخصومة نعمة.» (عبد الرحمن بدوي، نيتشه، المرجع السابق، ص. ص 70-71).
[7] ف. نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة: على مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2003، ص12
[8] المرجع نفسه، ص11
[9] المرجع نفسه، ص153
[10] المرجع نفسه، ص11
[11] ف. نيتشه، العلم المرح، ترجمة وتقديم: حسان بورقية، محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1993، ص40