كيف يصير العنف مأزقا؟
فئة : مقالات
يعرّف العنف بكونه "مضادّ للرفق ومرادف للشدّة والقسوة... وهو استخدام القوّة استخداما غير مشروع أو غير مطابق للقانون."[1] وقد ارتبطت الشرعيّة بالأشكال القانونيّة التي تمارس بها الدّول سلطتها القائمة على احترام القوانين والمؤسسات القانونيّة، وتُخلّ الدول بمشروعيتها حين لا يتّفق القول أو العمل مع القوانين المعلنة، ويظهر مأزق العنف حين تتحوّل القوانين داخل الدّولة أو المواثيق التي تقنّن العلاقة بينها وبين غيرها من الدّول إلى أعمال تخالف ما تنصّ عليه التشريعات الدوليّة؛ فذلك الارتباط الوثيق بين النّظم القانونيّة وتطبيقها هو الذي يهب العنف قداسته ويحوّله إلى قوّة شرعيّة. أمّا الخلل الذي يُحدثه الاختلاف بين النّصوص القانونيّة وممارسة السّلطة، فهو الذي يحوّل العنف إلى فعل غير شرعيّ. وهنا تطرح إشكاليّة الرقابة على العنف وسبل تعديل انحرافاته وتقويم انفلاته. فهل يمكن القول إنّ كلّ إخلال بالمشروعيّة سيجد أطرا قانونيّة للمحاسبة؟ وهل من معنى للقانون إن انْتُهِكَ وصار خاضعا لمنطق موازين القوّة وحسابات المصلحة فأهدر حقوق الإنسان ونسف الأسس التي قام عليها؟[2]
يتجلّى مأزق العنف حين يتحوّل إلى مشهد دمويّ مسرحه الحدود بين كيان يمتلك كلّ أسباب القوّة ويسوّق لدولة ديمقراطيّة لها شرعيّة العنف الذي تمارسه وتخضع لمحاسبة المؤسسات القانونيّة التي تراقبها[3] وشعب أعزل لا يزال يبحث عن جمع شتاته المتفرّق شذر مذر والحفاظ على سلطته التي أضحى مجالها مجالا مستباحا بالعنف. والموقع الحدوديّ وحده يمكن أن يفسّر وجود منطقة منزوعة القوانين، يمارس فيها جيش مجهّز بأحدث الأسلحة عنفا مفرطا على متظاهرين عزّل يعارضون قرارا سياسيّا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
إنّ تلك الأعمال من شأنها أن تضع الطرف العنيف أمام مأزق قانونيّ، قد يكون من اليسير عليه تبريره في ظلّ تواطؤ السلطة القانونيّة الدوليّة مع من يمارسون القتل العشوائيّ، ولكنّه لا يستطيع بأيّ حال من الأحوال الحفاظ على مشروعيّته وزعمه بأنّه يمارس عنفا قانونيّا في ظلّ نظام ديمقراطيّ.
إنّ مأزق المشروعيّة هو الذي يجعل من البناء القانوني للدولة التي تمارسه هشّا، وهو ما يطرح سؤالا قد تكون إجابته بديهيّة: لماذا يُدان عنف بعض الأنظمة على جماعات مسلّحة تهدّد شرعيّتها ويتّخذ ذريعة لإدانة حكّامها، بينما يُغضّ الطرف على عنف تمارسه دولة تعلن في دستورها التزامها بمواثيق حقوق الإنسان ضدّ شعب أعزل أقصى ما يقوم به أن يقذف حجرا أو يشعل إطارا مطاّطيّا ليعبّر عن رفضه؟
لعلّ تبرير العنف بموازين القوّة والهيمنة وبمنطق المصلحة يجعل الديمقراطيّة وحقوق الإنسان خاضعة لها، وهو ما يهدّد بنسفها وإفقادها كلّ فاعليّة يمكن أن تحافظ على صورتها المتخيّلة، باعتبارها حلاّ مثاليّا لمأزق الخلاف والاختلاف، ويمنح أشكالا أخرى شرعيّة العنف. فحين تميل سلطة القانون وحقوق الإنسان إلى كفّة يبحث المظلومون في الكفّة الأخرى عن بدائل نعتقد أنّه من الصعب أن تكون مرجعيّاتها هي ذات المرجعيّات التي وقع بها الظُّلم عليهم. ولذلك، فإنّ مأزق الغلوّ في العنف وفقدانه للمشروعيّة يفتح الباب أمام أشكال العنف المنفلت من عقاله، ويكون في شكل ردود أفعال مبرّرة بمنطق المحاكاة. فالاعتقاد بأنّ ممارسة العنف العشوائيّ يوجد حلاّ للأزمات وهم تكشفه مشاعر الظلم وبذور الكراهيّة التي زرعها القتلة.
يبدو مأزق العنف الذي يُمارس اليوم ضدّ المتظاهرين الفلسطينيين في كونه يدنّس القائمين بالعنف. فمن السّهل أن يُقتل الأعزل، ولكنّه يصير من الصعب إقناع الجمهور بأنّ هذا القتل عادل. ومن اليَسير الإفراط في العنف ولكنّه من العسير ضمان النّظام ودرء الفوضى. إنّ الإفراط في العنف انتهاك لحقوق الإنسان وتشويه للدّيمقراطيّة وتأبيد للعدوان والكراهيّة.
فلا قيمة للشرعيّة إن لم تتجسّد مشروعيّة. ولا معنى للديمقراطيّة ما لم تلتزم السّلطة بحقوق الإنسان. وليست تلك مطالب طوباويّة، بل هي روح الأنظمة القانونيّة التي إنْ افتقدتها أضحت أنظمة استبداديّة فاقدة للشرعيّة وحاكمة بالأهواء الشخصيّة أو بمبرّرات الإرادة الإلهيّة المارقة عن مفهوم الشرعيّة القانونيّة.
إنّ تحويل وجهة الإدانة نحو مراكز الإرهاب الذي حمل شعارات إسلاميّة لا يمكن أن يحجب أشكالا أخرى من الإرهاب لا تقلّ في خطورتها وآثارها عن الشكل الأوّل. فالعنف هو نقطة تواطؤ الأضداد وملتقى الانتهاكات التي ينتجها "منطق الفكر الأحاديّ والانغلاق العقائديّ والنقاء الثقافيّ والصدام الحضاريّ."[4]
من الطبيعيّ أن يولّد النزاع على الأماكن المقدّسة حروبا، فتاريخ الإنسانيّة حافل بها، ولكنّ المأزق في أنّ وعي الإنسان الحديث يهبه قدرة أكبر على الحوار والاعتراف والمبادلة والتسوية، ففصول الحرب لا تنتهي بالنصر في جولة من جولاتها، بل قد تكون كلّ حرب مبرّرا للأخرى. وللشّعوب ذاكرتها الحيّة التي قد تزيد الأماكن قداسة حين يراق على جوانبها الدّم. ولذلك، فالنّصر مأزق لأنّه خُسر للطرف الآخر يمنحه الرغبة في الثأر. والظّلم معضلة لأنّه يتجاهل المظلومين وردود أفعالهم. أمّا الحوار، فنصر دائم للطرفين، لأنّه يمتّن دعائم الشرعيّة، وهي الحقّ والرضا والأخلاق[5] ويقضي على أسباب العنف.
لا شكّ أن الخلاف يصير أكثر تعقيدا إذا تداخل العقديّ والسياسيّ في مسألة من المسائل؛ فالأماكن المقدّسة التي تتقاطع فيها قداسة دين مع دين آخر هي أكثر بؤر التوتّر والعنف في العالم. وتخضع بطبيعتها إلى موازين القوّة. ذلك أنّ للقداسة تجلّياتها. فلئن عبّر الطرف الأوّل عن قداسة المكان بسفك الدّماء البشريّة، فقد كان الطرف الثاني يعبّر عن القداسة بتقديم القرابين البشريّة. والمأزق الذي تقف أمامه الإنسانيّة هو أنّ "الهويّة يمكن أن تكون مصدرا للثراء والدفء كما يمكن أن تكون مصدرا للعنف والترويع."[6]
فلئن منح الإنسان الدّيني تجربته مع المكان المقدّس قيما مختلفة لعلّ من أهمها المركزيّة ومنح الكون قداسة تهبه المعنى الوجوديّ وتنفي عنه العدم[7]، فإنّ ذلك قد قاده إلى أعمال تطهيريّة استهدفت الآخر المختلف والموسوم بالمدنسّ وشرعنت قتله وإبادته حفاظا على المقدسات، وهو ما حوّل المقدّس إلى سلاح بيد جماعات هوويّة تحلم بكون طاهر وتستعيد بالمكان اللحظة الزمنيّة المقدّسة في سرديّاتها، فتمنح به نفسها شرعيّة العنف المقدّس ضدّ من عدوّا مدنّسين. ولذلك، فإمكانات الهزّات الارتداديّة للعنف تظلّ قائمة في ظلّ غياب تسوية سلميّة للاختلافات الدينيّة والخلافات السياسيّة ومستقبل العنف يظلّ قاتما، لأنّه يتغذّى بالصراعات السّلطويّة والنزاعات الدينيّة. فالعنف ردّة نحو الأشكال التقليديّة ونسف لأسس الشرعيّة القانونيّة وإهدار لكلّ مكتسبات العقلانيّة والإنسانيّة.
[1] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ط1، بيروت، دار الكتاب اللبناني/ مكتبة المدرسة، 1982، ج2، ص ص 112، 113
[2] ورد في المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يلي: "لكلّ فرد الحقّ في الحياة والحريّة وسلامة شخصه." انظر
http://www.moj.pna.ps/userfiles/file/Universal%20Declaration%20of%20Human%20Rights.pdf
[3] ينصّ القانون الأساسيّ لكرامة الإنسان وحريّته في إسرائيل على ما يلي:
"1- تستند الحقوق الأساسيّة للإنسان في إسرائيل إلى الاعتراف بقيمة الإنسان وقدسيّة حياته باعتباره إنسانا حرّا وتُحترم بروح المبادئ الواردة في إعلان إقامة دولة إسرائيل...
2- لا يجوز المساس بحياة الإنسان أو جسمه أو كرامته بصفته بشرا." انظر:
http://www.justice.gov.il/Ar/Units/Reshomot/ReshomotBearvit/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86%20-%20%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%B3%D9%8A%20;%20%D9%83%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%20%D9%88%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%AA%D9%87.pdf
[4] علي حرب، تواطؤ الأضداد، الآلهة الجدد وخراب العالم، ط2، الجزائر/ لبنان، منشورات الاختلاف/ الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2010، ص 118
[5] انظر: د. جان، مارك كواكو، الشّرعيّة والسياسة، مساهمة في دراسة القانون السّياسي والمسؤولية السّياسيّة، (ترجمة خليل طيار)، ط1، الأردن، المركز العلمي للدراسات السّياسيّة، 2001، ص 63
[6] أمارتا صن، الهويّة والعنف، (ترجمة سحر توفيق)، ط1، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 352، يونيو 2008، ص 19
[7] انظر: مرسيا إلياد، المقدّس والعاديّ، (ترجمة عادل العوّا)، ط1، بودابست، صحراء للنشر، 1994، ص ص 65، 66