لماذا نفشل في الاستجابة للكوارث؟
فئة : قراءات في كتب
لماذا نفشل في الاستجابة للكوارث؟
قراءة في كتاب: "الموت: سياسات الكارثة" لنيال فرغيسون
(Doom: The Politics of Catastrophe, by Niall Ferguson)
محمد غاشي
تعدّ الكوارث حتمية طبيعية، ويبقى سؤال التنبؤ بها أمراً مستعصياً جدّاً، بل ربّما مستحيلاً إلى أبعد مدى، إذ لا يوجد قانون في الاجتماع البشري، يمكن أن يساعدنا على توقع الكارثة التالية واستشرافها. ومع ذلك، بإمكان التاريخ كعلم وتخصّص أكاديمي أن يوفّر دروساً للحكومات في كيفية الاستجابة وطريقة تعاملها مع الكوارث لحظة وقوعها؛ بمعنى ما، أن التاريخ يساعدنا في جعل القضايا الراهنة أكثر وضوحاً ودراية في التعامل معها، من خلال استخلاص الأفكار والقوانين مما حدث قبل ذلك.
ضمن هذا الإطار العام، صدر مؤخّراً كتاب تحت مسمى "الموت: سياسة الكارثة"، لواحد من أشهر المؤرخين في العالم راهناً - نيال فرغيسون - الأمريكي الجنسية ذي الأصول الأسكتلندية. صاحب ستة عشر كتاباً من أهمها: "بيت روتشيلد"، "صعود المال"، "الغرب والبقية"، "العلاقات النقدية: المال والسلطة في العالم الحديث 1700-2000"، "كيسنجر: المثالي 1923-1968".
يعدّ هذا الكتاب - الموت: سياسة الكارثة -، في الحقيقة عملاً تاريخياً، يقدّم عرضاً شاملاً لأكبر الكوارث التي تهدّدت البشرية عبر تاريخها الطويل، والتي تتراوح في مجملها بين: الأوبئة، الكوارث الطبيعية، الأزمات العسكرية والاقتصادية، والأخطار المهددة للأمن القومي (الإرهاب، الحروب، الأسلحة النووية ...إلخ). على هذا النحو، كان المنطلق والدافع الأساس لتأليف هذا الكتاب هو حقيقة مفادها أنّ ردود أفعال العديد من الدول المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، تجاه جائحة كوفيد-19، كانت متعثّرة جدّاً، أو ربّما فاشلة للغاية.
بناءً عليه، فإنّ الهم والقلق المعرفيين اللذين صاحبا نيال فرغيسون على طول صفحات هذا العمل، هو الإجابة عن الإشكالات التالية: لماذا هذا الفشل؟ لماذا لم يتعلم سوى عدد قليل من الدول الآسيوية الدروس الصحيحة من أوبئة شبيهة مثل (السارس ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية)؟
في إجابته عن هذه الأسئلة، ينتصر فيرغيسون للتاريخ كتخصّص، من خلال الكشف على حقيقة مفادها أنّ المعرفة التاريخية يمكنها أن تجعلنا مستعدين بشكل أفضل، ممّا كان عليه الطرواديون عندما حاصرهم الإغريق، أو الرومان عندما انفجر بركان فيزوف، أو الأوروبيون لحظة تفشي الطاعون (الموت الأسود)، أو الأمريكيون مع تهاوي بورصة نيويورك (الأزمة الاقتصادية لعام 1929)، أو انتزاع الأسلحة الكيماوية من الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة ... إلخ.
سعياً وراء هذه الرؤى، يتم أخذ القارئ بوتيرة سريعة من خلال مسح شامل وتركيبي للأحداث الكارثية التي تتراوح ما بين تلك التي نعتقد أو ندّعي أننا نعرف الشيء الكثير عنها بالفعل (كالحرب العالمية الأولى والثانية؛ غرق التايتانيك)، إلى تلك التي كان يجب أن نعرف المزيد عنها حقًا كالطاعون الأسود، الإنفلوانزا الإسبانية، الأزمة العالمية لسنة 1929، إعادة بناء النظام والسلام العالي.
لقد صاغ فريغسون عمله هذا ليس فقط باعتباره سرداً يستجيب للموضة وإرضاءً لتعطش الجمهور حول المعرفة حول الكوارث الماضية؛ فالهدف الرئيس للكتاب ليس الماضي كماضي في حد ذاته، وإنّما الحاضر والمستقبل على حد سواء. الكتاب فرصة لبدء النقاش حول أهمية التاريخ في فنّ الحكم، وهو انتصار لتقليد سنّته جامعة هارفارد تحت إشراف المؤرخ الاقتصادي نيال فرغيسون، وعالم السياسة غراهام أليسون، حول ما سمّي بـ "التاريخ التطبيقي"، الذي يهدف إلى تسليط الضوء على التحديات السياسية الحالية، من خلال تحليل السوابق التاريخية ونظيراتها.
فعلى سبيل المثال: إنّ دراسة تاريخ الأوبئة كالطاعون (الموت الأسود) يمكن أن تنطبق دروسه بشكل عاجل على كيفية استجابة الحكومات الحالية في تعاملها مع الجوائح الحالية كتفشي الفيروس التاجي (الحجر الصحي، والتباعد الاجتماعي، والنظافة ...إلخ). كما أنّ التاريخ الاقتصادي، يمكن أن يوفّر لنا إطاراً عاماً لفهم استجابات المصرفيين والاقتصاديين الأمريكيين لأزمة 1929، وهو من شأنه أن يؤدي أيضًا بشكل طبيعي إلى اكتساب خبرة حول الأسواق المالية، وكيفية مواجهة الاختراق المحتمل لتضخم الرساميل والكساد الاقتصادي، وخطر الحمائية وغيرها من التحديات، التي تهدّد بتقويض الاقتصاد العالمي القائم أساساً على اللبرالية الاقتصادية والتجارة الحرة (Laissez Faire Laissez Passer).
من زاوية أخرى، فإنّ الكتابة عن مخاطر الحرب النووية التي ظلت تهدّد العالم لربع قرن بحكم الصراع الأمريكي السوفييتي خلال نظام القطبية الثنائية، يمكن أن يوفّر الدروس للإدارة الأمريكية الجديدة لبلورة سياسة خارجية فعّالة تستجيب للمخاطر التي تواجهها، ومن المرجّح أن تواجهها في المستقبل القريب، خاصة في ظلّ الصعود الصيني القوي. الذي ذهب نيال فرغيسون نفسه، منذ مدّة إلى وصف هذا الصعود بأنه إشعار بنهاية الهيمنة الأمريكية والنظام العالمي القائم على القطبية الواحدة، ودخول مرحلة تاريخية جديدة وصفها بـ "الحرب الباردة الثانية". ومن مؤشراته على ذلك، التنافس الشرس أو لنقل الحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين من جهة؛ ومن جهة ثانية، التحالفات الإيديوسياسية التي بدأت تتشكّل بين أمريكا وحلفائها التقليديين (بريطانيا، والاتحاد الأوروبي، ودول الخليج)، وتحالف القوى الاستبدادية بقيادة الصين وروسيا بوتين وكوريا الشمالية، حيث تعرف الدول الثلاث تعاوناً متزايداً في مسائل تتعلّق بالأساس بمسألة الأمن القومي والطاقي وغيرها.
على هذا النحو، إن صدى تحذير نيال فرغيسون من أن الولايات المتحدة والصين "في سفوح حرب باردة" يوحي ببصيرة مشعّة ورؤية استشرافية مهمّة لدى هذا المؤرخ، يمكن قياسها على الأقلّ من خلال الاتهامات بين إدارة ترامب وشي جين بي حول الفيروس التاجي، وسوق اللقاح. لكن الأهم من كل ذلك هي التوترات التي ظهرت بالفعل في ألاسكا في مارس الماضي، في أعقاب أول اجتماع أمريكي صيني تحت رئاسة الوافد الجديد على البيت الأبيض جو بايدن.
استناداً إلى ما سبق، فإنّ الكتاب الصادر حديثاً لنيال فرغيسون يمكن القول عنه بكثير من الاطمئنان المعرفي، إنّه يشكّل حتماً خريطة الطريق ودليلاً مرجعياً يجب على الحكومات ومهندسي السياسات العمومية العودة إليه، لفهم التحدّيات التي يتعاملون معها من منظور تاريخي. علاوة على ذلك، يمكن لهذا المؤلّف أن يمنح رجل الدولة أو صانع القرار السياسي الحكمة التي توصّل إليها أسلافهم، بتكلفة كبيرة وربّما أحياناً بعد فوات الأوان. ها هنا، صحيح أنّه لا يمكن صنع السياسة فقط على أساس المعرفة التاريخية، لكن الجاهل وحده هو الذي يتجاهل ما يمكن أن يقدّمه التاريخ.
ومع ذلك، يجب الانتباه إلى محاذير يجب تفاديها كنوع من التواضع المعرفي؛ "فالتاريخ ليس مطبخاً يقدّم وصفات جاهزة، ولكنه يعلمنا عن طريق القياس وليس الاستنساخ"، وفقاً لهنري كيسنجر. وتبعاً لذلك، فالموت هو درس التاريخ الذي يحتاجه هذا البلد (الولايات المتحدة الأمريكية) - في الواقع الغرب ككل - إلى التعلم منه بشكل عاجل وفقاً لنيال فرغيسون، إذا أراد التعامل مع الأزمة الحالية بشكل أفضل، وتجنب الموت النهائي المتمثل في الانحدار الذي لا رجعة فيه.
الكتاب ليس مديحاً للتشاؤم، ولكنّه تحذير من الحماقات الماضية لتعثر الاستجابة الحكومية في تعاطيها مع الأزمات من جهة، ومن جهة أخرى، دعوة للتفكير واستئناف لمسار رسمه فرغيسون لنفسه منذ مدّة، تعود إلى ما يقرب من عشرين عامًا، بما في ذلك (Colossus: The Rise and Fall of the American Empire)، و(the great degeneration: how institutions decay and economies die)، والتي درس فيها نيال فيرجسون نقاط الضعف في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوجه قصور السياسة الأمريكية من الغطرسة الإمبراطورية إلى التصلب البيروقراطي والهجمات السيبرانية، وفق مقاربة متعددة التخصصات (التاريخ، الاقتصاد، السياسة، علم الاجتماع، الرقميات، الذكاء الاصطناعي ...).
على سبيل الختم، لا بأس أن نكتب مع رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، ووزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر "التاريخ ليس مطبخ يقدم وصفة جاهزة، لكن كلما طال النظر إلى الوراء، كلما كان بإمكانك التطلّع إلى الأمام"، هذا هو جوهر الدرس، أو درس الدرس الذي أراد نيال فرغيسون أن يعلمنا إياه، فهل من معتبر؟