محاولة لفهم قصة خلق الإنسان
فئة : قراءات في كتب
محاولة لفهم قصة خلق الإنسان
من خلال كتاب (أبي آدم، قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة)
للمفكّر الإسلامي د. عبد الصبور شاهين
الملخّص:
تتناول هذه المراجعة كتابا خلافيا من الأهمية بمكان، لا تتعلّق أهميته بالضجة الفقهية والسياسية والإعلامية التي أثارها إبّان صدوره في أواخر القرن الماضي فحسب، وإنما لأنّ صاحبه المفكر الإسلامي المرحوم د. عبد الصبور شاهين انكبّ على مسألة "كلامية وفلسفية" إشكالية ومعقّدة تقترن بالغيبيات والماورائيات. مما دفعني إلى إعادة قراءة هذا المؤلَّف الجريء ومحاولة فهم المنطلقات والموجهات والمقاصد، التي حرّكت الباحث لخوض موضوع شائك جلب له الكثير من المحن والمعاناة، فتريثت بدءا عند الزوبعة التي أثارها بعض الفقهاء حول هذا الكتاب، ثم عرّجتُ على الأسباب الأربعة الجوهرية التي حفزت د. شاهين على التأليف في هذه المسألة، وهي تنقية الفكر الإسلامي من الإسرائيليات، فتح باب الاجتهاد الذي به يتجدّد الفكر الإسلامي، الاستفادة مما توصّل إليه العلم الحديث وطرح رؤية جديدة وبديلة لقصة خلق الإنسان. وخلصت بعد هذه المراجعة الموضوعية لكتاب "أبي آدم..." إلى خلاصة أساسية، مؤدّاها أنّ رفض بعض الدوائر الفقهية والعلمية الإسلامية لمثل هذا الاجتهاد الفكري والفلسفي الذي طرحه د. شاهين بخصوص قصة الخليقة هو المسؤول الأساس عن استمرار تأخر المسلمين الفكري والعلمي والتكنولوجي، في غياب تام لمبدإ التعايش الفكري بين مختلف علماء الأمة الإسلامية ومثقفيها ومبدعيها، مما يسهم في زرع نبتات التباغض، وإغلاق باب الاجتهاد، وتضييق مجال الحرية الفكرية.
زوبعة حول كتاب "أبي آدم..."
قبل قراءة كتاب (أبي آدم قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة)[1] للمفكر الإسلامي المرحوم د. عبد الصبور شاهين، شاهدت مناظرة علمية بينه وبين د. زغلول النجار على إحدى الفضائيات العربية المشهورة، حول هذا الكتاب الذي أنوي قراءته في هذه المراجعة، وهو كتاب، حسب ما ورد على لسان د.النجار، مليء بالأخطاء، وهو بذلك لا يشكل أية إضافة إلى الفكر الإسلامي، بقدر ما يثير مزيدا من البلبلة والفتن، إذ كان على صاحبه ألا يكتبه أصلا، وألا يخوض في مثل هذه الأمور، فهو يطأ أرضا ليست بأرضه! وما إلى ذلك من الكلام التنقيصي من قيمة الكتاب وأهميته، وأشير في هذا الصدد بالإضافة إلى ذلك، إلى موقفين آخرين حول الكتاب، رغم الاختلاف الجذري في المنطلقات والتصورات المذهبية والفكرية عند صاحبيهما، فإنهما يتفقان في الهجوم الشرس على طرح د. عبد الصبور شاهين، والسعي الحثيث إلى تقويضه والحط من قيمة كاتبه.
الرأي الأول للمرحوم الشيخ د. عبد العظيم المطعني، وقد جاء فيه أن "هذا الموضوع من الموضوعات الغيبية، التي حدثت في أزمنة سحيقة، وبعُد بيننا وبينها العهد، بل هو موضوع يقع الآن خارج ذاكرة الوعي التاريخي، وهو أشد الأمور الغيبية غموضًا، وكل حديث عنه يخوض فيه الباحثون، إنما هو رجم بالغيب".[2] وهذا الرأي في الحقيقة يتضمّن مغالطة واضحة، لا سيّما عندما يتّخذ مفهوم الغيب ذريعة للتصدّي لاجتهاد عبد الصبور شاهين، وهو لا يميز بين الأمور الغيبية التي استأثر الله تعالى بعلمها، ولا يحقّ للإنسان الخوض فيها، وبين المسائل الغيبية التي منح الله تعالى الإنسان حرّية التفكر والتدبر فيها، (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)[3]،وهو بذلك يهدم ما كان قد ردده في مقال آخر، حول موضوع الغيب ومدى علم الجن به، حيث قال: "هذا يتوقف على ما المقصود بالغيب فللغيب أنواع ثلاثة: غيب مضى، غيب زماني مستقبل وغيب مكاني. الشيطان يعلم الغيب بالمعنى الأول والثالث، لأنه ليس غيباً حقيقياً بل غيب نسبي، فالجنّ لديه سرعة الحركة ومن الممكن أن يعلم ما يحدث في أمريكا مثلاً في وقت الحدوث، وينقل ما يحدث وبسرعة. أمّا غيب المستقبل، فهو الغيب الحقيقي الذي لا يعلمه إلا الله".[4] والإنسان كذلك أصبح في العصر الحديث، بواسطة التقدّم العلمي والتكنولوجي، بمقدوره الاطلاع على النوعين الأول والثالث من الغيب، بل وأكثر من ذلك؛ فالعلماء يفاجئوننا كلّ يوم باكتشافات علميّة، تتعلق بالفضاء الخارجي وجسد الإنسان، كانت تعتبر قبل زمن قصير من القضايا الممنوع الخوض فيها! ثم إن ما زاد الطين بلة، هو أنّ الأستاذ المطعني يرفض منذ البداية طرح شاهين جملة وتفصيلا، ويرد عليه بشكل عنيف ومنغلق، لا أثر فيه لثقافة التدبر والتفكر والتحاور التي يدعو إليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة!
أمّا الرأي الثاني، فهو للباحث د. حمزة بن قبلان المزيني، وهو يبدو في موقفه أهون من الأستاذ المطعني، وقد اعتمد فيه صاحبه منهج النقد العلمي، كما يتّضح من طريقة تحليله لمختلف قضايا الكتاب التي يبدأ بقراءتها وعرضها، ثم البحث عن موضع الخلل فيها، ليخلص من ذلك كلّه إلى دحضها بأسلوب صارم، لا يدع أيّة فسحة لعقل الإنسان المتدبر، يقول: "وختاما فإن كتاب "أبي آدم"، بالإضافة إلى المآخذ العلمية التي ذكرت، سيئ التأليف؛ إذ إنّ فيه كثيرا من الاضطراب والتكرار والحشو وسوء التنسيق. هذا في الأقسام التي عرضت لها من الكتاب؛ غير أن في الكتاب فصولا أخرى لا صلة لها بالعلم، وإنما هي تخرّصات لا تستند إلى شيء. وأحسن ما في الكتاب كله تلك المواعظ الحارّة التي يوردها المؤلف في كل صفحة تقريبا."[5] ومما لا شك فيه، أن هذه الخلاصة جد قاسية في حق اجتهاد د. عبد الصبور شاهين، ليس لأنها تفتقد إلى المصداقية والموضوعية، وإنما لأنّها تخذل منهج النقد العلمي الذي زعم الباحث منذ البداية أنه سوف يوظفه في الردّ على ادعاء شاهين، واكتفى فيه بسرد المؤاخذات والسلبيات فقط، ومحاسبة صاحبها عليها، كأنّ الكتاب يخلو من أي عنصر إيجابي! وقد حاول أن يستدرك هذا الخلل المنهجي في آخر المطاف، ويعتبر أن الفرضية التي جاء بها شاهين هي مجرّد اجتهاد سبقه إليه الكثير من المفسرين المسلمين، قديما وحديثا، ولم يشكك أحد في عقيدتهم، ولم يعتبر أحد ما قالوه خروجا على الإسلام.
إنّ مثل هذه الآراء وغيرها، هي التي دفعتني إلى أن أقرأ بعزم شديد، هذا الكتاب الذي خلق بلبلة غير مسبوقة، جعلت البعض يتّهم صاحبه بالإلحاد، والبعض الآخر يرد بشجب وشراسة على ما ورد فيه، والبعض الآخر يرفع الدعاوى ضد الكاتب، وهلم جرا.
وقد تساءلت في قرارة نفسي حول ما إذا كان ما تتناقله وسائل الإعلام صحيحا، وأن الأستاذ شاهين وقع في مأزق عارم، وأنه صار يردد أفكارا غريبة وغير عادية، وأن ثمة أمرا ما أثر على عقيدته، فأصبح يجانب المحجة البيضاء!
هكذا، قرّرت أن أقرأ الكتاب، بعين العقل كما يقال، وبعيدا عن أي تعاطف أو انفعال، فوقّفت عند كل كلمة، وعند كل جملة، وعند كل فقرة... يقولها الكاتب بتأمل وتعمق، حتى أتسلل أكثر إلى البنية العميقة لمقوله، وإلى الجوانب الخلفية لنصّه التي قد تنحجب عن القارئ. فاكتشفت ألا شيء في الكتاب من شأنه أن يشكل إساءة إلى الإسلام، بقدر ما يقدم خدمة علمية ومعرفية جليلة إلى الدين والفكر والعلوم الإسلامية. آنئذ أدركت سبب تأخّـــــر الأمة الإسلامية عن الركب؛ أدركت العوامل المسؤولة عن تخلفنا وتقهقرنا؛ أدركت سرّ الويلات التي تتهاطل على كل رقعة من خارطة الأمة الإسلامية. وأدركت لماذا تتكالب الأمم على قصعتنا، كما تنبأ بذلك الحبيب المصطفى عليه وعلى آله الصلاة والسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنا.
لماذا كتاب "أبي آدم..."؟
وقبل الشروع في قراءة كتاب (أبي آدم قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة)، نضع مساءلتين جوهريتين، ثم نحاول تفكيكهما أثناء عملية القراءة بغرض التسلل إلى المقاصد الحقيقية، التي سعى المرحوم د. عبد الصبور شاهين حثيثا إلى إرسائها وتحقيقها؛ ما هي الأسباب المعلنة والخفية التي حفزت د. عبد الصبور شاهين على تأليف هذا الكتاب المثير للجدل؟ ثم ماذا أراد أن يقوله ويوصله بخصوص هذه المسألة العقدية والفلسفية الإشكالية والشائكة؟
إنّ الباحث خصص كتابه لقضية "كلامية وفلسفية" شائكة ومعقدة، تندرج في دائرة الغيب، التي يحظر الاقتراب من خطوطها الحمراء في ثقافتنا العربية والإسلامية، فما بالك والخوض فيها! وتتعلّق هذه القضيّة بقصّة الخلق؛ أي كيف بدأت حياة الإنسان أو البشر على الكرة الأرضية. وقد ورد في تقرير مجمع البحوث الإسلامية "أن التفصيلات التي يتناولها الباحث بالعرض وإبداء الرأي، وترجيح احتمال على احتمال تكاد تدخل كلها في نطاق الغيب الذي استأثر الله – سبحانه – بعلمه..."[6] غير أن الكاتب يرى أن "قصة الخلق – كما أوردها القرآن الكريم – مليئة بالكثير من الأسرار الخفية، والمعاني الظاهرة، وقد تناولها المفسرون والمصنفون من زاوية أو أخرى، وتشابهت محاولات القدماء حين أخذ بعضهم عن بعض، وحين جاء العصر الحديث بمعطياته الكثيرة في مجالات علم الأرض (الجيولوجيا) وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلوم الحياة والأحياء (البيولوجيا) وغيرها، تغيرت مفاهيم كثيرة، وصار لزاما على من يتصدى لكتابة شيء عن هذه القصة أن يأخذ في اعتباره ما كشف عنه العلم الحديث من حقائق نسبية، وما قال به من نظريات، حتى لا يبدو متخلفا عن موكب المعرفة المعاصرة، وذلك على الرغم من أن الذين حاولوا الكتابة في هذه القصة حديثا تعاملوا معها من منطلق المسلمات القديمة، أو بمنطق اللا مساس والتوفيق والحذر".[7]
على هذا الأساس، فإن الكاتب سوف يسعى جاهدا إلى الكشف عن تلك الأسرار الخفية التي ينطوي عليها القرآن الكريم، بمنهج راق يوفّق بين التأمل العقلي واستثمار إمكانات اللغة العربية، بين استجلاء الحقائق القرآنية والاستئناس بالكشوف العلمية، وهو يضع بين ناظريه جملة من الأهداف العظيمة التي بتحقق بعضها أو بعض جوانبها تتأتى للأمة الإسلامية أسباب اليقظة من رقدتها المزمنة! وأهم هذه الأهداف تتحدد كالآتي:
-تنقية الفكر الإسلامي ممّا علق به من الإسرائيليات التي صارت توجّه العديد من مفاهيمه وحقائقه وأحداثه.
-فتح باب الاجتهاد الذي به يتجدّد الفكر الإسلامي، تجدّدا يأخذ بعين الاعتبار مختلف الحيثيات والمكونات التاريخية والسياقية والثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
-الانفتاح على ما توصّل إليه البحث العلمي، والاستفادة من نتائجه في فهم مختلف قضايا التاريخ الإسلامي والإنساني على حد سواء.
-الرؤية الجديدة والبديلة لحقيقة بداية الخلق، من خلال النصّ القرآني وعلى ضوء آخر ما اكتشفه العلم الحديث.
وقبل الانطلاق نحو تناول هذه العناصر/الأهداف الأربعة التي من شأنها أن تميط اللثام عن قيمة هذا الكتاب، وأهمية ما توصل إليه من حقائق، تجدر الإشارة إلى أنّ العاصفة الفقهية والسياسية والإعلامية الكبيرة التي أثيرت حوله، كانت مجرد سحابة صيف عابرة، أو مجرد زوبعة في فنجان! والدليل على ذلك، أن الكتاب تلقى دعما معنويا من مجمع البحوث الإسلامية الذي ورد في تقريره ما يلي:
"ولهذا لا ترى اللجنة فيما كتبه المؤلف محاولة للتوفيق بين العلم والدين بقدر ما ترى فيه اجتهادا منه في فهم النص القرآني، وهو اجتهاد لا توافق اللجنة المؤلف على بعض أجزائه، حيث لا يكفي ما ساقه في هذا التدليل ليقرر النتائج التي انتهى إليها، وإذا كانت اللجنة قد حددت مهمتها – على ما سبق – بأنها بيان ما إذا كان المؤلف قد تجاوز الحد في تأويلاته للنصوص القرآنية... تجاوزا يخالف به ثوابت العقيدة أو يتناقض مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فإن الذي تنتهي إليه اللجنة أن المؤلف لم يقع في مثل هذه المخالفة".[8]
تنقية الفكر الإسلامي من الإسرائيليات:
يوضّح المفكر عبد الصبور شاهين في مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب، أن غاية كتابه هي تقديم تصور إسلامي صرف، حول قصة خلق الإنسان وبداية الحياة الإنسانية في الكون، وذلك استنادا إلى النص القرآني، وما ينطوي عليه من خبايا وأسرار غابت عن الكثير من أهل التفسير، وقد ساهم في قصور نظرهم في النصوص القرآنية، ومحدودية فهمهم للجوانب العميقة فيه، حيث اكتفى أغلبهم بما ورد في أحاديث الإسرائيليات على أنه من المسلمات والحقائق المطلقة، يقول الأستاذ عبد الصبور شاهين: "أمّا الكتاب فقد كان صخرة أردت بها أن أدقّ رأس الأفعى الإسرائيلية اللاّبدة في الثقافة الإسلامية القديمة، ممثلة فيما سمّي بالإسرائيليات، وهي لا تعدو أن تكون أساطير خرافية تسلّلت إلى الفكر الإسلامي، وإلى عقل الإنسان المسلم، فاعتمدها أئمّة أهل التفسير، ومن خلال تلك التفاسير سكنت في منطقة المسلّمات من عقل المسلم، وهي في الواقع أفعى إسرائيلية اعتنقها كثير من الرجال، ممّن لم يعلموا عقولهم في تحليل نصوص القرآن، وممّن لم يشعروا بالصدمة حين اتضحت من الأرقام المسافات الزمنية الهائلة بين معطيات الخرافة، وتقديرات العلم لآماد ما قبل التاريخ... وأبعاد الحياة البشرية...لقد خنقت الأفعى أفهامهم حين طوقت أعناقهم".[9]
إنّ تحليل هذا النصّ على ضوء ما سوف يرد في الفصول القادمة من الكتاب، يفضي بنا إلى ثبت ثلاث ملاحظات أساسية، وهي كالآتي:
1.قام الكاتب باستبعاد معظم الأحاديث التي يشتمّ منها أنّها من الإسرائيليات، وذلك لأنّها تتضمّن العديد من المغالطات التاريخية، فيما يتعلق بقصّة الخلق، فهي تبني حقائقها على ما هو خرافي وأسطوري، لا سيما وأنها أصبحت اليوم تتعارض وما توصل إليه العلم الحديث الذي، وإن كانت نتائجه نسبية، فإنها تنطوي على نسبة معينة من المصداقية التي من شأنها أن تجعل الفكر الإسلامي يعيد النظر في العديد من الأفكار والمفاهيم التي انغرست في العقل الإسلامي، على أنها مسلمات وحقائق مطلقة.
2.ثم إنّه عندما نتتبع أدلة الكاتب وحججه، نجد أنه يغيب أدلة الحديث، فهل هذا يعني أنّ كل الأحاديث التي تتمحور حول خلق الإنسان، تندرج في دائرة الإسرائيليات، ثم لماذا لم يعقد فصلا أو مبحثا يتناول فيه أحاديث الإسرائيليات، خصوصا المرتبطة منها بالخلق، كاشفا مغالطاتها وأخطائها وتناقضاتها؟
3.هكذا، فإن الباحث يكتفي في الجزء الأعظم من كتابه بالنصّ القرآني، ليس للاستدلال فحسب، وإنما ليجعل منه قاعدة بحثه، مستثمرا إمكاناته اللغوية الخارقة، في تفسير آي القرآن والتسلّل إلى سراديبها الخلفية التي لم تطأها أقدام ممّن سبقه من المفسّرين الذين غالبا ما تأثروا بأحاديث الإسرائيليات التي عدوها من المسلمات؛ فلم يُعمل الكثير منهم عقولهم في تحليل نصوص القرآن الكريم.
وجدير بالذكر أنّه ينبغي أن نميز بين نوعين من الحكايات الإسرائيلية؛ الأولى هي تلك القصص التي رويت في شكل أحاديث نبوية موضوعة، والثانية هي القصص الموجودة في مختلف كتب السير والتاريخ، وقد أشار الكاتب إلى بعض منها، كمروج الذهب للمسعودي، والمستطرف من كل فن مستظرف للإبشيهي، وألف ليلة وليلة، وفيما يتعلّق بالنوع الأول؛ أي بأحاديث الإسرائيليات التي تمتّ بصلة ما إلى قصّة الخلق، فتبدو جدّ قليلة في الكتاب، فهي لا تتجاوز بضعة أحاديث. وقد توقّف الباحث عند حديث خلق المرأة من ضلع الرجل، فلم يورد نصّه كاملا، بقدر ما أشار إليه إشارة عابرة، يفهم منها أنّه لا يتّفق والرأي الذي يقول بأنّ حوّاء خلقت من آدم، خلقا مادّيا، وإنّما خلقا نفسيا، كما أنّه لم يبيّن هل هو من الإسرائيليات أم لا؟، وهذا هو نصّ الحديث كما جاء في صحيح البخاري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ المرأة كالضلع إن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها على عوج وفي لفظ: استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإنّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء)، وهو حديث متّفق عليه.[10] ويقول الأستاذ شاهين معلّقا على فحوى هذا الحديث: "فهل حواء من ضلع آدم كما وردت بذلك آثار؟ أو أنّ حواء خلقت مستقلا، كما هو شأن آدم؟ الاحتمال الأخير هو الراجح في نظرنا لأمرين:
أوّلهما: أنّ كثيرا من العلماء اعتبروا مسألة الضلع مجرّد رمز لطبيعة المرأة وفطرتها.
ثانيهما: أنّ خلق حواء من نفس آدم مؤوّل على أنّها من نوعه وجنسه، وقد جاء ذلك بالنسبة إلى كل زوج في قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها)[11]".[12]
أما الحكايات الإسرائيلية التي تضمّنتها كتب السير والتاريخ، فهي كثيرة، أشار الكاتب إلى بعض منها، لا سيّما المتعلّق بقصّة الخلق، وأهمّ قصّة أوردها الكاتب بنصّها، كاشفا تناقضاتها التاريخية، ومع ذلك فقد تأثرت بها آراء الأقدمين من العلماء، وهذه القصّة جاءت في العهد القديم، وهي تتمحور حول شخصية عوج بن عنق، وقد سرد تفاصيلها حسب رواية وهب بن منبه، ليخلص إلى أنّه من "العجيب أن يزعم راوي الأسطورة أنّ عوجا عاش – وهو الحفيد لآدم – حتى عهد موسى؛ أي أكثر من سبعة آلاف سنة...؟؟"[13]
فتح باب الاجتهاد الذي به يتجدّد الفكر الإسلامي:
يرى د. عبد الصبور شاهين أنّ بحثه يندرج في باب الاجتهاد الذي يدعو إليه الدين الإسلامي، وهو أمر مطلوب ما لم يتعارض مع ما هو قطعي من العقيدة الإسلامية، بل وأنّ صاحبه مأجور، سواء أأصاب أم لم يصب! وقد لاحظ أنّ العقل المسلم ابتلي بمدرستين لهما وجود على الساحة، ولهما ضجيج مزعج، وقد آن أوان إخماد هذا الضجيج، وهاتان المدرستان هما: المدرسة الخرافية التي تتبنّى الحكايات والإسرائيليات، وقد تمّت الإشارة إلى جوانب منها في العنصر السابق. أمّا المدرسة الثانية، فيطلق عليها المدرسة الحرفية، ويصفها بأنها "تشبثت بالمأثور، حتى ولو كان خرافيا، وهي المدرسة التي ترفع السيف في وجه أي اجتهاد، بدعوى الخروج على قواعد اللعبة السلفية، والسلفية براء من كل أشكال الأساطير والخرافات".[14]
وممّا لا شك فيه، أنّ هذا الموقف من التوجّه السلفي المعاصر، هو الذي ساهم في خلق العديد من الخصوم الذين عارضوا كتاب شاهين بشدّة، لا لأنه يشكّل خطورة على العقيدة الإسلامية، وإنّما لأنّه يسيء إلى التيار السلفي الجديد الذي يدّعي أنه يملك الحقيقة المطلقة، وأنّه الممثّل الحقيقي للإسلام، كما كان على عهد السلف الصالح. لذلك فبدل أن ينصبّ الحديث على مضامين الكتاب وما أثاره من قضايا ومسائل، تضع أكثر من علامة استفهام على جوانب عدّة من التراث الإسلامي، فإنّه انصرف إلى ما هو شخصيّ وأيديولوجي، لا يترتّب عنه إلاّ تفريخ الضغائن والأحقاد ونشر ثقافة التكفير والتبديع والتشهير والتفسيق!
إنّ الأستاذ شاهين يعتبر ما توصّل إليه العلم الحديث نسبيا، في حين يتعامل مع ما جاء به القرآن الكريم على أنه حقائق مطلقة ونهائية، يقول: "أمّا القرآن، وهو الكلمة الإلهية النهائية في الخطاب ما بين السماء والأرض، أو ما بين الأعلى والأدنى، فإنه ولا شك يقدّم للعقل الإنساني الحقائق النهائية في الموضوع، ولكنّ الأجيال تتفاوت في فهم النصّ المقدّس، حتى ليبدو ما استخرجه الفكر الديني – حتى الآن من النصوص – مناقضا للعلم، ولا سبيل إلى تحقيق اللقاء بينهما".[15]
من هذا المنطلق، فإنّ النصّ القرآني يتضمن حقائق قطعية ومطلقة، لكن فهم العقل الإنساني لهذه الحقائق يظلّ نسبيا، ومتفاوتا بين الأجيال، فهو من جهة أولى يترجح بين أن يكتفي بالتناول الحرفي للنصوص، فيحكم على نفسه بالانغلاق والجمود، أو يحاول التسلّل إلى خفايا النصوص وخباياها منضبطا إلى شروط التفسير ومقتضياته، مستثمرا الإمكانات اللغوية التي تختلف من إنسان إلى آخر، ومن جيل إلى آخر، ومن جهة ثانية ينفتح ذلك الفهم للنصوص القرآنية على السياق العام، بمختلف مكوناته الثقافية والعلمية والتاريخية والسياسية، لا سيما وأن ثمة الكثير من الكشوف والمستجدات العلمية التي صارت تعضد أغلب الحقائق القرآنية.
وبالعودة إلى قصّة الخلق، يبدو أنّ السلف لم يتفقوا على أن آدم هو أول الخليقة، فإذا كان الجمهور يقول بذلك، فإن بعضهم ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، "فتصوروا -كما يقول د. عبد الصبور شاهين - أن لهذه الخليقة وجودا ممتدا في أعماق الزمان، قبل آدم، ربما إلى ملايين السنين، والمهمّ أنّ أحدا ممّن قال بهذا المذهب لم يلق نكيرا من الفريق الآخر... بل عاشت الآراء المتناقضة جنبا إلى جنب، حتى تلقيناها ورأينا كيف أنار الله بصيرة الأقدمين فامتدت رؤيتهم إلى أعماق الغيب قبل التاريخ على هذه الأرض، وتنوعت رؤيتهم تبعا لاختلاف التخيلات".[16] غير أنه أصبح الحديث في هذا العصر عن مثل هذه الأمور من المحرمات، وأنّ كل من سوّلت له نفسه الخوض فيها، ولو بكيفية تنضبط لما هو مطلق وقطعي من العقيدة، فإنه لا يتعرّض للتنكير فحسب، وإنما للتكفير والمحاكمة والتعذيب! فكيف يتأتى للاجتهاد أن يشرع أبوابه؟ وكيف يتأتى للفكر الإسلامي أن يتجدّد ويتخلّص من أسماله البالية المهترئة؟!
الاستفادة ممّا توصّل إليه العلم الحديث:
يراهن الباحث منذ البداية على أنّ الكشوف الحديثة التي حققها البحث العلمي، من شأنها أن تمكننا من فهم جوانب كثيرة من قصّة خلق الإنسان، وذلك بناء على الدراسات الأركيولوجية والأنثروبولوجية، التي اهتمت بآثار ومخلّفات الحضارات القديمة، كالهياكل العظمية ومختلف الأدوات التي كان يستعملها الإنسان، وتبقى الهياكل العظمية أهمّ أثر أسعف العلم الحديث على التوصّل إلى نتائج ملموسة بخصوص بدايات الإنسان على الكرة الأرضية، ورغم أنّ هذه البحوث ما تزال في طفولتها، وأنّ هذه النتائج تظلّ نسبية، إلاّ أنها تتضمّن نسبة ولو قليلة من الحقيقة.
وبناء على هذه النتائج العلمية، يبدو أنّ ثمة نوعا من التعارض بين فحوى النصوص القرآنية، سواء المتعلّقة بقصّة الخلق أم بقضايا أخرى، وبين ما توصّل إليه العلم الحديث من اكتشافات متنوعة، بل وهناك من يصف القرآن الكريم بالتناقض، وهو كلام الله تعالى المنزّه عن ذلك، لعلّه يمكن الحديث عن نوع من التناقض، لكن ليس في القرآن الكريم، لكن في تعاملنا معه وفهمنا لنصوصه وأحكامه، وهذا ما يسري، بدون شك، على قصّة خلق الإنسان، التي رهنها المفسّرون بما تداول في العهد القديم من حكايات وقصص محرفة ومزيفة، وهم يعلمون أن أهل الكتاب، كما ورد في القرآن الكريم، قد تضلّعوا في تحريف الكلم عن مواضعه!
هكذا يتّضح أنّ قوة العلم الحديث، على نسبية نتائجه، كما يستفاد من طرح د. عبد الصبور شاهين، تتحدّد في ثلاثة عناصر، وهي على التوالي:
1.ردّ التفسير الذي تتبناه الإسرائيليات لقصة الخلق، سواء أتعلق الأمر بكيفية خلق الإنسان وتسويته أم بالمراحل التي مرّ بها هذا الخلق. فالنصّ القرآني يشير إشارات عامة إلى كيفية الخلق، يفهمها كلّ جيل حسب إمكاناته اللغوية والعقلية، بعيدا عمّا تنقله الإسرائيليات من تفسيرات تتعارض مع القرآن الكريم في أمور عدّة، ثم إنّها تختزل تاريخ الإنسانية من آدم عليه السلام إلى أبينا إبراهيم عليه السلام، كما ورد في سفر التكوين، في أقل من ثلاثة آلاف سنة تستغرق عشرين جيلا![17]
2.تضارب آراء العلماء وأقوالهم حول بداية الإنسان الأول على سطح الكرة الأرضية لا ينمّ عن تناقض ما، بقدر ما هو مؤشّر على تطوّر العلم وتجدّده، إذ يرتبط تفسير ظهور أقدم إنسان على وجه الأرض بآخر ما اكتشفه العلماء من هياكل عظمية، لا سيما وأن كل اكتشاف يطرح تقديرا زمنيا جديدا، فهناك من يرجع ظهور أوّل إنسان إلى ما بين ثلاثين وخمسة وثلاثين ألف سنة، وهو إنسان كرومانون الذي وُجد بجنوب فرنسا، وهناك من يرجعه إلى أكثر من مليون سنة، بل وهناك من يرجعه إلى أكثر من ذلك، حيث أعلن في كينيا في أوائل سبعينيات القرن الماضي اكتشاف بقايا جمجمة يرجع تاريخها إلى مليونين ونصف مليون عام، وتُعدّ أقدم أثر من نوعه للإنسان الأوّل. وأكثر من ذلك كلّه، أنّ البروفيسور جوهانس هورزلر اكتشف قطعة من الفحم بداخلها قطعة من فك إنسان يرجع تاريخها إلى عشرة ملايين سنة، وهذا هو التاريخ الذي أمكن الحصول فيه على هياكل آدمية.[18]
3.تقويض العلم الحديث لنظرية التطوّر كما طرحها داروين، والتي ظلت قرونا طويلة ما تنفك تلقّن الإنسان المعاصر أنّه ينحدر من سلالة القردة! إذ إن الاكتشاف الجديد الذي تمّ في كينيا يظهر، حسب رأي عالم الأنثروبولوجيا ريتشارد ليكي، "أنّ المخلوق الإنساني ذا الساقين لم يتطوّر عن المخلوق البدائي الذي يشبه القرد، بل كان يعاصره منذ أكثر من مليونين ونصف مليون عام، وأنه يمكن على هذا الاعتبار استبعاد المخلوق البدائي الأول على أساس أنّ الإنسان انحدر من سلالته".[19]
الرؤية الجديدة والبديلة لقصّة خلق الإنسان:
بعد اطلاعه الواسع على أهمّ النظريات العلمية المرتبطة بظهور الإنسان على الكرة الأرضية، وبعد تأمله العميق في النصوص القرآنية الخاصّة بخلق الإنسان، يخلص المفكر د. عبد الصبور شاهين إلى أنّ قصة الخليقة شهدت مرحلتين أساسيتين؛ مرحلة ظهور البشر، ثم مرحلة ظهور الإنسان، فهو يميّز تمييزا دقيقا بين مصطلحي البشر والإنسان، وعلى أساس هذا التمييز يبني الجانب الأهمّ من نظريته حول قصّة الخلق، ولعلّه أوّل باحث يتوصّل إلى هذا الكشف اللغوي والعلمي، فلم يسبق أن ركّز أحد من القدامى أو المعاصرين على هذا التمايز بين ما هو بشري وما هو إنساني، وهو تمايز تنفرد به اللغة العربية عن باقي اللغات الإنسانية، قديمة كانت أم حديثة، سامية كانت أم أوروبية! بل وإن بعض الترجمات التي عقدت للقرآن الكريم لم تنتبه إلى ذلك الفرق الكائن بين مصطلحي بشر وإنسان. وقد استثنى الباحث بعضها كترجمة محمد بكثال للقرآن الكريم إلى الإنجليزية، التي قابلت كلمة بشر بـ Mortal، وكلمة إنسان بـ Man، كما أنّ جاك بيرك ميّز في ترجمته الفرنسية للقرآن بين Homme: إنسان، و Humain: بشر.[20]
ويوازن د. عبد الصبور شاهين في بين مصطلحي البشر والإنسان من خلال قوله: "حقيقة لا ريب فيها: هي أنّ بين (البشر والإنسان) عموما وخصوصا مطلقا، فـ (البشر) لفظ عامّ في كلّ مخلوق ظهر على سطح الأرض، يسير على قدمين، منتصب القامة. و(الإنسان) لفظ خاصّ بكلّ من كان من البشر مكلّفا بمعرفة الله وعبادته، فكلّ إنسان بشر، وليس كلّ بشر إنسانا".[21] هكذا، فإنّ "الإنسان لا يطلق بمفهوم القرآن إلا على ذلك المخلوق المكلف بالتوحيد والعبادة لا غير، وهو الذي يبدأ بوجود آدم عليه السلام، وآدم – على هذا- هو (أبو الإنسان) وليس (أبا البشر)، ولا علاقة بين آدم والبشر الذين بادوا قبله، تمهيدا لظهور ذلك النسل الآدمي الجديد".[22] ثم يضيف، وهو يصف طبيعة السلوك الذي كان يتحلى به البشر، و"لقد كان (البشر) خلال الأحقاب والعهود المتطاولة مجرد مخلوقات متحركة، حيوانية السلوك، ولكنها تزداد في كل مرحلة تعديلا في سلوكها، ونضجا في خبرتها، وتلوّنا في طرائق التفاهم اللغوي فيما بينها، وربّما كان هذا هو المقصود بسؤال الملائكة للربّ جلا وعلا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، كان هذا هو الواقع المشاهد، فتعجب الملائكة من استخلاف هؤلاء المفسدين المتوحّشين!!".[23]
هكذا يتقرر، من خلال المقارنة السابقة التي يعقدها الباحث بين مخلوقي: البشر والإنسان، أنّ آدم عليه السلام كان الفيصل بين مرحلتين؛ أولاهما كانت مرحلة مظلمة ومتوحشة سادها البشر، وثانيتهما كانت مرحلة أكثر نموّا وتعقّلا، ظهر فيها الإنسان الذي يتميّز عن البشر بالعقل والعبادة والتنظيم. تُرى ما هي الأطوار التي مرّ بها هذا المخلوق البشري أو الإنساني، لتكتمل بنيته الخلقية والخلقية، الذهنية والنفسية، فتصبح كما هي قائمة في أوّل إنسان ظهر على سطح الكون الذي هو أبونا آدم عليه السلام؟
قصد استيعاب أهمّ المحطات التي قطعها البشر في مرحلة ما قبل آدم عليه السلام، ليصبح إنسانا في المرحلة الموالية، يستثمر الباحث مختلف النصوص القرآنية التي تتعلق بقصّة الخلق وتسوية الإنسان، غير أنّ أهمّ نصّ يستلفت نظره، فيجعل منه مرتكز بحثه، يتشكّل من آيات سورة (ص) الخاصة بالخلق، وهي تمتدّ من الآية 71 إلى الآية 85، وقد عمد الباحث إلى شرح النصّ آية آية، لكن الذي يهمّنا من هذا النص هو الآيتان 71 و72، اللتان يقول فيهما الله عز وجل: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سوّيته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين). فالأستاذ شاهين يقسّم قصة خلق الإنسان إلى ثلاثة أطوار، يستقيها من هاتين الآيتين، وهذه الأطوار هي:
1.طور الخلق (إنّي خالق بشرا)؛
2.ثم طور التسوية (فإذا سوّيته)؛
3.فطور النفخ (ونفختُ فيه من روحي).
ويلخّص هذه الأطوار الثلاثة بجلاء تامّ، من خلال هذه الفقرة التي يقول فيها: "إن خلق الإنسان تمّ عبر ثلاث مراحل هائلة، هي (الخلق، والتسوية، والنفخ)، ومن السذاجة أن نفسّر هذا النفخ بأنه بثّ الروح في الجسد، فقد حدث ذلك في مرحلة (الخلق) الأولى التي أحالت التراب أو الطين إلى مخلوق ظاهر (بشر) يتحرّك على الأرض بالروح الحيواني، كما تتحرّك سائر الكائنات من حشر، وطير وحيوان، ثم تناولت القدرة ذلك المخلوق في المرحلة الثانية (بالتسوية) أو ما يمكن تشبيهه بهندسة البناء وتجميله، وهي مرحلة التعديل المادي أو الظاهري، وقد استغرقت ملايين السنين، والله أعلم بتفاصيلها، ثم جاءت المرحلة الثالثة للهندسة الداخلية، وهي المتمثلة في تزويد المخلوق السوي بالملكات والقدرات العليا التي جوهرها (العقل)، والحياة الاجتماعية ثمرة العقل، واللغة وسيلة الاتصال بين أفراد المجتمع من العقلاء، وبذلك اكتمل بناء (الإنسان)، فكان (آدم) هو أول (إنسان)، وطليعة سلالة التكليف بتوحيد الله وعبادته".[24]
خلاصة القول:
عود على بدء، بعد هذه القراءة الموضوعية المتأنية لكتاب المفكّر الإسلامي المرحوم د. عبد الصبور شاهين، (أبي آدم قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة)، يتقرّر أنّ استمرار تأخّر المسلمين الفكري والعلمي والتكنولوجي، لا يرجع إلى حاجتهم إلى الأفكار النيّرة، والإمكانات المادية، والمثقفين النوابغ؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، يوجد حوالي ألف عالم مصري حسب بعض الإحصائيات الموثوقة، موزّعين على مختلف ميادين العلم والتكنولوجيا، وإنّما يتوّلد ذلك التأخّر عن غياب مبدإ التعايش الفكري، بين مختلف علماء الأمّة الإسلامية ومثقفيها ومبدعيها، مما يسهم في زرع نباتات التباغض، وإغلاق باب الاجتهاد، وتضييق مجال الحرية الفكرية. وكلما تقلصت مساحة ذلك التعايش الفكري، تناقصت قيمة العلم فانشغل ذووه بالقشور والجزئيات، بل وكلّما تسلّلت هذه الآفة إلى أوساط المثقفين والعلماء أنفسهم، كانت الكارثة أعظم، والمُصاب جللا، وهذا ما قد اتضح لنا في البداية بجلاء تامّ، من خلال مواقف بعض العلماء والباحثين من هذا الطرح العلمي الجريء، وهو موقف ينمّ عن انسداد الفكر الإسلامي المعاصر وتقوقعه وانبطاحه!
[1]- شاهين، عبد الصبور، أبي آدم قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة، دار أخبار اليوم القاهرة، ط 2 (بدون تاريخ النشر).
[2]- هذا القول ضمنة د. المطعني في رسالة/فتوى أجاب فيها عن سؤال يتعلق بقصة خلق آدم، وسوف يؤلف د. المطعني كتابا في الرد على رؤية د. شاهين، يحمل عنوان: (أبي ادم.. قصة الخليفة بين الخيال الجامح.. والتأويل المرفوض).
[3]- الرحمن/33
[4]- تنظر رسالة للدكتور عبد العظيم المطعني تحمل عنوان: رأيت الجن بمكة، وهي موجودة على بعض المواقع الرقمية.
[5]- ينظر مقال د. حمزة بن قبلان المزيني في جريدة الشرق الأوسط: الزيف الاشتقاقي: مراجعة لكتاب عبد الصبور شاهين "أبي آدم"، ج 1 و2، جريدة الشرق الأوسط، 19- 2000/3/20
[6]- ينظر كتاب د. شاهين، مرجع سابق، ص 195 و196
[7]- المرجع نفسه، ص 27
[8]- المرجع نفسه، ص 202
[9]- المرجع نفسه، ص 20
[10]- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، تح. محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية – القاهرة، ط1400/1 ه، رقم 5184
[11]- الروم/21
[12]- ينظر كتاب د. شاهين، مرجع سابق، ص 83 و84
[13]- المرجع نفسه، ص 55 و56
[14]- المرجع نفسه، ص 23
[15]- المرجع نفسه، ص 49
[16]- المرجع نفسه، ص 51
[17]- المرجع نفسه، ص 29
[18]- المرجع نفسه، ص 42
[19]- المرجع نفسه، ص 41
[20]- المرجع نفسه، ص 83
[21]- المرجع نفسه، ص 102
[22]- المرجع نفسه، ص 104
[23]- المرجع نفسه، ص 107
[24]- المرجع نفسه، ص 110 و111