لمعان العلوم العربية القديمة: قراءة في كتاب "العلوم العربية في عصرها الذّهبي"
فئة : مقالات
لمعان العلوم العربية القديمة:
قراءة في كتاب "العلوم العربية في عصرها الذّهبي"
شهدت العلوم العربية ما بين القرنين الثامن والسادس عشر الميلاديين نموًّا وازدهارًا لافتين؛ حيث صارت الحضارة العربية الإسلامية، في تلك الحقبة، مرتعًا لكل العلوم، التي وسمها التنوع، وسعيها خدمةُ الإنسان، حيث حضر علم الفلك، والطب بشقيه التقليدي والعالِم، والجغرافيا سواءٌ البشرية الرّامية إلى تجميع المعلومات عن سكانِ حيّزٍ جغرافيٍّ معيّن، أو الجغرافيا الرياضية التي تتغيّا إنجاز خرائط عن العالم وتضاريسه، والتي أنُجزت لأوّل مرّةٍ خلال القرن التاسع الميلاديّ خلال فترة تقلُّد المأمون للخلافة. بالإضافة إلى علومٍ أخرى عرفت انتعاشًا جليًّا كالكيمياء، الجبر، الهندسة، والميكانيكا في شقّيها النفعي والمُسلِّي... إلخ، بيد أنّ هذا التنامي الكبير للعلوم العربية في تلك المرحلة ما كان ليتحقّق لولا تلك الخدمة الجسيمة التي أسدتها الترجمة للعرب، حيث شكّلت رافدًا مهمًّا مكّنهم من الانفتاح على باقي الحضارات والنهل منها، ونجد في مقدمتها: الحضارة اليونانية، الصينية، البابلية، الفارسية.
أفرد المفكّر الجزائري أحمد جبّار كتابًا كنّاه بعنوان: "d’or des sciences arabes L’âge"
سعى فيه لتبيان الحقبة اللامعة للعلوم العربية، وإسهامها الكبير في تحقيق نهضة العرب في زمنٍ ولَّى، وبيّن فيه أيضًا الدور المحوريّ الذي شغلَتهُ الترجمة في تحقيقها، ولم يُهمل المُساهمة الفعّالة والجادّة التي قام بها العرب في البيئة الغربية، ويظهر ممّا ذَكره جبَّار، في هذا الباب، أنّ الغرب متحوا كثيرًا من إسهام الحضارة العربية الإسلامية. لقد انبرى الدكتور "محمّد نعيم" لترجمته ترجمةً أنيقة، تنمُّ عن عنايته الفائقة باللغة العربية وتضاريسها، وتمكّنه من مقاليد الترجمة، حيث كانت لغة الكتاب سلسة، تحاشت التكلّف، وأغناها بالملاحظات القيّمة، في الشكل والمضمون، التي احتلت هوامش الكتاب. وقد صدر الكِتاب في طبعته الأولى، مُترجَمًا بعنوان: "العلوم العربية في عصرها الذّهبي"، عن دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع، سنة 2021م، ويقع الكِتاب في 141 صفحة من القطع المتوسط.
تنضوي عبارة "الحضارة العربية الإسلامية" على الكثير من اللبس، حيث يظهرُ من خلالها إقصاءٌ جائر لباقي الطوائف التي شكّلت الملامح المعرفية والعلمية للرّقعة العربية من مسيحيين وبيزنطيين ويهود. ومن ثمّة أكّد المترجم في مقدّمة الكتاب أنّ هذه العبارة تحملُ دلالاتٍ حضارية، وتُجافي أيّ دلالة ضيّقة تختزلها في الدّين، بل إنّ مردّ استعمال هذه العبارة راجعٌ تحديدًا إلى اللغة العربية التي كُتبت بها تلك العلوم وصُنّفت بصرف النّظر عن الملل والنّحل التي كانت تنضح بها الخريطة العربية على شساعتها، إضافةً إلى أنّ الأماكن التي احتوت هذه العلوم كانت تابعة للعرب المُسلمين. وينشأ ممّا سبق أنّ العلماء الذين أغنوا العلوم العربية لم يكونوا مسلمين فقط، بل منهم من يتحدّر من أطياف ومللٍ أخرى، وهذا جعل الحضارة العربية تعرفُ تنوّعًا مهمًّا في العقائد والخلفيات الفكرية والمقولات الشيء الذي انعكس إيجابًا على هذه العلوم، وجعلها كتلةً واحدة، ومُنسجمةً.
أُشيع في الأوساط الثقافية العربية أنّ حركة الترجمة، التي تعدُّ لحظةً فارقة في التاريخ العربي الإسلامي، اقترنت بالبيت الذي أُنشئ بأمر من الخليفة المأمون؛ وأعني: "بيت الحكمة"، بيد أنّ هذا الكتاب تصدّى لهذا الزّعم، وأكد أنّ عملية الترجمة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بـ "عصر الفتوحات الإسلامية، حيث احتكّ المسلمون بغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى؛ لأنّ الجدل الذي اندلع بين المُسلمين من ناحية والنّصارى واليهود وباقي الطّوائف الدّينية التي دخلت في الإسلام بثقافتها المتنوِّعة من ناحيّةٍ أخرى، كانَ لابدّ أن يؤدّي إلى إثارة اهتمام المُسلمين بالفلسفة والعلوم". (المرجع نفسه، ص13). ما يُمكنُ استجلاؤه أنّ من بين الحسنات التي رافقت الفتوحات الإسلامية هي اكتشاف المُسلمين للعلوم التي رسمت ملامح الحضارات المجاورة، ليستأثر بهم الاهتمامُ بها، الشيء الذي دفعهم إلى الشروع في نقلها إلى اللغة العربية. وبالتالي لا غرو أنْ يرى صاحب الكِتاب أن الفتوحات الإسلامية كانت نتائجها فعَّالة وحاسمة ليس في الجانب السياسي (توحيد الأراضي)، وفي الحقل الاقتصادي (إلغاء الحدود الاقتصادية) فحسب، وإنّما أسفرت أيضًا على العثور على "نخبٍ نشيطة، وممارسة لأنشطة مثل الطب والتنجيم والمحاسبة" (ص21)، وهذا ما جعل العرب المسلمين يستفيدون من معارفهم وخبراتهم في هذه العلوم. إنّ المنزلة المُعتبرة التي تبوّأتها في تاريخ العرب نابعةً تحديدًا من عدة عوامل وصفها أحمد جبار بـ "الحاسمة"، وهي: بروز "جماعة علمية مستعربة" تعيّ دورها جيّدًا (ص26)، والفيلسوف الذي يُشار إليه بالبَنان: الكندي، كان من ضمنها. ثم ظهور الورق الذي صار متاحًا للجميع نظرًا لكُلفته المقبولة مقارنةً بالوسائل التي اعتمدها العرب في السابق من قبيل: "البردي والجلد". والعامل الثالث، والأخير، هو إنشاء المكتبات، ووفرتها مع توالي السِّنون، واتِّساع حضورها في مختلف الأقطار: من بغداد إلى سمرقند. (للاستزادة: ص26-27).
تَحِقُّ الإشارة إلى أنّ الترجمة في العصر الأمويّ، الذي يراه البعض، عصر البداية الفِعلية لعملية الترجمة، كانت قد تقوقعت في ترجمة الدواوين وكلّ ما يساعد على "التنظيم"، حيث كان الهاجس التنظيمي مهيمنًا؛ أي تنظيم شؤون الدولة، والسّهر على أحوال الرعيّة، وضمان استقرار الدولة. وممّا سبق يُستشفّ أنّ الترجمة في عصر المأمون، انحصرت في نقل ما يرتبط بالتدبير والتسيير للدولة. أمّا البداية الحقيقية لترجمة العلوم بشتّى صُنُوفِها، كما جاء في الكِتاب، فقد كانت في عهد خالد بن يزيد بن معاوية. وتزكيةً لذلك نقرأ ما كتبه أحمد جبّار في هذا المضمار: "انطلاقا من القرن السابع الميلادي، كان حكَّام الدولة الأموية قد سعوا إلى الحصول على مؤلفات تهمُّ تسيير شؤون الدولة، (...) لكن من المؤكد أنّ الترجمة لم تعرف دَفعةً معنويّةً إلّا خلال فترة حكم الدولة العباسية؛ إذ بدأت مع المنصور، حيث في عهده، وبمبادرة منه، تُرجم أول عمل فلكي ورياضي هندي" (المرجع نفسه، ص25-26، مع بعض التصرف).
نال علم الفلك، بين القرنين الثامن والخامس عشر الميلاديين، حظوةً أسنى في تاريخ العلوم العربية، ويرجع هذا النجاح المبهر، في تقدير أحمد جبار، إلى ثلاثة أسباب رئيسة: أولاها ذات طبيعة ثقافية بحتة لها صلة بالخصوصية العربية (مجيء الإسلام)، والثاني له صلة "بمعرفة مستقبل الأفراد والدوائر الاجتماعية والسلطات" (ص53-54)، والسبب الثالث كان علميًا، حيث إنّ العلماء شغلهم هاجس البحث عن أجوبة مقنعة لكلّ مسألة استحوذت على تفكيرهم. وهذه الأسباب الثلاثة هي تلميحٌ قويٌّ للمسار الذي قطعه علم الفلك لدى العرب القدامى، حيث إنّه مرّ من لحظة الاستيعاب بعد التشرب من التقاليد التي عرفت حضورًا بارزا لعلم الفلك قبل الإسلام؛ وذلك بعد ترجمتها، ونجد في مقدمتها: التقليد الفارسي، التقليد الهندي، والتقليد اليوناني، وكان لهذا الأخير النصيب الأكبر من الاهتمام والنقل والدراسة (كتاب المجسطي لبطليموس مثلًا)، إلى "الدراسة النقدية للموروث القديم"، ثم الإسهام المباشر في هذا العلم عبر "تنشيط الجانب التكنولوجي للآلات الفلكية اليونانية"؛ فتوظيف هذه "الآلات في قياس الزمن، والأبعاد والمسافات" (ص71)، بالإضافة إلى اختلاق "الإسطرلاب" الذي ينظرُ إليه بحسبانه لحظة متميّزةً في تاريخ الفلك العربي بلا مدافعة. إلى جانب علم الفلك أو "علم هيئة السماء"، فإنّ العرب قدّموا إسهامات جادّة في الجغرافيا (علم هيئة الأرض) بداية مع أبي القاسم خرداذبة صاحب الكِتاب المعروف "المسالك والممالك"، ومن ثمّة بدأ العرب ينجزون الخرائط بعناية كبيرة (الجغرافيا الرياضية)، والبداية الفعلية لذلك كانت مع عبد الله الخوارزمي في بداية ق9م خلال حكم المأمون، ثم أنجز ابن يونس بعد ذلك، في الدولة الفاطمية، خريطةً للعالم، رغم أنها لم تصن فلَحِقها الضياع.
خصّص صاحب الكتاب جزءاً مهمًّا للطب العربي مبرزًا أنّ العرب عرفوا هذا العلم قبل الإسلام، وزاوله المسيحيون والفُرس كذلك، وقام بتقسميه إلى: الطب التقليدي المتكئ أساسًا على الخبرة المتوارثة لا الاعتماد على الكتب الدقيقة، ومن ثمّة لا عجب أن يكون متاحًا للجميع بلا استثناء، خاصة وأنه يرتكز على العلاج بالأعشاب والأشياء البسيطة جدًّا. أمّا "الطب العالِم"، فإنّه مأخوذ في المقام الأوّل من الكتب، وخاصة ما خلّفه أبقراط وجالينوس، بعد ترجمتها من السريانية أوّلاً، حيث تُرجِمَ منها "خمس وأربعون رسالةً من رسائل جالينوس من طرف مترجمٍ ماهر هو أيوب الرهاوي". (يُنظر: ص90)، ثم نُقِلَت كوكبة من الكتب والرسائل لاحقًا من اليونانية مباشرةً. ومجمل القول: إنّ الطب العربي غرفَ، في بداياته الأولى، بشكلٍ كبير من الطب اليوناني، وطعَّم ذلك من الديانات التوحيدية التي انضوت على بعض التعاليم الطّبيَّة، قبل أن يقطع أشواطًا كبيرة جدًا ليصل إلى مرحلة الإبداع، وبعدها تشييد المستشفيات خلال ق9م، بعدما أمر هارون الرشيد بإنشاء مستشفًى في بغداد، ثم توالت هذه العملية، لتصير الحضارة العربية تتمتّع بعشرات المستشفيات. معلومٌ أيضًا أن العرب برعوا في علم الكيمياء، مع رائده الأبرز جابر بن حيان. يؤكد الكاتب أنّ بدايات هذا العلم كانت عبر "صناعة الأحبار والطلاءات والملونات والأصباغ (...)، وتركيب مختلف المواد المستعملة في صناعة النسيج (...)، وصناعة مواد النظافة والتجميل، ومعالجة الزجاج والنفط، (...) وتحضير المشروبات الكحولية...إلخ" (ص98). تتجلّى فرادة ابن حيان، في مجال الكيمياء، في التمتّع بالجراءة واختراق دواليب "التجريب"، حيث عمِدَ، بمعيّة تلامذته، إلى "معالجة المواد ووزنها وتركيبها للحصول على مواد جديدة، وفي مرحلةٍ أخيرة، استخلاص تصنيفات أو تحليلات. وقد أشار أحمد جبار في كتابه إلى أنّ هذه التجريبية كانت مغلّفة بالخطاب الباطنيّ الذي طَبِع كلُاًّ من الكيمياء القديمة والإسلاميّة وكيمياء العصر الوسيط". أرى أنّ هذا التحليل الذي تفضّل به الباحث، بصرف النّظر عن مدى صحته، فإنّ ما قدّمه ابن حيان يعد نوعيًّا وجادًّا نظرًا للسياق الذي عاش فيه، والظروف التي عاصرها. وبالتالي، فإنّ أبحاثه قمينة بالتنويه، رغم الثغرات التي قد تسكنها، لكونها جاءت في زمنٍ بعيد، وتعتبر حدثًا مهمًّا في تاريخ العلوم العربية، ومن الحيف قراءة ابن حيان حاليًّا دون استحضار خصوصية العصر الذي عاش فيه.
لم يهمل جبّار البحوث المهمّة التي تركها العرب في علم الميكانيكا أو كما يُسمى قديمًا بـ "علم الحيّل"، والمكوَّنِ من "أجهزة ذاتية التشغيل التي ترمي إلى التسلية"، ويحوي أيضا "الآلات الميكانيكية النافعة (الساعات وطواحين الحبوب والورق، والمصابيح الآلية مثلًا)"، والآلات المستخدمة في المجال العسكري (ص107). ويعد كتاب الإخوة الثلاثة بنو موسى والمعنون بـ "كتاب الحيّل" هو الكتاب المؤسس في هذا العلم وتحدث فيه باستفاضة عن الأجهزة ذاتية التشغيل، بحسبانه أول كتابٍ نُشِر في علم الميكانيكا، ثم شرع العلماء العرب في تأليف الكتب التي اعتنت بهذا العلم كـ "كتاب الأسرار"، وكتاب "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"، و"الأنيق في المجانيق". مكّنت الميكانيكا العربية، إذن، والمتوكّئة على إرثٍ علمي قديم ومتنوع: بزنطي، فارسي، يوناني، من تقديم إبداعات خلّاقة ابتداءً من نهاية القرن الثامن الميلادي، وأكتفي هنا بذكر الساعة الباهرة والضخمة التي بعثها هارون الرشيد إلى الإمبراطور تشارلز العظيم (شارلومان)، وهذه الهدية هي مثالٌ جلي عن التقدم العلمي والتقني الذي بلغه العرب في العصور المتخلّية. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أنّ "صناعة الساعات انتعشت كثيرًا خلال القرن الثاني عشر الميلادي من خلال إبداعات الساعاتي وابنه" (ص112، بتصرف).
ولعلّ من بين النُّقط الجوهرية التي ناقشها هذا الكتاب هي تلك المسألة التي أثارت جدلًا ولغطًا واسعين منذ أمَدٍ بعيد؛ وأقصد: هل حقًّا استفاد الأوروبيون من علوم العرب خلال العصر الوسيط؟ وهل كان لهذه العلوم إسهامٌ يُذْكَرُ؟ يبيّن هذا الكتاب بدقّة ملحوظة أنّ الأوروبيين نهلوا من تجربة العرب العلمية، محاولًا بذلك إنهاء هذا الجدل الذي يتحوّلُ أحيانًا إلى "جدلٍ بيزنطي". ذُكر في موقع من الكِتاب أنّ أولى المبادرات التي تهمّ "استملاك" العلوم العربية كانت خلال القرن العاشر الميلاديّ، حينما اُستعمل "الأسطرلاب"، بعدما أشاعه جرير الأرياكي. وبعد تواتر عملية الترجمة فقد تيسّر ترجمة "عشرات الكُتب التي تهمُّ كل المجالات العلمية (مثل البصريات والفلسفة والموسيقا) إلى اللاتينية أو العِبريّة، أو إليهما معًا" (ص119). أثبت جبّار في الصفحات الأخيرة من كتابه أنّ "كتابا الخوارزمي وأبي كامل في الجبر، والشكل القطاع لابن قرة، وعلم المناظر للكِندي، والمناظر لابن الهيثم؛ كلها كتبٌ حظيت بالنقل من العربية إلى اللاتينية، واعتبر أنّ هذا الأخير (ابن الهيثم) قد أثر بشكل واضح في "المُعلِّم المُذهل"؛ روجر باركون، كما أن التنجيم الأوروبي اتكأ بشكلٍ مباشرٍ على علم الفلك العربي؛ وذلك بفضل الترجمات القديرة التي أنجزها كلٌّ من جيرار الكريموني ويوحنا الإشبيلي لكتب معشر البلخي وما شاء الله اليهوديّ. وتأكيدًا لارتواء الغرب من تجربة العرب العلمية نجد شهادات البحارة البرتغاليين الذين انتفعوا من الخرائط العربية خلال القرن الخامس عشر الميلادي" (يُنظر: ص-ص 120-121-122-123، مع بعض التصرف).
لعلّ ما قد يُستشفُّ مما ذُكر في هذا، أنّ العرب عاشوا مجدًا ولمعانًا علميين حقيقيين، سمتهما التنوع والجِدّة؛ وذلك بعد إيلاء وافر الاهتمام لعملية الترجمة بوسمها البوَّابة الأولى للانفتاح على علوم الحضارات المُجاورة، وتطويرها، وصولًا إلى مرحلة الابتداع والخلق؛ وذلك ما حصل حرفيًّا، بعد الجهود الحثيثة من العلماء العرب، أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، وبمساعدة سُدّة الحكم؛ إذ لعب الخلفاء في الدولة الأموية والعباسية دورًا محوريًا في هذه النهضة، حيث بادروا إلى العناية بالترجمة، وتوفير الظروف الملائمة لانغمار العرب في علوم الفرس واليونان والهند... إلخ، لكن المُفاجئ هو أنّ هذه العلوم ظلّت لامعة لمدةٍ معيّنة، ثم أصيبت بالضمور والأفول، رغم المحاولات الجادة التي بذلها من طمحوا لتجاوز تلك النكسة (بعدما اعتنق الحكام المغول للإسلام سمحوا بإحياء بعض الأنشطة العلمية: ص129)، لكن توالي الضربات أجهضت حلم الانعتاق من التراجع والانحطاط. وأجمل أحمد جبّار، في خاتمة الكِتاب، الأسباب التي كانت وراء ذلك الانحدار المفاجئ فيما يلي:
أولًا؛ الحملات الصليبية التي تمّت بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين، ثم حروب الاسترداد في شبه الجزيرة الإيبيرية وصقلية التي نتج عنها سقوط غرناطة سنة 1492م.
ثانيًا؛ العامل الاقتصادي ويتعلق بالتراجع التدريجي للاحتكار الإسلامي للتجارة في البحر الأبيض المتوسط؛
ثالثًا؛ العامل النفسي، حيث تركت هذه الانكسارات والخيبات المتتالية عقابيل نفسية عميقة جدًّا، وخلّفت نفسيات مهتّزة تنغمرُ فيها الجراح التي تأبى الاندمال، ولعلّ ما زاد من حدّة هذه الرجّة النفسية هو الغزو المغولي الذي يُعدّ لحظةً حرجة في تاريخ العرب، وما ينمُّ عن ذلك هو "التفكُّك الكلي للشّبكات العلمية التي كانت تزخرُ بها آسيا الوسطى". وذكَرَ أيضًا عاملًا طبيعيًا لم يقو المرء العربيّ على مجابهته ويتمثّلُ في الأوبئة المِصدامة التي فتكت بالكائن العربي: الطاعون، الكوليرا...إلخ. وتنبّه المؤلِّفُ إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي ما أسماهُ بـ "النزعة المحافظة سواءٌ على المستوى الديني أو على المستوى الإيديولوجي بالمعنى الواسع" (ص130).
الهوامش:
- جبار، أحمد. العلوم العربية في عصرها الذّهبي: كيف أنقذت العلوم العربية المعارف القديمة وأعطتنا النّهضة، ترجمة: الدكتور محمّد نعيم، صفحة سبعة للنشر والتوزيع، السعوديّة، ط1، 2021