مبدأ الإرجاء = ليبرالية إسلامية ناضجة؟
فئة : مقالات
الإسلام يعاني تخلفنا بالقدر ذاته الذي نعاني تأويليه وتفسيره في شكل ضيق ومحافظ، وترجمته بطريقة متشنجة وحرفية تمتص أبعاده الإنسانية والأخلاقية. كل ذلك يثبت أنْ ثمة علاقة جدلية بين الإصلاح السياسي في بلداننا والإصلاح الديني. هذه العلاقة ربما هي جزء من الخصوصية لدينا، كما نبّه إلى ذلك كثير من الباحثين، ومنهم عالم الاجتماع اللبناني إيليا حريق[1]. والنصوص المقدسة هي هي، يقرأها العقلانيون والمنفتحون فينتجون نسخة منفتحة من الإسلام تتعانق مع التقدم والعصر وحقوق الإنسان وتكون محركاً للتنمية والتحرر والإبداع، وتقرأها جماعة "داعش" و"القاعدة" و"طالبان" وغيرهم كثيرون فتنتج إسلاماً خشناً صنواً للتخلف الاجتماعي، والتقاليد المغلقة والبيئة القاسية والنزوعات النفسية السالبة التي لم تشذبها المدنية والعصر والتقدم.
كان الكاتب اللبناني الراحل جوزف سماحة يقول إن العرب لم يفتحوا قِفل الإسلام، ولذلك فهم يوالون الانحدار، ويتلقون الهزائم، ويخرجون من كل هزيمة أشدّ محافظة وتقليدية، أيْ أكثر استعداداً لنكسة جديدة، وكأننا في مسار تنازليّ.[2]
هي أزمة وعي تتبدى من خلال التساؤل الكبير: ايُّ إسلام نريد؟، أو على الأصح: أيّ مواطن أو فرد نريد؟.
وفي محاولة مثيرة للانتباه للإجابة عن هذا السؤال نشر الكاتب التركي مصطفى أكيول قبل أيام مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز"[3] قال فيه: "في حين أنه من الخطأ الزعم بأن تفكير "داعش" يمثل تيار الإسلام السائد، كما يفعل المصابون بُرهاب الإسلام في كثير من الأحيان، فإن من الخطأ بالمقدار نفسه التظاهر بأن "داعش" "ليس له علاقة بالإسلام"، كما يحب أن يقول الكثيرون من المسلمين القلقلين من ظاهرة رُهاب الإسلام. في واقع الأمر، يتميز قادة الجهاديين بانغماسهم العميق في الفكر الإسلامي وتعاليمه، حتى ولو أنهم يستخدمون معرفتهم لمتابعة غايات ضارة ووحشية.
أكيول في مقاله يعيد الاعتبار لمبدأ "الإرجاء" (التأجيل) و"المرجئة"، الذي كان مبدأ فقهياً طرحه بعض علماء المسلمين خلال القرن الأول المبكر من الإسلام. وفي ذلك الوقت، كان العالم الإسلامي يعيش حرباً أهلية كبرى؛ حيث كان مؤيدو السنة ومؤيدو الشيعة يتقاتلون من أجل السلطة، وكانت مجموعة ثالثة تسمى الخوارج (المنشقون) تقوم بعزل وإقصاء وذبح كلا الجانبين. وفي مواجهة هذه الفوضى الدموية، قال أنصار "الإرجاء" إن السؤال المشتعل حول من هو المسلم الحقيقي، يجب أن يُرجأ -أي أن "يؤجل"- إلى الحياة الآخرة. واعتقدوا أنها لا تمكن إدانة حتى المسلم الذين يتخلى عن ممارسة الشعائر الدينية ويرتكب الكثير من الذنوب، واعتباره "مرتداً". كان الإيمان بالنسبة إليهم مسألة تخص القلب، وشيئاً لا يستطيع سوى الله وحده تقييمه -وليس أي بشر. العلماء الذين وضعوا هذا المبدأ عُرفوا باسم "المرجئة". وكان الفقه الذي وضعوا أطره أساساً لإسلام متسامح، تعددي وغير قسري -أي بمنزلة ليبرالية إسلامية. ولكن، لسوء الحظ، لم يكن لديهم ما يكفي من النفوذ والتأثير في العالم الإسلامي. وسرعان ما اختفت هذه المدرسة الفكرية بسرعة، فقط لتهبط إلى قاع الذاكرة العقائدية السنية المتشددة باعتبارها واحدة من أولى "العقائد المهرطقة". وقد ترك المرجئة، وفق أكيول، أثراً في الجانب الأكثر تساهلاً من الإسلام السني، ممثلاً بالحنفية-المتريدية، الطريقة الأكثر شعبية في مناطق البلقان وتركيا وآسيا الوسطى. لكن لا توجد هناك عملياً اليوم أي جماعة إسلامية تُعرِّف نفسها بأنها من المرجئة. ونادراً ما تُسمع كلمة "الإرجاء" في مناقشات الفقه الإسلامي.
في حقيقة الأمر، كما يريى أكيول،هناك مئات الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم الذين يشاركون أيضاً في ممارسة "الإرجاء"، حتى لو أنهم ليسوا معتادين على هذا المصطلح ولا يألفونه. ويرتكز بعضهم على القرآن بدلاً من الشريعة الإسلامية في القرون الوسطى، ويتمسكون بالآية القرآنية المعروفة التي تقول: "لا إكراه في الدين". وهناك غيرهم من المسلمين الواقعين تحت التأثير الثقافي لليبرالية الغربية. وثمة البعض الآخر ممن هم تحت تأثير التصوف، نسخة الإسلام التي تركز على تقوى الفرد المرغوبة بدلاً من تلك المدفوعة بالتقيد الصارم بالقواعد والقوانين.
الخشية أننا لا نريد دفع ثمن تغيير أوضاعنا الاجتماعية والسياسية المهترئة، وأننا نفتش في الإسلام عن «غطاء» لكسلنا الحضاري وانحطاطنا الفكري وعجزنا السياسي، في محاولة بائسة وتدعو إلى الرثاء تستهدف «أسلمة» انحطاطنا، وإسباغ الشرعية على كثير من أفكارنا وعاداتنا وتقاليدنا وقيمنا الاجتماعية التي تشدنا إلى الوراء، والإسلام الحضاري مفارق لها لو فسّرته عقول واعية تدرك تنوعه وما ينطوي عليه من تعددية وتسامح، وترنو لتأسيس نموذج إنساني يحتذى، تكون المحلية والخصوصية فيه إطاراً إبداعياً منفتحاً نحو الإنسانية، لا رديفاً ومرآة للجمود والانغلاق والتعصّب، الذي يأخذ من الخصوصية والهوية أسوأ معانيهما، بدلاً من الاندماج الحقيقي في قيم العصر عبر تمثّل شعار العولمة "فكّرْ إنسانيا ونفّذْ محلياً". وعليه، فإنّ كل أطروحة للتقدم والنهضة في المحيط العربي لا تقدّم رؤية عميقة لفتح القفل، وعدم استبعاده من معركة التحرر والنهوض واحترام الإنسان... هي أطروحة منذورة للإجهاض والإحباط والفشل!!.
من زاوية أخرى (تبتعد بنا عن «واحدية» التفسير والتحليل وتنبهنا إلى النظر إلى أهمية تعددية روافد الإصلاح)، كثيراً ما يتم التركيز عند معالجة الإصلاح والتقدم في العالم العربي على المعوقات التي تشكلها الديكتاتورية السلطوية، وعلى الدور الذي يلعبه التشدد الديني والانغلاق الفكري كعقبة رئيسية في طريق التقدم، ولا يتم الالتفات بجدية إلى دور الطبقة التجارية في التغيير والإصلاح ورفاه المجتمع وترسيخ الليبرالية الاجتماعية والاعتدال والقبول بالآخر والتنوع.
ومنذ سنوات والي نصر، أستاذ السياسة الدولية في جامعة تافتس، إلى أن عوامل التغيير (المفتاحية) التي ستهزم التطرف الفكري في العالم العربي لن تتمثل في الحكام الديكتاتوريين العلمانيين، ولا في علماء الدين المتنورين أو الإصلاحيين الليبراليين، بل ستتمثل تلك العوامل برجال الأعمال وأصحاب المشاريع الحرة المغامرة. ويرى أنه من المهم في العالم العربي «نمو رأسمالية محلية من الطبقة الوسطى تدمج بين الرأسمالية والإيمان، وتكون على علاقة جيدة مع قوى السوق»، بما يرسّخ قيماً مجتمعية، أكثر نسبية وابتعاداً عن «اللغة التعبوية» وحلولها القصوى والجذرية، وأكثر إصراراً على إحداث الإصلاح، وأكثر التحاماً بالعصرنة.
إنّ من شأن نمو برجوازية عربية ناضجة ومتصالحة مع مجتمعها عبر رسالتها التنموية والإصلاحية... من شأن ذلك أن يعيد الاعتبار إلى «السياسة» ويُحسّن من قراءة الدين. والقول إن مجتمعاتنا تقوم على بنية من الأفكار والقيم والسلوكات تقدّم في رؤيتها للذات والآخر، وإدارة الشأن العام، موارد مستمرة لتعزيز المحافظة والانغلاق والتخلف، مسألة تستحق النقاش، تحت عنوان (العائق الثقافي)، لكن تصوير هذا الخلل في مجتمعاتنا وكأنه «جينات» للتخلف وغياب التسامح، ليس لنا أمامها أيّ فكاك، هو حديث مغلوط وغير علميّ ويتورط في «حتميات ثقافية» لا تقدّم مقاربة دقيقة لمشكلاتنا، بل تنطوي على جلد للذات وعلى «قدَريّة» في التوصيف لا تلتفت إلى أن الأفكار تتغير وتتحول بالممارسة والنقد، وأن العوائق الثقافية التي نتحدث عنها منتجة تاريخياً ويمكن تحويلها، كما يرى عزمي بشارة، الذي يلفت إلى أن إعطاء أو اكتساب الحقوق المدنية للشعوب أمر جوهري يسهم في إعادة إنتاج ثقافتها، إلى جانب أن ممارستها لهذه الحقوق يسهم في تحويل هذه الثقافة، وليس هناك شعب تحوّلت ثقافته السياسية والاجتماعية مرة واحدة قبل أن يحقق نظام حكم أفضل.
إذاً فالحكومات، إلى جانب المثقفين ووسائل الإعلام وغيرها، لا بد أن تكون معنية ببناء متدرج لبنية ثقافية واجتماعية، تحتضن التحديث والإصلاحين السياسي والديني كمطالب وحاجات مجتمعية تحظى بالتوافق الشعبي. والتذرع بـ «عدم وعي المواطن» هروب من المسؤولية، وسلوك شبيه بسلوك ذاك الأب الذي يخاف على طفله الصغير الذي تجاوز السنتين ولمّا يتمكن من المشي؛ لأنّ أباه يخاف عليه من السقوط على الأرض والتأذي، ويخشى عليه من مخاطر التجربة وتحدي الحرية، التي من دونها لن يستطيع المشي ومعانقة الحياة واكتشاف العالم.
[1] إيليا حريق، الديمقراطية وتحديات الحداثة: بين الشرق والغرب، دار الساقي، بيروت، 2001
[2] جوزيف سماحة، الآن هنا، الدار العربية للعلوم - ناشرون، بيروت، 2007، ص ص 217 ـ218
[3] Mustafa Akyol, A Medieval Antidote to ISIS, New York Times, 21 Dec 2015, link: http://www.nytimes.com/2015/12/21/opinion/a-medieval-antidote-to-isis.html?_r=0