كيف نقرأ كيركيغورد في عصرنا الراهن؟
فئة : أبحاث محكمة
كيف نقرأ كيركيغورد في عصرنا الراهن؟
«كان وجودي شفافاً مثل أعماق البحر مثل صمت الليل الراضي بنفسه»
سورن كيركيغورد، من كتاب «التكرار»، ص109
مفاهيم الوجودية الحديثة تحت مجهر سورن كيركيغورد
لم يخلُ تاريخ الفلسفة من اهتمام بالجانب الفرداني عند الإنسان، وتجلى ذلك في الفلسفة الإغريقية وبعض فلسفات عصر النهضة في تركيزهما على الحقل النفسي المهتم بالأخلاق وسعادة الفرد، وتكمن أهمية هذا الحقل المعرفي في أنه يعمل على مواءمة الطبيعة البشرية مع العالم الخارجي وتناقضاته.
إن سقراط الذي لم يكن يفصل بين حياته وتفكيره، وأفلاطون الذي لم يكن يفصل بين تفكير سقراط وموته؛ يوضح لنا أن لفلسفات الوجود أصلاً موغلاً في القدم. وعندما نتأمل عبارة أرسطو حينما يقول: «أن الواقع هو الفرد، وأن الفرد هو الجوهر الذي لا يمكن أن يرد إلى الجنس أو النوع»، يتيح لنا أن نتوصل إلى أن أرسطو هو جزء من هذه التقاليد التي سوف تنتهي إلى فلسفة الوجود[1].
لكن مع المدرستين الرواقية والأبيقورية كانت هناك صبغة ذاتية واضحة اصطبغت بها الفلسفة، وهذه التي كانت سيكولوجية إلى حد ما، كانت نابعة من الرؤى التي تفرضها التجارب الشخصية على الإنسان مضافاً إليها الحكمة والتأملات العميقة في رحلة الحياة وصيرورة الزمن.
لم يكن الجانب الشخصي في الفلسفة إلا محاولة لترميم الصدع الذي أصاب الكيان الإنساني، ومن ثم فقدانه لبوصلة التفكير الذي يجب أن يكون منفصلاً عن جميع المعتقدات السائدة وموضوعات العالم الخارجي، ومتصلاً أكثر مع الذات ورغبتها المستمرة في الحياة والخلق المتجدد.
هناك محاولات للاستقلال الذاتي في الفلسفة أدت إلى نشوء ظلال باهتة للوجودية في اعترافات القديس أوغسطين، وكتاب الخواطر لبليز باسكال، لكن لا يمكننا الحديث أبداً عن أي فلسفة وجودية دون التطرق لواضع أركانها وصائغ مفاهيمها الأولى الفيلسوف الدنماركي سورن كيركيغورد؛ فالفلسفة الوجودية تسخر الفكر من أجل خدمة الإنسان وفردانيته المنفصلة عن الجموع، والإنسان يفكر من أجل العيش، ولا يعيش من أجل أن يفكر.
إذن فالوجودية هي أسلوب في التفلسف أكثر منها مذهب فلسفي، وهذا الأسلوب يركز على الوجود العيني للإنسان ليس كذات مفكرة أو عارفة، وإنما يدمج الانفعال العاطفي مع الفكر[2]. بهذا يتحدد الكوجيتو الديكارتي عند الوجوديين في الوجود الذي يسبق الماهية ليصبح كالتالي: أنا موجود إذن أنا أفكر.
ولا نستطيع كذلك أن نفصل بعض الفروع التي انبثقت لاحقاً من الفلسفة الوجودية المتمردة، والتي ظهرت مع البير كامو كالعبث واللامعقول، دون الرجوع إلى كيركيغورد مع اختلاف التسميات والمفاهيم. فاللاجدوى عند كامو تتأسس على قاعدة اليأس عند كيركيغورد. حتى الفيلسوف نيتشه وبكل ما جاء به من تفكيك وهدم للأخلاق والمعرفة البشرية، لا يمكننا أن نفصله عن عوالم كيركيغورد، فتلك العظمة الروحية عند كيركيغورد في فارس الإيمان تتقاطع مع نيتشه في مفهوم الإنسان المتفوق، وبواكير العدمية الفردية وانتفاء كل معنى في الحياة لم يظهرا إلا في فلسفة كيركيغورد أول مرة.
الفلسفة تبدأ من اليأس
اشتبك كيركيغورد في صراع مع المذهب الهيغلي؛ لأنه كان يعتقد أن حدود معرفتنا وخبرتنا محدودة وغير واضحة المعالم؛ فالحقائق الموضوعية تبقى نسبية وضمن حدود التجربة الإنسانية، ولا يمكنها معرفة العالم معرفة مطلقة إلا بوجود عقل يصل إلى مستوى الألوهية. لم يكن كيركيغورد ثائراً فقط ضد فلسفة هيغل وعقله الشمولي، وإنما وضع الفلسفة برمتها موضع تساؤل. لقد قام بتحطيم الأسس العقلية والمنطقية التي قامت عليها الفلسفة الإغريقية، ونبذ في تاريخ الفلسفة كبار العقول مثل افلاطون وأرسطو وحتى سقراط، واستشهد بمن رفعتهم المعاناة إلى ذروة الحرية المتوجة بالإيمان، كالنبي إبراهيم والنبي أيوب[3].
يشير الكاتب والفيلسوف الروسي ليون شيستوف * إلى أنّ كيركيغورد كان مشدوداً بقوة إلى سفر أيوب؛ إذ كان يعده أكثر الأسفار إنسانية في الكتاب المقدس. فصرخة أيوب ليست مجرد صرخة، بل نحيب أبدي أيقظ في أعماق كيركيغورد عذاب الإنسان ورعب الحياة، تلك الصرخات البشرية النابعة من الألم والمعاناة الطويلة وجدها كيركيغورد أصدق تعبيراً من كل الحقائق والبديهيات؛ فأيوب لم يجرؤ على تحدي الحقائق الدامغة إلا في اللحظة التي انصهرت فيها كل الآلام وتخطت الخيال الإنساني.
يقول كيركيغورد في إحدى شذراته: «وحده الرعب المتأتي من اليأس يوقظ في الإنسان كيانه الأعلى»[4].
إن الفلسفة كما يبدو لنا تأخذ منحى آخر عند مؤلف مفهوم الفزع، وكتاب الخوف والرعشة، لتتجه نحو الهروب الدائم من سلطة العقل، والفلسفة التي تحددت بداياتها الأولى مع الدهشة أو الاندهاش، فإنها تبدأ عند كيركيغورد من اليأس ومن العالم الداخلي عند الإنسان. فكل فلسفة عقلية كانت تحاول انتزاع الفكر الإنساني من جذور الكينونة.
يقول الفيلسوف الرواقي أبكتيكوس: ...«إن بداية الفلسفة كانت وعي عجزنا أمام الحاجة». وبناء عليه، يتحدد الفكر الفلسفي أمام الحاجة بذلك اليأس الذي يكون فيه الإنسان موجودٌ أمام المستحيل، حيث ينتهي كل شيء، ويصبح الصراع عديم الفائدة'[5].
مفهوم الحرية بين كيركيغورد وياسبرس وسارتر
يعلل الفيلسوف الروسي الوجودي نيقولاي برديائيف الدافع الحقيقي الذي يكمن وراء أسس الفلسفة الوجودية عند كيركيغورد بشعوره الدائم بالقلق والناتج من مأساة حياته الشخصية، الأمر الذي أدى بتجربته الفاجعة هذه إلى تأكيد الطابع الوجودي للذات العارفة، وهي الحقيقة الأولى عن استغراق الإنسان في سر الوجود[6].
إن الفلسفة التي تبدأ عند الإنسان بعد المعاناة ورحلة العذاب الطويلة، نجد لها أثراً واضحاً في الوجودية الحديثة، وتحديداً عند الفيلسوف الألماني كارل ياسبرس؛ إذ يرى أن الفلسفة ليست حكراً على كبار العقول والمفكرين، وإنما يمكن لأي فرد أن يتفلسف انطلاقاً من معاناته الشخصية ومن وعيه بيأسه أمام المستحيل؛ فكل إنسان معرض لليأس والذنب والمرض وغيرها من أنواع المعاناة القاهرة، ويسمي تلك المرحلة بالتحطيم، ولا يقصد ياسبرس بالتحطيم بمعنى الانهيار أو الموت، وإنما تلك الهزة التي تصيب الفكر، والتي تؤدي إلى خلق الوجود الفردي على أنقاض الآلام والأوجاع، ثم بعدها تأتي مرحلة العلو أو التجاوز، وهي المرحلة التي تختار فيها الذات الجديدة العيش بحرية تامة ومتعالية عن كل عذابات وآلام الماضي.
إن مفهوم التحطيم والوجود الحر عند ياسبرس هو مفهوم كيركيغوردي أصيل في فلسفته الوجودية، وقد تطرق له في كتابه المرض حتى الموت؛ فاليأس الذي يصيب الإنسان هو أحد أهم العتبات للانطلاق إلى الحرية، والحرية التي يقصدها كيركيغورد هي هذا الوجود المتعالي الذي يقذف المرء في أحضان الإيمان، كذلك القلق الذي ينتجه العدم هو شرط أساسي لتلك الحرية التي يسقط فيها الفرد في أحضان الإيمان بعد أن تبلغ المعاناة صيرورتها القصوى. يتكلم كيركيغورد عن الرعب الذي ينشأ من دوامة الاختيارات التي تحيط بالإنسان وتنقله إلى المجهول دون أن يملك أي تصور عن وجوده المقبل، ويكون مجبراً أن يتخذ موقفاً أو يقوم بفعل ما، وهنا نصبح مجبرين على الحرية. إنّ تصور الحرية هو الذي يوقظ فينا هذا الرعب أو الفزع ويجعلنا نصاب بالدوار، ويطلق كيركيغورد على هذا الموقف بدوار الحرية. وهذا المفهوم هو أحد المفاهيم الأساسية في فلسفة سارتر؛ إذ يرى أن الإنسان محكوم بالحرية ومدان بها، ولا شيء يمكن أن يمنعه من حرية الاختيار أو القرار، وحتى عدم الاختيار هو اختيار، والهروب من الحرية هو حرية أيضاً بنظر سارتر، لكن سارتر يختلف عن كيركيغورد وعن غيره من الوجوديين؛ لأنه يرفض الجانب الروحي أو الباطني عند الإنسان، ويرفض كل فكرة دينية تسبغ على العالم تصوراتها ومعانيها، ويرى أن واقع الإنسان محكوم بالعمل الدائم، والإنسان هو الذي يخلق المعاني والقيم الأصيلة في عالم خالٍ من الغائية والماهيات المسبقة.
الوجود الخيالي عند كيركيغورد.. مقابل الوجود الأصيل عند هايدغر
لقد قام البنيان الفلسفي عند الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر على شموخ الروح المحلقة في فلسفة كيركيغورد وتأملاته التي تمس الأعماق السحيقة عند الإنسان.
في كتاب «الكينونة والزمان» لمارتن هايدغر، نلاحظ هذا التقارب الشديد مع كيركيغورد عندما يتم التطرق إلى الوجود الأصيل والوجود المبتذل عند الإنسان. ويقصد بالوجود الأصيل ذلك الوجود الذي يكون فيه الموجود البشري أصيلاً بالقدر الذي يشكل فيه ذاته وصورته الخاصة، منفصلاً عن المؤثرات الخارجية والظروف، كالسلطات الدينية والسياسية والشرائع الأخلاقية، ومعيار الوجود الأصيل هو معيار صوري وليس مادياً[7]. أما الإنسان الدازاين الذي يتحدث عنه هايدغر، فهو الذي يسعى دائماً إلى ترسيخ وجوده الأصيل والمتفرد في العالم، ويعي ذاته بوصفه كينونة متناهية في الزمان.
وهذه الكينونة عبارة عن مشروع وإمكانية في المستقبل، وهي لا تكون أصيلة إلا بعاطفة القلق، والمقصود هنا ليس القلق المرضي، وإنما القلق الوجودي الذي يستيقظ فجأة من ظلمة الذات وأعماقها المرعبة، فينكشف أمامها العدم، ويتخلل نسيج الحياة بأكملها.
وبالتالي يعلو الإنسان على الوجود الزائف الذي يتسم بالثرثرة والتفاهة، ومن يحيا وجوداً زائفاً، نجده يتجنب قلق التفكير بالموت، ويكون دائم الهروب منه بالابتذال والسخرية والسقوط في مشاريع الآخرين وأفكارهم.
إن الوجود الأصيل عند هايدغر هو نفسه الوجود الشعري أو الخيالي عند كيركيغورد، ويتجلى بتلك الذات التي تعي نفسها كروح، وتلامس تخوم الأبدية. ويتميز ذلك الوجود الخيالي عن الوجود الزمني بالخيال الشعري وبالعاطفة الروحية التي تسمو فوق كل ما هو محدود ومتناه في الزمن.
دوائر العدم المتقاطعة عند الوجوديين
إن الإنسان كائن يتجاوز ذاته نحو المستقبل، ومعنى وجود المرء هو أن يلقى بنفسه في المستقبل، وبهذا يتضح لنا الإنسان رغم تناهي كينونته في الزمان، إلا أنه يعيش في توتر وصراع مع الأبعاد الزمنية في داخله ويسعى دائماً لبلوغ التجربة كلها، أو مباشرة الاكتمال الذي يمكن أن يجمع في ذاته بين الماضي والحاضر والمستقبل.
إن عدم تحقق الموجود البشري في المستقبل يصطدم بمجموعة من العراقيل تمنعه من تحقيق ذاته بوصفه وجوداً أصيلاً، والذي من الممكن أن يبتلعه الوجود غير الأصيل في إمكانية الاحتدام والصراع بين الأنا والآخر؛ وأولى هذه الحالات هي حالة اللاتوازن عندما يكون هناك تأكيد مبالغ على الإمكان وعلى المستقبل، فينحصر عمل الإرادة فيما هو مقبل...، فتتحول تلك الإرادة عن وجودها الحقيقي والأصيل، لتصبح مجرد أمنية أو شطحة من شطحات الخيال. كذلك يؤدي الانشغال بالماضي إلى اضطراب مناظر له، فقد يؤدي إلى ما يشبه الشلل لكل إرادة حقيقية، يحدث بدوره قلقاً حول اتخاذ أي موقف أو قرار يعرض الفاعل لتغيير جذري.
هناك أيضاً لا توازن الحاضر، وهو الحالة... التي يتجه فيها الإنسان إلى الضياع والتشتت في الحاضر، فيكون بلا إرادة، مفتقراً للعزم. وقد أصبح إنساناً ممزقاً يترك الآخرين ليقرروا عنه، أو يصبح مستعبداً لنظام أو عقيدة تهندس له وجوده وتقرر ظروف حياته[8].
إن عدم التناسب بين الذات على نحو ما يلقى بها في المستقبل، والذات على ما هي قائمة بالفعل يسمى بالشرخ أو الصدع. وهذه الفجوة هي التي تقوم بين الوجود والماهية، أو بين الواقع والإمكان. فالإنسان من حيث هو وجود حر متناه مكون على نحو يجعله عرضة للسقوط على حد تعبير هايدغر، ويمكننا أن نطلق عليه الذنب أو الاغتراب وفقاً للعوامل والحالات التي ذكرناها.
والذنب عند هايدغر هو نقص في الوجود؛ إذ يتسم الإنسان في صميم وجود ذاته بالانعدام، وعلى أساس هذا الانعدام، لا بد أن يأخذ على عاتقه مسؤولية وجوده[9].
تعد مقولة التجاوز أو العلو من المقولات الوجودية المهمة، وهذا التجاوز يسميه هايدغر بالميتافيزيقيا، لكن الميتافيزيقيا ليست على طريقة اللاهوت أو الأساطير، وإنما هي تلك النزعة العدمية التي تستحوذ على الإنسان عندما لا يحقق وجوده الجديد، وتنفلت منه جميع الكينونات، حينها تدرك الذات غربتها وتناهيها في الزمان، وبذلك تعلو على كل موجود من الموجودات، وهذا العلو هو الشرط الأسمى للكينونة عند هايدغر، وهو سقوطها في العدم.
إن العدم هو الفراغ الذي يظهر في غياب شيء محدد أو عدم تحقق حالة معينة؛ فالغياب والعدم مفهومان مرتبطان ومتعلقان بعضهما ببعض في الفلسفة الوجودية؛ فالغياب هو عدم التواجد أو الانعدام في مكان محدد أو ظروف معينة. والنقص الذي يعتري الإنسان والكائنات والعالم هو الذي يجعل الغياب جزءا أساسياً من الوجود البشري؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون حاضراً في كل الأماكن وفي كل الأوقات، وهذا ما يولد شعوراً بالفقدان أو الغياب؛ والغياب الذي يرتبط بالعدم من الممكن أن يتجسد سيكولوجيا في التجارب العاطفية والروحية وفي الكثير من انفعالات النفس، لكن العدم هنا هو ما يحفزنا على التساؤل والبحث عن معنى وغاية في هذا الوجود، كما أنه يمكن أن يكون مصدراً للإلهام والإبداع في الفن والأدب والموسيقى والعلوم عندما يعي الإنسان حالة الانعدام والنقص الدائم في الوجود، فتتغير حركة العدم من السقوط إلى قفزة مفاجئة نحو الحرية.
لقد عالج كيركيغورد حالات السقوط عند الإنسان، كالرعب والفزع واليأس والخطيئة وربطها بخفايا الروح الباطنة وصيرورتها غير المرئية، ورأى أن الوعي العميق بتلك المشاعر الغامضة هو ما يربط الفرد بالأبدية وهو حركة ضرورية للذات التي حددت كروح، وتلك الحالات ليست أمراضاً نفسية، لكنها عبارة عن اختلال في توليفة العناصر المتناقضة في النفس البشرية، والتي تحتوي على الزمني والأبدي. بذلك لا تسقط الذات ولا تنسحق في دوامة الألم إذا لم يكن هناك شيء خالد يرفعها لمرتبة عظيمة فوق الوجود المادي والمحسوس، وهنا يتكامل العلو والسقوط، ويتسلل وهج الأبدية إلى كينونة الإنسان وزمانه الفاني.
يتضح لنا مما سبق، أن هناك جوانب روحية ترتبط بميتافيزيقيا الذات حتى عند التيار الوجودي الذي يسمى ملحداً إن صحت التسمية؛ فالعدم المقصود ليس العدم المحض، بل انعدام الإمكانية، والغياب، والقلق، واليأس، والفزع، والاغتراب، واللاجدوى.. وحتى لحظات النشوة الباطنية لا يخلو سرها العميق من توحد مع العدم.
إن الانفعالات النفسية التي تسبق الحرية هي السقوط في العدم ضمن المفهوم الوجودي، ويتضمن النفي بكافة أشكاله. هذا السقوط هو الهاوية التي تقفز منها الحرية لتخلق المعنى الفردي عند الإنسان، والتي تتجلى بالإيمان عند كيركيغورد، وبالعلو عند هايدغر وياسبرس، وبالعمل والاختيار الحر عند سارتر.
يقول برديائف: «منبع الحرية كامن في خواء العدم»[10].
بين كيركيغورد وكامو.. أين يتقاطع التمرد والإيمان؟
تمثل الأخلاق والمنطق ذروة اللامعقول، عندما تعد الإنسان بالسعادة والخلاص، وقد كان كيركيغورد على وعي تام بهذا الأمر، وهو يرى الأنبياء والقديسين في تاريخ البشرية، وقد كابدوا من العذاب والمصائب الكبرى ما لا يحتمله أي إنسان، رغم أخلاقهم وفضائلهم في الحياة، لذلك وجد أن الإيمان هو القيمة الروحية التي تحطم جميع التناقضات وتسمو فوقها، ويجب أن يعلو هذا الإيمان فوق العقل والغايات، ويستند إلى قاعدة أساسية منبعها التمرد ضد الأخلاق السائدة التي لا تقي الإنسان من الشرور والمآسي؛ فمفهوم الإيمان عند كيركيغورد لاعقلاني ينطلق من العبث والتمرد، ويأتي الإيمان في ظل احتجاب جميع الإمكانيات وغيابها بوصفه أقصى حرية يبلغها الإنسان في هذا العالم.
يرى كيركيغورد أن فضيلة اللامعقول تنجلي في الإيمان، وبهذا يمكننا الوقوف بشجاعة والنظر بجرأة في عيون الموت والجنون[11].
إن التمرد عند كامو يعتمد برمته على حركة التناقض، لذا يقوم المتمرد بالاحتجاج على وضعه وعلى الخلق كله، فهو ينكر الخلق والغايات جميعها بتحطيم كل قاعدة تستند إليها القيم الأخلاقية والإنسانية، لكن حركة الاحتجاج هذه، وإن كان يعتريها التفكك واللاثبات، إلا أنها تنزع نحو المطالبة بالوحدة والتماسك في عالم ممزق.
وخلف أعمال الشر المنبعثة من الوعي العميق للتمرد عادة ما تختفي قيم روحية غامضة تتقاطع مع الروح الباطنية عند بعض الصوفيين والمؤمنين في عزلتهم وانفصالهم، وهذا التقاطع يكون ضمن الرغبة في الكينونة التي تسعى نحو السيادة والامتلاء في عالم خاوٍ وهش.
يقول كامو: «لا يوجد أي كائن اعتباراً من أي مستوى شعوري ابتدائي لا يبذل قصارى جهده للتفتيش عن الصيغ أو المواقف التي تكسب وجوده الوحدة»[12]، وتتجلى هذه الوحدة في أعند مطالبها ديانة.. أو جريمة، والحركة ذاتها هي التي تدفع إلى عبادة الله أو إفناء الإنسان تقود إلى خلق العمل الفني.
من هنا يمكننا القول إن الرغبة في الخلود لدى التمرد لا تنفصل عن إفناء العالم وتدميره، وبهذا الصدد يذهب كامو إن المتمرد في تجسده الأخير، وفي ختام رحلته المنهكة يعود إلى فكرة العقاب الدينية ويجعلها في مركز عالمه[13].
الفزع شرطاً للوجود الإنساني
ظلّت الفلسفة لقرون عديدة غارقة في سبات طويل غيبها عن رؤية الحياة بتناقضاتها وعلاقتها بالفرد كوجود ذاتي. إن الفلسفة التي أرهقتها الحمولات الفكرية المجردة والتأملات النظرية، لم تعتبر الإنسان سوى شيء من الموجودات مندمج في نسقها ومقولاتها المتعالية. انبثقت الوجودية بعد اليقظة الحقيقية للإنسان ومصيره في مواجهة العالم، لذلك ركّزت على الجانب الوجداني الذي همشته الفلسفات السابقة، وأعطت الأولوية لمشاعر مثل القلق، والملل، واليأس، والغثيان.
عاش كيركيغورد في عصر هيمنت عليه الفلسفة الهيغلية، واستحوذت على كل مناحي الفكر الإنساني في ذلك الزمن، لذلك، رأى أنه يجب أن يحيا من أجل فكرة، وهذه الفكرة هي الحقيقة، لكن أي حقيقة؟
إنها الحقيقة الذاتية وليست الموضوعية؛ الحقيقة التي تنبع من وجودي أنا كفرد، وكآدمي من دم ولحم وعواطف. وقف شيخ الوجوديين ضد فلسفة هيغل في زمنه، ورأى أن الحياة لا تختصر في نسق فلسفي أو نظام من الأفكار. فليس هناك أي نظام فلسفي ممكن للوجود؛ لأن كلمتي وجود ونظام فلسفي متناقضتان وفقاً لكيركيغورد. فإذا اخترنا الوجود، فإنه ينبغي لنا أن نتخلى عن كل فكرة متعلقة بالنظام الفلسفي الهيغلي. إن خطأ المذهب الهيغلي هو أنه أراد أن يفسر جميع الأمور؛ والأمور ينبغي ألا تفسر، بل أن تعاش وتختبر. إن الحقيقة هي ذاتية وخاصة وجزئية، بدلاً من أن تكون موضوعية وعامة وكلية، فإدراك الحقيقة في نظر كيركيغورد هو امتلاك لها وإنشاء لها، وهو في الوقت ذاته اهتمام لا متناه بها. وعلى هذا النحو، يعتقد كيركيغورد أن من يكن ذاتياً، يكن في قلب الحقيقة. فالمفكر الذاتي هو الذي يوحد السرمدية مع الزمان، ويدرك الحقيقة في لحظة من لحظاته[14].
لذا رفض أن يكون موجوداً معطى في النسق الهيغلي، أو لحظة من لحظات تطور التاريخ، وآثر أن يمضي في الحياة من عاطفته الوجدانية العميقة، ومن تأمله في اللحظات المصيرية التي يشهدها الإنسان في تحولاته، وما يعتريه من فزع ورعب ويأس.
مفهوم الفزع أو القلق عند كيركيغورد
يفرق كيركيغورد بين مفهومي الخوف والفزع؛ فالخوف يكون من مسبب خارجي، من شيء محدد في العالم، لكن الفزع يشوبه الالتباس والغموض، وعادة ما يكون نتاجاً للوعي، والخوف يعاش كحالة سلبية تحيط بالإنسان ويتصف بالنفور والاشمئزاز، بينما الفزع يكون محاطاً بشيء من النفور والجاذبية في الوقت نفسه. يرى كيركيغورد أن الفزع عند الإنسان يأتي من انفتاح دوامة الاختيارات على المقبل المجهول؛ فهو إمكانية الحرية، أو ما يود أن يكونه الإنسان، دون أن يملك أدنى تصورات عن وجوده المقبل، ومع ذلك يشعر بحاجته إلى أن يتخذ موقفاً أو يقوم بفعل ما.
الفزع شرط أساسي للوجود الإنساني، وهو يظهر في الإنسان منذ بداية وعيه بالعالم، وما يحيط به من أمور وأحداث، لكنه يبقى كامناً ومستتراً في الأعماق، ويظهر كلما توجب على الإنسان أن يختار إحدى الإمكانيات المتنوعة.
إن تصور الحرية هو الذي يوقظ فينا الفزع بشدة، ويجعلنا نصاب بالدوار، ويسمي كيركيغورد هذه الحالة بدوخة الحرية، ويضرب مثالاً بالشخص الواقف على أعلى بناية شاهقة، عندما تنظر عيناه إلى أسفل، ويرعبه السقوط إلى أسفل، فيسبب له هذا الرعب دواراً يكون نابعاً من الخيارات والاحتمالات التي من الممكن أن تؤدي إلى سقوطه، ومن ضمنها خيار الفرد الذاتي بأن يلقي بنفسه من الأعلى[15].
يعد الفزع مرحلة ديالكتيكية في نظر كيركيغورد، فالفزع يسبق الخطيئة، رغم أنه يحاول إزالة هيمنتها بمعنى من المعاني، ويسبق فعل الخير عند الفرد المؤمن في تصوره المرعب للأبدية. ومن هنا تنبع قوة العظماء والعباقرة في لحظة الخطر، تلك اللحظة المرعبة التي يكمن فيها الفزع، والتي يكون فيها العبقري أمام المجهول العظيم.
الفزع العميق في مواجهة الصدمات والكوارث
إن الفزع العميق وحده يخرج من المرء ما هو تافه ومحدود، ويقوده حيث يريد الذهاب. يكشف الفزع عن القدر، لكن عندما يريد الفرد أن يضع ثقته في القدر يتغير الفزع فجأة ويبعد القدر[16]. يساعد الفزع أو المران عليه في تقبل الواقع والحياة بأقسى مآسيها وآلامها؛ فالواقع المفزع في أعماق الفرد يساعده على الراحة والسكينة ويكسبه القوة واللامحدودية في مواجهة أقوى الكوارث وأكثرها وحشية، وهذا لا يأتي إلا من أولئك الذين عاشوا الدمار واليأس والحزن إلى أقصاه، يقول كيركيغورد «يكون الموسوس بالمرض مفزوعاً من كل شيء تافه، لكن عندما يظهر المهم، يبدأ التنفس بسهولة. لماذا؟ لأن الواقع المهم هو في كل الأحوال ليس مرعباً كالإمكانية التي استحدثها هو بنفسه، والتي استخدم قوته لتشكيلها، بينما بوسعه الآن أن يستخدم كل قوته ضد الواقع»[17].
إن التربية في الإمكانية هي تربية لذلك الفزع العظيم. ومثل هذا الفزع يستهلك كل النهايات المحدودة ويكشف خداعها. إن التربية على الفزع من خلال الإيمان، يؤدي إلى استئصال الفزع بصورة نهائية عندما يرمي الفرد نفسه في أحضان الإيمان كمنقذ أخير، لكن حتى الذي تربى في الممكن وعايش الفزع بعمق يكون معرضا للخطر أيضاً، لكنه حتماً سينجو ويجد طريق الخلاص والسكينة بعد أن غاص نهائياً، ثم ظهر بعد ذلك من عمق الهاوية خفيفاً من كل الأشياء المرعبة في الحياة[18].
صيرورة الإنسان
تنبع الحقيقة الوجودية من جوانية الفرد؛ من العاطفة العميقة، لذا يركز كيركيغورد كثيراً على وعي الفرد نفسه كوعي ذاتي، وليس كوعي خالص. والوعي الذاتي ليس وعياً محدداً، وإنما هو عبارة عن بصيرة ثاقبة صقلتها رحلة الحياة بالمآسي والآلام والشرور. وهذا الوعي يكون في حالة حركة فعل وتماثل مع الحياة الجوانية، والإنسان نفسه أيضاً يكون في صيرورة لتحقيق الذات التائقة إلى الحرية، وإلى ذلك الينبوع الذي يقودنا نحو الأبدية. إن الإنسان بتعبير كيركيغورد يمر بثلاث مراحل في حياته، وهي ليست بالضرورة مشروطة لكل فرد، كما أن تلك المراحل الثلاث يمكن أن تحيا بشكل متناقض عند الإنسان، لكنها عند نقطة معينة قد تتطلب عزيمة وإصراراً يفرضهما الوعي في لحظة حاسمة انتقالية؛ المرحلة الأولى هي المرحلة الجمالية أو الحسية ويكون الإنسان غارقاً فيها بالملذات والشهوات، وتكون المسؤولية معدومة، والروح غائبة. والمرحلة الثانية هي المرحلة الأخلاقية، وفيها يجنح الفرد نحو الراحة والطمأنينة، بعد أن أنهكته الرغبات واللذائذ الحسية، فيلجأ إلى تحمل المسؤولية وإلى الالتزام بالأخلاق، وعادة ما يرتبط بزوجة وتكون له عائلة ووضع اجتماعي مستقر.
في هذه المرحلة يكون الإنسان متوافقاً ومنسجما مع الشأن العام، وله القدرة على التفريق بين الخير والشر واتخاذ القرارات الحاسمة، ويكون فيها الله نقطة خفية متلاشية أو فكرة واهنة وتكمن قوته في الأخلاقي فقط[19].
أما المرحلة الثالثة، فهي المرحلة الإيمانية وفيها يعلو الفرد على الشأن العام؛ على الجمالي والأخلاقي، ويكون فرداً منعزلاً ومتوحداً في علاقة مطلقة مع الله، وهذه هي المرحلة التي تتطلب مفارقة للعقل والغايات الأخلاقية بقرار باطني ينتزع من الأعماق.
خوف ورعشة
في كتاب «الخوف والرعشة» يبدي كيركيغورد تعلقه بشخصية النبي إبراهيم الذي اقتاد ابنه إسحاق للتضحية به عند جبل الموريا؛ فشخصية النبي إبراهيم في نظر كيركيغورد هي فارس الإيمان الذي ارتفع فوق المنطق العقلي، والمبدأ الأخلاقي العام. هذا الإيمان الذي يكون أصله نابعاً من العاطفة، وهو ليس مجرد تأمل ذاتي وإنما حركة إيقاعية تولدها العاطفة واحدة تلو الأخرى، وصولاً إلى حركة الاستسلام اللانهائي، التي يستطيع بواسطتها الفرد أن يتصالح مع كل آلام الوجود.
يفرق كيركيغورد بين البطل التراجيدي وفارس الإيمان؛ فالبطل التراجيدي يتخلى عن نفسه لكي يعبر عن العام. أما فارس الإيمان، فيتخلى عن العام لكي يصبح فرداً، والفرد في علاقته مع المطلق فوق كل غاية أخلاقية وتشريعية، فهو يسمو في عزلته فوق العام، وينتصر على نفسه، حيث تتكشف له الأسرار وتقترب روحه من هذا الأبدي الذي يعلو على الزمني والنهائي. فارس الإيمان هو شاهد عيان وليس معلماً أبداً، وهنا تكمن الإنسانية العميقة؛ ففارس الإيمان دائماً في عزلة مطلقة، إنه المفارقة، والفرد الذي لا يسمع في عزلة الكون صوتاً أبداً، بل يخطو وحيداً مع مسؤوليته المرعبة[20].
إن الإنسان بالنسبة إلى كيركيغورد هو معادلة من النفس والجسد تسندها الروح، وهو مزيج من الزمني المتناهي مع الأبدي المطلق، لكن السؤال الجوهري الذي يطرحه كيركيغورد: كيف يمكن تصور الأبدية في الفرد؟ يرى كيركيغورد أن هناك تصورا خاطئاً عن الأبدية والخلود عند الأفراد؛ فمن الخطأ أن يتم فهم الأبدية ميتافيزيقياً، ومن الخطأ اعتبار الأبدي تجريداً كلياً، فذلك الذي يعيش بحماس في الزمني لا يصل التخوم أبداً، بل على المرء أن يكون حارس حدود خارج الزمن. تنتج الأبدية تأثيرا ساحراً في الخيال، فلا يعرف المرء هل هو حلم أم واقع؟ كما تلوح أشعة القمر في غابة أو صالة مضاءة. كذلك تنظر الأبدية خلسة، بحزن وحلم في اللحظة التي يغدو التفكير الأبدي عملا خيالياً، ...هل أنا أحلم؟ أم إن الأبدي يحلم بي. ومن هنا يأتي الفن كمصالحة للخيال والتطلع إلى حياة خالدة كما يرى كيركيغورد. إن الأبدي هو التقاء الزمان بالسرمدية، لذا يجب أن يكون الخلود موجوداً في كل مكان، ويكون الزمني مخترقاً الأبدية ومحفوظاً فيها[21].
مفهوم اليأس وجدلية الذات التي تعي نفسها كروح
شغلت قضية فهم الإنسان ومصيره أغلب كتابات وأفكار كيركيغورد؛ إذ يعيش الإنسان دائماً في سؤال جوهري، مفاده: ما الذي سيفعله مع ذاته؟
إنّ الذات وبما تحمله من عواطف جوانية ممزقة هي ذات جدلية ومضاعفة، وبناءً عليه وضع كيركيغورد صيرورة للذات وعواطفها العميقة في مواجهة الوجود، وفي سبر أغوار المجهول الذي يكتنفه القلق والرعب، هذه العواطف يجب أن تنفك وتنحل تناقضاتها مع الزمن في مركب علوي هو الإيمان، لكن ليس الإيمان على طريقة رجال الدين والكنيسة وعامة الناس، بل الإيمان بوصفه حرية غير مشروطة وحتمية نهائية لكينونة الفرد وتطوره الروحي. من هذا المنطلق، يُعد سورن كيركيغورد الأكثر غرابة ودهشة، بل نستطيع القول إنه كان متمرداً في عصر ساد فيه العلم وثورة الاكتشافات العلمية. إن قضية الإيمان عند كيركيغورد لها مفهوم إنساني يتخذ طابع الإنكار والهدم لتراث الكنيسة السائد في ذلك الزمن. إنه الإيمان الذي ينطلق قبل كل شيء من وجود الفرد وحقيقته الذاتية قبل وجود الإله، وهذه الذات يجب أن تكون بشرية أولاً عندما يكون معيارها الله، ففكرة الله تتعاظم وتزداد بفكرة الذات، وكذلك فكرة الذات تتعاظم وتزداد بفكرة الله.
إنّ الإنسان الفرد كما يذكر كيركيغورد موجود أمام الله، وبوسعه أن يتحدث مع الله وقت يشاء وموقن بأنه يسمعه، فمن أجل هذا الإنسان، وتحديداً هذا الفرد بالذات يظهر الله إلى العالم، ويسمح لنفسه بأن يولد ويعاني ويموت[22].
عصرنا الراهن.. عصر اليأس
يتناول كيركيغورد في كتابه «المرض حتى الموت» اليأس بوصفه مقولة وجودية تماماً، مثلما يعالج مقولتي الفزع والرعب بوصفهما شرطين لبلوغ الإنسان الحرية.
لقد ظهرت فكرة اليأس منذ وقت مبكر في كتابات كيركيغورد، فقد كتب في أوراقه، إنّ عصرنا الراهن هو عصر اليأس[23].
ترتبط فكرة اليأس عادة بشيء خارجي، لكن اليائس الذي ييأس على شيء ما فإنه في الحقيقة ييأس على نفسه ويريد التخلص منها، إمّا هذا الشيء أو لا شيء على الإطلاق؛ لأنه لا يتحمل أن يكون ذاته. وهذا اليأس هو يأس على الذات التي تريد أن تكون نفسها بما تمتلك من سعادة وكينونة بوجود هذا الشيء، فعذاب اليأس هو انعدام القدرة على الموت بوصفه الرجاء الأخير.
لا يوجد إنسان لا تضطرب في أعماقه صراعات خفية وتنافر مفزع من القادم المجهول أو الفزع من النفس ذاتها، لكن هذا لا يعني أن كل شخص يقال عنه يائساً هو نفسه يكون واعياً باليأس؛ فهناك رؤية مبتذلة وسطحية بالنسبة إلى اليأس لا تتجاوز المظهر وتعطينا عنه صورة سيئة[24].
إنّ اليأس الذي يتكلم عنه كيركيغورد ليس حالات نفسية كالاكتئاب وبقية الأمراض النفسية، إنه تلك الحالة الناجمة من عدم وعي الإنسان بتلك الروح التي تجعله واقعاً في إمكانية اللامتناهي عن طريق الخيال. يربط كيركيغورد وجود اليأس عند الإنسان بالأبدية، فإذا لم يكن هناك شيء خالد عند الإنسان، فإنه لا يستطيع أن يكون يائساً على الإطلاق؛ فالوعي العميق باليأس هو حركة ضرورية للروح، أو للذات التي تريد أن تكون نفسها، لذلك فاليأس يجب أن يدخل في حالة جدلية تربط الفرد بالأبدية، وعادة لا يعلن اليأس عن نفسه كمرض واضح في الجسد أو في النفس، لكنه يبقى متخفياً في الأعماق ويسكن الإنسان في حالات العيش المختلفة، في سر السعادة العميقة، في الطمأنينة وفي الرضا التام عن العالم، وبما أنّ الإنسان كما يصفه كيركيغورد هو معادلة من النفس والجسد تسندها الروح، فهو يحتوي على توليفة من نقائض متنافرة بين الزمني والأبدي، وإنّ أي اختلال في توليفة تلك العناصر عند الإنسان يُنتج اليأس. لكن هناك دائماً عنصر ذاتي داخلي عند الإنسان يعمل على التوحيد بين المتناقضات يؤدي به إلى التوازن والانسجام، وهذا لا يأتي إلّا من خلال تأمل التناقض الديالكتيكي عند الإنسان ومن خلال النقيض دائماً والذي يبدأ بالزمني والدنيوي[25].
اليأس اللانهائي أو الأبدي
يستبطن كيركيغورد وبلغته الكاشفة أعماق الذات واضطراباتها الخفية، ويصنف عدة أنواع من اليأس وفقاً للوجود الذاتي الذي يعيشه الإنسان؛ فهناك من يحيا الوجود الشعري أو الخيالي، وهذا الإنسان بالخيال وحده يصبح لا نهائياً، وهنا تتلاشى الذات وتبدأ بفقدان نفسها في اللانهائي، وكلما كان الإنسان خيالياً ومشاعره خيالية يفقد ذاته أكثر وأكثر. إن الوجود الخيالي عند كيركيغورد ينبثق من العزلة الصامتة المجردة عند الإنسان، والتي تقودها الذات في حالة مفرطة من الخيال والانفصال عن العالم، عندها يصبح الإنسان يائساً لتتوضح العملية الديالكتيكية أكثر بين الزمني المحدود والأبدي المطلق، كما يرى أن فقدان الذات هنا يتم بهدوء جداً دون أن يثير ضجة كبرى أو اهتمام أحد في هذا العالم[26].
اليأس الأبدي أو اللانهائي هو حركة من حركات الوعي التي تقود إلى الإيمان عندما تعي الذات نفسها ويأسها بوصفه عنصراً داخلياً، لا معاناة تأتي من الخارج، وفي هذا الشكل من اليأس يكون هناك وعي متزايد من الذات، وبذلك تملك الذات بمساعدة الأبدي الشجاعة لتخسر نفسها ثم تكسبها مرة أخرى، هنا تصبح الذات منفصلة عن علاقتها بأي قوة أو سلطة خارجية عن طريق حركة الإذعان والرضا التام. ديالكتيك الإذعان هو في الحقيقة رغبة الذات في أن تكون أبدية، وتتلاشى في تلك الأبدية، فكلما أصبح اليأس روحياً، وأصبح الجواني عالماً خاصاً به، كان هناك عدم اكتراث أكبر بالخارج، حيث يختفي اليأس تحته ويستكين[27].
في الإنسان الذي يحيا وجود عميق وتوقٌ إلى اللانهائي، لذا يستكنه كيركيغورد سر هذا الشعور الغامض، ويطلق عليه شاعر الوجود، وهو الذي يتصور وجوده دائماً أمام الله، ويكون مستمتعاً بألمه وعذابه الخفي أمام الله الذي يكون خلاصه الوحيد. لذلك، فإنه يحب الألم ولا يريد أن يتركه. وشاعر الوجود دائماً يملك فكرة عن الله في يأسه، فهو دائماً يريد أن يكون نفسه، ويأمل أن ينتشلها الخلود من زمانه المتناهي. هو لا يريد أن يستغني عن الله، بل يستمر في علاقته معه، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يذل نفسه في الإيمان، لكن يؤكد كيركيغورد أنه كلما ازدادت عاطفة وخيال الإنسان، كلما كان أقرب بمعنى محدد من إمكانية أن يصبح مؤمناً[28].
اليأس الدنيوي أو الزمني
قبل التطرق إلى مفهوم اليأس الدنيوي يكشف لنا كيركيغورد عن مفهوم الوجود السطحي للبشر النابع من البلادة وضيق الأفق، إلى أولئك الأفراد السطحيين الذين يخافون العزلة والحرية، ومن قلقهم العابر في فقدان انتمائهم للحشد أو الجماعة. يصفهم كيركيغورد بأنهم مثل طيور الحب، يموتون في الحال إذا توجب عليهم أن يكونوا وحيدين، ومثلما يحتاج الطفل الصغير إلى تهويدة، يحتاج هؤلاء إلى الصخب الاجتماعي ليتمكنوا من الأكل والشرب والنوم والصلاة والعشق.
إن اليأس النهائي أو الدنيوي يكون محدداً بعوامل خارجية، وينشأ من ارتباط الذات مع الآخر والعالم كرغبة، وهو مجرد مظهر خادع لليأس وليس يأساً، إنه ضعف ومعاناة، فاليائس دائماً تحذوه الرغبة بأن يكون ذاتاً أخرى غير ذاته، وما أن تتحقق العوامل الخارجية حتى تنتهي المعاناة، وهذا اليأس عادة ما ينطوي على فقدان الذات وتلاشيها في المحدود.
يوضح كيركيغورد أنّ هذا الشخص في يأسه المحدود يطمح إلى أن يصبح رقماً بدلاً من ذات، مجرد تكرار إضافي لهذه الرتابة الأزلية، وهذا الشخص يكون متطابقاً مع الجميع لا يملك خيالاً ولا يريد أن يملكه، بل يكرهه، وغالباً ما يكون غارقاً في الثرثرة والابتذال، عكس الصمت الذي يجعل الإنسان متروكاً لنفسه ومتأملاً فيها. يستشهد كيركيغورد بعبارة إغريقية قديمة تقول: «من البشر يتعلم الإنسان الكلام، ومن الآلهة يتعلم أن يصمت»[29].
اليأس الشيطاني والتمرد
التمرد في كل لحظة شرعي، وهو يعتمد على الذات نفسها، لكن ما الذي يربط اليأس بالشر والتمرد؟
إنّ اليأس الشيطاني هو ذاته اليأس الروحي المرتبط بالأبدية، لكن هذا اليأس ظل في المكان نفسه ولم يقفز إلى المكان الذي يضعه على الطريق الصحيح. يصف كيركيغورد هذا اليأس بأنه يأس روحي، لكنه متيقظ بحكمة شيطانية؛ أي بدهاء الشر الذي يحفز عند المتمرد كل رغبة في التدمير والفناء.
إنّ هذه الحكمة الشيطانية تجعل اليأس مغلقاً وفي حالة انطواء، ممّا يجعل الروح مضطربة، لذلك يندفع اليائس بكراهية نحو الوجود وبإدانة حاقدة لهذا العالم، فبدلاً من التحرر من القوة الخارجية المفروضة عليه، فإنه يفرض نفسه على تلك القوة ويتطفل عليها بتحدٍ وجرأة، لهذا، فإنّ اليائس يريد أن يكون ذاته لكن بتعاسته وعذابه الذي يريد أن يفرضهما على العالم.
بهذا الأسى والعبث فقط يحتج اليائس ضد الوجود برمته، ويمزق اللباس الخارجي للحياة[30].
يتكلم كيركيغورد أيضاً عن الانتحار بوصفه حالة روحية، ويرى أنه ناجم من ذلك اليأس حول الأبدي، والذي جعل من الشخص الانطوائي أقرب إلى خطر الانتحار، لكن هذا الانطوائي إذا فتح قلبه لشخص يكون بمثابة صديق مؤتمن لأسراره ليقوم بتهدئته، فإنه على الأرجح سيتجنب الانتحار. إنّ هذا المنتحر عادةً ما يملك وعياً ذاتياً أوضح عن نفسه ولا ينتحر من شدة اليأس، لكن يأسه يكون أكثر شدة من الذي ينتحر وهو في حالة اضطراب نفسي[31].
الخطيئة ومبدأ الإيمان المفارق للأخلاق والغايات
الخطيئة هي تعزيز اليأس، لكن الخطيئة هنا ليست هي الذنوب الفردية، وإنما تلك الحالة التي ترسخ وجود الإنسان وتقويه عن طريق الوعي بالخطيئة.
إنّ يأس الخطيئة دليل على الخير الكامن في أعماق الإنسان؛ فكلما كان الإنسان أفضل كانت آلام الخطيئة الفردية أعمق، وعليه في تلك الحالة أن يقوم بالانعطافة اللازمة بشكل صحيح، كي لا تغرق النفس في الحزن والكآبة[32].
وإذا كانت حركة الإيمان في شكلها الأعلى والنهائي وفي ديالكتيك الذات والكينونة تتطلب مفارقة لكل ما هو عقلاني، وعلواً عن كل الغايات الأخلاقية والاجتماعية، فإن مبدأ الإيمان المتداول أصبح مفهوماً يخضع للتشيؤ والتسليع وقد اُنتهك باللغو والتسطيح؛ فكثير من الواعظين ورجال الدين وحتى العوام يفتقرون إلى الخيال والعاطفة اللذين يعززان مبدأ الإيمان بوصفه ذروة السمو الروحي عند البشر. يكتب كيركيغورد عن الحياة اللامرئية للروح والتي تحيط بنا وتجعل حياتنا أفضل وأعمق، ليكشف لنا ببصيرته الثاقبة وحدسه عن النمو الفياض للحياة الروحية والتي تكون موازية لنمو الطبيعة[33].
إنّ الشخص لكي يكون واعياً بنفسه كروح، لابد أن يرفعه الخيال لأعلى احتمالية تجعله يتجاوز ما في مفهومه عن التفاهة وعن انتمائه للحشد والجماعة، وبذلك يستطيع أن يعلو فوق الحقائق الحسية، وأن يتحلى بروح الشجاعة والمغامرة، «فمن لا يعرف الرعب لا يعرف العظمة»[34].
إنّ المعاناة هي جوهر عالمنا المادي، والأرواح العظيمة دربها معبد بأسى هذا العالم وعذاباته؛ فالعظماء وحدهم من يختبرون بعمق مشاعر الألم والرعب، ويقفون عند حافة الخطر لخلق المعاني الخالدة في الحياة.
[1] - ينظر: جان فال، الفلسفة الوجودية، مرجع سابق، ص 3- 16
[2] - راجع جون ماكوري، الوجودية، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، أكتوبر 1982، ص17 يراجع أيضاً ليون شيستوف، كيركيغورد فيلسوف ديني، ترجمة اسكندر حبش، دار الرافدين، بيروت/بغداد، ط1، 2019، ص18
[3]- جون ماكوري، الوجودية مرجع سابق، ص16. راجع أيضاً ليون شيستوف، مرجع سابق، ص ص 30-31 ھ
[4] - ليون شيستوف، كيركيغورد فيلسوف ديني، مرجع سابق، ص 33-36 (بتصرف).
[5] - ليون شيستوف، كيركيغورد فيلسوف ديني، مرجع سابق، الصفحات، 26-29-46-47
[6] - نيقولاي برديائيف، العزلة والمجتمع، ترجمة فؤاد كامل، الهيئة العامة المصرية للكتاب 1982، ص59
[7] - جون ماكوري، الوجودية، مرجع سابق، ص 228 (بتصرف).
[8] - جون ماكوري، الوجودية، مرجع سابق، ص 221-223
[9] - المرجع نفسه، ص 224
[10] - نيقولاي برديائيف، الحلم والواقع، ترجمة فؤاد كامل، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1984، ص 215
[11] - «كان إبراهيم يؤمن بفضيلة اللامعقول... ووحده الإيمان يهب الإنسان الشجاعة والجرأة في النظر مباشرة في عيون الموت والجنون في ألا ننهار من دون قوة أمامهما». ينظر: ليون شيستوف، كيركيغورد فيلسوف ديني، مرجع سابق، ص 41-43-44
[12] - ألبير كامو، الإنسان المتمرد، ترجمة نهاد رضا، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، 2017، ص326
[13] - المصدر نفسه، ص300
[14] - يراجع: جان فال، الفلسفة الوجودية، مرجع سابق، ص 33-182- 184
[15] - سورن كيركيغورد، مفهوم الفزع، ترجمة قحطان جاسم، دار الرافدين، بيروت/بغداد، ط1، 2019، ص9-10-17-20-21، (مقدمة المترجم/بتصرف).
[16] - ينظر: سورن كيركيغورد، مفهوم الفزع، مصدر سابق، ص 239
[17] - المصدر نفسه، ص 243
[18] - المصدر نفسه، ص 234-235-238 (بتصرف)
[19] - سورن كيركيغورد، الخوف والرعشة (أنشودة ديالكتيكية)، ترجمة قحطان جاسم، دار الرافدين، بيروت/بغداد، ط2، 2021، ص 97
[20] - سورن كيركيغورد، الخوف والرعشة، مصدر سابق، ص 107- 112 -113 (بتصرف).
[21] - سورن كيركيغورد، مفهوم الفزع، مصدر سابق، ص 131- 229- 230-232 (بتصرف).
[22] - سورن كيركيغورد، المرض حتى الموت، ترجمة قحطان جاسم، دار الرافدين، بيروت/بغداد، ط1، 2012، ص129-131-138 (بتصرف).
[23] - سورن كيركيغورد، المرض حتى الموت، مصدر سابق، ص18 (مقدمة المترجم).
[24] - المصدر نفسه، ص 46 - 49-50-51 (بتصرف).
[25] - المصدر نفسه، ص 52 -53-54-60 (بتصرف).
[26] - المصدر نفسه، ص61-63 (بتصرف).
[27] - المصدر نفسه، ص 113-117-120 (بتصرف).
[28] - المصدر نفسه، ص 126-138 (بتصرف)
[29] - المصدر نفسه، ص 64-94-95-108-198
[30] - المصدر نفسه، ص110-115-121 (بتصرف)
[31] - المصدر نفسه، ص 87-111 (بتصرف).
[32] - المصدر نفسه، ص 125، 174، 176 (بتصرف).
[33] - «لأن النمو الفياض للحياة لا يكون أدنى من نمو الطبيعة، واختلافات الحالات الروحية هي أكثر عدداً من حالات الأزهار». ينظر: سورن كيركيغورد، مفهوم الفزع، مصدر سابق، ص195
[34] - «وإذا لا يعرف المرء الرعب، فإنه لا يعرف العظمة». المصدر السابق نفسه، ص106 ھ