ما بعد الإسلام السياسي في المغرب وتركيا: محاولة للرصد
فئة : مقالات
ما بعد الإسلام السياسي في المغرب وتركيا:
محاولة للرصد([1])
ثمة إشكالية مفصلية في التعاطي مع ظاهرة الحركات الإسلامية فيما يتعلق بتركيبتها وأنماط الخطابات التي تعبر عنها؛ فبعد مرور عقود طويلة من ظهور أول تعبير لها في البلدان الإسلامية، يلاحظ المتتبع لهذه الحركات أن الديناميات الداخلية والخارجية التي عرفتها بعض البلدان المتواجدة بها، ساهمت بشكل كبير في إحداث تحول جوهري، سواء على مستوى الخطاب الأيديولوجي الذي تتبناه هذه الحركات، أو على مستوى الممارسة السياسية التي تنتجها، وهو ما ساهم في نحت مفهوم أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي" من طرف بعض الباحثين الغربيين المهتمين بدراسة تحولات الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي؛ الأمر الذي يدفع للتساؤل عن فحوى ومضمون الاجتهادات التي تقدمها هذه الأعلام في مقاربة تحولات الحركات الإسلامية، وعن كيفية رصد عناصر هذه الأطروحة من خلال نموذج عملي متمثل في حالتي "حزب العدالة والتنمية المغربي" و"حزب العدالة والتنمية التركي".
ما بعد الإسلام السياسي: ثلاث قراءات
يعود التجلي الإبستيمي لأطروحة "ما بعد الإسلام السياسي" إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي، من خلال مقاربات الباحث الفرنسي في الحركات الإسلامية "أولفييه روا" لظاهرة الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، في كتابه فشل الإسلام السياسي، L’échec de l’Islam Politique, Paris, Seuil 1992، الذي حاول من خلاله إبراز أوجه فشل الإسلاميين في الجمع ما بين الدين والسياسية في إطار الدولة الحديثة، وأيضا فشلها في إقامة نموذج فريد للدولة الإسلامية الناجحة اقتصاديا وسياسيا عبر رصده للتجربة "الخمينية" في الحكم، وسيعود "روا" لتأكيد هذه الفرضيات من خلال كتابه "الإسلام المعولم" L’islam Mondialisé, Paris Seuil, 2002 الصادر بعد أحداث 11 سبتمبر، الذي رصد فيه أهم التحولات التي عرفتها الحركات الإسلامية داخل البيئة الغربية؛ حيث ظهرت أنماط جديدة في خطاب وتفكير هذه الحركات. كان توجه "أولفييه روا" في بسطه لهذه الأطروحة يقوم على الانطلاق من سؤال مركزي، هل يقدم الإسلام السياسي خيارا بديلا للمجتمعات الإسلامية؟ الجواب جاء في نظر "روا" بالإخفاق، فهذه الحركات لم تستطع بناء الدولة الإسلامية التي اعتبرت السند الفعلي في التعبئة لمشروعها السياسي، لاعتبارين اثنين؛ أولا: الإخفاق الفكري للمشروع السياسي لهذه الحركات؛ فتشبثها بالقيم الأصيلة للمجتمع الإسلامي بدون مسايرة التطورات المجتمعية المعاصرة، أفقدها أحد أهم محركاتها الأساسية في التعبئة؛ ثانيا: هو إخفاق تاريخي، حيث لم تستطع الحركات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم، لا في إيران أو أفغانستان من تأسيس مجتمعات جديدة بقيم إسلامية، فبخلاف الخطاب الأخلاقي السائد تخضع ميكانزمات العمل السياسي والاقتصادي لهذه الحركات في جزء كبير منها للعلمنة؛ بيد أن دلالات الإخفاق هاته في نظر "روا" لا تعني انحسار انتشار الإسلام السياسي، بقدر ما تعني نكوص أطروحة الإسلام كأيديولوجية سياسية واقتصادية قادرة على حل كافة المشاكل المجتمعية التي يطرحها الواقع المعاصر.
بعد "أوليفييه روا"، سيأتي مواطنه "جيل كبيل" بنموذج تفسيري آخر، يساير في كثير من استنتاجاته أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي" من خلال عمله الموسوم "بجهاد: انتشار وانحسار الإسلام السياسي"Jihad, Expansion Et Declin De L'islamisme. Gallimard, 2000، انصب اهتمام "جيل كبيل" في هذه الدراسة على محاولة رصد وتتبع المسار الذي اتخذه انتشار الإسلام السياسي الجهادي في العالم الإسلامي، خلال الربع الأخير من القرن المنصرم ومجالات تطورها وتراجعها على مستوى الأفكار السياسية المؤطرة لها من جهة، وعلى مستوى الممارسة السياسية التي تعبر عنها من جهة ثانية، ثم في علاقة هذه الحركات بمحيطها الداخلي والخارجي. ويرى الباحث أنه، رغم الزخم الذي ارتبط بهذه الحركات في حقبة الثمانينيات كأيديولوجية تضم فئات اجتماعية مختلفة متكتلة حول مشترك الإسلام السياسي، فإن الأحداث والهجومات التي عرفتها سنوات التسعينيات بدأت تنبئ بحالة التفكك التي تعرفها هذه التنظيمات. وبسبب ضغوطات الأنظمة القمعية والتوجس الدولي من هذه الحركات، سوف تظهر اتجاهات فقهية من داخل هذه المرجعيات المتطرفة، قصد إحداث مراجعات مع اختياراتها المتطرفة والقطع مع سنوات العمل السياسي المسلح بإفراز اجتهادات توفيقية بين قيم الإسلام وروح الديمقراطية.
بعيدا عن المدرسة الفرنسية، سيحاول الباحث السوسيولوجي الأمريكي ذي الأصول الإيرانية "آصف بيات" تطوير معالم أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي" من خلال بعض مقالاته وأعماله، بتقديم تعريف منهجي ومحدد لمفهوم "ما بعد الإسلام السياسي" الذي يريد به الإشارة إلى دلالتين اثنتين؛ فهو أولاً يعبر عن "حالة" وليدة لأزمة مرت وتمر بها ظاهرة الإسلاموية، مشرعة المجال للأسئلة والشكوك والمراجعات حول هذه التجربة "المرهقة"؛ وثانياً عن "مشروع" بديل ومحاولات واعية لتخطي الخطاب الإسلامي التقليدي "الإسلاموي" في المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية[2]. ولا يقصد "آصف بيات" بما بعد الإسلام السياسي مثل ما اتجه لذلك "أولفييه روا"، نهاية انتشار وتطور الحركات الإسلامية، بل هو يؤكد على درجة التطور الذي لحق الخطاب السياسي لهذه الحركات في تعاملها مع الواقع السياسي السائد. فالتحولات المجتمعية والسياسية التي تعرفها الدولة الوطنية المعاصرة، أضحت تفرض على هذه الحركات أن تواكبها بتجديد نفسها، وإلا سقطت في الجمود الفكري والسكون السياسي في ظل التغيرات الحاصلة، مما قد يؤدي بها إلى السقوط في التناقض مع ما تطمح إليه ومع ما يقدمه مشروعها السياسي.
بهذا يمكن تلخيص أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي" كما يراها "آصف بيات" أنها حالة ليست مجرد شرط، بل هي أيضا مشروع: أي محاولة واعية لوضع تصور واستراتيجية لمنطق وطرائق السمو على "الإسلام السياسي" في المجالات الاجتماعية والسياسية، والثقافية. ومع ذلك، فحالة "ما بعد الإسلام السياسي" ليست معادية للإسلام، أو غير إسلامية، ولا حتى علمانية. ولكنها تمثل مسعى لدمج التدين بالحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالتحرر. إنها محاولة لقلب مبادئ "الإسلام السياسي" الأساسية رأسا على عقب، وذلك عبر التركيز على الحقوق بدلا من الواجبات، والتعددية بدلا من السلطة الفردية، والتاريخية بدلا من النصوص الثابتة، والمستقبل بدلا من الماضي. إنها تريد عقد مزاوجة للإسلام مع حق الفرد في الاختيار والحرية، ومع الديمقراطية والحداثة[3]، وهو ما يلخص اللبنات الأساسية التي تقوم عليها هذه الأطروحة.
في بعض عناصر أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي" بالمغرب وتركيا
تحيل القراءات الثلاث السابقة حول أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي" على ثلاثة مستويات من التحليل: المستوى الأول يقارب تحولات حركات الإسلام السياسي من زاوية "طوبوية" المشروع السياسي الذي تحمله، فكان للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية أثرا بليغا في تحول هذه الحركات من التكلم باسم الدين والشريعة، إلى الانغماس في واقعية الخطاب السياسي؛ المستوى الثاني: يقارب الأطروحة من زاوية تحول التفكير السياسي عند الإسلاميين المتشددين بفعل حالة التفكك الأيديولوجي الحاصل في بنياتها التنظيمية، والانتقال من تعبئة قائمة على تصريف العنف كوسيلة لتحقيق مشروعها السياسي إلى التصالح مع روح الديمقراطية واعتماد الاعتدال كوسيلة للتدافع السياسي؛ المستوى الثالث: تناول أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي" من مقترب الأثر الذي تتركه الممارسة السياسية اليومية على الحركات الإسلامية داخل الحقل السياسي، حيث يكلفها ذلك إعادة تكوين خطابها المتعالي عن الواقع، وتبسيط نظرتها للفعل السياسي، والقائم على النسبية بدل الحقيقة الدينية المطلقة.
بعد الاستطراد السابق، يمكن استخلاص أهم العناصر التي تقوم عليها أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي"، في ثلاث ركائز أساسية: الواقعية السياسية، والاعتدال في الطرح السياسي، ثم الخيار الديمقراطي كقاعدة للدولة الحديثة.
بيد أنه، كيف يمكن استبيان العناصر الثلاثة السابقة في عملية التحول التي عرفتها الحركات الإسلامية في المغرب وتركيا؟
تجدر الإشارة إلى أن معظم الحركات الإسلامية نشأت كرد فعل على سقوط نظام الخلافة الإسلامية العثمانية سنة 1924، وإعادة تأسيس دولة مدنية ذات نهج علماني في تركيا على يد "مصطفى كمال أتاتورك". من ثم سوف يتجدد الاهتمام بفكرة دولة الخلافة والرجوع للأصول في ممارسة الفعل السياسي، حيث انبرت الاجتهادات الفقهية إلى التنظير لسبل قيام الخلافة والإمامة العظمى، مع تبيان شروطها الموضوعية والذاتية.
سهل هذا النقاش لبروز شعار "الإسلام دين ودولة" و"الإسلام هو الحل"، مع "حسن البنا" في أوساط العشرينيات من القرن الماضي، مما أدى إلى ظهور تيار ينادي بفكرة الدولة الإسلامية كبديل لحالة البؤس السياسي الذي كانت تعيشه مصر آنذاك، ومن خلاله ستتبلور "جماعة الإخوان المسلمين" التي ستتبنى أفكار "حسن البنا". ومنه توالت التنظيرات حول دولة الخلافة في ظل الحكم المعاصر، الذي تبنته معظم الحركات الإسلامية الناشئة في البلدان العربية والإسلامية، القائمة على مرجعية واحدة متمثلة في تأسيس الدولة الإسلامية، وإقامة الدين الذي لا يحدو عن علاقته الجوهرية بإقامة دولة دينية راعية له.
ظلت هذه الأطروحة تسكن تفكير وتنظير معظم الحركات الإسلامية التي عرفها العالم الإسلامي، إلى أواسط السبعينيات من القرن الماضي، حيث برزت بعض الحركات الإسلامية التي أجرت تحولات ومراجعات شاملة لمواقفها الأيديولوجية ورؤيتها للقضايا المجتمعية والسياسية في بلدانها. فحاولت إيجاد صيغ توفيقية لمرجعياتها من خلال معادلة الشورى بالديمقراطية ومؤسساتها وآليات اشتغالها، وإعداد اجتهادات فكرية تتجاوز التنظيرات الأولى للدولة الدينية. وقد وصل صيت هذه المراجعات لمعظم الحركات الإسلامية في سوريا والأردن وتركيا والمغرب...
وعليه، فالحركات الإسلامية تعد تمرداَ على الدولة الحديثة برمّتها: "تمرّد على حاكمية هذه الدولة وإطلاقيتها، تمرّد على تطبيقاتها القسرية للحداثة الغربية"[4]، وبالتالي هي تعبير عن إبراز سؤال الهوية واسترداد الشخصية الإسلامية، في ظل الإخفاق التاريخي الذي ترتب عن مشروع التحديث، كما بشرت به الدولة القائمة على أنقاض الخلافة في الحالة التركية، ودولة الاستقلال كما في الحالة المغربية.
ففي تركيا أقام الأب الروحي للحركة الإسلامية وزعيم "حزب الفضيلة" - حزب الرفاه سابقا ـ "نجم الدين أربكان"، مشروعه السياسي للدولة على أساس هوياتي يقيم فرقا بين النظرة الإسلامية والنظرة الغربية، حيث دعا لترك التبعية التركية للغرب، وما سببته من تخلف اقتصادي وسياسي، والاستكانة إلى المرجعية الإسلامية في الحكم كبديل لإخفاق الدولة الوطنية الحديثة في تركيا، القائمة على التحديث القسري لقيم الغرب الرأسمالية في بيئة ذات جذور إسلامية. لكن المشروع الهوياتي لأربكان لن يصمد طويلا، حيث أدى الانقلاب العسكري بتركيا أواخر التسعينيات إلى إفراز توجهات حزبية مراجعة لطموح الزعيم، تتسم بالواقعية والبراغماتية في ممارسة الفعل السياسي. فأدى الأمر إلى انبثاق مجموعة "طيب رجب أردوغان" التي أسست "حزب العدالة والتنمية" عام 2001، والتي أقامت مشروعا سياسيا على النقيض من التوجه الهوياتي الذي كان يدعو له "أربكان". فتم التخلص من صفة التمثيلية الإسلامية التي كانت تطبع برنامج الحركة الإسلامية التركية سابقا، واتجه الحزب الجديد الذي يتسم بالواقعية نحو الإعلان على الالتزام بمبادئ العلمانية التي تقوم عليها الدولة التركية، وتجنب الخوض في المجالات النزاعية حول هوية الدولة ومرجعيتها الأيديولوجية، بقدر الاتجاه في صياغة مشروع سياسي يخوض معركة التدافع السياسي القائم في تركيا على أساس مشروعية الإنجاز والمعادلات الاقتصادية والرفع من المستوى المعيشي للمواطن. هكذا تحول الخطاب السياسي عند الحركة الإسلامية التركية من خطاب هوياتي يمتح من المرجعية الإسلامية أيديولوجيته، إلى خطاب سياسي واقعي يقدم البدائل للإشكاليات المجتمعية من زاوية وضعية، لتكون بذلك نموذجا متطورا للتعبير عن مضامين أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي" كما تمت صياغتها عند أبرز ممثليها "روا" و"بيات".
فعناصر الأطروحة تبدو بادية في السلوك السياسي الذي ينتجه الحزب تجاه الخصوم السياسيين، حيث كان خيار الاعتدال سبيلا لقبول الحزب كشريك في الحياة السياسية العلمانية التي تقوم عليها الدولة التركية، ثم اعتماد آلية الديمقراطية كان ناجحا في رسم صورة إيجابية على الحزب من طرف الخصوم قبل الأصدقاء، وهو ما سهل من عملية الاندماج التام في المنظومة العلمانية السائدة؛ فالحزب تخلص من الخطاب الهوياتي نحو خطاب يتماشى وقيم الدولة الوطنية الحديثة.
في الحالة المغربية نلمس التوجه نفسه، وإن بدرجات متفاوتة، حيث ظهرت الحركات الإسلامية كحركات ذات مشروع مجتمعي هوياتي، يجد في المرجعية الإسلامية أجوبة عن الإشكاليات والتناقضات التي أفرزتها الدولة الوطنية بعد الاستقلال، حيث شكلت البديل لعملية التحديث القسري التي بدأها المستعمر واستكملتها دولة الاستقلال، والتي كانت من نتائجها إخفاق المسار التنموي، وبروز المشاكل الاقتصادية جراء النمو الديموغرافي والهجرة القروية نحو المدن. فكانت الاستكانة إلى الهوية الإسلامية كتعبير عن مشروعها السياسي، وبالتالي شكلت هذه الحركات حقولا مضادة للحقل الرسمي القائم على إواليات تمتح مرجعيتها من المشروعية الدينية المعبر عنها آنذاك في الفصل 19 من الدستور، الذي يحيل مباشرة على حقل إمارة المؤمنين، وعلى ديباجة الدستور الذي ينص على إسلامية الدولة.
وإذا أردنا اختصار تاريخ الحركات الإسلامية المغربية، يمكن إبراز ثلاث محطات تأسيسية تعد فارقة في مسار هذه الحركات. فبعد التوجه المتطرف لحركة الشبيبة الإسلامية المتبني لخطاب "سيد قطب" المتصادم بالمجتمع من جهة، باعتباره يعيش في الجاهلية، والمصطدم بالدولة باعتبارها كافرة، إلى حركات إسلامية منخرطة في العمل السياسي محترمة لقواعده وثوابته الأساسية (التوحيد والإصلاح - حزب العدالة والتنمية) أو نابذة للعنف ومحترمة للتعددية السياسية، رغم الصدام غير المباشر مع الدولة (جماعة العدل والإحسان).
يمكن تفسير هذا التحول، خصوصا في الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية وذراعه الدعوي المتمثل في "حركة التوحيد والإصلاح"، من خلال القطع مع ثلاث ممارسات. أولا: الابتعاد عن الخطاب التصادمي مع المجتمع، والتخلي عن فكر التمثيلية السامية للمجتمع الإسلامي واختيار أسلوب التعددية، في صورة تمثيلية جماعة من المسلمين تمارس العمل الدعوي في إطار علني بعيد عن السرية، وبالتالي التصالح مع الثقافة الشعبية السائدة ومع التيارات العلمانية، والقبول بالتحاور مع الغرب وثقافته. ثانيا: الاصطدام بالواقع السياسي الذي يفرض ميكانزمات اشتغال أخرى تختلف جذريا عن العمل الدعوي، بمتطلبات وانتظارات تفترض بلورة برامج ومعايير تخضع للحكم المدني وليس للحكم الإلهي والخروج من شعار "الإسلام هو الحل"، وإن كان غير معلن عنه في خطاب هذه الحركات إلى الوعي بأن المجال السياسي له خطاباته وتعبيراته ومقوماته وشروطه الخاصة؛ ثالثا: الاعتراف بالخصوصية المغربية التي يعتبر الإسلام فيها أحد الروافد الأساسية لمشروعية الحكم القائم، وقد ساهمت استراتيجية النظام السياسي في تعاطيها مع ملف الإسلاميين منذ بداية الثمانينيات إلى حين قبول جزء منهم بدخول اللعبة السياسية في إنجاح استثمار حقل إمارة المؤمنين بضبط المجال الديني المغربي، والحد من تعاظم الأدوار التي كان من الممكن أن تلعبها هذه الحركات في مجال التنافس السياسي المغربي[5]، حيث لم تستطع النخب الحالية لـ "حزب العدالة والتنمية" من ولوج العمل السياسي الرسمي إلا بعد إحداث مراجعات فكرية في نظرتهم لطبيعة النظام السياسي القائم، وذلك بالاعتراف بالثوابت الرئيسة التي يقوم عليها عبر الاعتراف بالمشروعية التاريخية للملكية الحاكمة في المغرب، وبالمذهب الملكي الذي يعبر عن روح ومضمون الدين الإسلامي الرسمي للدولة المغربية، ثم ثابت أساسي متعلق بوحدة التراب المغربي.
سوف تظهر ملامح هذا التحول بعد وصول "حزب العدالة والتنمية" المغربي إلى قيادة الحكومة مع الانتخابات التشريعية لنونبر 2011، حيث تعد أول تجربة فعلية للإسلاميين المغاربة في تدبير الشأن العام الوطني. تكريس "ما بعد الإسلام السياسي" كأطروحة مغربية ستظهر بداية، من خلال طبيعة البرنامج السياسي والاقتصادي الذي يمثل مرجعية دفعات الحزب في اختياراته حول السياسية العامة، ثم طبيعة تناول القضايا الثقافية والفنية التي يحاول أعضاء الحزب المشاركين في الحكومة الابتعاد من الخوض فيها، رغم معارضتهم لبعض مظاهرها سابقا. وأيضا طبيعة التحالفات التي يخوضها الحزب في تشكيل الحكومة، حيث تمزج ما بين المرجعيات اليسارية واليمينية وحتى مع تلك التي كانت محسوبة على صنع الإدارة سابقا، ثم غياب المضمون الإسلامي في الخطاب السياسي الموجه من الحكومة تجاه المجتمع أو تجاه الخصوم السياسيين.
تناول أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي" من خلال تجربتي حزبي "العدالة والتنمية" المغربي والتركي، يدفعنا للتوقف مليا عند قواسم مشتركة تؤكد فعلية هذه الأطروحة من خلال النموذجين، حيث كان طموح العمل السياسي لنخب الحزبين ينصب على البحث عن مورد للشرعية السياسية من داخل الدولة الوطنية الحديثة المتسمة بالعلمنة، وجعل المشروع السياسي الذي يؤطرهما يتحرك ضمن مقاربة عامة، تجعل من سؤال تحقيق التنمية بشرط العدالة الهاجس الأساسي الذي يوجهه، بتجاوز في كثير من الأحيان عنوان الهوية والشريعة كمنطلق لطرح الأجوبة عن الإشكالات المجتمعية التي تفرزها البلدين.
[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 19، 2015
[2] آصف بيات، عن التغيير والثورة واللاحركات اجتماعية، ورد في: http://www.almqaal.com/?p=2966
[3] آصف بيات، بروز ما بعد الإسلام السياسي، ورد في: http://www.islammaghribi.com
[4] حسام تمام، مع الحركات الإسلامية في العالم، مكتبة مدبولي، القاهرة 2009، ص 230
[5] عبد الإله سطي، ما بعد الإسلاموية في المغرب: قراءة أولية في تحولات الحركات الإسلامية المغربية، مجلة وجهة نظر، عدد 59، الدار البيضاء 2014