كيف يشيع التنوير و لا يبقى هامشيا؟


فئة :  مقالات

كيف يشيع التنوير و لا يبقى هامشيا؟

ينقل عن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير قوله:"في معظم الأديان بعدان متنافسان: البعد الأول إقصائيّ، بمعنى إيماني في مواجهة إيمانك، و هنا علّة التطرف. وبعد آخر تضميني، ويتجلى في مدّ اليد إلى الآخرين والانفتاح عليهم. وبدلا من أن يكون الإيمان مصدرا للانقسام و النزاع، ثمة جانب آخر غالبا ما لا يجيد عالم الدين إبرازه، وهو جانب التعاطف والتكافل والعدالة الاجتماعية". كلام بلير هذا، يحيلنا إلى تلك الدعوة الذكية التي أطلقها في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) 2007 من أبي ظبي 138 عالما فاضلا في الدين الإسلامي، يمثلون غالبية كبيرة من الرؤى والمذاهب الإسلامية، دعوا فيها رجال الدين المسيحي إلى إجراء حوار يستند إلى معتقداتهم المشتركة بأنّ حب الله وحبّ الجار هما حجرا الزاوية لديانتهما. وعلى الرغم من أن التطرف لا دين له، فإن هذا الاستدراك المهم لا يتعارض، ونحن نقارب أحوالنا في العالم العربي وفي البلدان الإسلامية؛ من القول إنه لا يتم نزع الشرعية عن العنف والتطرف الديني وتقويض أسسهما إلاّ حين نعلن كمسلمين، أن نظرتنا إلى العالم وللآخرين ينبغي ألا تقوم على قاعدة "الفسطاطين" والمحدد الديني أو الولاء والبراء، بل على قاعدة "ولقد كرمنا بني آدم" و قول النبي الكريم: "كلكم لآدم وآدم من تراب"؛ أي وحدة الأصل الإنساني والسعي لتوسيع المشترك الإنساني، و هو كثير وغلاّب، و التعاون والحوار من أجل الخير العام والصلاح العام، بدلا من التعصب والخصومة والعداء وبناء الحواجز والجدران.

التحدي الكبير أمام مثل هذه الأفكار، هو أن تصبح شائعة و تتحول إلى ثقافة عامة، و ذلك ليس بمتيسرٍ في حال بقائها أسيرة عقول وقلوب فئة محدودة من المثقفين والأكاديميين والباحثين والكتّاب. و يكمن التحدي في كيفية مخاطبة هؤلاء المثقفين وأهل الاختصاص بشكل لا يختلف في مضمونه العميق عن مخاطبة الجماهير والناس العاديين وطلاب المدارس والجامعات ومرتادي المساجد والأندية وغيرها. الفكرة هنا تعني أمورا عدة:

أوّلها، أن عمق الأفكار لا يتعارض مع البساطة بالضرورة، و تبسيط العقلانية وأفكار التسامح وقبول الاختلاف والتعدد والإيمان بالإنسان وحرياته...، مهمة فكرية تستحق أن يُبذل من أجلها، عربيا، الكثير من الجهد والوقت والمال.

ثانيا، المرجّح أنه لن يكتب لجهود التنوير العربية النجاح ما لم تنل رضا وقبولا عاما، ما يعني أن تغادر هذه الجهود حيز الغرف المغلقة وصالات المؤتمرات والجامعات و المكتبات لتصبح حالة عامة، نجد مضامينها وشواهدها في خطبة الجمعة، وفي المناهج المدرسية، و في المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية، والأغاني، والدعايات، والمهرجانات، والمعارض والمسابقات الفنية والرياضية. بالتأكيد، ستكون أشكال التعبير عن المعنى مختلفة وذات مستويات ومراتب كثيرة، لكن من المهم في المحصلة أن يكون هناك عقل مشترك ومعنى مشترك نخاطب به، بأشكال و مستويات مختلفة، رجل الشارع و الكاتب الصحفي على حد سواء. هذا، يعني ألا نقول في خطبة الجمعة عكس ما نقوله في الصحيفة، أو أن نقول في التلفاز عكس ما نقوله في المؤتمرات العلمية. لن تتبلور فكرة الحرية و نبذ الاستخفاف بكرامة الإنسان و عدم إهانته بسبب لونه و دينه إذا لم تتحول هذه إلى ثقافة عامة يحميها القانون و المؤسسات، و لن تنتشر الفكرة وتترسخ إذا لم نتفق في خطبة الجمعة على قول ذلك بذكر كلام عمر بن الخطاب: " متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" و نورد القصة المشهورة حول ذلك، ثم يقول الفكرة الناقد الفني حين ينتقد غناء السيدة فيروز: "رُدّي منديلك رُدّي.. بيضا والشمس حدي.. بُكره بيجي محبوبك وبيلاقيكي مِسوَدّه".. بالقول إن ذلك قد يكون مظنة نفَس عنصري أو تمييزي يسيء، دون قصد، إلى أصحاب البشرة السوداء. كما لن تكتمل الجهود بشأن حماية تلك الفكرة إذا لم يعتقد الأكاديمي و الباحث الجامعي أنه من المهم، مثلا، أن يثير نقاشا مع طلبته يحلل فيه قول لسارتر:"أكره الضحايا الذين يحترمون جلاديهم"؟، يعقبه (النقاش) توّلد قناعة عامة وفهم مشترك بقيمة الحرية وأهمية مقاومة الاستبداد والجلادين والتخلص من دور الضحية. كما لن يصل الجهد التنويري مداه إذا لم تعلّق مُدرّسة الأطفال، وهي تشرح لطلابها قصيدة إبراهيم طوقان عن الممرضات : بِيضُ الحمائم حسبهنّهْ أنّي أردّد سجعهنّهْ

بالقول إن هذا المدح تستوي فيه الممرضة المسلمة و غير المسلمة و العربية و غيرها، فمعيار المدح توافر العطاء والجدية في العمل والسهر على راحة المريض وسلامته، وبذل الجهد في التسريع بشفائه وتجنّب إزعاجه أو زيادة ألمه. الاشتراك في القيم الإنسانية و ترسيخ الصلاح العام يجمع المسلم و غير المسلم و العربي و غير العربي على قيم ومصالح مشتركة لا معنى لأي تنوير إنْ لم يسهر على إشاعتها و ترسيخها.

ثالثا، هذه العقلية في مقاربة مشاريع التنوير و التجديد و النهضة تقلّص من سلبيات الحديث في العالم العربي طيلة العقود الماضية عن نخبوية هذه المشاريع وانغلاقها في أبراج عاجية لا تصل إلى أغلبية الناس و عمومهم.

رابعا، نشر أفكار التنوير والتجديد بين غالبية فئات المجتمع؛ يعني رفض منطق الاستثناءات والتبرير. فالتنوير لن يكون ناجحا ومزدهرا، إذا لم يتفق لاعب كرة القدم وعامل النظافة ومصفف الشعر ومعلّم المدرسة والناقد السينمائي وضابط الشرطة وبائع الخضر والوزير... على أنّ ضرب النساء أو الأطفال عمل لا إنساني، وينافي حقوق البشر، وأنه فعل مسيء جدا وبعيد عن الرقي و التحضر والحكمة، و أنه ليس مقبولا تحت أي تبرير أو استثناءات. الثقافة العامة يعني أن الأغلبية تتفق على جملة من الأفكار، و أن ثمة مؤسسات تحمي هذه الأفكار و ترعاها وتنضجها و ترسّخها بين الناس.

طبقة وسطى تدمج بين الرأسمالية و الإيمان:

يذهب والي نصر، أستاذ السياسة الدولية في جامعة تافتس، إلى أن عوامل التغيير( المفتاحية) التي ستهزم التطرف الفكري في العالم العربي لن تتمثل في الحكام الديكتاتوريين العلمانيين، ولا في علماء الدين المتنورين أو الإصلاحيين الليبراليين، بل ستتمثل تلك العوامل برجال الأعمال وأصحاب المشاريع الحرة المغامرة. و يرى أنه من المهم في العالم العربي «نمو رأسمالية محلية من الطبقة الوسطى تدمج بين الرأسمالية و الإيمان، و تكون على علاقة جيدة مع قوى السوق»، بما يرسّخ قيماً مجتمعية، أكثر نسبية وابتعاداً عن «اللغة التعبوية» وحلولها القصوى و الجذرية، و أكثر إصراراً على إحداث الإصلاح، وأكثر التحاماً بالعصرنة. إنّ من شأن نمو برجوازية عربية ناضجة ومتصالحة مع مجتمعها عبر رسالتها التنموية والإصلاحية... من شأن ذلك أن يعيد الاعتبار إلى «السياسة» وحسّن من قراءة الدين. والقول إن مجتمعاتنا تقوم على بنية من الأفكار والقيم والسلوكات تقدّم في رؤيتها للذات و الآخر، وإدارة الشأن العام، موارد مستمرة لتعزيز المحافظة والانغلاق والتخلف، مسألة تستحق النقاش العام، تحت عنوان (العائق الثقافي)، لكن تصوير هذا الخلل في مجتمعاتنا وكأنه طبيعة جوهرانية أو «جينات» للتخلف و غياب التسامح، ليس لنا أمامها أيّ فكاك، هو حديث مغلوط وغير علميّ، ويتورط في «حتميات ثقافية» لا تقدّم مقاربة دقيقة لمشكلاتنا، بل تنطوي على جلد للذات وعلى «قدَريّة» في التوصيف لا تلتفت إلى أن الأفكار تتغير و تتحول بالممارسة والنقد، وأن العوائق الثقافية التي نتحدث عنها منتجة تاريخياً ويمكن تحويلها، كما يرى عزمي بشارة، الذي يلفت إلى أن إعطاء أو اكتساب الحقوق المدنية للشعوب أمر جوهري يسهم في إعادة إنتاج ثقافتها، إلى جانب أن ممارستها لهذه الحقوق يسهم في تحويل هذه الثقافة، وليس هناك شعب تحوّلت ثقافته السياسية والاجتماعية مرة واحدة قبل أن يحقق نظام حكم أفضل. إنّ المؤسسات الحرة والديمقراطية تولّد ثقافة حرة و ديمقراطية.

التوصيف "القدَري" يدين النخب أساسا، فهي بكلامها هذا تتصرف وكأنها ليست جزءا من هذا المجتمع، أو كأنها طبقة متعالية عليه ما يولّد انعزالها وإغراقها في تنظير (لا شك أنه مهم وضروري) لا يجد طريقه للناس، أو لا يثير جدلا يحلحل بعض الأفكار الراكدة ويفككها، كما أن التوصيف المذكور يدين هذه النخب من حيث غياب أو ضعف ثأثيرها في مجتمعاتها. وبين حديث النخب عن "الدهماء" أو "الغوغاء" أو نعت أي فكر أو سلوك غير عقلانيّ بأنه "شعبويّ"، وبين وصف الناس العاديين لأيّ كلام نظريّ مجردٍ بعيدٍ عن الواقع بنظرهم، بأنه كلام "نخبوي"... بين هذين الحدين تنكشف علاقة غير متصالحة عموما بين النخب التي تتبنى التحديث والإصلاحين الديني والسياسي وعموم الناس أو "الجماهير" "الرأي العام". وأمام هذا التواصل الفاتر بين الطرفين، ربما تحتاج مجتمعاتنا إلى توسيع دائرة فريق ثالث من المثقفين والعاملين في الشأن العام (كحلقة وسيطة بين الطرفين) ممن يتوافرون على ثقافة حديثة تؤمن حقيقة بالديمقراطية و الحريات و القيم المدنية، و لهم في الآن نفسه المقدرة على الوصول إلى الجماهير ومخاطبتهم والتأثير فيهم باتجاه بناء متدرج لبنية ثقافية واجتماعية، تحتضن التحديث والإصلاحين السياسي والديني كمطالب و حاجات مجتمعية تحظى بالتوافق الشعبي وإجماع عموم المجتمع. هذا الفريق (متى ما توافرت المنابر والقنوات التي توصل رسالته إلى الناس) من شأنه ألا يجعل الجماهير والناس العاديين أسرى الشعارات وكلام الخطباء ودعاوى الانغلاق والتعصب، كما من شأنه أن يقدّم للرأي العام الفكر الديمقراطي والنقدي بشكل مؤثر وسهل ينطلق أساسا من واقع الناس، ويقنعهم بأن تبنيه قولا وممارسة هو في صالحهم وصالح مجتمعاتهم ومستقبلهم.

إن بعض الأبحاث تقول إن الثقافة المجتمعية الشعبية السائدة في مجتمعاتنا، و التي، كما أسلفنا، تتوافر على عناصر عديدة تحتاج إلى المراجعة و التفكيك و النقد.. هذه الثقافة الشعبية تأخذ القسط الأكبر من مصادرها حاليا من الفضائيات و الأحاديث الشفوية في المجالس العامة والخاصة، ومن كلام الخطباء في المساجد والكنائس..، فيما لا يشكّل الكِتاب و كتابات المثقفين المستنيرين جزءا رئيسا في هذه الثقافة، وليس (أي قراءة الكتب) تقليدا شائعا في بيوتنا سواء لأن هناك عزوفا ليس هيّنا عن القراءة أو إقبالا على عناوين محدودة لا تبني ثقافة تتسم بالعمق، أو بسبب ضعف جامعاتنا أو بسبب انتشار الأمية في العالم العربي (ما يقرب من 100 مليون عربي أميّ؛ أي نحو ثلث العالم العربي)، أو لأن قيمة المعرفة أو المعلومة أو الأبحاث والدراسات ما زالت غير مقدّرة في بلداننا، فيما الكاتب أو الباحث في الدول الغريبة يحوز إلى جانب التقدير المعنوي التقدير الماديّ، الذي يجعله في أكثر الأحيان ميسور الحال ماديا و أشبه بنجم يحترمه الناس ويؤثر فيهم. الحكومات، إلى جانب المثقفين و وسائل الإعلام و الجامعة و الأسرة و الجامع و الكنيسة... وغيرها، لا بد أن تكون معنية ببناء متدرج لبنية ثقافية واجتماعية، تحتضن التحديث والإصلاحين السياسي والديني كمطالب وحاجات مجتمعية تحظى بالتوافق الشعبي. و التذرع بـ «عدم وعي المواطن» هروبا من المسؤولية، وسلوك شبيه بسلوك ذاك الأب الذي يخاف على طفله الصغير الذي تجاوز السنتين ولمّا يتمكن من المشي؛ لأنّ أباه يخاف عليه من السقوط على الأرض و التأذي، و يخشى عليه من مخاطر التجربة و تحدي الحرية، التي من دونها لن يستطيع المشي و معانقة الحياة و اكتشاف العالم.

العقل بخير يعني أن الدين بخير

لا أعتقد أن الدين سيكون بخير إذا لم يكن العقل بخير، و لن يكون الاثنان بخير بدون حرية. هذا الكلام يُستدعى، وقد سمعنا قبل أشهر، عن فتوى للشيخ عبد الله المنيع، عضو هيئة كبار العلماء في السعودية، يحرّم فيها تناول الطعام الذي تعدّه الخادمات الوثنيات (غير الكتابيات).! و كنّا سمعنا سابقا كثيرا مثل هذه الفتاوى، من ذلك اقتراح الداعية السعودي، يوسف الأحمد بهدم الكعبة وإعادة بنائها بما يضمن الفصل بين الجنسين في المسجد الحرام.! الموضوع على صلة وثيقة بقضية الأخلاق و الإيمان، و قد لاحظ المفكر الراحل محمد أركون أنه طيلة قرون كان هناك مصدران أساسيان يغذيان التفكير المتعلق بالأخلاق، هما: التراث الديني من جهة، والخط الإغريقي للفلسفة من جهة أخرى، وأنه في زمن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية كان في الحياة اليومية للمسلمين تناغم أو تعايش بين الأخلاق الدينية والأخلاق الفلسفية، غير أن هذا الأمر لم يدم طويلا، فقد حصل انفصال بين الخط الديني الذي انتصر وهيمن، وهو الذي يُرجع منظومة الأخلاق إلى المصدر الأول للاعتقاد الإسلامي المتمثل في كلام الله تعالى المتجسد في الخطاب القرآني، وبين الخط الفلسفي الذي هزم وسحق، ولم تقم له قائمة بعد القرن الثالث عشر عمليا. هذا الأمر، جعل مع الزمن كثيرا من المسلمين "مخلوقات فقهية" أو من صنع الفقهاء، كما يقول ياسين الحاج صالح، ما أضعف بالتالي بناء الضمير الحيّ المستقل، بل إن تلك "المخلوقات" تأسست في عمومها على مبدأ نُدرة الإيمان، الذي يجعل سلطة تعريف الإسلام محتكرة من قبل خطباء الجمعة والمفتين والفقهاء فقط، ممن يركّزون في ترسيخ مبدأ ندرة الإيمان على توبيخ عموم المؤمنين والمستمعين على تقصيرهم المفترض، الأمر الذي يعزز التقليد ويضيّق الحرية؛ حيث إن "الوجدان المعذّب الواقع تحت ثقل آثامه المفترضة الساحق، لا يسعه أنْ يشقّ مسالك غير مطروقة، أو يخرج على نهج مقرر، أو يبدع أفكارا جديدة. والوجدان الآثم لا يتحدى سلطة أو يقول لا لمرتبة مقررة، بل هو يحتمي بالتقليد وحماة التقليد، وبهذه الطريقة يصون العلماء سلطتهم و نفوذهم". إنّ التحولات السياسية تُؤتي أكلها عدالةً وحريةً وكرامةً، إذا تحوّلتْ الشعارات والهتافات والمطالب التي رفعها المحتجون والمتظاهرون إلى قيم وقواعد ومعايير، تحكم الثقافة السياسية العامة والعمل العام. وهذه مهمة مجتمعية شاملة، لا تتم مع بقاء الحديث عن "أغلبية صامتة"، تحاول أطراف عديدة الادّعاء أنها تمثلها وتنطق باسمها. و المجتمعات الحيّة هي المجتمعات الناطقة لا الصامتة، و النصر له آباء كثيرون، ومن هنا يتوجب أنْ تحرص "الأغلبية الناطقة" على أنْ يكون النصر لصالحها؛ ذلك أن "صمتها" من شأنه أنْ يخطف نصرها ومكتسباتها، في ظل فساد واستبداد، لا يُختزل في شخص، بل في بنية وثقافة ومنظومة عنيدة تستدعي التفكيك وطول النفَس، وبناء بديل عنها يُعيد الاعتبار للمجتمع والرأي العام، ويجعل مقولة "الشعب مصدر السلطات" نبضاً حيّاً يسري في شريان الحياة العامة، لا مجرد بند في لائحة دستورية لا روح فيه.

إنّ إنهاء عقود من الجمود السياسي والتكلّس الاجتماعي والفساد المالي والإداري يتطلب حيوية سياسية، وجهدا تثقيفيا مركّزا لإعادة الاعتبار للسياسة بوصفها الآلية العادلة لإدارة التنوع والصراع و الاختلاف بين مكونات المجتمع بطريقة ديمقراطية وسلمية متحضرة. و"الأغلبية الناطقة" التي ترى ترسيخ الأمن والأمان في بلدها غاية المنى، تُقدّم بوعيها الحر مفهوما جديدا للاستقرار، فهي لا تؤمن بأن الاستقرار هِبَة الاستبداد والحكم المركزي والسكوت عن الفساد والفاسدين، بل هو نتاج "الحكم الرشيد" المؤسس على العدالة والحرية ومحاربة الفساد والإيمان بكرامة الإنسان. وإلى جانب الحكومات، لا تقوم الشركات الخاصة ورجال الأعمال في بلداننا بدورهم في نشر المكتبات العامة التي تجعل الكتاب في متناول الجميع، كما لا تقوم الحكومات والشركات الخاصة ورجال الأعمال بدعم الأعمال التلفزيونية والبرامج والفعاليات المختلفة التي تقدم للناس خطابا يجمع ما بين الجماهيرية والعقلانية والانفتاح. فضائياتنا بحاجة إلى نماذج عربية مثل الدكتور فيل أو أوبرا وغيرهم، ممن يقدّمون القيم العقلانية والإنسانية والإشكالات الاجتماعية بطابع علمي وبسيط، يصل إلى أوسع الشرائح الاجتماعية دون أن يتسم في سياقه العام بالإنشائية والغوغائية. وربما أن هذين المثالين هما الأقرب إلى ما أقصده بالفريق الثالث من المثقفين، مع ضرورة توسيع دائرة القضايا التي يطرحونها للناس، وهو ما يرسّخ فكرة أن مفهوم النخبة، مع الطفرة الإعلامية والمعلوماتية وانتشار التعليم، يتوسّع بشكل كبير ليشمل فئات و شرائح كبيرة من المجتمع، ومن المهم لأي أفكار تنويرية أن تسعى إلى الوصول إلى هذه الشرائح و الفئات، فهناك الاستثمار المستدام والنجاح الراسخ.