ماذا يمكن أن تقول لنا الفلسفة حول الحق في الإجهاض
فئة : ترجمات
ماذا يمكن أن تقول لنا الفلسفة حول الحق في الإجهاض[1]
يجب على مؤيدي الحق في الاختيار دحض الحجة المحافظة بشروطها، أو أنهم سيستمرون في مواجهة انتكاسات مثل إلغاء قرار "رو ضد وايد Roe v Wade"
ترجمة:
يوسف الطاسي**
عبد الغفور لعروصي***
تقديم
ما يميز الفلسفة عن باقي الحقول المعرفية الأخرى، كونها لها القدرة على مواجهة نفسها بأسئلة حارقة حول ماهيتها ووظائفها، مثل: هل الفلسفة تشتغل على الموضوعات المعلقة في السماء أم المحايثة للواقع المعيش؟ وهل دور الفيلسوف أن يظل جالسا في برجه العاجي أم عليه الانخراط في قضايا المجتمع الساخنة كباقي المثقفين الملتزمين؟
أصبح الاتجاه العام في السنوات الأخيرة، يميل وينتصر للشق الثاني من المفارقة السالفة، فقوة الفلسفة وراهنيتها تكمن في التصاقها الشديد بقضايا المجتمع، وبالتالي فالفيلسوف الحق هو ذاك المنشغل والغارق في قضايا المجتمع، وخاصة منها القضايا ذات البعد السياسي والأخلاقي. لعل من بين أهم هذه القضايا نجد مشكلة الإجهاض، التي ما تزال المطالبة بها باعتبارها حقا من حقوق المرأة تثير سجالا حادا بين جميع الفاعلين بمختلف تخصصاتهم، كما "لا تزال شرعية اللجوء إليه ورفضه مشكلة أخلاقية وقانونية بالأساس"[2].
نشير في هذا الصدد، إلى أن هذا التقاطب الحاد بين الفلاسفة حول أي قضية ما، هو في الحقيقة تقليد فلسفي، بل أكثر من ذلك، هو شرط وجود الفلسفة ذاتها، لذلك، حتى قضية الإجهاض لا يمكن أن تنأى بنفسها خارج هذا التقليد الذي تتلخص عناصره حسب التصنيف المدرسي في ثلاثة أبعاد هي كتالي: موقف مؤيد، موقف معارض/مختلف، موقف توفيقي. وبما أن غايتنا في هذا التقديم ليست عرض ومناقشة هذه المواقف، لذلك، فلا بأس أن نُذّكر بأهم الأسئلة التي شكلت منطلقا للتفكير في قضية الإجهاض، وهي كما يلي:
هل الإجهاض يُعدّ حرية شخصية للمرأة أم إنه يتعارض مع الحق في الحياة للأجنة؟ بمعنى هل يحق للأم أن توقف حياة إنسان أو مشروع إنسان؟ ألا يتمتع الجنين على اختلاف مراحل تشكّله بحق الوجود والاكتمال؟ وهل الجنين شخص إنساني أم إنه مجرد خلية أو مادة أولية حيوية يمكن استغلالها في التجارب والأبحاث العلمية؟ هذه الأسئلة وغيرها صاغها ولخصّها ألبرت جونسن Albert.R.Jonsen كالتالي: من يلزم أن يحيا؟ من يلزم أن يموت؟ ومن يلزم أن يتخذ القرار[3]؟
طبعا، هذه الأسئلة لها ارتباط وثيق بالتطورات التي عرفها العلم، ولا سيما في مجالي الطب والبيولوجيا، لما عرفاه من تطور كبير مكّنهما من سبر أغوار تفاصيل حياة البشرية منذ الولادة وقبلها؛ وذلك عبر اكتشاف وابتكار عدة تقنيات متقدمة للإنجاب أتاحت للإنسان الكشف المبكر عن الأجنة والأمراض الوراثية التي من المحتمل أن يصاب بها الجنين في المستقبل، حينما ينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.
يبدو من الواضح، أن قضية الإجهاض بقدر ما تثير من اشكالات فلسفية واجتماعية وقانونية، بقدر ما تفجر أسئلة أخلاقية، والنص الذي نقدم له بهذه الفقرات ينخرط بقوة في هذه الإشكالات، والشاهد على ذلك أنه جاء في سياق قرار المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2022، الذي يقضي ببطلان الحكم التاريخي المعروف بـ "رو ضد وايد"، والذي كفل دستوريا منذ عام 1973 حق المرأة في الإجهاض.
هذا القرار أفضى إلى إحياء النقاش بالولايات المتحدة الأمريكية من جديد، وهو ما يعني أن الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بمثل هذه القضايا الإتيقية ليست ترفا فكريا، وإنما هي قضية تفرض نفسها علينا وتحتاج إلى تكامل مجهودات مختلف الحقول المعرفية من أجل نظرة متعددة المشارب والمنطلقات المرجعية وخاصة في مجتمعاتنا العربية.
نصُّ المقال:
يبدو أن إلغاء حكم "رو ضد وايد" لم يحدث بشكل مفاجئ. فمنذ سنوات، ظل المحافظون الأمريكيون يعترضون على القرار التاريخي لعام 1973 الذي أقرّ الحق الفيدرالي للمرأة الحامل في الإجهاض. على الرغم من التحذيرات من أن الطبيعة المتغيرة للمحكمة العليا الأمريكية تجعل نجاحهم أكثر ترجيحا، لم يصدق الكثيرون أن الأمر سينتهي به المطاف إلى هذا الحد.
لقد استخدم معارضو الإجهاض استراتيجية فعالة، بالحفاظ على تركيز دؤوب على السؤال الأخلاقي لجوهر القضية: ما هو الوضع الأخلاقي للجنين؟ لقد تحدثوا بقوة عن انتزاع حياة بشرية بريئة، وهو أمر يعارضه الجميع.
بدلا من تفنيد هذه الحجج بشكل مباشر، فإن اللوبي المؤيد لحق الاختيار - كما يوحي اسمه بذلك- قد تجاهلهم بشكل عام وحاول عوض ذلك أن يؤسس قضيته على حق المرأة في الاختيار. هذه زلة فلسفية خطيرة. للمرأة الحق في الاختيار فقط إذا كان مسموحا به أخلاقيا. في مقابل ذلك، ليس للمرأة الحق في اختيار الإجهاض أكثر من إطلاق النار على جار مزعج. إن عدم اللجوء إلى حرية الاختيار يمكن أن يحول جريمة القتل إلى عملية جراحية.
كما يتجنب مؤيدو الاختيار القضية الأساسية، عندما يجادلون بأن القيود المفروضة على الإجهاض هي محاولات من قبل الرجال للتحكم في أجساد النساء. هناك قدر كبير من الحقيقة في هذا -على الرغم من أنها لا تجد صدى في آذان الكثير من النساء اللواتي يعارضن الإجهاض، لكن الهجوم على الدوافع النفسية أو السياسية المفترضة التي لا يمكن إثباتها من قبل مناهضي الإجهاض ليس هجوما على حججهم.
من السهل أن نفهم لماذا يريد أنصار الإجهاض تجنب مناقشة الوضعية الأخلاقية للجنين. إن الفوز بتلك الحجة يتطلب محاربة اليقين بالشك. "حياة الإنسان هي حياة الإنسان" هي بسيطة لكنها قوية، "الحياة تتطور بشكل مستمر" هي أكثر صدقا، لكن اختلاف معناها يضعف من ميزتها الخطابية. على نحو مماثل، فإن "الحفاظ على الحياة" هي شارة حملة قوية، لكنها مضللة مادامت الحجة في مجملها تدور حول أي أنواع الحياة يجب حمايتها.
في نهاية المطاف، ومع ذلك، يجب أن تستند حجة الإجهاض إلى حقيقة أنه لمجرد أن شيئا ما ينتمي إلى الجنس البشري من الناحية البيولوجية، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه يجب منحه حقوق إنسان كامل -لا سيما إذا كان في المراحل الأولى من النمو. لشهور عديدة، الخلايا الجنينية التي لديها القدرة على أن تصبح إنسانا مكتمل النمو لا تمتلك أيا من الخصائص التي تبرر الحماية القانونية. بشكل حاسم، لا يوجد دليل قوي على أن الجنين يكون واعيا قبل المرحلة الثالثة من الحمل، حتى عندما يتم تجاوز عتبة الوعي، فإن مستويات وعيه المبكرة تكون ضئيلة للغاية، أقرب إلى مستوى وعي الفأر منه عند الرضيع.
بلا شك، أن للجنين القدرة على أن يصبح إنسانا مكتمل النمو، وبالتالي شخصا قانونيا، لكن نفس الأمر ينطبق على البويضة غير المخصبة وبعض الحيوانات المنوية، وفكرة أننا نسلب طفلا مستقبليا من حياته بشكل لا أخلاقي في كل مرة نرفض فيها الجمع بين هذين الأمرين هي فكرة سخيفة تماما.
الحجة المؤيدة للإجهاض بهذه الشروط بسيطة بما فيه الكفاية، لكن غياب حدود واضحة بين البويضة الملقحة (زيجوت zygote) والحميل (embryo)، والجنين الغير قابل للحياة والقابل للحياة والشخص البشري الكامل يعني أن الكثير يجدون صعوبة في قبول وجود اختلافات أخلاقية مهمة بينهم. "أين تضع الحد الفاصل؟" يتساءل مناهضو الإجهاض. من المستحيل تحديد لحظة من الزمن، عندما تصبح رزمة من الخلايا إنسانا. لذلك فمن المثير أن نستخلص أنه لا يوجد مثل هذا الحد وأن قتل الجنين الذي لم يولد بعد في أي مرحلة يعني قتل إنسان. رغم كل ذلك، فالحياة -وإن كانت في أبسط أشكالها – تبدأ عند الحمل.
في الواقع لا يوجد مثل هذا الحد، لكن لا داعي لوجوده؛ فالأطفال لا يتحولون إلى راشدين عندما تدق الساعة منتصف الليل في عيد ميلادهم الثامن عشر، لكن لا أحد يجادل بأنه بناء على ذلك يجب أن يعامل جميع الأطفال كراشدين؛ الصرامة القانونية هي بناء لتدبير واقع أكثر تعقيدا. وكذلك هي الحدود القانونية لشروط فترات الحمل التي يسمح فيها بالإجهاض.
إذا انتصرت في الحجة القائلة إن "الجنين الذي لم يولد بعد" –إلى حدود 20-24 أسبوع على الأقل -لا يزال مجرد شخص محتمل وليس شخصا فعليا، فلم يعد بالإمكان مساواة الإجهاض بالقتل. عندها يصبح الأمر فقط مسألة تتعلق بحقوق المرأة في اتخاذ خياراتها الخاصة بشأن جسدها.
قد يظل معارضو الإجهاض قلقين حول تلاشي قدسية الحياة والانحطاط الأخلاقي الذي قد يؤدي إلى قتل الرضع، أو إن الإجهاض الروتيني لذوي الاحتياجات الخاصة سيقلل من وضعية الأطفال والمعاقين الراشدين. لا ينبغي تجاهل هذه الاعتراضات. يجب على الجميع أن يتأكد بأن الإجهاض القانوني ليس له عواقب غير مقصودة. ومع ذلك، فهي ليست اعتراضات أساسية على الإجهاض نفسه، ويمكن مواجهة كل منها برد مقنع.
مهما سيحدث في المحكمة العليا الأمريكية في الأشهر المقبلة، فإن السجال حول الإجهاض لن ينقضي -لأن السؤال الأخلاقي في جوهره جاد ولا يمتلك إجابة بسيطة ومرضية. وطالما أن المدافعين عن الحق في الإجهاض يتجنبون الإجابة عنه، ويتحدثون ببساطة عن الحق في الاختيار، فإن معارضي الإجهاض سيكونون في الواجهة.
لائحة المراجع:
- Julian Baggini, What philosophy can tell us about the right to abortion Pro-choicers must defeat the conservative argument on its own terms, or they will keep facing setbacks like the repeal of Roe v Wade, prospectmagazine, (June 16, 2022), accessed on 22/05/2023, at : https://www.prospectmagazine.co.uk/ideas/philosophy/38753/what-philosophy-can-tell-us-about-the-right-to-abortion
- Guillaume Agnès, Rossier Clémentine, L’avortement dans le monde. État des lieux des législations, mesures, tendances et conséquences, Population, 2018, p 225-322. DOI: https://www.cairn.info/revue-population-2018-2-page-225.htm
- عمر بوفتاس، البيوإتيقا: الأخلاقيات الجديدة في مواجهة تجاوزات البيوتكنولوجيا، افريقيا الشرق، 2011
[1] Julian Baggini, What philosophy can tell us about the right to abortion : Pro-choicers must defeat the conservative argument on its own terms, or they will keep facing setbacks like the repeal of Roe v Wade, prospectmagazine, (June 16, 2022), accessed on 22/05/2023, at : https://www.prospectmagazine.co.uk/ideas/philosophy/38753/what-philosophy-can-tell-us-about-the-right-to-abortion
** طالب باحث بسلك الدكتوراه، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة ابن طفيل-القنيطرة-المغرب.
*** أستاذ اللغة الإنجليزية بالمدرسة العليا للتجارة والتسيير والمعلوميات- القنيطرة.
[2] Guillaume Agnès, Rossier Clémentine, L’avortement dans le monde. État des lieux des législations, mesures, tendances et conséquences, Population, 2018/2 (Vol. 73), p. 225-322. DOI: 10.3917/popu.1802.0225. URL :https://www.cairn.info/revue-population-2018-2-page-225.htm Consulté le 20/06/2022, p 246
[3] عمر بوفتاس، البيوإتيقا: الأخلاقيات الجديدة في مواجهة تجاوزات البيوتكنولوجيا، افريقيا الشرق، 2011، ص 55