كيمياء السعادة

فئة :  مقالات

كيمياء السعادة

كيمياء السعادة

ملخص:

تبحث هذه المقالة في مفهوم السعادة والطريقة التي يتصور الفرد العربي اليوم سعادته من خلالها. إن السؤال المطروح هو، ما الذي يعيقنا من أن نكون سعداء وما دور تجربة العمل والدين في تحقيق مطلب السعادة، وكيف السبيل إلى إنشاء سردية سعيدة حول أنفسنا أو على الأقل كيف السبيل إلى الخروج من حيز اليأس والانهزام وكل الأشكال المضادة للسعادة.

********

هل نحن شعوب تطلب السعادة ؟ إذا أخذنا بقول الفيلسوف الرواقي "سيناك" يميل كل البشر بطبيعتهم إلى أن يكونوا سعداء، وحاولنا امتحان مدى نجاعة هذا القول. وإذا ما كان يتلاءم مع واقعنا اليوم، فإننا لن نعثر على من يستطيع أن يروي لنا قصة حياته السعيدة، فنحن اليوم جيل ما بعد الثورات جيل ما بعد الربيع غير قادرين على إنشاء سردية سعيدة لأنفسنا؛ فكل الدراسات الاجتماعية تثبت أننا نعاني حالة من الاكتئاب واليأس يصل بنا إلى حد تمزيق أجسادنا وإضرام النار فيها كوسيلة للاحتجاج أمام بؤس الواقع. إن ذلك يدعونا إلى التساؤل من جديد كيف يتصور الفرد العربي اليوم سعادته؟ ذلك طبعا إذا ما افترضنا أن مفهوم السعادة لا يزال مطلب الشعوب العربية؟ أي تغير حدث في تركيبة "النفس" العربية؟ كيف السبيل إلى الخروج من حيز اليأس والانهزام؟ وهل تعدّ الأنظمة القائمة اليوم مسؤولة عن فقدان مواطنيها لمساعدتهم؟

إنه لمن المرعب والمفزع فعلا، أن نتخلى عن أنفسنا بتلك الطريقة المتوحشة، أن نضرم النار في أجسادنا أو أن نفجر كل قيم الإنسانية بحزام ناسف، أو فقط أن نقطع أحد شراييننا ونمنع الدم عن التدفق بصفة طبيعية أو أن نلقي بأنفسنا لنحدث رجّة داخل مفهوم الإنسان أو أن نهاجر إلى الإنسانية في قوارب الموت، كلها أشكال اخترعها الإنسان الحديث حتى يتوقف عن الحياة أو حتى يخرج من حالة الرتابة التي يعيشها صباح مساء ويضع نمطا جديدا للحياة. إن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا مباشرة لماذا نتوقف عن الحياة ونقرر استبدالها بتجربة الموت؟ هل فقد الموت هيبته وسلطانه في نظر الإنسان الحديث؟

الإجابة هي لأننا معطلون عن الحياة فعلا؛ لأن الموت أصبح جزءا من كيمياء أنفسنا، لكن الشيء الذي يختلف هو في كيفية مقاومتنا لرداءة الواقع ووقع الحياة فينا.

إن الأمر البديهي هو أننا نقاوم من خلال أفيون ما يمكن أن نفهم هذا الأفيون على أنه مخدر أو هو لذة القراءة أو هو ممارسة الفن أو هو العمل، وأقصى ما يمكن أن يصل إليه هذا الأفيون هو أن يتحول إلى تقنية رجاء؛ بمعنى أن نجيل ببصرنا عن الحياة الدنيا آملين في تحقيق السعادة في حياة ميتافيزيقية أخرى. إن هذا يدعونا إلى التساؤل فعلا عن طريقة تصورنا للسعادة؟

ما الذي يمكن أن نسميه سعادة؟ وكيف السبيل إلى بلوغها؟

إذا كان سبينوزا في كتابه علم الأخلاق في باب الانفعالات يعرف الفرح(latitia) على أنه "انتقال من كمال أقل إلى كمال أعظم"، وإذا كان الحزن (tristitia) هو "انتقال الإنسان من كمال أعظم إلى كمال أقل"، فإنه يمكن القول إن السعادة هي أقصى انفعال يمكن أن تصل إليه النفس أو هو الكمال الأعظم والغبطة. ويقول الكندي في هذا الصدد: "الحزن والسرور ضدان لا يثبتان في النفس معا: فإذا كان محزونا لم يكن مسرورا، وإذا كان مسرورا لم يكن محزونا. فينبغي إذن أن لا نحزن على الفائتات ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا، بالعادة الجميلة راضية بكل حال، لنكن مسرورين أبدا".

يشير أرسطو في كتاب أخلاق إلى نيقوماخوس إلى قول صولون: "لا تصف أي شخص بأنه سعيد إلى أن يموت"؛ معنى ذلك أن السعادة غاية لا يمكن أن يدركها الإنسان، لكن هذا يدعونا إلى التساؤل عن طبيعة السعادة التي يبتغيها الفرد الحديث، هل هي متعلقة باللذة مثلما يعتقد الأبيقوريون؟ هل هي في الفضيلة والتعفف؟ أو هي مغادرة لعالم الجسد وسكن في عالم الروح كما يذهب إلى ذلك المتصوفة؟

كل ما يمكن قوله هو أننا أصبحنا على حد عبارة أنطونيو نيغري "حشود بلا معنى"، لذلك كل ما نفعله هو محاولة البحث عن هذا الجانب الخفي الذي لا يبرز لنا "نحن" نحاول أن نبحث عن معنى لحياتنا؛ لأننا لا نريد أن نموت ونكون نسيًّا منسيا وهباء منثورا، وكأن "الذات" تريد أن تصنع ذاكرة لها تقيم خلودها، وتبحث عن مقرّ إقامة نقيم فيه كينونتنا.

ما الذي يمنعنا نحن "الذوات الحديثة" من الإقامة داخل العالم؟

إن الأمر يتعلق بمدى تصالحنا مع أنفسنا ومدى رضانا عنها؛ يعرف سبينوزا الرضى بالذات (Acquiescentia in se ipso) على النحو التالي: "فرح ينجم عن تأمل المرء لذاته ولقدرته على الفعل".

يتعلق الأمر إذن، بالتأمل وبالفعل، ولكن الوضع الذي تعيشه المجتمعات العربية اليوم هو أنها تعاني حالة من العطالة؛ لأننا معطلون عن العمل وعن النظر. نحن معطلون عن النظر؛ لأننا لازلنا إلى حد الآن تحت وطأة التفكير الغربي؛ أي إننا غير قادرين على التفكير بأنفسنا بدون وصاية، ونحن كذلك غير قادرين عن العمل لأننا تحت وطأة "الإمبراطوري الأمريكي والهائل الصيني "لكن الأمر الخطير هو أننا تحولنا إلى سوق لسلع".

إن سلطة المراقبة والمعاقبة بعبارة فوكو لم يعد من مهامها أن تضمن سعادة مواطنيها كل ما تستطيع فعله هو إدخاله ضمن منظومة بيو-سياسية، حتى يصبح كائنا "مؤرشفا" يعني أن أقصى ما يمكن لسلطة أن تفعله هو أن توفر له الأمن بوصفه رقما تسلسليا منخرطا ضمن نظام معلوماتي –غير أننا في أنظمة الحكم العربية، حتى مطلب الأمن أًصبح حلم جميل ينتظره من تم تجويعهم وترهيبهم وتشريدهم من أوطانهم، الفرد العربي اليوم هو لاجئ حتى وإن كان داخل وطنه، هو لاجئ لأنه غير قادر على أن يكون ما يريد؛ أي هو غير قادر على إنزال تمثلاته عن نفسه إلى أرض الواقع؛ أي إنه يفتقد إلى المطابقة بين ما يجب أن يكون وما يكون فعلا، هناك هوة عميقة بين تمثلاتنا وواقعنا.

إذا أردنا أن نفهم هذه الهوة، فعلينا أن نبحث عن القيمة الرئيسة التي يقيم بها الفرد العربي اليوم كينونته ويحدد بها وجوده. قد نعثر عليها في لفظة "معطلين عن العمل" كل ثورات الكرامة كانت من أجل توفير القوت اليومي. إن الذي يصيب "العاطل عن العمل" أو "المعطل" هو شيخوخة مبكرة وهرم روحي سابق لأوانه؛ فمثلما يشير هزيود في أسطورة "أن الرجال يولدون بشعر رمادي اللون يعني أنهم يولدون شيوخا" كذلك هو الحال بالنسبة إلى شبابنا المعاصر "نحن "نولد شيوخا منذ المهد؛ لأننا نحمل ألمنا وألم أسلافنا ومعاناة أجدادنا منذ الولادة، وكأننا نسير على نفس صراط المعاناة الذي مر به من سبقنا.

طبعا "العمل" لم يكن يهم الفيلسوف الإغريقي؛ لأن الفلسفة هي عمل نظر وتأمل، يحتاج الفيلسوف إلى الفراغ كي يتفلسف كي ينتج أفكارا، لكن ذلك لم يمنع الفيلسوف من النظر في ماهية العمل؛ لأن الفلسفة دائما ما تسأل حول الأصل حول البدايات. هذا ما جعل أفلاطون يتحدث في كتاب الجمهورية عن الصناع أو الحرفيين، ويتحدث كذلك عن الصانع الأول الذي يصنع الأشياء، وهو ينظر نحو مثال ما. الكندي أيضا تحدث عن "ميأس الأيسات من ليس" هذا الذي يخرج الأشياء من العدم إلى الوجود، إذن هو "يعمل" شيئا ما ويجعله حاضرا لنا، هو يقوم بحركة ما؛ أي إنه ليس في حالة عطالة ليس في حالة توقف. فالعمل هو ما يحرك السواكن ويدب الحياة في الجماد، ويجعل لها ديناميكية أنه يحرك الأشياء خارجا عنا، ويحركنا نحن باطنيا، هو يحرك فينا النفس ويخرجها من حالة الثبات إلى حالة الصيرورة.

بهذا المعنى، يصبح العمل هو الحدث الذي يعطي قيمة للأشياء، ويقيم قيمة الإنسان أيضا، ولكن مثلما يقيمها يستطيع كذلك أن يسلبها منا. ففي حالة العمل أو في حالة التوقف، فإن هذين الفعلين يقودان المجتمع نحو الفردانية. إن الفرد الحديث في حالة العطالة يتجه إلى كل أشكال العزلة والتقوقع على النفس؛ أي إنه يحاول الهروب من القول الهيغلي: "كل ما هو واقعي عقلاني وكل ما هو عقلاني واقعي" يعيش العاطل ضربا من اللامعقولية التي تصيبه بخمول روحي وتعيقه عن بلوغ مطلب السعادة. أما في حالة العمل يدخل الفرد في حيز التشيئة؛ أي إنه يصبح يعاني نوعا من الإرهاق والاستلاب يتجلى في غربة روحية وسأم وضجر من الواقع، لكن ما يجمع العامل والعاطل عن العمل هو أنهما يقولان: "إني أرغب في حياة سعيدة".

 

 

فماذا يعني أن أرغب في شيء ما؟

يطرح ليوتار في كتابه لماذا نتفلسف السؤال التالي: "ما إذا كنا عاشقين لامرأة؛ لأنها جديرة بالمحبة أو ما إذا كانت المرأة جديرة بالمحبة؛ لأننا عاشقون لها؟" يعني إذا ما كان المرغوب فيه يصبح سببا للرغبة أو العكس.

تكون إجابة ليوتار كما يلي: "أن من يرغب يعاني من الحرمان الذي بدونه لن يرغب ولن يجد ما يرغب فيه ولا حتى ما الذي سيعرفه، وإلا فإنه سوف لن يرغب فيه مطلقا."

يمكن القول إذن إننا نرغب في السعادة؛ لأننا نعاني من نقص ما، من فراغ يحتل حيزا في أنفسنا. إننا محرومون من أن نكون أنفسنا، ومن العيش في حالة من التناسق والتناغم الداخلي بسبب كل ما يخترقنا ويصيب أنفسنا من هذه الكم الهائل من اللامعقولية التي يعيشها العالم.

قد تبقى السعادة هذا المطلب المنشود مثل حجر الفلاسفة الذي يبحث عنه كل من الفيلسوف والخيميائي ولا يستطيع أي منهما تحصيله، ولكن هل يعني ذلك أن نتوقف عن المطالبة بالسعادة أو التفكير فيها والتفلسف حول ماهيتها؟

قد يجيبنا ليوتار قائلا: "إنه الجرح الذي جعل العالم، يستحوذ على الفيلسوف ويدعوه إلى الكلام مانحا إياه "هذه القوة السلبية" لإثبات معنى هو موجود فعلا، معنى منقوص يجعل من خطابه غير مكتمل، ومن ثم خطابا حقيقيا. وبما أن العالم يتعدى علينا فإنه يمكن للكلام أن يتعدى عليه بالتعبير عنه، ويمكن للفعل أن يغيره. نحن نتفلسف؛ لأن وجودنا مستهدف من قبل العالم، ولأننا "مسؤولون عن تسمية ما يجب أن يقال وما يجب أن يفعل".

إن ما يطالب به "الفرد الحديث" اليوم هو أن يشفى من جروحه القديمة، ويعثر على تقنية علاج لمحو آثار هذه الندوب التي نحتها العالم على جدار نفوسنا.

كيف السبيل إلى إنشاء سردية سعيدة حول أنفسنا؟

يقترح ريكور في كتاب الذاكرة، التاريخ، النسيان تجربة الغفران للذات من خلال فعل النسيان حتى نتمكن من أن نشفى من أنفسنا؛ يعني بعبارة جاك دريدا "صفحا عما ما لا يمكن الصفح عنه أبدا" أن في هذه التجربة تكون الذات وحدها هي مسؤولة عليها؛ لأن ريكور يشير في كتاب سيرة الاعتراف متسائلا عن "من يتذكر" قائلا يمكن الرجوع إلى اعترافات القديس أوغسطينوس عندما يجيب: "إني أنا من يتذكر؛ أي أنا نفسي"، إذن أنا نفسي الوحيد قادر على التجاوز والنسيان، فعلى حد عبارة ريكور: "إن كل تعاسة مهما قست يمكننا أن نتحملها إن نحن رويناها كقصة أو أخبرنا عنها كقصة".

هل يكفي أن نعيش تجربة الغفران حتى نشعر بالسعادة؟

إن النسيان يمكن أن يجعلنا نتأقلم ونجد وسيلة للنجاة، كل نسيان هو محاولة للمصالحة بين أنفسنا القديمة وأنفسنا الجديدة، ولكن حتى النسيان نفسه لا يمكن أن يحد من وطأة الألم والحزن الذي يجتاح العالم اليوم، لا يمكن أن يغير ما وقع فعلا ربما يمكننا أن نتناسى، أن نتظاهر بنسيان ولكن لا يمكننا محو صور ما يحدث في العالم من قتل ونهب ومجاعة، يمكن أن نجيل بأبصارنا عن "بشعات الفعل الإنساني"، ولكن لا يمكننا أن نرفض وجوده.

كيف السبيل إلى التحرر والخروج من حيز الألم، ومن كل الأشكال الأخرى المغايرة للسعادة والمناقضة لها؟

في رسالة الكندي في الحيلة لدفع الأحزان يقول الكندي ما يلي: "فينبغي أن تجتهد في الحيلة للتلطف لتقصير مدة الحزن". فإنا إن قصرنا في ذلك، كنا مقصرين في مهمة دفع البلاء الذي يمكننا دفعه وهذه أمارة الجاهل الشقي الفظ الجائر؛ لأن الجائر من دام عليه البلاء. وأشقى الأشقياء من لم يجتهد في دفع البلاء عن نفسه بما أمكنه دفعه. وينبغي أن لا نرضى بأن نكون أشقياء، ونحن نقدر على أن نكون سعداء".

إن ما يريد الكندي قوله هو أنه ليس مقدرا علينا أن نعيش في حالة مناقضة للسعادة، حيث تكون النفس فيها تعيش "الشقاء" ولا تقدر على دفع الأحزان عنها؛ فإذا رضينا بها، فنحن من الجهلة الأشقياء ما دمنا مقصرين في تحقيق سعادتنا. الحزن هو ليس هذا الصراط الواحد الذي لا مخارج له، نحن نقدر على الخروج منه إن نحن علمنا بالأسباب؛ فعلى حد عبارة الكندي: "إن كل ألم غير معروف الأسباب غير موجود الشفاء، فينبغي إذن أن نبين ما الحزن وأسبابه، لتكون أشفيته ظاهرة الوجود، سهلة الاستعمال".

فالعلم بالأسباب وتحديدها ومعرفة أصل هو بالنسبة إلى الكندي العلاج المناسب؛ فلا يمكن أن نحضر ترياق العلاج، إلا إن نحن عرفنا مصدر الداء، فإذا عرفناه عرفنا كيفية التعامل معه. ويصنف الكندي الألم إلى نوعين؛ منه ما هو متعلق بالجسد، ومنه ما هو متعلق بالنفس. وان كان ألم الجسد يمكن علاجه طبيا، فإن ألم النفس كذلك يمكن شفاؤه. والحزن إما أن نكون نحن سببه، وإما أن يكون الآخر سببه لنا يقول الكندي في هذا الصدد: "ومن أدوية ذلك السهلة: أن نفكر في الحزن ونقسمه إلى أقسامه، فنقول: إن الحزن لا يخلو أن يكون ما عرض منه أمر هو فعلنا أو فعل غيرنا، فإن كان فعلنا، فينبغي أن لا نفعل ما يحزننا، فإن فعلنا ما يحزننا فالإمساك عن فعله...وإن كان المحزن لنا غيرنا، فلا يخلو من أن يكون دفعه إلينا، أو لا يكون ذلك إلينا، فإن كان دفعه إلينا، فينبغي أن ندفعه ولا نحزن."

يحصل الحزن عادة؛ لأننا نتمسك "بالقنية الحسية" و"المحبوبات الحسية" و"الطلبات الحسية". إنها كلها عارضة، ويمكن فسادها وزوالها، فوجب علينا أن نهتم بما هو أبقى ولا نهتم بما هو زائل.

لكن المشكل هو أن بعد الثورات العربية ظهرت تيارات تنادي إلى الاهتمام بالنفس، طبعا إن المجال المناسب لتدبير أمور النفس والعناية بها هو الدين. الدين أيضا تحول إلى تقنية لصناعة السعادة، ولكنها سعادة من نوع آخر هي سعادة أخروية يتوجه إليها كل من لم يستطع تحقيق ذاته في الواقع، حيث إن الفرد الأكثر سعادة هو الفرد الأكثر إيمانا والأكثر طاعة، الدين يمكن أن يرتقي بالنفس إلى درجة أخرى من الوعي، ويفتح منابع النفس تاركا كل ما من شأنه أن يربط مع الكون والفساد ومتجها نحو تجربة روحية عميقة تنكشف فيها النفس لنفسها، في كتاب "نفي اللاهوت" يقول ميشيل أنفري تحت عنوان مثير "بطاقات بريد صوفية": "أكاد أكون قد رأيت الله دائما في حياتي: رأيته في تلك الصحراء الموريتانية تحت القمر الذي يعيد صبغ الليل بألوان بنفسجية وزرقاء، رأيته في المساجد الباردة ببنغازي وطرابلس في ليبيا خلال رحلتي السياحية باتجاه "سيرين" بلاد أريستب، ورأيته بعيدا عن "بور لويس" بجزيرة "موريشيوس" في محراب خصص للإله "غامش" الملون بقرن فيل، ورأيته في كنيس بحي اليهود بمدينة فينيسيا وأنا أضع قلنسوة يهود على الرأس، وفي محل النشيد الديني بالكنائس الأرثوذوكسية بموسكو، حيث تجد نعشا مفتوحا عند مدخل دير "نوفودفينشي"، بينما يصلي بالداخل الأسرة والأصدقاء والكهنة الأرثوذكس ذوو الأصوات العجيبة والذين يغطيهم الذهب، وتحيط بهم هالة من البخور..."

على الرغم من أن الكتاب هو محاولة لتساؤل حول تاريخ "الإلحاد"، وعلى الرغم من أن عنوان الكتاب "نفي اللاهوت" قد يجعلنا نسقط في إنتاج حكم مسبق، إلا أننا يمكن أن نرى السعادة التي تخترق الكاتب في هذه الفقرة من الكتاب، ربما يكمن السر في الثراء وتعدد المعاني، فكلها تجارب مختلفة تمر بها الروح من أجل تحصيل معنى جديد مختلف عن رتابة الواقع، طبعا يختلف شكل الطقس الذي تقوم "النفس" من تجربة إلى أخرى، ولكن المثير فعلا هو عملية الخروج والمغادرة إلى أفق جديد.

لكن الخطير في الأمر هو أن تكون سعادتنا سبب في فناء القيم البشرية؛ فما يحدث من قتل وإرهاب اليوم باسم الدين وتحت اسم الإله، يجعلنا في حالة من القلق والتذبذب على مستقل "الإنسان".

إن الذي أصاب المجتمعات العربية قبل الربيع العربي هو جوع ديني وقحط روحي؛ فالفرد العربي لم يكن قادرا على ممارسة شعائره بكل حرية فقد كانت سلطة المراقبة والمعاقبة تخضعه إلى نوع من الرقابة، وفي الآن نفسه هو غير قادر على أن يحقق اكتفاءه الذاتي والاجتماعي؛ يعني أنه صار يعاني حرمانا من كلا الجانبين؛ هو فرد غير مستقر لا دنيويا ولا أخرويا، يعاني حالة من الضغط ولا يجد متنفسا يفرغ فيه طاقته المكبوتة، الأمر الخطير هو أن نستعمل أجسادنا كتقنية للاحتجاج أمام الأنظمة القمعية من أجل مطلب السعادة، والأخطر هو أن تتحول أجسادنا إلى تقنية للرجاء طامعين في سعادة أخروية، ومعتقدين أننا بتفجير أنفسنا ننال مرضاة الله؛ يعني في كلتا الحالتين نحن نموت طالبين السعادة يقول مشيل فوكو: "في تجربة الموت يجتمع الفرد مع نفسه فارّا من أشكال الوجود الرتيبة ومن آثارها التسطيحي، في ذلك الاقتراب البطيء للموت، نصف المخبأ ولكنه مرئي، وتغدو أخيرا الحياة العامة السطحية كيانا فرديا، حيث إن حجابا أسود يغزلها ويضفيها أسلوب حقيقتها الخاصة".

إن الذي أصاب "الذوات العربية" هي أنها تعاني حالة من الفراغ الروحي العميق؛ لأنها لا تسير وفقا لمخطط ما، بل هي تتحرك فقط في اتجاه التيار، تسير أينما يأخذها مجرى النهر، هي لا تتحرك كي تبلغ هدفا ما أو غاية ما؛ كل ما تفعله هو محاولة النجاة والفرار، نحن اليوم لا نتجه إلى لب مشاكلنا، بل نظل ندور حول ثواني الأمور، وكأننا نتهرب من الوقوف أمام أنفسنا. لذلك نحن نقاوم وفقا لأفيون ما كل حسب أفيونه كما يناسبه.

إذا كان لابد من المقاومة من خلال أفيون، فلنجعل أفيوننا الأدب والفن والفلسفة والشعر؛ لأنها أشكال تمكننا من أن نروي سردية عن أنفسنا، حتى وإن لم تكن سعيدة، فهي تساعدنا على فهم "ذواتنا"؛ فالفن يحول أجسادنا إلى وسيلة لتعبير وإلى تقنية للأمل؛ الفن يجعل الجسد يعلن صارخا أنا لا أزال هنا حاضرا داخل العالم والشعر والأدب يصاحبنا في آلامنا وينيسنا في محننا. أما الفلسفة، فلا تكفّ من طرح أسئلتها لنا وعلينا، هي تحاول دائما فهم وتفكيك العلاقة مع العالم.

حتى وإن لم نر ما يعبر عن السعادة اليوم، إلا أننا لا ينبغي علينا الكف عن المطالبة بها؛ لأنها القيمة الأساسية التي تقيم مفهوم الإنسان؛ فإذا نحن كففنا عن طلبها، فإنها ستمحى شيئا فشيئا من ذاكرة الإنسان وتدخل حيز النسيان.

 

قائمة المصادر والمراجع:

- باروخ سبينوزا، علم الأخلاق (ترجمة جلال الدين سعيد).

- من رسائل الكندي، (تقديم وتعليق محمود بن جماعة).

- نيكولاس وايت، السعادة موجز تاريخي، (ترجمة سعيد توفيق).

- جمهورية أفلاطون، (المركز الدولي للصحافة والنشر والتوزيع ش.م.م).

- أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس (Nicimachen Ethic).

- جون فرانسوا ليوتار، لماذا نتفلسف، (ترجمة يوسف السهيلي).

- بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان (ترجمة جورج زيناتي).

- بول ريكور، سيرة الاعتراف (ترجمة)

- ميشيل أونفري، نفي اللاهوت (ترجمة مبارك العروسي).

- محمد المزوغي، في نقد ما بعد الحداثة فوكو والجنون الغربي.

- الإنسان الذاكرة، فعاليات الدورة الثانية عشر لملتقيات قرطاج الدولية (12-16 أفريل 2010 الصادر عن بيت الحكمة).