لا يمكن الوثوقُ بمعرفة لا يعرفُ الدينُ فيها حدودَه
فئة : مقالات
إن خلط كل شيء بكل شيء إحدى مشكلات تفكيرنا الديني الحديث، وهو ضرب من تلفيق عناصر متضادة ينفي بعضُها البعضَ الآخر، كما أنه على الضدّ من منطق التفكير العقلاني وترفضه مناهجُ البحث العلمي. منطق التفكير العقلاني ومناهج البحث العلمي يعتمدان البحثَ المتواصل بغية رسم حدود جغرافية للمعتقدات والمذاهب والمدارس والاتجاهات الفكرية، وتحديد المقولات والمفاهيم والأشياء، وتمييز كل منها عن الأخرى، وتصنيفها عبر الكشف عما يتميز ويختص به كل منها، وعما يشترك به كل منها مع سواه.
مقياس تطور المعارف وتقدم العلوم يقاس بمدى اكتشافاتها للحدود. ولولا ذلك، للبثت المعرفة محدودة وساذجة وبدائية. تقدّمُ المعارف والعلوم يكفله تشعبُها واتساعها وتعدد موضوعاتها، إذ لا علوم ومعارف بشرية بلا اختلاف وتنوع.
ذهنية التلفيق تنشأ من شعور مرير يتملكنا ناجم من الخوف على هويتنا، والقلق من افتقاد خزان الذاكرة، والافتقار لرموز التراث التي تغذيها، فيوقعنا ذلك الشعور في مفارقة ملتبسة، فلا نحن بالقادرين على استحضار ما كان كما كان، ولا نحن بالقادرين على الإقلاع عما كان.
الهوية ملاذ لمن لا يجد ملاذاً له في العقل. لقد غذّى "فوبيا ضياع الهوية" من جهة، والحاجةُ الملحّة للحضور في العالم من جهة أخرى، نزعةَ التلفيق بين الماضي والحاضر، والتراث والحداثة، والأصالة والمعاصرة، والديني والدنيوي، فأنهك النصوصَ الدينية بعمليات تأويل متعسفة، لا يقبلها منطقُ التأويل القديم ولا الجديد، عبر إسقاط مكاسب الحداثة المتنوعة في الفلسفة والمعارف والعلوم على النصوص الدينية.
هوية الجماعة تغذيها معتقداتُها ومروياتُها عن نفسها، وتصوغها أحلامُها وتطلعاتُها، لذلك تعمل الهوية على إنتاج الحقيقة في اطار أحلامها ومطامحها ومعاييرها، سواء كانت تلك الحقيقة دينية أو دنيوية.
الهوية في عصر تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة لم تعد ساكنة، تعدّدت وجوهُها وأبعادُها، ولا يمكن أن تظلّ ذاتَ وجه وبعد واحد، لأن الواقع الشديد التحول يفرض عليها أن تصير متعددةَ الوجوه والأبعاد، تتعدد عناصرها وتتنوع مكوناتها تبعاً لتعدد وتنوع إيقاع حركة الواقع الشديد التركيب والتغير.
بنية الهوية في عالمنا اليوم معقدة، تتألف من سلسلة طبقات متنوعة العناصر، لا تلبث عناصرُها على الدوام في سُلّم ترتيبها، ولا تمكث في موقعها، ولا تقف عند صورة واحدة من صورها، لذلك تتطلب معرفتُها تفكيراً صبوراً، يتوغل في طبقاتها، ويحلّل عناصرَها، ويضئ صورَها المتلاحقة.
الهوية في حالة تشّكّل مستمرة، إذ لا تستطيع أية هوية أن تعزل نفسها عما يجري فيما حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع حادّ ومتسارع للتغيير في كل شيء، ولا يمكن أن يتغير كلُّ شيء فيما تظل الهويةُ ساكنة.
الهوية في حالة صيرورة، بل هي صيرورة لا تكفّ عن التحول المتواصل، لأنها علائقية بطبيعتها، تتحقق تبعاً لأنماط صلاتها بالواقع، وما يجري على الهويات الموازية لها، وذلك يفرض عليها أن يُعاد تكوينها، فتصاغ في سياق: تفاعلها، انفعالها، تضادّها، صراعها، تسوياتها، تساكنها، تضامنها، مع كل ما يحدث في الواقع، وكلّ ما يجري على الهويات الأخرى. ممانعة الهوية ومكوثها في أنفاق الماضي يفضي إلى انغلاقها على نفسها وتحجرها، وفشلها في إعادة إنتاج ذاتها في سياق يواكب ايقاع التحولات، ومن ثم خروجها من العصر.
وعيُ البعض لشيء من صور هذا المأزق ألجأهم لتلفيق الثنائيات المتنافرة، وتركيب كلّ شيء يبهرنا في الحاضر بكلّ شيء مازال يكبل عقولَنا في الماضي، وقد أفضى ذلك إلى أن تتيه عقولُنا في الموضات الفكرية والسياسية، ويغرق تفكيرُنا في إسقاط كل شيء يفتننا اليوم على النصوص الدينية، في محاولة لامتلاك ما يبهرنا ولصقه بهويتنا.
لو قرأنا نماذج من أدبيات النهضة، بعد صدمة اكتشافنا الغرب وعلومه الجديدة، نجدها تسقط بعض الاكتشافات العلمية التي أنجزها غيرُنا على النص الديني، كما فعل الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره: "الجواهر في تفسير القرآن الكريم"، الذي استوعب تفسيرُه لكلّ ما عرفه وقتئذ من العلوم الحديثة، فاتسع لكلّ شيء ما خلا التفسير، وهكذا فعل كثيرون غيره في تلك الحقبة.
وفي مرحلة لاحقة اجتاحتنا فتنةُ الاشتراكية، فأصبح النبي محمد وبعضُ الصحابة كأبي ذر والخلفاءُ وغيرهم اشتراكيين، كما يقول لنا مصطفى السباعي في سلسلته عن الاشتراكية والاشتراكيين في الإسلام، ومحمود شلبي، وغيرهما.
وبموازاة ذلك اجتاحتنا فتنةُ اليسار، فتفشت كتاباتٌ تفتش عن اليمين واليسار في الإسلام، وتسعى لتفسير الإسلام تفسيراً ماركسياً، كما فعل بعضُ الكتّاب العرب، وآخرهم صديقنا حسن حنفي، الذي أصدر العدد اليتيم من مجلته "اليسار الإسلامي"، وكتاباته الغزيرة في هذا السياق، التي يصرّ فيها على تلفيق مقولات متكلمي الفرق المختلفة وفتاوى فقهاء المذاهب المتعددة مع مقولات ومفاهيم اشتراكية وغيرها.
واليوم تجتاحتنا فتنةُ الديمقراطية والليبرالية، بنحو أمسى فيه الإسلامُ ديمقراطياً وليبرالياً، حتى أن أشرس الجماعات الدينية المناهضة للديمقراطية أمست ترفع شعارَ تطبيق الديمقراطية. وكأن هذه الجماعات تتنكّر لأدبيات مؤسسيها ومنظّريها وكتّابها الذين كتبوا الكثيرَ من النصوص التي تزدري الديمقراطية وتبالغ في هجائها وتحذير المسلمين منها، بوصف الديمقراطية في مفهومهم هي التعبير الصريح للحضارة المادية الغربية. وإن كان بعضُ رجالها يتخذ من الديمقراطية قناعاً يختفي خلفه، بغية القبض على السلطة، والتمكن من تطبيق أحكام المدونة الفقهية.
وفي وطننا العراق اليوم مثلاً، تفشى مصطلح "مدنية" سياسياً، وكما هو معروف أن هذا المفهوم ولد وتطور في سياق الفكر السياسي الغربي الحديث، وهو يشي بدلالات لم تولد أو تتشكل في سياق إسلامي، لكن ممثل الإخوان المسلمين في العراق "تلميذ سيد قطب"، أسس حزباً قبل أيام سجّله رسمياً باسم: "التجمع المدني للإصلاح"، وكلّ من له أدنى خبرة بالفكر السياسي الحديث يعلم ألّا دولة مدنية بلا ديمقراطية، وبلا فصل الدين عن الدولة، وبلا فصل الديني عن الدنيوي... بينما يشدّد سيد قطب، في كتابه "معالم في الطريق" وغيره من كتاباته، على جاهلية الديمقراطية، وفصل الدين عن الدولة، وفصل الديني عن الدنيوي، وجاهلية كل الأفكار المنتجة في سياق غربي. والجاهلية كما يصرّح تعني الكفرَ بالله. يكتب سيد قطب: "نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميًا. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!".
ولا نعرف ما الذي سيجري في قادم الأيام من تلبيس للإسلام، وتقويل النص الديني مالم يقله، ونسبة أفكار لمفكري الإسلام لم يفكروا فيها.
لن يخرج الدين من مأزقه، ولن تخرج مجتمعات الإسلام من مأزقها التاريخي، مالم ترسم حدوداً يتكشف فيها مجالُ الدين وحدوده ومجالُ الدنيوي وحدوده، ويكف كتّابنا عن التلفيق ولصق كل ما يغويهم بالدين.
لن نكتشف الطريقَ مالم يكن الدينُ ديناً لا غير، والمقدسُ مقدساً لا غير، والدنيا دنيا لا غير، والآخرةُ آخرة لا غير، والفلسفةُ فلسفةً لا غير، والعلمُ علماً لا غير، والأسطورةُ أسطورةً لا غير، والمتخيلُ متخيلاً لا غير، والأدبُ أدباً لا غير، والفنُ فناً لا غير... لا بمعنى القطيعة الجذرية بين كلّ منها، وإنما بمعنى رسم صورة لكل منها تضئ ملامحَه، وتتعرف على ماهيته، وتحدد إطار موضوعه، وتعلن عن وظيفته.
تجاوز الحدود أنتج الكثيرَ من مشكلات حياتنا. لا يمكن الوثوق بخارطة طريق لبناء دولة وتطور مجتمع، لا يعرف الدينُ فيها حدودَه، ولا تعرف الفلسفةُ فيها حدودَها، ولا يعرف العلمُ فيها حدودَه، ولا تعرف الأسطورةُ فيها حدودَها، ولا يعرف الفنُ فيها حدودَه، ولا تعرف الدولةُ فيها حدودَها، ولا تعرف السياسةُ فيها حدودَها... إلخ.
وهنا تتجلى وظيفةُ الفلسفة ومهمتها في حماية العقل من أن تبدّده الأوهام، وتسكنه الخرافات،
وما تفضي إليه من تشوهات في رؤية العالم. ولعل من أهم ما نترقبه اليوم من الفلسفة في مجتمعات عالم الإسلام أن تكتشف خارطة ما هو دنيوي وما هو مقدس، وترسم الحدودَ الخاصة بكلّ منهما، وتبين المجالات التي يتحقق فيها الدنيوي، والمجالات التي يتحقق فيها المقدّس، والآثار الناجمة عن اختلاطهما واجتياح أحدهما للآخر، فلو ابتلع المقدسُ الدنيوي يحتجب العقلُ ويدخل في حالة سبات، ويضيع الانسانُ في ظلمات بعضُها فوق بعض، ولو ابتلع الدنيوي المقدسَ تحتجب الروحُ وتدخل في حالة سبات، ويضيع الانسانُ في القلق واللامعنى.
لكن "فوبيا ضياع الهوية" والحنين حدّ الشغف بالماضي يجهض التفكيرَ الفلسفي، لأن هذا الخوف وذلك الحنين يفضيان للمزيد من الغرق في مشاغل التراث والغرق في مداراته، وتقليد القدماء في كل شيء، ومع التقليد يكفّ العقلُ عن أن يكون عقلاً، ويكفّ التفكيرُ عن أن يكون تفكيراً.
من يريد أن ينتمي للعصر خيارُه واضح، و من يريد أن ينتمي للماضي خيارُه واضح. أما إسقاط كل ما يغوينا ونتمناه اليوم على نصوصِنا الدينية وتراثِنا البعيد والقريب، فهو ضرب من ضياع العقل واضطراب التفكير.
لا تحديثَ من دون تفكير فلسفي يخترق كلَّ الأسوار التاريخية للعقل، ويتحرّر من أية إسقاطات لاهوتية، وأنساق راسخة تقلّد الماضي كما هو. التفكير الفلسفي الذي يخرج من أسوار العقل التاريخية يهزم ممانعةَ التقليد، ويكفل إنتاجَ رؤية تواكب صيرورةَ العالم. يعتقد هيغل: "إن ما يميز الحداثة: أنها مرحلة تاريخية جديدة، لا تبحث عن أصول لها في حقب سابقة مثلما فعل فكر النهضة، ولا تربط نفسها بأية حادثة سابقة تجد فيها ما يبرر وجودها، بل تأخذ الأحداث الحاضرة على أنها نقطة الانطلاق، التي ينظر بها إلى كل من الماضي والمستقبل".
أخشى على عقول التلامذة من الاضطراب والتذبذب والتلبيس في تلقي وفهم الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة الغربية، عندما نصرّ على تعليمهم الفلسفةَ والعلومَ الإنسانية الحديثة الغربية عبر قوالب وأوعية نصوصنا وكتابات مفكري الإسلام، ذلك أن الفلسفةَ والعلوم الإنسانية الحديثة تتحدث لغةً لا تنتمي للغة أفكار ماضينا ومعظم حاضرنا.
أيّ ضرب من التبسيط في التعاطي مع الفلسفة والعلوم والمعارف الحديثة لهو تواطؤٌ مع الجهل. تعلّمُ الفلسفة والمعارف والعلوم والمعارف يتطلب الدخولَ من أبوابها، فلا يمكن أن تكون طبيباً بمطالعة عشوائية للمقررات التعليمية في كلية الطب، ولو طالعت ألف كتاب مرجعي في الطب، وهكذا لا يمكن أن تصبح متخصصاً في الفارابي وابن سينا وابن رشد وملا صدرا، وكانط أو هيغل أو هوسرل أو هيدغر بمطالعات عشوائية لكتاباتهم.
لو أعطينا الفلسفةَ كلَّ عمرنا لا تعطينا إلّا بعضَها. استغرق كانط 12 سنة في كتابة "نقد العقل المحض". يصف موسى مندلسون أحد زملاء كانط هذا الكتاب بأنه: "عمل موتر للأعصاب". وقد كتب كانط إلى موسى مندلسون في 16 أغسطس 1783 يقول: مع أن الكتاب "ثمرة تأمل شغلني على الأقل اثني عشر عاماً، فإنني أكملته بأقصى سرعة في أربعة أشهر أو خمسة، باذلاً أبلغ العناية بمحتوياته، ولكن دون اهتمام يذكر بالعرض أو بتيسير فهمه للقارئ - وهو قرار لم أندم عليه قط، وإلا فلو تباطأت وحاولت صياغته في شكل أكثر شعبية لما اكتمل العمل إطلاقاً في أغلب الظن".
الفلسفةُ الغربية، والألمانية منها خاصة منذ كانط، دقيقةٌ، شديدةُ التركيب، حتى إن بدت بسيطةً فهي بالغة العمق، وربما الغموض، لا تبوح بأسرارها بقراءة عابرة، أو نظرة عاجلة، بل
يتطلب الفهمُ والاستيعاب الدقيق لأحد اتجاهاتها سنوات طويلة من الدراسة على يد متخصصين خبراء، والكثير من المطالعات المتبصرة والنقاشات الصبورة.
التباس فهم الإسلاميين لهذه الفلسفة يعود إلى أنها تنتمي إلى عالم مفاهيم مفارق لعالم مفاهيم الفضاء المعرفي لعالمنا. هذه الفلسفة ولدت في سياقات فلسفية ولاهوتية أخرى، تفكر خارج أسوار المنطق الأرسطي الذي يفكر فيه مفكرونا، وتتحدث لغة خارج مواضعات لغة فلاسفة الإسلام ولاهوته. يقول د. مهدي حائري يزدي، وهو يتحدث عن دراسته وتدريسه للفلسفة الغربية في كندا، وبيان موقفه الإيجابي منها: "من يقتصر على دراسة واحدة من الفلسفتين، لن يفهم الأخرى؛ لأنهما موضوعان منفصلان، فلو درس الطالبُ الفلسفةَ الإسلامية ووفّاها حقَّها، من دون أن يطّلع على الفلسفة الغربية اطلاعاً منظّماً دقيقاً، لم يفهم كنهَ الفلسفة الغربية، والعكس صحيح أيضاً. مثال ذلك ترجمات أعمال كانط إلى الفارسية والعربية، التي أعتقد أنه حتّى حبراً كالعلامة الطباطبائي لن يستطيع تكوين فكرة جليّة عن فلسفة كانط من هذه الترجمات، ناهيك عن الأشخاص العاديين"[1].
ربما يتعذر فهمُ الفلسفة الغربية الحديثة بعقلية أرسطية، وهو ما سقطت فيه محاولاتُ فهم جماعة من دارسي هذه الفلسفة ممن تعلموا المنطق الأرسطي وتشبع وعيُهم في مدارات براهينه وأشكال قياساته، وتمرّسوا في استعمال أدواته في محاججاتهم الفلسفية والكلامية والفقهية والأصولية؛ لأن كلَّ محاولة للفهم تفكر في إطار معرفي لا ينتمي لعالم مفاهيم الفلسفة الغربية الحديثة سيفضي فهمها إلى نتائجَ تفرضها مقدماتُ براهين وأشكالُ قياسات المنطق الأرسطي.
يحدّثنا د. إمام عبدالفتاح إمام، عن تجربته مع هيغل، وهو أبرز متخصص في فلسفة هيغل ومترجم الكثير من أعماله وما كتب عن فلسفته للعربية، أنه بعد أن تخرّج ونال شهادة الليسانس فلسفة قرّر أن يدرس في الماجستير الجدلَ في فلسفة هيغل، لكن تعذّر عليه فهمَه لعامين متواصلين، ويفصح هو عن السبب في ذلك بقوله: (هكذا بدأت أدرس هيغل، فبدأت أجمع مؤلفاته من ثلاثة مصادر: المكتبات، مكتبة جامعة القاهرة وعين شمس. الزملاء من الخارج. وشراء ما أجده. وأدرس اللغة الألمانية. كان أول كتاب عثرت عليه هو: "ظاهريات الروح". شرعت أقرأ نصوص هيغل لمدة عامين دون أن أفهم شيئاً، فلجأت إلى التفسيرات والشروح، لكني لم أتقدّم خطوة واحدة. ولم تكن صعوبةُ الفهم راجعةً إلى وعورةِ المصطلحات، وهي وعرة فعلاً، ولا إلى صعوبةِ الفلسفة الهيغلية، وهي صعبة فعلاً، ولا إلى اللغة، وإنما كانت تعود إلى عامل لم أتبينه بوضوح إلا بعد فترة طويلة، وهو أنني أقدمت على قراءة هذا الفيلسوف بعقلية أرسطية. بمعنى أنني كنت أفهم جميعَ المصطلحات الفلسفية التي استخدمها هيغل على نحو ما فهمها المعلّم الأول، ومعاجمنا الفلسفية مدينة للفلسفة اليونانية، ولأرسطو خصوصا، بالشيء الكثير).
أسوأ تزوير للفلسفة أن يُستعمَل اسمُ الفلسفة ضد الفلسفة، وأسوأ تشويه للعقل أن يُستعمَل اسمُ العقل ضد العقل. مثلما أن أسوأَ انتهاك لقيم السماء والأرض أن يُستعمَل: اسمُ الله ضد الله، واسمُ الأخلاق ضد الأخلاق، واسمُ القانون ضد القانون، واسمُ الحرية ضد الحرية، واسمُ الدولة ضد الدولة، واسمُ الوطنية ضد الوطن.
[1] مقطع من حوار مطول معه سينشر في ملف خاص بنقد الفلسفة الاسلامية يصدر في عدد قادم لمجلة قضايا اسلامية معاصرة. مع العلم ان مهدي حائري يزدي حاصل على درجة الدكتوراه في المنطق الرياضي من كندا، وكان أستاذاً لكتاب الأسفار الأربعة لملا صدرا الشيرازي في حوزة قم، وأستاذاً للدراسات العليا في كلية الالهيات والمعارف الاسلامية بجامعة طهران. وحاصل على اجازة بالاجتهاد من المرجع الشهير السيد حسين البروجردي في حوزة قم، قبل أكثر من نصف قرن.