لماذا أحبّ الكتاب المقدس ولماذا لا أحبّه؟
فئة : مقالات
لماذا أحبّ الكتاب المقدس ولماذا لا أحبّه؟
أعتبر الكتاب المقدس أقرب الكتب التي يطلق عليها لفظ مقدسة أو إلهية إلى الكمال روحيا وأخلاقيا؛ أي إنه - بصدق شديد- لا يجعل المرء واثقًا مئة بالمئة، ولن تعجب به مئة بالمئة، ولكنه أفضل الكتب الموجودة التي تزعم أنها موحى بها من الله في رأيي المتواضع، تبهرني البوذية مثلا في مبادئها الجوهرية، ولكنها لا تحاول إعطاءك الوعد بالعون الخارجي من قوة عليا، ولا تقدم هذا الإحساس بالرعاية الأبوية من قبل الخالق، كما تعطيه أسفار العهدين القديم والجديد، وهذه الأبوية إن كنا نبغضها لأسباب إلا أننا، كبشر في عالم ضاري كهذا، نحتاجها أيضا.
في الصفحات الآتية وربما في مقالات أخرى تالية، سأحاول مناقشة الأمور التي أرى فيها حكمة وعونا للنفس الإنسانية، والأمور التي من شأنها دفع المرء للتشكك.
ولأبدأ بسفر التكوين، وهو أول أسفار العهد القديم، ويحكي الإصحاح "الفصل" الأول قصة الخلق التي نجد قصة تعتبر مشابهة لها لأبعد حد في القرآن، وقد لفت نظري أيضا أثناء دراستي لهذا السفر قصة من قصص الخلق في الديانة المصرية القديمة، والتي تحكي عن الطائر المقدس "رع" الذي استقر فوق الأرض الأزلية "الجزيرة" التي بزغت من المياه الأزلية وباركها، ثم بدأ في بناء سور من القصب حولها، ليفصل هذه الأرض المباركة "المقدسة" عن العالم الخارجي، وهذه القصة بالمناسبة تعبّر عن مفهوم المجتمع المصري القديم؛ أي مجموعة المعابد والأبنية التي أحاطت بالهرم، ومن حولها سور يفصل هذا المكان المقدس عن العالم الآثم. في سفر التكوين، نجد روح الله «الذي يظهر كطائر أحيانا" يرف فوق الأرض الخربة الخالية، وعلى وجه الغمر "المياه" ظلمة ! بالنسبة إلى كثيرين، فإن هذا التشابه مع الرواية المصرية القديمة يعدّ دافعا لاعتبار التكوين عبارة عن ترجمة أخرى أو نقل بتصرف لكتاب أقدم، إلا أنه في الواقع وبضمير صاف أجد أن هذه القصص المتشابهة التي نجدها في حضارات مختلفة بعيدة مكانيا وزمنيا أحيانا عن بعضها قد تكون دلالة على صدق القصة، فقصة الطوفان مثلا نجدها في مصر القديمة، وفي التوراة وفي أساطير بابل، فهل يمكن تفسير هذا بحدوث كارثة عالمية تناقلتها أجيال لشعوب مختلفة، وعبر عنها كل بطريقته؟ وهل يمكن قياس هذا على باقي الأمور المتشابهة ؟ ألا يمكن اعتبار هذا دلالة على وجود حقيقة معينة أرى جانبا منها، وترى أنت منها الجانب الآخر أو نراها بعين واحدة، ولكن نعبر عنها بصور مختلفة؟
نعود لقصة الخلق، والتي فسرها أحد رجال الدين المسيحيين المصريين بأنها تقصد "باليوم" حقبة جيولوجية؛ ففي يوم أي حقبة ظهرت الزواحف، وفي يوم أي حقبة أخرى حدث هذا وذاك إلى أن نصل إلى مرحلة ظهور الإنسان. وقد قام بمطابقة الحقب بأيام الإصحاح ليدلل على صحة رأيه، ويرى بابا الفاتيكان الحالي أيضا، أن القصة المذكورة لا يمكن أخذها بحرفية، فالله ليس ساحرا ينفخ في بعض الطين فيصير إنسانا، ولكن لأن الكتاب المقدس قد كتب عن طريق الوحي وليس الإملاء، فإن الكاتب استخدم اللغة التي توائم تطوره الفكري وبدائية عصره، وقد أترجم العبارة التي تتحدث عن خلق الإنسان "وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسا حية. تك2:7" كالآتي : أن الروح "الحياة" في الإنسان مصدرها الروح الأعظم الساري في الموجودات، وهو الذي يعطي الجسد المادي القدرة على الوجود.
إشكالية تواجهني هنا، وهي خلق حواء من ضلع آدم، ومن الصعب تطبيق فكرة الرمزية هنا؛ إذ نصدم بعبارة: ألقى الله ثباتا على آدم، فنام فأخذ ضلعه...إلي آخر القصة، يعطيني هذا السرد إيحاء بأن القصة لم يقصد بها الرمزية، وإلا فما معنى أن الله ألقى عليه سباتا؟ وهل يعد هذا إجحافا لحواء، أنها أخذت من ضلع آدم؛ أي كأنها مكمل له لا كيان مستقل كما نؤمن كلنا الآن؟
يستمر السفر مصوّرًا حال الرجل والمرأة بعد العصيان، وانتقالهما من حالة البراءة الأولى إلى حالة الخوف والاختباء والشعور بالإثم والخجل من جسديهما، ثم تحلّ عليهما اللعنة، ولكن في نفس الوقت يدبر الله طريق الخلاص، والذي يبدأ الرمز إليه من سفر التكوين كما سنرى، حتي يحققه العهد الجديد بصلب المسيح فداء عن البشر، ونجد أن الشفرة، أو الرمز للمسيح يتكرر بنفس الشكل في كثير من أسفار العهد القديم، والرمز هنا هو استخدام الذبيحة الحيوانية، والتي ترمز لصلب المسيح "الذبيحة الإلهية" كناية عن أن التبرير نعمة "هبة" من الله، فقد ألبسهما الله أقمصة من جلد حيوان ليسترهما عوضا عن "أوراق التين"، ودائما ما كانت ترمز المزروعات في العهد القديم إلى "العمل البشري"، وهي ترمز لعمل الإنسان للوصول لله بجهده الشخصي، أو كما أفسرها أنا: بافتعال! وهو أمر منبوذ، فالفكرة هنا أن ما يفعله الإنسان ليظهر صالحا "أي ليستر عورته كما فعل آدم بورق التين" ليس كافيا، وإن ما يسترك هو الله، هو عمل الله "الذي يرمز له هنا بالذبيحة التي ذبحت لعمل قمصان الجلد، وكما ذكرت هي إشارة للذبيحة الحقيقية : "المسيح"، ولا أخفي إعجابي بهذه الرمزية، وهي كالشفرة المتضمنة في الأسفار المكتوبة في أزمنة متعاقبة، وعن طريق كتاب مختلفين، وهي فعلا تأخذ معناها وتتحقق في العهد الجديد الذي يخبرنا عن صلب المسيح؛ فالعهد الجديد الذي كتب بعد ذلك بآلاف السنين وعن طريق أشخاص اعتبرهم اليهود مارقين، يكمل الصورة بشكل محكم للغاية، فكأن هناك فعلا شخص موجود على مر الأعوام يذكر من يكتب أسفار التوراة الخمسة بالذات بهذا الوعد "الافتداء من اللعنة"، ويضع نفس الإشارة .فنجدها في سفر الخروج أيضا، إذ أمر الله بني إسرائيل بوضع علامة "الدم" على أبوابهم حتى يمرّ ملاك الموت فلا يهلكهم .
من ناحية أخرى، نجد إشكالية كبيرة في سفر التكوين، وهي سني حياة نسل آدم، والتي عندما نقوم بحسابها يتضح لنا أن عمر الإنسان لا يزيد عن بضعة آلاف من السنين، ولكننا الآن نعلم أن الإنسان عمره يرجع لمئات الآلاف من الأعوام على الأرض، والاكتشافات العلمية مستمرة لهياكل عظمية لأنواع عتيقة من البشر، فهل هذا يثبت خطأ الكتب الإبراهيمية كلها، أم إن الكتاب المقدس كما يعتقد بعض المفسرين عني فقط بالإنسان الذي نعرفه بحالته الآنية، والذي بدأت من خلاله قصة السقوط لا بالإنسان الأول كما نعتقد؟ وحجتهم أنه لم يكتب ليكون كتابا علميا، بل كتب لهدف معين وبلغة يستطيع أبناء ذاك العصر أن يفهموها ،لا لكتابة قصة الجنس البشري؛ لذا فهو يجعل همه فقط حكاية قصة التواصل بين الله وسلسال معين من البشر بشكل مباشر(بالمناسبة، يقر الكتاب المقدس بعهديه بأن اختيار اليهود للتواصل معهم بهذه الصورة ليس تفضيلا لهم، فهذا لا يجعلهم أكثر صلاحا، وإنما ما يجعل اليهودي أو غيره، وفقا للكتاب، صالحا، هو العمل بالناموس-"القانون الإلهي" - فحتي لو لم يصل له هذا القانون مكتوبا فالخير والشر معروف بالطبيعة وبالفطرة ) .
نجد في سفر الخروج الوصايا العشر المعروفة، ولا جدال في أن أمورًا مثل القتل والسرقة تستوجب العقاب، ولكن ماذا عن "الزنا " ما المقصود به؟ هل هو إقامة علاقة خارج إطار الزواج كما يفهم الكلمة أغلبنا هنا، أم كما يراها الكثيرون في الغرب مرادفا للخيانة الجسدية ؟ فإن كان المقصود به العلاقة الجسدية، لماذا تعتبر شرا إذا ما كانت بموافقة الطرفين؟ إن الليبراليين الغربيين يمارسون حياتهم الجنسية بحرية، ( وأرجو التفرقة بين الحرية وصورة الفوضي الجنسية التي تتمثلها مخيلة الشرقي المحروم عندما يسمع عن الحرية الشخصية في الغرب)، لا نجد في الأمر شرّا أو سوءا، بل نجد احتراما و تقديرا للمرأة لا نجده في شرقنا المتحفظ، ونجد تقدما وتطورًا في شتى مناحي الحياة لا جدال في كونه ينبع من فضيلة الحرية المسؤولة.
ومن أكثر الأمور التي تزعجني: الرجم كعقاب لمن ينقض شرائع معينة. أصارحك القول إني لا أجد غضاضة أبدا في تعذيب بعض المجرمين (كمغتصبي الأطفال مثلا) حتى الموت، ومن منا لا يرى صورًا لضحايا داعش في التلفاز أو على شبكة الإنترنت، ولا يشعر بأن التنكيل بهؤلاء القتلة هو الرد العادل الوحيد على أفعالهم الشيطانية، ولكن التوراة جعلت من الرجم عقابا مثلا للفتاة التي يكتشف زوجها ليلة الزفاف أنها ليست عذراء، أو للفتاة التي تضاجع رجلا بغير زواج، لا أستطيع أبدا الموافقة على هذا، ويقول قائل إن هذه الشرائع واكبت تطور العقلية الإنسانية آنذاك، وقد وضعت لتنظيم العلاقات، وهي نصف القانون؛ فالقانون الإلهي لا يكتمل إلا بالعهد الجديد، ولكن الحقبة التي مرت على نزول أو كتابة الشريعة ثم مجيء المسيح بشريعة الرحمة قد رسخت في ضمير ووجدان الإنسانية لأمد طويل جدا مفاهيم، أعتذر عن تسميتها بالرجعية.
وكذلك كان الرجم عقابا على أمور مثل سبّ الله أو الملك، ولماذا الرجم؟ إذا كان لابد من إنهاء حياة الخاطئ، فلما لا يقتل بشكل أكثر رحمة و سرعة؟
أحاول تصور أن الله نفسه كان يتدخل لمنع تنفيذ مثل هذه الأحكام كما حدث مع داود النبي الذي تسبب في قتل أحد رعيته عمدا ليزني بامرأته، فهو مستحق القتل، ولكنه ندم أشد الندم فسامحه الله؛ فهل يكون الرد على تساؤلاتي السابقة هو أن اللعنة، العقاب حاضر لكنه لا ينفذ طالما الله حي ورحمته حية كذلك وحاضرة لمن يطلبها؟
فالمؤمن بوجود الله كما ذكرت سابقا، يجد في الكتاب المقدس أمورًا يتعلق بها ويصدق عليها إنسانه الباطن، فهناك المحبة غير المشروطة، والمغفرة، كما نجد في قصة داود وغيرها الكثير. وهناك وعود كثيرة بالمعونة في أحلك الأوقات، وهناك الرب "الأب" لخليقته كما نجد في قول الله في سفر إشعياء: هودا على كفي نقشتك، وفي سفر زكريا: من يمسكم يمس حدقة عينه، وفي إشعياء أيضا: لو نسيت الأم رضيعها أنا لا أنساكم، وغيرها الكثير. لا يترك الكتاب المقدس شعورا سلبيا، كالقهر، الخوف، الرفض، الإحساس بالدونية، المعاناة من الفقر أو المرض الميئوس منه، وغيره ، إلا ويضخ فيك مقابله أملا كبيرا في النجاة، فهو يعطيك الثقة بأنك لست وحدك، وأن هناك قوة كبيرة تعضدك، لقد جعلني هذا لا أخشى التصريح برأيي أو فعل ما أراه صوابا بغض النظر عن التيار السائد، إذ تشبعت بيقين مؤداه أن مصيري ليس رهنا بإرادة أشخاص، ولكنه رهنا بمشيئة الله التي تختلف عن القدر أو النصيب المعد سلفا، إذ يعطينا الكتاب أمثلة لمؤمنين استطاعوا بتعلقهم بالله وثقتهم فيه إحداث تغيير في مجرى الأحداث، ولم يقصر الكتاب هذه العلاقة بين الله والمؤمن على الأبرار ذوي الحيوات الكاملة الصلاح، بل على هؤلاء الذين يراهنون على صلاح الله بحياتهم لا على صلاحهم الشخصي.
كما أنه، لم أختبر أبدًا موقفا شديد الصعوبة طلبت فيه المعونة ولم تأت، وليس معنى هذا أن كل الصلوات قد تحققت، بل الكثير منها لم يتحقق، ولكني أزعم أنه في المواقف الخطرة، المهلكة، يجد المؤمن دائما "المعية" عونا له. وهذا ما يعنيه المسيحيون "بالاختبار"؛ أي التجربة الشخصية ولا تصلح هذه الشهادات في مواقف المناقشات العقلية، ولكن لا يستطيع المرء تجاهلها، مثلها مثل الكثير من المفاهيم التي لا يمكن للمرء التعبير عنها بأسلوب منطقي أو قياسي أو علمي كالمحبة، الأمل أو الحكمة .
نعم، إن هناك أمورا كثيرة محيرة، يقول آينشتين: "نحن البشر في هذا العالم مثلنا كمثل أطفال تركوا في مكتبة تضم كتبا كثيرة مكتوبة بلغات غريبة، ونحن نحاول أن نفهم هذه الكتب، وأن نعلم من كتبها". وأعتقد أن الإيمان الحقيقي لا يرهب الشك ولا يخشي السؤال، فمن يعتقد في وجود إله، ينبغي أن يكون حسن الظن به، فلا يتوقع منه ظلما أو إرهابا أو قمعا للفكر، ولا ينبغي له تصور هذا الإله حاكما مستبدا يطلب من رعيته إخفاء ما بقلوبهم، والتظاهر بعكس ما يشعرون به. وهناك دائما أمل في سبر ولو بعض أغوار هذا الغموض. أعتقد أنه من المهم بمكان أن نتخلى عن الدوجمائية البالغة والأحكام المسبقة؛ فهذا وحده ما يجعل المرء منفتحا لتقبل وفهم أمور جديدة، يقول مارتي إنديك : الارتباك "الحيرة" هو أصدق إجابة ! وأنا أفضل الإقرار بالحيرة عن إدعاء اليقين.