محمّد الشّريف فرجاني: العلمانية منهجا في التفكير وتحولات الإسلام السياسي
فئة : حوارات
الجزء الأوّل:
"العلمانيّة منهجًا في التّفكير وتحوّلات الإسلام السّياسيّ"
د. نادر الحمّامي: سعداء - اليوم - باستقبال الأستاذ محمّد الشّريف فرجاني، أستاذ العلوم السّياسيّة والدّراسات العربيّة في جامعة ليون الثّانية (l'Université Lumière - Lyon2)، وهو المختصّ، بما كتب وما نُشر له، بالبحث في علاقة الدّينيّ بالسّياسيّ في المجال العربيّ والإسلاميّ بصفة خاصّة، وهذا ما تكشف عنه الدّراسات الكثيرة الّتي أنجزها في هذا المجال تحديدًا، ونشكره جزيل الشّكر لقبوله إجراء هذا الحوار المتجدّد الّذي تنظّمه مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدّراسات والأبحاث، الأستاذ محمّد شريف فرجاني انطلق بأطروحته حول العلمانيّة، وحقوق الإنسان في الفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر في جامعة ليون الثّانية، كان ذلك سنة 1989م قبل حصوله على التّأهيل الجامعيّ، الّذي أصبح بموجبه يشرف على أطروحات الدّكتوراه في الجامعات الفرنسيّة، وكان تأهيله الجامعيّ في عمل حول محاور البحث في الإسلاميّات والعلوم السّياسيّة المطبقة على العالم العربيّ وإشكالياتها، وفي هذا المجال البحثيّ الكبير صدرت له مجموعة من المؤلّفات والكتب والدّراسات الكثيرة والمقالات، ومن أهمّها كتابه "الإسلام السّياسيّ والعلمانيّة وحقوق الإنسان"؛ الّذي صدر سنة 1991م، ليعيد نشره سنة 2012م مع تحيين وتدقيق، بما يحمله هذا التّدقيق من تحوّلات سياسيّة عرفها المجتمع التّونسيّ، والكثير من المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، ممّا يوجب إعادة النّظر والتّحيين، نظرًا إلى الفارق بين الزّمنين، وله كتاب آخر بالفرنسيّة بعنوان "سبل الإسلام، مقارنة علمانيّة للوقائع الإسلاميّة" (Les voies de l’islam approche laïque des faits islamiques)، وكتاب حول السّياسيّ والدّينيّ صدر بداية بالفرنسيّة (Le politique et le religieux dans le champ islamique)، ثمّ ترجم - بعد ذلك - إلى العربيّة تحت عنوان "السّياسيّ والدّينيّ في المجال الإسلاميّ"، وترجمه الأستاذ محمّد الصّغير جنجار، وقد كتب - أيضًا - عن "الدّين والتّحوّلات الدّيمقراطيّة في حوض البحر الأبيض المتوسط" (Religions et processus de democratization en méditerranée)، وهو كتاب صدر سنة 2015م، وكان سبقه كتاب آخر بعنوان "السّجن والحريّة" (Prison et liberté, Mots passants)، وهو ضرب من الشّهادة عن تجربة عاشها، وسننطلق منها في الحوار معه، ومن آخر ما كتب حول "العلمنة والعلمانيّة في الفضاءات الإسلاميّة"، وقد صدر منذ شهر أو شهرين.
نلاحظ - إذن - غزارة الإنتاج والتّأليف لديك أستاذ شريف، مع الإشارة إلى أنّني لم أذكر المقالات، وهي عديدة، فلا يمكن إيرادها في هذا التّقديم السّريع، كما نلاحظ أنّك لا تركّز في كلّ تلك المؤلّفات على ثنائيّة الدّينيّ والسّياسيّ في المجال العربيّ فحسب؛ بل تركّز - أيضًا - على نوعيّة المقاربة الّتي تقدّمها؛ وهي مقاربة علمانيّة بالأساس، ويبدو ذلك حتّى في مستوى العناوين، ذلك أنّ كلمة "علمانيّة" أو "المقاربة العلمانيّة"، تبدو مركزيّة في كتاباتك، ولعلّ ذلك يوحي بأنّ المسألة تتجاوز مجرّد كونها خيارًا فكريًّا أو إيديولوجيًّا إلى اعتبارها مقاربة في التّفكير؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: أوّلًا؛ أشكر مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" لاستضافتي، وليست هذه المرّة الأولى الّتي أُدعى فيها من طرفكم؛ فقد سبق أن شاركت في ندوة نُظّمت في تونس سنة 2013م، حول التّحوّلات السّياسيّة في سياق الرّبيع العربيّ، وأشكركم لهذه الاستضافة.
فعلًا، العلمانيّة ليست دينًا جديدًا، وليست موقفًا إيديولوجيًّا؛ إنّما هي موقعٌ من كلّ الأديان، تحترم القناعات والانتماءات الدّينيّة، ولا تتحيّز لواحدة منها على حساب الأخرى، فتقف على المسافة نفسها منها جميعًا، فأذكر أنّني زرت إندونيسيا في سنة 2008م، وقدّمت العديد من المحاضرات في الجامعات الإندونيسيّة، منها: الجامعات الخاصّة التّي تشرف عليها جمعيّات دينيّة، مثل: "المحمّديّة"، و"نهضة العلماء"، وفي إطار تلك المحاضرات؛ فوجئ الحضور بأنّني كنت أتكلّم عن جميع الأديان بالطّريقة نفسها، فسألوني: من أي موقع أنت تتكلّم؟ فقلت لهم: إنّني أتكلّم من موقع الأستاذ الجامعيّ الّذي يتوجّه إلى طلبة لهم انتماءات مختلفة، ولا أعرف انتماءاتهم، ولا أريد أن أخاطبهم بلغة قبيلة من القبائل أو قرية روحيّة من القرى الرّوحيّة، لذلك؛ أردت أن أتوجّه إليكم بلغة يجد كلّ واحد منكم نفسه فيها، ولا تقصي أيًّا منكم، وهذا الموقف - تحديدًا - هو ما أسمّيه العلمانية؛ أي تلك المسافة المتساوية من كلّ القناعات الإيمانيّة أو
اللّاإيمانيّة، الدّينية أو اللّادينيّة، ونحن إن لم نأخذ تلك المسافة، فإنّنا سننتهي إلى إقصاء البعض وإلى الحيف في حقّ البعض الآخر، وإلى تمييز البعض عن البعض الآخر، وسيكون موقفنا - بالتّالي - مناهضًا للعلمانيّة.
د. نادر الحمّامي: هذا الموقف الّذي تتّخذه أنت، وتعدّه نوعًا من المقاربة المبدئيّة في النّظر إلى المسائل بصورة عامّة، ومعاملة الأديان بالدّرجة نفسها من موقع الباحث والأكاديميّ، وهذا يبتعد به عن الجانب السّياسيّ ليكون موقفًا فكريًّا، لكن أليس هذا الموقف الفكريّ نفسه مبنيًا - في الأساس - على موقف سياسيّ؟ وأنا أقول هذا الكلام بناءً على اطّلاعي على تجربتك الشّخصيّة وعلى شهاداتك، وخاصّة، كتابك الّذي يمثّل شهادة حول تجربتك السّجنية من 1975م إلى 1980م، ثمّ - لاحقًا - سنة 1983م؛ أي في تلك الفترة الّتي عرفت حدثًا محوريًّا في الفكر الإسلاميّ، كان له أثر في الفكر العربيّ، وأقصد سنة 1979م الّتي شهدت ما يسمّى الثّورة الإيرانيّة، وأعتقد أن هذه الثّورة الّتي تباينت في شأنها المواقف، سواء كانت من طرف الأحزاب الّتي ستتّخذ مرجعيّة دينيّة، وستعبّر عن الإسلام السّياسيّ، أو حتّى في صفوف اليسار - بصورة عامّة - الّذي تباينت مواقفه إزاء هذه الثّورة، فهل كان لهذه التّجربة أثر في تبنيك لهذا الموقف؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: طبعًا، ولكن قبل ذلك أريد أن أضيف أنّ العلمانيّة لا تدعو إلى أناس بدون قناعات، فنحن - جميعًا - لدينا قناعات؛ إنّما العلمانيّة تدعونا إلى تنسيب قناعاتنا بالنّسبة إلى الآخرين، وألّا نعدّ قناعاتنا فوق قناعات الآخرين، أو أنّنا أفضل من الآخرين؛ لأنّ لنا تلك القناعات، أو أنّهم دوننا؛ لأنّ لهم قناعات مختلفة عن قناعاتنا، وذلك ليس خاصًّا في مجال البحث العلميّ، لكن في المجتمع السّياسيّ أيضًا، وفي المدينة بمعنى الفارابي وأفلاطون وأرسطو؛ ففي المجتمع السّياسيّ نحن سواسية بغضّ النّظر عمّا نعتقد، والقوانين الّتي تحكم العلاقات فيما بيننا لا يجب أن تكون مبنية على قناعات هذا أو ذاك، وكلّ شخص عندما يصوّت على قانون سوف ينطلق من قناعاته، لكنّ القانون سوف يفرض للتوافق الواقع حوله، ولأنّه هو يمثّل الإرادة العامّة أو الجمعيّة، لا لأنّه جاء من قناعات فلان أو فلان.
د. نادر الحمّامي: لن أنسى سؤالي الأوّل، لكن هل يفقد الدّين - بهذا المعنى - عدَّه عامل توحيد أو مشترك داخل المجتمع؛ إذا ما فهمنا أن تنظيم المجتمع ينبغي - اليوم - أن يقوم على أساس المواطنة لا على أساس العقائد؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: كلّ مجتمع قامت فيه القوانين والنّظم السّياسيّة، والسّلطة على دين من الأديان أو مذهب من المذاهب داخل دين، أدّت - في النّهاية - إلى الإقصاء والتّمييز، ولذلك؛ لا معنى للمواطنة المؤسّسة على مبادئ دين من الأديان، أيًّا كان تأويل ذلك الدّين؛ لأنّه سوف يؤدّي - بالضّرورة - إلى الإقصاء، والعلمانيّة ليست دينًا يقصي الأديان؛ إنّما هي طريقة إجرائيّة في تنظيم العلاقات داخل المجتمع، وهي - أيضًا - تمثّل المسافة الضّروريّة في مجال البحث العلميّ بين ما يتطلّبه البحث العلميّ من لغة ومن مناهج، ومن مفاهيم مشتركة يلتقي حولها الباحثون، وبين قناعاتهم الشّخصيّة الدّينيّة أو اللّادينيّة، وبالعودة إلى سؤالك حول الثّورة الإيرانيّة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّها كانت منطلقًا لتحوّل في التّعامل مع الوقائع الإسلاميّة، سواء في مجال الدّراسات الإسلاميّة الاستشراقيّة بصورة عامّة، أو حتّى في الفضاءات الإسلاميّة المتأثّرة بالتوجّهات الاستشراقيّة أو المناهضة لها، وقد انطلقت تلك الدّراسات - قبل الثّورة الإيرانيّة - من أنّ الإسلام دين خنوع وقبول بأمر الله واستسلام له، وهي تعجّ بمفاهيم الرّكون والطّاعة، ...إلخ، ولكن مع الثّورة تغيّرت مقاربة الوقائع الإسلاميّة؛ فأصبحت تعدّ الإسلام دين الثّورة على السّلطان الجائر، ويمكن أن نقول: إنّ العلاقات فيما قبل كانت محكومة بمقولة "يزع الله بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن"، و"أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم".
د. نادر الحمّامي: إذن، فقد كسرت الثّورة الإيرانيّة كلّ الآداب السّلطانيّة السّابقة؟
د. محمد الشريف فرجاني: نعم، لكنّها جاءت لتقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأصبح هذا هو الموقف من العلاقة بالسّياسيّ، ونظريّات الحاكميّة لله، كما طوّرها أبو الأعلى المودوديّ، وكما طوّرها سيد قطب أصبحت هامشيّة، وبذلك لم يعد الإسلام دين الخضوع للسّلطة؛ إنّما أصبح دين الخروج، وهذا التّحوّل نتج عنه - في تونس - تغيّر في صفوف الجماعة الإسلاميّة التي تكوّنت في السّبعينيّات على أساس توافق مع النّظام البورقيبيّ، على أنّها جمعيّة دعويّة لا تتدخل في السّياسة إلّا من منظور ما يناسب مصالح النّظام، ومن ذلك: معاداتها لليسار، ومعاداتها للحداثة في شكلها الّذي يناهض بورقيبة، وسكوتها عن الحداثة في شكلها البورقيبيّ، ومعاداتها للشّيوعيّة والقوميّة، وغير ذلك ممّا كان يُسمح به في مجلة المعرفة، وفي جريدة المجتمع الّتي كانت تُطبع في مطابع الحزب الدّستوريّ الحاكم، لكن - مع الثّورة الإيرانيّة - تغيّر اتجاه الجماعة الإسلامية وقالت بأن ذلك التّوافق مع النظام البورقيبي قد انتهى، وأصبحت تطالب لنفسها بحزب سياسي يطمح إلى إنشاء الدّولة الإسلامية كما في إيران؛ هذا التحوّل كان له أثر علينا ونحن نشاهد صور الخميني عائدا إلى طهران من باريس وتلك المظاهرات العارمة، وقد تباينت المواقف في صلب الجماعة التي كنت أنتمي إليها، أي "آفاق العامل التونسي" وهي جماعة يسارية ماوية منذ نهاية الستينات، وقد كانت في البداية يسارية متنوعة المشارب، وأصبحت بعد ذلك ماوية في خط واحد في نهاية الستينات، وهذا ما أفرز تباينات فيما بعد، وأدى إلى ظهور اتّجاهات مختلفة بل ومتناحرة في آن... في السجن كنا معا نشاهد تلك الصور وقد تباينت أيضا المواقف فيما بيننا؛ ففينا من رأى فيها ظاهرة طارئة لا مستقبل لها ولا تقتضي أن نكترث لها، ورأى أنّه يجب أن يتواصل تفكيرنا في إطار الفكر اليساريّ الماركسيّ، وكانت حينها الماويّة قد دخلت في أزمة في منتصف السبعينيّات، مع دخولنا السّجن، وكنت من أوّل مَن تباين مع الماويّة منذ بداية السّبعينيّات، نظرًا إلى موقف الصّين من انقلاب النّميري في السّودان، وتقتيله للشّيوعيّين، وموقفهم من انقلاب بينوشي على آلياندي في الشّيلي، وهذه من الأشياء الّتي جعلتني أتباين مع الماويّة مبكّرًا، لكن كان موقفي - منذ ذلك الوقت - يميل إلى الاهتمام بالظّاهرة الدّينيّة، وكان منطلق اهتمامي نضالي ضدّ ظاهرة الإسلام السّياسيّ ودوافعه، فقد كنت أعتقد بضرورة الانتباه إلى هذا الإسلام السّياسيّ النّاشئ الّذي لا يمكن أن نستهين به، أو نعدّه ظاهرة طارئة لا تستحقّ الاكتراث.
د. نادر الحمّامي: وقد كانت هذه ريادة؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: لا أدري، فأنا أقول الأحداث فقط، ومنذ ذلك الوقت بدأت، وقد نشر لي أوّل مقال في هذا الاتّجاه، وهو ''الدّين والدّولة وحقوق الإنسان'' في مجلّة أطروحات سنة 1982م، وهذا المقال قد سبّب لي مشكلات، ودخلت السّجن مرّة أخرى، وتباينت الآراء حول ذلك المقال؛ فقد رأى فيه اليساريّون ابتعادًا عن الأرثودوكسيّة الماركسيّة، في حين رأى فيه الإسلاميّون موقفًا ناقدًا لهم، وكان موقفي؛ أنّنا إذا لم نكن علمانيّين، فلن ندافع بوفاء عن حقوق الإنسان، وقد كان ذلك هو المنطلق، فغادرت - بعد ذلك - إلى فرنسا سنة 1984م مضطرًّا، فقد كنت أستاذ فلسفة، ولم يقع ترسيمي بسبب سوابقي السّياسيّة، وهناك انتبهت إلى أنّ مقاربة الوقائع الإسلاميّة من منظور المقاومة للإسلام السّياسيّ قد يقع توظيفها من طرف دعاة معاداة الإسلام في الغرب، وقد انتشرت الإسلاموفوبيا هناك واستفحلت، وكنت قد نبّهت - منذ ذلك الوقت - إلى خطورتها، ولم يفهم ذلك الكثيرون، وقد رؤوا في ما أدعو إليه موقفًا توفيقيًّا، وأنا أقول: إنّني ضدّ الإسلام السّياسيّ، لكنّني - في الوقت نفسه - ضدّ عداء الإسلام والمسلمين، كما بدأ يتشكّل على أرضيّة مقولات كثيرة، خاصّة، مقولات برنار لويس الّذي أثّر في ذلك الوقت في التّحوّل الفكريّ الاستشراقيّ في مقاربة الوقائع الإسلاميّة.
د. نادر الحمّامي: اسمح لي بالمقاطعة، هل تعدّ - وقد تحدّثت عن برنار لويس - أنّ للعامل الاستعماريّ أثر في ظهور تيّارات الإسلام السّياسيّ، إضافة إلى ما يمكن أن نعتبره بذرة موجودة اجتماعيا وعقائديا وموروثا لتلك التيارات في مجتمعاتنا؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: لدى دعاة الإسلام السّياسيّ موقف مفاده: إنّ الحداثيين هم استمرار للاستعمار والتّغرّب، والواقع أنّ أوّل من نظّر للمقولات الأساسيّة للإسلام السّياسيّ؛ هم المستشرقون، فمقولة الشّريعة - باعتبارها قانونًا - قد نظّر لها جنرالات الجيش في فرنسا بمساندة فقهاء السّلطة في كلّ زمان ومكان، وأيًّا كانت السّلطة، فهم في حاجة إلى توسيع نفوذهم على المحاكم العرفيّة والعشائريّة والطّرقيّة، واعتمدوا، بالتّالي، على توحيد القوانين والمحاكم ليزيدوا قوّتهم؛ فمقولة الشّريعة الإسلاميّة - باعتبارها قانونًا إسلاميًّا (le droit muslman) - هي النّتيجة أو التّرجمة القانونيّة للاستشراق؛ ففي الجزائر شُرّع لقانون إسلاميّ ولمجلّات قانونيّة وضعت على أساس أنّها من الشّريعة الإسلاميّة، وفي الهند - أيضًا - نجد أنّ السّلطات الاستعماريّة؛ هي الّتي وضعت القانون المحمّديّ، بتبرير من فقهاء السّلطة آنذاك، وأصبحت الشّريعة - منذ ذلك الوقت - تعني القانون.
د. نادر الحمّامي: ألم تكن الشّريعة تعني القانون قبل القرن التّاسع عشر؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، اقرأ "فصل المقال في ما بين الشّريعة والحكمة من اتّصال" لابن رشد، وسوف ترى أنّه يتحّدث عن الشّريعة باعتبارها دينًا ككلّ دين يعدّ نفسه طريقًا للخلاص، وفي لسان العرب وغيره، الشّريعة: هي منبع الماء، وعين الماء، والطّريق المؤدّية إلى الماء، باعتبار الماء في الصّحراء؛ هو مصدر الخلاص ومنبع الحياة، فعندما تذهب إلى الصحراء وتعيش في أجواء قاسية، ستبحث - حتمًا - عن مصادر الماء، ويقال: شرّع الإبل وشرّع الغنم؛ أي أخذها لترتوي، وهذا هو التّشريع، وهذا ما زال مستعملًا لدى قبائل البدو الرّحّل في جنوب المغرب، وفي اليمن، وفي الأردن، أضف أنّني من البدو الرّحّل - أيضًا - فقد تربّيت على تشريع الإبل والغنم، وكنت صغيرًا، يقال لي: شرّع الإبل؛ أي خذها إلى عين الماء - إذن - هذا المفهوم أصبح - منذ القرن التّاسع عشر - يعني القانون، وأذكر ما يقوله الحنابلة، فابن قيم الجوزيّة في ''أعلام الموقعين على ربّ العالمين'، ' يقول: ''إنّ الشّريعة مبناها وأساسها الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد''، ويضيف ''والهدف من الشريعة؛ هو تحقيق العدل، فحيثما ظهرت أمارات العدل بأي وسيلة كانت، فثمة شرع الله، والسّياسة العادلة من الشّرع، حتّى إن لم يأت بها...''.
د. نادر الحمّامي: وقد ضمّن ابن أبي الضياف في الجزء الأوّل من الاتحاف هذه المقولة لابن القيم الجوزيّة.
د. محمّد الشّريف فرجاني: هكذا أصبحت الشّريعة تعني ذلك القانون الجاهز الذي يجب أن يطبّق، الصّالح لكلّ زمان ومكان، وعندما تسأل القائلين بذلك: أين هي هذه الشّريعة؟ يقولون لك: توجد في القرآن، لكن ماذا يوجد في القرآن؟ يقولون: نريد أن نطبّق ما جاء في القرآن حرفيًّا، وأقول لهم: أتمنّى لكم حظًّا سعيدًا، كيف وماذا ستطبّقون حرفيًّا؟ عندما تجدون أنفسكم أمام ''اقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم''، وأمام ''من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر''، وأمام ''لا إكراه الدّين...''؛ فماذا ستطبّقون؟ وهنا، سوف يضطّر أولئك إلى التّأويل، وسيعدّون هذا الأمر أساسيًّا، وذاك ثانويًّا، وهذا ناسخًا وذاك منسوخًا، وفي النّهاية، ما يقولون أنّه قانون ليس إلّا من اجتهاداتهم، وقد احتمل تدخّلًا كبيًرا منهم، فبأيّ حقّ يقولون: هذا هو القانون؟
منذ ذهابي إلى فرنسا، أصبح اهتمامي بالدّراسات الإسلاميّة يحترز كثيرًا، وهو على شفا سكّين، قد يسقط من ناحية في اتّجاه التّوظيف من طرف الإسلام السّياسيّ، وقد يسقط - من ناحية أخرى - في اتّجاه التّوظيف ضدّ الإسلام والمسلمين، وهذا موقف صعب جدًّا، ويقتضي الحذر.
د. نادر الحمّامي: إذن، أنت بين الإسلاموفوبيا من ناحية، والإسلام السّياسيّ من ناحية أخرى؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، لذلك كانت كلّ الدّراسات الّتي قمت بها منذ الثّمانينيّات في اتّجاه الاهتمام بالعلمانيّة والموقف العلمانيّ، والحذر حتّى لا أكون في هذا الصّفّ ضدّ ذاك الصّفّ، وحاولت - بالتّالي - أن أبتعد عن التّوظيف الحزبيّ السّياسيّ للدّراسات الإسلاميّة، وأنا أقوم بعملي بصفتي باحثًا علميًّا، وبعد ذلك، فليفعل به السّياسيّون ما أرادوا، وقد بيّنت - في هذه الدّراسات - أنّ الاستعمار لم يأت بحقوق الإنسان، ولم يأت بالحداثة في المجتمعات الإسلاميّة؛ بل على العكس من ذلك؛ فقد علّق الإصلاحات الّتي كانت في القرن التاسع عشر تريد التّحديث، وأجهضها وتصالح مع خصومها، وهو ما جعل مقاومة الاستعمار في بلد مثل تونس ترتبط بالعودة إلى الدّساتير القديمة، فتسمية الحزب الدّستوريّ القديم والحزب الحرّ الدّستوريّ، تركّز على كلمة دستور، وقد وجدت تلك الكلمة في كلّ البلدان الإسلاميّة، حتّى في إيران؛ فثورة سنة 1906م، كانت تسمّى "الثورة المشروطة"؛ أي الدّستور.
د. نادر الحمّامي: هل ذلك بمعنى الشّرط، من ذلك؛ ترجمة الطّهطاويّ لكلمة (la charte) بـ''الشَّرطة''؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، لكنّهم ترجموها بعلاقة تلك الشّروط الّتي تقيّد الحاكم في سياسته، ولذلك سمّوها المشروطة في إيران، والغريب في الأمر أنّ الإيرانيّين استعملوا كلمة عربيّة للدّلالة على الدّستور، في حين أنّ العرب استعملوا كلمة الدّستور، وهي فارسيّة، فكأنّ الغريب يُستأنس به أكثر، سواء بالنّسبة إلى الإيرانيّين أو العرب، وقد كانت مقارباتي دائمًا في هذا الاتّجاه؛ أي أنّنا لا نتصوّر أنّ من يناصر الحداثة استمرار للغرب؛ بل على العكس من ذلك؛ فالإسلام السّياسيّ هو الامتداد الطّبيعيّ للمقولات الّتي كبّل بها الاستعمار المجتمعات الإسلاميّة، ومنعها من النّهوض، ومن دخول الحداثة بالتّحالف مع القوى الرّجعيّة.
د. نادر الحمّامي: أنت ترى - حينئذ - أنّ مقولات الإسلام السّياسيّ؛ هي استمرار للمقولات الاستعماريّة، وهذا يوحي إلى ذهني بمحور آخر ينبغي التّطرّق إليه معك بتّأن، وقد تحدّثت فيه هذه الأيّام، وهو مقولة ما يسمى ''الاستثناء الإسلاميّ''؛ أبتلك المقولة الّتي أنت بصدد نقدها قولًا وكتابة، وكأنّ ليس هناك استثناء إسلاميّ بالنسبة إليك؟ سوف يكون هذا عنوان محور كبير سنتطرّق إليه في الجزء الثّاني من حوارنا.
الجزء الثاني:
حول مقولة "الاستثناء الإسلاميّ"
د. نادر الحمّامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذ محمّد الشّريف فرجاني، أستاذ العلوم السّياسية والدّراسات العربيّة في جامعة ليون الثّانية في فرنسا، ونجدّد له شكرنا على هذا الحوار الّذي نجريه مع بعضنا، وكنا انتهينا - في الجزء الأوّل منه - إلى مقولة أساسيّة، هي موضوع نظر وإعادة نقد ومراجعة، وهي تتلخَّص في عبارة ما يسمى "الاستثناء الإسلامي"؛ هذه المقولة الّتي يحاول الأستاذ فرجاني مراجعتها اليوم، وله الخيار في تقديمها كما يراها هو، وهنا أطرح السّؤال الآتي: ألا يكون نقدك لهذه المقولة منطلقًا ممّا انتهيت إليه من التقاء بين الاستشراق الاستعماريّ المحقِّر للمجتمعات الإسلاميّة من ناحية، وتيّارات الإسلام السّياسيّ من ناحية أخرى؟ فكأنّ هذه المقولة هي نقطة التقاء بين تيارين يظهران متضاربين، لكنّهما - في حقيقة الأمر - يلتقيان في مقولات عدّة، من بينها؛ مقولة "الاستثناء الإسلاميّ".
د. محمّد الشّريف فرجاني: شكرًا لهذا السّؤال المهمّ جدًّا، وهنا لا بدّ من التّفريق بين الاستثناء والخصوصيّة؛ فالخصوصيّات موجودة في كلّ الظّواهر، لكنّ الاستثناء شيء آخر؛ أي إنّ التّطوّرات الّتي عرفتها ظاهرة من الظواهر، لا يمكن أن تعرفها - بالضّرورة - الظّواهر المشابهة لها، فالتّطوّرات الّتي عرفتها الدّيانة المسيحيّة في تجاوز الرّبط بين السّياسيّ والدّينيّ، لا يمكن - أبدًا - أن يعرفها الإسلام، بحكم خصوصيّة جوهريّة فيه تميّزه عن الدّيانة المسيحيّة، وعن غيره من الأديان، ونظرية الاستثناء نجدها لدى المسلمين أنفسهم، وهم أول من قالوا بها، ولم يبتدعها المستشرقون، تكمن في اعتقادهم أن الإسلام عقيدة وشريعة ودين ودولة، ونجد أساس ذلك حتّى لدى جمال الدّين الأفغانيّ؛ الّذي كان من أكثر مفكّري الإصلاح تفتّحًا، أكثر من محمّد عبده ومن الكواكبي ومن الآخرين، وقد كان ثوريًّا بحقّ في زمانه، لكن نجده في كتاباته السّياسيّة يتحدّث عن أنّ الفصل الّذي يتحقّق في الفضاءات المسيحيّة لا يقبل به الإسلام، ويعلل ذلك بأنّ الإسلام يجمع بين السّيف والقلم، وبين المعاش والمعاد، وهذه الفكرة تنطلق من أنّه لا يوجد في الإسلام نظير للمقولة المنسوبة إلى المسيح في إنجيل متّا: ''اعط لقيصر ما لقيصر واعط لله ما لله''، كما لا يوجد في الإسلام نظير للمقولة المنسوبة إلى المسيح ''مملكتي ليست من هذا العالم''، وعندما انطلقتُ في دراساتي كانت فرضيّتي هي هذه: لماذا لا يوجد في الإسلام نظير لعمليّة الفصل الموجودة في المسيحيّة؟ وفي بحثي انطلقت من التّساؤل: هل مقولة ''اعط لقيصر ما لقيصر واعط لله ما لله''، تعني الفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ؟ وهل فُهمت - دائمًا - على أنّها تعني الفصل؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا لم يقع هذا الفصل إلًا مؤخّرًا؟ وفي بعض المجتمعات المسيحيّة فقط، فهناك - إلى اليوم - مجتمعات مسيحيّة لا تفهم الأمر بهذا المعنى.
كان هذا هو منطلقي، وقد رجعت في بحثي إلى تاريخ الفكر المسيحيّ في تعامله مع هذه المقولة، ووجدت أنّها لم تكن تعني الفصل بين السّلطتين الرّوحيّة والدّنيويّة، لكن وجدت أنّها كانت تعني شيئًا آخر؛ هو - تمامًا - ما فسّره بولص في رسائله في نهاية الأناجيل، يقول: ''يجب طاعة ذي السّلطة؛ لأنّ كلّ سلطة مستمدّة من الله، ومن ذلك: يجب دفع الضّرائب لمن له الحقّ في استخلاص الضّرائب، ويجب أن يطيع العبد سيّده، ويجب أن تطيع المرأة زوجها''، وهذا مماثل لما لدينا، لكنّه سابق تاريخيًّا، وبعد أن فهمت هذا الأمر، قلت في نفسي: ما الذي جعل هذه الآية تصبح مدخلًا للفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ؟ والحال أنّها لم تكن تعني ذلك في البداية، ووجدت أنّ السّبب وراء ذلك: أنّ الفصل تمّ من خارج المنظومة الدّينية، ولا علاقة لسلطة الكنيسة به؛ بل إنّها قد عارضته، وعدّته هرطقة، مثلما عدّت ''الدّيمقراطيّة هرطقة الأزمنة الحديثة''، كما يقول رجال الكنيسة، ومثلما عدّت العلمانيّة هي المجتمع الّذي لا أخلاق له؛ لأنّه مجتمع لا يخضع لسلطة الله، لكنّ المسيحيّين لم يعارضوا العلمانيّة في كلّ المجتمعات؛ فالكاثوليك عارضوها في فرنسا، في حين أن البروتستانت ساندوها، لكن في هولندا، حيث البروتستانت هم الأغلبيّة، عارضوا الفصل، في حين أنّ الكاثوليك - وهم الأقليّة - ساندوه، وهذا طبيعيّ؛ لأن الخلط بين السّياسيّ والدّينيّ لا يستفيد منه إلّا الغالب والمسيطر، لذلك نجد أنّ اليهود في فرنسا وأمريكا وهولندا وألمانيا كانوا مع الفصل، إلّا في إسرائيل - وهي دولة يهوديّة - فقد كانوا ضدّه، وسأعود إلى موقف المسلمين، ولكن قبل ذلك، أردت أن أبيّن أنّ مقولة ''اعط لقيصر ما لقيصر واعط لله ما لله'' لم تتغيّر، وقد كانت تعني؛ تقديس السّلطة والخضوع لها، ثمّ أصبحت تعني الفصل، والمحدّد في ذلك هو السّياسيّ الّذي أرادها أن تكون تأسيسًا لقداسة السّلطة، فوجد من رجال الدّين من يخلّص له المعنى، ويقدّم له التّفسير الّذي يسمح له بجعلها تخدم سلطته، ثم - بعد ذلك - لمّا فرض الفصل نفسه وأصبح لا مفرّ منه، اضطُرّوا إلى إيجاد تفسير جديد، وقالوا: إنّ المشكلة ليست في الدّين المسيحيّ الّذي يرفض الفصل؛ إنّما المشكلة في من فهموا المقولة ''أعطِ لقيصر ما لقيصر...'' فهمًا خاطئًا، على أنّها تعني إضفاء القداسة, وهي تعني الفصل، وهذا موقف قارّ لدى كلّ رجال الدّين في كلّ الأديان، وفي كل الفضاءات، وعبر كلّ العصور، فكلّما ظهرت فكرة جديدة يقيّمونها على أساس أنّها هرطقة، وأنّها ليست صحيحة، وعندما يبَرهَن لهم على أنّها صحيحة، يقولون: إنّها مخالفة للدّين، وعندما تصبح فكرة مشاعة بين الجميع ومن المسلّمات، يبحثون لها عن تبرير، وهذه هي وظيفة رجال الدّين؛ إعطاء المؤمن ما يسمح له بالتّوفيق بين ما يحيا وما يعتقد، ونرى أنّهم لو عجزوا عن ذلك لانتهت وظيفتهم، ونلاحظ أنّ الأمر نفسه يحدث في المجتمعات الإسلاميّة، فقد كان لي ذات مرّة نقاش مع سهيل بن الشّيخ في فرنسا، فقال لي: ''مصيبتنا - نحن المسلمون - أنّنا لم نكن قطّ أقلّيّة، حتّى يكون لنا مثل هذا الموقف مع الفصل''، فأجبته: إنّ هذا حكم مسبق؛ لأنّ المسلمين كانوا - دائمًا - أقلّيّات؛ كان الشيعيّ أقّليًّا في مجتمع سنّيّ، وكان المعتزليّ أقلّيًّا في مجتمع سنّيّ أو شيعيّ، وكان الإباضيّ أقلّيًّا في المجتمعات الشّيعيّة والسّنيّة، وكان مضطهدًا بسبب أقليّته، ثمّ إنّ المسلمين أنفسهم كانوا أقلّية في البداية، وكانوا يقولون: "لكم دينكم ولي دين"؛ ففي تلك الفترة كانوا أقلّية، وهم دائمًا كانوا أقلّية في الصّين وفي الهند، وأصبحوا أقلّيّة في إسبانيا بعد استعادتها من طرف المسيحيّين، وكانوا - دائمًا - أقلّيّة في البلقان، وما زالوا كذلك، لكنّنا لم ننتبه إلى مواقفهم باعتبارهم أقلّية، وكنّا - دائمًا - لا نأخذ بعين الاعتبار إلّا مواقف الأغلبية، وذكّرته - في هذا الصّدد - بالمعتزلة لما تبنى المأمون مذهبهم والمعتصم من بعده، كانوا يريدون فرض مقولة خلق القرآن على الجميع، ومحاكم تفتيش ومحن مع الحنابلة، لكنّهم بعد ذلك - عندما أصبحوا هم مضطهدين - تغيّر موقفهم، فأبو علي الجبائي، يقول: ''الدّار دار إيمان ما أمكن المرور منها أو الإقامة بها دون إظهار الكفر أو ضرب من ضروب الكفر''.
د. نادر الحمّامي: نعم، وكان ذلك في الرد على مقولة الحنابلة الذين قالوا ''الدار إذا ظهر فيها القول بخلق القرآن فهي دار كفر'' فقال الجبائي هذا الرد لاحقا.
د. محمد الشريف فرجاني: عندما نقول دار إيمان أي القبول بشرعية الحاكم في تلك الدّار، وأصل مقولة دار الإيمان ودار الحرب؛ هي الدّار الّتي يحكمها الخليفة الأمويّ أو الخليفة العباسيّ، والمحكّمة هم أوّل من قالوا بدار الحرب؛ أي الّدار الّتي يحكمها العباسيّ أو الأمويّ، وتبرَّر فيها الثّورة على السّلطان، فقال الفقهاء هي دار حرب، لكنّ السّلاطين قالوا: هي دار إسلام، وليست دار حرب ولا تجوز فيها الحرب، ولا يجوز فيها إلّا الجهاد، والجهاد هو - كما قالوا - ''نُصلّي خلف كلّ إمام برًّا كان أو فاجرًا''؛ أي نصلّي وراءه ونجاهد معه، وإمام الحرمين الجويني في "غياث الأمم في التياث الظّلم"، حين قيل له: "وعندما يُغلب أمير المؤمنين؟" فأجاب: "إذا غلب يصبح هو صاحب فتنة"، وهكذا، فالحرب ضدّ السّلطة تعدّ فتنة ما لم تنتصر، وإذا انتصرت تصبح جهادًا، ويصبح من كانت الحرب باسمه جهادًا صاحبَ فتنة، وهذه ميكيافيليّة قبل ميكافيليّ؛ أي الإقرار بشرعيّة الحرب، وهي حرب عادلة ما دامت غالبة، وتصبح جائرة إذا كانت ضدّ المنتصر.
د. نادر الحمّامي: إضافة إلى مسألة الأقلّيات، ألا تعدّ عدم وجود مؤسّسة دينيّة واضحة في الإسلام على غرار مؤسّسة الكنيسة في المسيحيّة، كان عاملًا من العوامل المعطّلة للفصل بين السّلطة الدّينية والسّلطة السّياسيّة؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: هذا صحيح إذا كنا نعدّ المؤسّسات الدّينية هي الحاكمة في العلاقة بين السّياسيّ والدّينيّ، والحال أنّها تابعة دائمًا في كلّ الفضاءات، فسلطة الكنيسة ظهرت لدى الكاثوليك متأخرة نسبيًّا، وهي ليست موجودة عند البروتستانت، أمّا لدى المسلمين؛ فهي موجودة عند الشّيعة، ممثّلة بمؤسّسة الملالي بتراتبيّة هرميّة، وأنا أعتقد أنّ المؤسّسة الدّينية ليست هي المحدّد في ظهور الفصل بين السّياسيّ والدّينيّ، إنّما المحدّد هو المجتمع والثّقافة السّياسيّة في المجتمع، فعندما انتصرت الدّيمقراطيّة، ولم تعد السّلطة في حاجة إلى المؤسّسة الدّينيّة لتعطيها الشّرعيّة التي ليست لها، عند ذلك تطوّرت الأمور وأصبحت السّلطة الدّينية تلاحق تطوّرات المجتمع والثّقافة والأخلاق والعلم، وبالعودة إلى جوهر مقولة الاستثناء؛ فقد لاحظت أنّه يوجد نظير لمقولة ''أعط لقيصر ما لقيصر وأعط لله ما لله''، هي: ما يسمّيه الفقهاء أنفسهم آية الأمراء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...}[النّساء: (59)]، وسمّوها آية الأمراء؛ لأنّها الآية الوحيدة الّتي اعتمدها ولاة الأمر لتبرير شرعيّتهم بقراءة الآية بصورة معكوسة؛ أي ما لم تطع أولي الأمر، فإنّك قد خرجت عن طاعة الله وطاعة رسوله، وتصبح - حينئذ - كافرًا ومرتدًّا ومارقًا...، ويُستباح دمك، وعندما بدأت تظهر ضرورات الفصل عند المسلمين، سواء في وضع الأقلّيّات الّتي تحدثتُ عنها؛ في إسبانيا عند سقوط آخر الولايات الإسلاميّة، أو في البلقان، أو في الصّين، أو في الهند، وحتّى عندما استُعمِرت غالبيّة المجتمعات الإسلاميّة من طرف بريطانيا وفرنسا وهولندا، عند ذلك قرؤوا هذه الآية على أساس أنّها تعني الفصل، لكنّهم لم يصرّحوا بذلك، وتركوا الآية جانبًا وذهبوا إلى مقاصد الشّريعة، وقالوا: ''كلّ سلطة شرعيّة، ما لم تمنعنا من إقامة شعائرنا''؛ أي - في النّهاية - إن السّلطة الّتي لا تمنعنا من أن نكون مسلمين فإنّنا نقبل بها، وهل يمكن أن توجد سلطة تضمن هذا الأمر أكثر من الدّولة العَلمانية؟ كلّ سلطة دينيّة تحفظ الدّين الّذي تتبناه هي، وتستبيح بقيّة المذاهب والأديان، والنّاس على دين ملوكهم، والآخرون مستباحون حتّى لو كانوا مسلمين، فالفصل وُجد ولكنّنا لم نكن واعين به، وقد وجد تاريخيًّا في الدّولة العباسيّة عندما كان أمراء بني بويه، وهم إيرانيّون شيعة إماميّة لهم السّلطة السّياسية، في حين أن الخليفة العباسيّ العربيّ السّنّيّ له السّلطة الرّوحيّة الرّمزيّة، ثمّ وجد هذا الفصل - أيضًا - بعد ذلك عندما تخلّصت الدولة العباسية من أمراء بني بويه، واستنجدت بالسلاجقة الأتراك، فأصبح السّلطان السّلجوقيّ هو الّذي يعيّن الخليفة، وهو من يملك السّلطة السّياسيّة، وما للخليفة إلّا السّلطة الرّمزيّة الخاضعة، ثمّ نجد بوادر هذا الفصل - أيضًا - مع دولة المماليك في مصر.
د. نادر الحمّامي: هل تتصوّر، مع عمليات الفصل هذه، أنّ المجتمعات العربيّة الإسلاميّة لو وصلت إلى تبنّي العلمنة، لكانت ستتحوّل الآية دلاليًّا من الجمع بين السّياسيّ والدّينيّ إلى الفصل بينهما؟
د. محمد الشريف فرجاني: نعم، وهكذا يطاع الله والرّسول في مجال سلطتهما، ويطاع السّياسيّ في مجال سلطته، ولقد بدأت هذه القراءة توجد - فعلًا - منذ علي عبد الرّازق ومحمد عبده؛ الّذي كان يقول: ''كلّ السّلطات مدنيّة، ولا توجد سلطة دينيّة في الإسلام''، كان ذلك في إطار المناظرة مع فرح أنطون، وقد رأى أنّ القضاء سلطة مدنيّة، والخلافة سلطة مدنيّة، وكلّ السّلطات مدنيّة.
د. نادر الحمّامي: لكن إذا كان فرح أنطون يمثّل الجانب العَلمانيّ في تلك المناظرة، ومحمد عبده يقول إنّ كلّ السّلطات مدنيّة، فما هو جوهر الخلاف حينئذ؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: المشكلة هي أنّ فرح أنطون (1874م - 1922م) من أصل مسيحيّ، وكان يتبنّى مقولات أرنست رينان (Ernest Renan) (1823 - 1892م)، وبذلك كان الجدل بينهما دينيًّا، ، ولم يكن جدلًا حرًّا، ولكن نجد أنّ علي عبد الرّازق - بعد ذلك - قرأ هذه الآية على أنّها تعني الفصل؛ بل وذهب إلى أكثر من ذلك، فعدّ دلالة الحديث ''ما كان من أمر دينكم فإليّ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به'' على الفصل، وهكذا بدأت هذه القراءة توجد بعد أن ألغيت الخلافة من طرف كمال أتاتورك، وحتّى قبل ذلك، فقد عاد النّقاش حول شرعيّة الخلافة، وكان بمثابة إعادة فتح للملف من جديد، قبل أن يغلق من طرف المنظومات الفقهيّة الدينيّة، عندما قالوا: "قُفل باب الاجتهاد، وعلينا أن نتبع مذهبًا من المذاهب"، ولكن أعيد فتح الملف عندما أُلغيت الخلافة، وبدأ النّقاش من جديد حول "هل نحن في حاجة إلى الخلافة؟"، وهناك من قال: نحن في حاجة إليها، واقترب عند ذلك رشيد رضا من تلامذة محمّد عبده من الإخوان المسلمين، ومن فكرة الخلافة والإمامة العظمى، ووقع الرّبط بين الخلافة والإمامة، وقد قال علي عبد الرّازق: إنّ الخلافة استفادت من الإسلام، وليس الإسلام هو الّذي استفاد من الخلافة.
د. نادر الحمّامي: لكنّ كلّ ذلك تمّ من داخل المنظومة الدّينية نفسها.
د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم طبعًا، فهو نقاش دينيّ، لكنّ الفصل كان من خارج المنظومة.
د. نادر الحمّامي: إذن، أنت لست مع وجود حلول من داخل المنظومة الدّينيّة؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: أنا أقول: إنّ كلّ شخص يجب أن يقوم بعمله في مجاله، وعلى السّياسيّ أن يقوم بعمله في مجاله، أذكر أنّه كان لي نقاش مع مفتي سلطنة عمان - وهو إباضي - فسألته عن موقف الإباضيّة من العديد من القضايا، وقد سألني بدوره: "ماذا عن الإسلام في فرنسا، فأنا أريد أن أعرف واقع الإسلام هناك؟"، فقلت له: إنّ هناك فصل بين السّياسيّ والدّينيّ في فرنسا، والقانون يمنع السّلطة الدّينيّة من أن تتدخل في السّياسة، ويمنع السّياسة أن تتدخل في الدّين، فقال لي: "آه لو تبنّى حكام المسلمين هذا الأمر..."، فقلت له: لماذا؟ وحسبت لأنّه إباضيّ، فقال لي: "لا، انظر الجرائم الّتي تُرتكب باسم الإسلام، والإسلام براء منها، ولو وجد مثل هذا الفصل لما وقع تدنيس الإسلام وتبرير جرائم باسم الإسلام، والإسلام براء منها"، وأعطاني أمثلة، فقال: "ألم تُضرب الكعبة بالمنجنيق بسبب خلاف بين عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان؟"، وذكر - أيضًا - ما حصل في زمن القرامطة، وقال لي: اليوم يقتتل الشّيعة والوهابيّة في المسجد الحرام، بينما كان علماء المسلمين يتساءلون إذا دخل حيوان مفترس في رحاب الكعبة؛ هل يجوز قتله أم لا؟، وقالوا - بعد نقاش طويل - لا يجوز ذلك؛ لأن القتل عنف، ولا يمكن استعمال العنف داخل المسجد الحرام؛ بل يجب استعمال كلّ الوسائل لإخراجه ثم بعد ذلك يُقتل، وقال لي: "اليوم يقتتلون؛ بل يعطون فتوى للجنود الفرنسيين، فينطقونهم بالشّهادة في الطّائرة، حتّى يستطيعوا الدّخول لفك الصّراع بين الوهّابيين والإيرانيّين"، وقال: "أليس في هذا تدنيس؟"، وقال في النّهاية: "نحن في حاجة إلى هذا الفصل، حتّى لا تُداس مقدّسات المسلمين".
د. نادر الحمّامي: لكن ما هي مستويات مثل هذا الوعي لدى المسلمين، كما تراها؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: أوّلًا، إنّ مثل هذا الوعي لا ينتشر إلّا بانتصار الدّيمقراطيّة والفكر الدّيمقراطيّ؛ ففي فرنسا لم يكفِ انتصار الثّورة، وقد حدثت بعدها انتكاسة لأكثر من قرن، وذلك بعودة الملكيّة والإمبراطوريّة مع نابليون الأوّل والثّالث ..إلخ، وحتّى انتصار الجمهوريّة الثّالثة - في نهاية القرن التاسع عشر - لم يكف، والّذين ناصروا الفصل قالوا: نقوم بوظيفتنا في إنشاء رابطة اجتماعيّة لا تقوم على الدّين، بنشر الثّقافة والمدرسة العَلمانيّة والخدمات الاجتماعيّة والحقوق الاقتصاديّة وحقوق الإنسان، وعلى الكنيسة أن تدخل في هذه الصّيرورة وإلّا فسيقضي عليها التّاريخ، فالعلمانية لم تنتصر إلّا بعد الحرب العالميّة الثّانية؛ أي بعد أن ثبت تورّط الكنيسة في فظائع الحرب، ومع نظام فيشي (Régime de Vichy)، وأصبحت - بعد ذلك - في موقف ذليل، إلى درجة أنّ الجنرال ديغول تحدّث عنها في مذكراته، وقال: ''لا أدري سبب هذا الموقف المتملّق للسّلطات الدّينيّة''، وكان ذلك بسبب تورّطها في مساندة حكومة فيشي، ولم يعد لها إلّا أن تقبل الخضوع للسّلطة السّياسيّة، وقد كتب فرانسوا مورياك (François Mauriac) (1885 - 1970م)، وهو كاتب كاثوليكيّ، مقالًا في جريدة لوفيغارو (Le Figaro)، يقول فيه: ''العلمانيّة، هذا مبدأ لا أحد يعارضه منذ انتهاء المسيحيّة السّياسيّة''، ومنذ ذلك الوقت، بدأت تظهر فكرة الدّيمقراطيّة المسيحيّة الّتي تقبل بعلمنة الدّولة الفرنسيّة، وهذا لم يتوفّر بعد في المجتمعات الإسلاميّة.
د. نادر الحمّامي: ليكن ذلك مدخلًا لسؤال آخر؛ فمقولات العلمانيّة والدّيمقراطيّة والوعي بحقوق الإنسان، توجد كلّها في مسار كامل تُطلق عليه عبارة الحداثة، والحداثة بما أنها مسار مستمرّ ومتحوّل، تتحوّل معه المفاهيم والرّؤى في المجتمعات وصولًا إلى ما بعده، فقد وصل المجتمع الغربيّ اليوم إلى الحديث عن الدّيمقراطيّة المسيحيّة، وربّما أصبح الآن هناك حديث عن ديمقراطيّة إسلاميّة، رغم أن ذلك يبقى محل نقاش، فلم يقع التّمهيد لبنيتها الذّهنيّة، لذلك أنت ضدّ مقولات ما بعد الحداثة، ومقولات المابعد عمومًا، لأنّك مع المسار المتحوّل اللّانهائيّ، وهذا الأمر يحتاج إلى محور ثالث نطرح فيه المسألة.
د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، نحن في بداية الدّيمقراطية، وهي في نفسها صيرورة، وهذه الصّيرورة ما تزال في بداياتها في المجتمعات الإسلاميّة، والثّقافة التي تقوم عليها وتبنيها وتسندها مازالت في تعبيراتها الأولى الجنينيّة، وأنا أعتقد أنّها موضوع معركة.
د. نادر الحمّامي: إذن، سننظر في ذلك في إطار المحور الثّالث من حوارنا هذا.
الجزء الثّالث:
''الحداثة: السّيرورة والصّيرورة''
د. نادر الحمّامي: جزيل الشّكر للأستاذ محمّد الشّريف فرجاني أستاذ العلوم السّياسيّة والدّراسات العربيّة في جامعة ليون الثّانية في فرنسا، وكنّا قد وصلنا - في الجزء الثّاني من حوارنا معه - إلى طرح مسألة العلمانيّة الّتي نجد لها في الفضاءات الإسلاميّة ساحة معارك كبرى لا تتأتّى في الحقيقة من التّراث فحسب؛ لأنّ التّراث الإسلاميّ لا يمثل استثناء في هذا المجال كما تبيّنا ذلك؛ إنّما تتأتّى - أيضًا - من خصوم العلمانيّة ومن دعاتها اليوم، وهذا ما بدا واضحًا في كتاب ''العولمة والعلمانيّة في الفضاءات الإسلاميّة''، وقد صدر منذ أشهر قليلة عن دار التّنوير، ومن الطّريف في هذا الكتاب أنّ دعاة العلمانيّة - بدورهم - قد يكونون عائقًا أمام الدّعوة إليها في الفضاءات الإسلاميّة.
د. محمّد الشّريف فرجاني: المشكلة ليست في مفهوم العلمانيّة فحسب، لكنّها في مفهوم الحداثة، أيضًا، فهناك مقاربة مذهبيّة للحداثة والعلمانيّة والدّيمقراطيّة، وهناك مقاربة تاريخيّة اجتماعيّة لهذه الظّواهر باعتبارها صيرورات، وليست نماذج جاهزة للتّطبيق.
د. نادر الحمّامي: وحين تكون مذهبيّة؛ فهي تتحوّل إلى دغمائيّات؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، وأنا شخصيًّا مع المقاربات الّتي تضع هذه المقولات في إطار الصّيرورة التّاريخيّة، في المجتمعات الّتي تطرح في إطارها بخصوصياتها لا باعتبارها استثناءات، فلا تطرح قضيّة العلمنة والعلمانية بالطّريقة ذاتها في جميع المجتمعات، حتّى في المجتمعات الإسلاميّة لا يمكن أن تطرح بالطريقة نفسها؛ فالأمر يختلف في المغرب - حيث توجد مؤسّسة أمير المؤمنين - عنه في مصر حيث يمثّل الأزهر دولة داخل الدّولة، كما يختلف الأمر في تركيا ذات الإرث الأتاتوركي الّذي فرض على الإسلام السّياسيّ، أن يقبل بمبدأ العلمانيّة رغم أنه يعمل على تقويضها، ولا يمكن للعلمانيّة أن تطرح - أيضًا - بالطّريقة ذاتها في إيران؛ حيث توجد مؤسّسة الملالي المهمّة ونظريّة ولاية الفقيه، كما لا يمكن أن تطرح بالطّريقة نفسها في الجزيرة العربيّة؛ حيث يوجد نوع من التّحالف القائم منذ القرن الثّامن عشر، بين مؤسّسة آل سعدو العسكريّة القبليّة وجماعة دينيّة وعقائدية من تلاميذ محمّد بن عبد الوهاب، ممثّلة في الحركة الوهابيّة، فلا يوجد نسق منتظم - تمامًا - للعلمنة بين مكان وآخر، وقد اهتمّ بذلك أحد طلّابي الّذي يعدّ أطروحة دكتوراه حول تيار اللّيبيراليين الجدد في العربيّة السّعوديّة، الّذين يعبّرون عن مواقفهم في مجلّة الشّرق الأوسط والحياة في لندن، وبيّن أنّهم يؤثّرون في السّياسة الخارجيّة، وأنّهم ممّن تعتمد عليهم السّعودية في علاقاتها بالغرب، لكن - أيضًا - في علاقاتها مع علماء الوهابيّة في الدّاخل، وهذا يعبّر عن تناقضات عديدة، وهكذا؛ فالعلمانيّة لا يمكن أن تطرح في كل مكان تطرح دائمًا بنفس الطّريقة؛ بل يجب أن تأخذ بخصوصيّات المجتمعات كلّها، وهنا أقول خصوصيّات ولا أقول استثناءات، وهناك حتّى من يتكلّم عن استثناء تونسيّ، والحقيقة أنّني لا أؤمن بالاستثناءات، وأؤمن بالخصوصيّات، وسوف تأخذ العلمانيّة بعين الاعتبار تلك الخصوصيّات، لذلك لا يمكن أن نتعامل معها على اعتبارها نموذجًا صالحًا لكلّ زمان ومكان، فالحقيقة: أنّ هذا النّموذج لا وجود له، وحتّى في فرنسا ذاتها هناك اختلافات، فالعلمانيّة في فرنسا - كما تشكّلت قبل قانون 1905 - تختلف عن العلمانيّة المطبّقة في مقاطعة الألزاس واللّورين مثلًا، وفي جزر القمور نجد العلمانيّة الفرنسيّة تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيّة الإسلاميّة، وفي جزر أخرى تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيّة المسيحيّة الغالبة، إذن، العلمانيّة تحاول دائمًا أن تتأقلم مع المكان.
د. نادر الحمّامي: إذن، الحداثيّون العرب - حتّى الدّعاة منهم إلى العلمانيّة - لم يأخذوا بمثل هذه الخصوصيّات وبقوا في حيز التّصوّر المذهبيّ للعلمانيّة؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: هم بقوا في التّصوّر المذهبيّ العقائديّ للعلمانيّة الّذي يقابل تصوّر أرنست رينان القديم، وفي فرنسا هناك ما يسمى بـ (َA.O.C) (Appellation d'origine contrôlé) بالنّسبة إلى المنتوجات، ونحن نقول: إنّ من طرحوا تصوّرًا دغمائيًّا للعلمانيّة؛ هم (les A.O.C)؛ أي (Les athées d'origine catholique) مثل أرنست رينان، فهؤلاء جاؤوا من منظومة كاثوليكيّة تقليديّة، لكنّهم قطعوا معها، واندرجوا في تصوّر عقائديّ آخر، وأصبحوا يتصوّرون أنّ العلمانيّة منظومة عقديّة.
د. نادر الحمّامي: وهذا ما يؤدّي حتّى إلى احتقار المجتمعات الأخرى، كما فعل رينان مع المجتمعات الإسلاميّة، فاعتبرها بدويّة، وإلى غير ذلك.
د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، لأنّهم يرون أنّ كلّ شيء جوهر ثابت؛ فالعلمانيّة جوهر ثابت، وأوربا جوهر ثابت، والكاثوليكيّة جوهر ثابت، إلى غير ذلك، كانوا يقولون؛ أي أرنست رينان (Ernest Renan) (1823 - 1892م)، وإيميل كومب (Emile Combes) (1835 - 1921م)، وهم من أصل كاثوليكيّ: ''الكنيسة لا يمكنها أن تتطوّر وهي معادية للحرّيّة''، وقد أجابهم جيل فيري (Jules Ferry) (1832 - 1893م)، وأريستيد يبريون (Aristide Briand) (1862 - 1932م)، وقال جون جوراس (Jean Jaurès) (1859 - 1914م) في هذا الإطار: ''أنا لا يهمّني الكنيسة؛ إنّما ما يهمّني هو المجتمع الفرنسيّ، وعندما يتطوّر المجتمع الفرنسيّ، فالكنيسة إمّا أن تقبل بذلك التّطور وتندرج فيه، وإمّا سوف يلغيها التّاريخ، فأنا لا أراهن على الكنيسة؛ إنّما أراهن على المجتمع وثقافته''، وهذا - تمامًا - ما ينقص التّعامل مع العلمنة والعلمانيّة في الفضاءات الإسلاميّة عند العلمانيّين، وعند خصوم العلمانيّة على حد سواء؛ فقد قرأت كتابات راشد الغنوشي مثلًا، وقرأت كتاب ''التّطرّف العلمانيّ في تونس وتركيا نموذجًا'' ليوسف القرضاوي، وهو لا يقول العَلمانيّة، إنّما يقول: العِلمانية، وهي من العلم، ونجد هذا - أيضًا - عند بعض العلمانيّين العرب؛ الّذين يقولون: إنّ العلمانيّة من العلم، ويجعلون منها نظريّة ترجع إلى العلم كلّ شيء؛ أي بمعنى (scientisme)، وهي العلمويّة وليست العلمانيّة، وهناك من يرجعها إلى العالم، وهذا هو التّصوّر الصّحيح؛ أي إنّها تندرج في صيرورة الحياة أو العقائد الجاهزة، أيًّا كانت هذه العقائد، ومن هنا أتصوّر العلمانيّة مقاربة تقوم على اعتبار الحياة والبشر والمواطنين والفكر ظواهر حيّة، والانطلاق من ذلك في التّعامل معها، وليس على اعتبارها عقيدة جاهزة، أو مذهبًا جاء مناهضًا للعقائد الدّينيّة، وعندما أقول هذا فأنا أربط بين العلمنة والدّيمقراطيّة، وقد كان لي نقاشات في الولايات المتّحدة الأمريكيّة مع بعض الزّملاء الّذين عدّوا المشكلة في العالم الإسلاميّ تكمن في أنّه لا يقبل الفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ، وقد قلت لهم: "ومتى تمّ الفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ؟"، وقد كانوا يتصوّرون أنّ الفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ هو المدخل إلى الدّيمقراطيّة، فقلت لهم: "متى وقع تبنّي العلمانيّة في الفضاءات الغربيّة؛ أي أوروبا وكندا والولايات المتّحدة الأمريكيّة؟" لقد وقع ذلك بعد أن انتصرت الدّيمقراطيّة، وقد كانت هي المدخل إلى العلمانيّة، وليس العكس؛ يعني عندما تكتسب السّلطة شرعيّة بشريّة بالعمليّة الدّيمقراطيّة، فهذا يجعلها في غنى عن الشّرعيّة الأخرى، سواء كانت الدّينيّة أو التّاريخيّة أو الكاريزميّة أو غيرها، هذا هو المدخل إلى العلمانيّة؛ فالدّيمقراطيّة هي المدخل إلى العلمانيّة، وليس العكس. فتساءل أحدهم، وهو فيلسوف واختصاصيّ في العلوم السّياسيّة في جامعة براون: "ولماذا نسينا هذا الأمر؟" فقلت له: يا أخي تذكّر؛ هل فصلتم في أوروبا وفي أمريكا الشّماليّة بين الدّينيّ والسّياسيّ، قبل أن تنتصر الدّيمقراطيّة، أم أن هذا الأمر جاء بعد انتصار الدّيمقراطيّة، لماذا تريد من العالم الإسلاميّ أن يقلب المعادلة، والحال أننا ما زلنا نعاني من غياب الدّيمقراطيّة، لذلك أقول: عندما تنتصر الدّيمقراطيّة، سوف يجد المسلمون طريقهم إلى العلمنة والعلمانيّة.
د. نادر الحمّامي: وهل تأتي حقوق الإنسان بعد ذلك؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: لقد أصبح الأمر في نطاق صيرورة، ولم يعد هناك تطوّر منفصل للمجتمعات، ومن مزايا العولمة أن صارت القضايا تطرح في الوقت نفسه في كلّ الفضاءات، وحتّى حقوق الإنسان بدأت في البداية إعلانات حقوق عامّة، مثل عهد الأمان، مدخلًا للحدّ من الاستبداد السّلطويّ، وتطوّرت عبر العصور، وتطلّب ذلك قرونًا من الزّمن في أوروبا؛ فأوّل إعلان ربط بين حقوق المواطنين وحقوق الإنسان: هو الإعلان الفرنسيّ للمواطنة وحقوق الإنسان (La Déclaration des droits de l'Homme et du citoyen)، وفي الحقيقة؛ لم يكن الإعلان يتضمّن حقوق الإنسان، وكان المقصود حقوق الرّجال؛ فالنساء لم يكنّ حاضرات في هذا، وعندما كتبت أوليمب ديقوج (Olympe de Gouges) (1748 - 1793)، إعلان حقوق المواطنة والنّساء (Déclaration des droits de la femme et de la citoyenne) أعدموها في فرنسا بعد الثّورة؛ لأنّ ذلك كان بدعة وهرطقة بالنّسبة إليهم، وأصبح للفرنسيّات الحقّ في التّصويت بعد الحرب العالمية الثّانية، وقد كانت الكنيسة تعارض حقوق الإنسان إلى حدود فاتيكان الثّاني في ستّينات القرن العشرين، باعتبار أنّها مناهضة لحقوق الله، وكأنّ حقوق الإنسان هي إلغاء لحقوق الله.
إذن، يجب أن نأخذ العلمنة دائمًا من هذه الزّاوية؛ أي على اعتبارها الصّيرورة الّتي تعطي للبشر الحقّ.
د. نادر الحمّامي: نعم، لقد كان هناك صراع دائم بين حقوق الآدميّين وحقوق الله، ولو أخذنا المجال الإسلاميّ - مثلًا - وأنت تتحدّث عن إعلانات حقوق الإنسان، وقد اطّلعتَ على الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في الإسلام، ألا تعدّ ذلك ارتدادًا عن الإعلان العالميّ لحقوق الانسان؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، وحتّى الإعلان العربيّ لحقوق الإنسان، ونحن حين نقارن تلك الإعلانات بالإعلان العالميّ لحقوق الإنسان لا نجد شكًّا في أنها دونه، وقد كتب المنصف المرزوقيّ - عندما كان رئيس الرّابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان - مقالًا يبيّن فيه أنّ كلّ الإعلانات المحلّيّة والقاريّة والثّقافيّة والدّينيّة؛ هي دون الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، لكنّها - في الوقت نفسه - تدخل في تلك الصّيرورة، وتبحث لنفسها عن تأصيلات حتّى يقبل الإنسان العربيّ من منظور المتديّن بحقوق الإنسان.
د. نادر الحمّامي: هل هي تأصيلات أم محاولة للقمع؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: هي محاولة للاستحواذ، فقد ظهرت إعلانات مسيحيّة وإعلانات يهوديّة وإعلانات هندوسيّة وإعلانات إفريقيّة وإعلان لأمريكا اللّاتينية لحقوق الإنسان، ولم يقتصر الأمر على الإعلان الإسلاميّ لحقوق الإنسان، لكنّها - كلّها - دون الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان (1948م)، وهي محاولة لمراجعته نحو الأدنى، لكنّها - في الوقت نفسه - محاولات تأصيليّة لإيجاد ما يسمح لها بالتّطور نحوه، وأعود لصورة العلمنة والحداثة بصفة عامّة، فيجب أن نتعامل معها باعتبارها صيرورة، فلا يمكن أن تطرح العولمة في فرنسا اليوم كما طرحت في بداية القرن العشرين، أن يقول لي الفرنسيّ: كلّ قانون سنة 1905م، ولا شيء آخر دون ذلك، أقول له: أنت محافظ وتطرح طرحًا دغمائيًّا عقائديًّا لمسألة العلمانيّة، فقانون سنة 1905م؛ هو توافق تاريخيّ للخروج بفرنسا من احتمال حرب فرنسا الكاثوليكية مع فرنسا العلمانيّة، ولا يمكن أن يكون عصرًا ذهبيًّا يُرجع إليه، فالعلمنة والدّيمقراطيّة والحداثة يجب أن تطرح في علاقة بالقضايا المستجدّة ضدّ كلّ معوقات العلمنة والدّيمقراطيّة والحداثة اليوم، وهي كثيرة وجديدة ومتنوّعة.
د. نادر الحمّامي: هل لذلك أنت ضدّ مقولات ما بعد الحداثة؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، أنا ضدّ المابعد؛ أي ما بعد الحداثة، وما بعد الدّيمقراطيّة، وما بعد الكونيّة، ...إلخ؛ لأنّ الحداثة بالنّسبة إليّ هي موقف من سلطة التّقليد، ومن مقولة العصر الذّهبيّ، هي هذا الموقف مع الجديد، فهل أمنع التّجديد وأكرّس المحافظة باسم القديم وباسم التّقليد - أيًّا كان - أرسطيًّا يونانيًّا، أو عربيًّا إسلاميًّا، أو مسيحيًّا، أو يهوديًّا، أو بوذيًّا، أو تقليدًا علمانيًّا للثورة الفرنسيّة، أو تقليدًا للجمهوريّة الثّانية في فرنسا، بهذا المفهوم لا يمكن أن تنتهي الحداثة؛ فهي - دائمًا - أمامنا، وليست وراءنا حتّى نتحدث عمّا بعدها، هذا مفهومي أنا عن الحداثة وهو مفهومي - أيضًا - عن الدّيمقراطيّة الّتي هي مشروع، وأمامها اليوم صعوبات ليس فقط في المجتمعات الّتي نشأت فيها؛ ففي أمريكا نفسها أعدّ انتصار ترامب في الانتخابات الأخيرة؛ هو طعن للدّيمقراطيّة، وما تهدّد به حركات أقصى اليمين هو - أيضًا - ضدّ الدّيمقراطيّة، وأنا مع برخت (Bertolt Brecht/ 1898 - 1956م)، عندما يقول: ''الفاشيّة ليست نقيض الدّيمقراطيّة، الفاشيّة هي ديمقراطيّة في فترات التّأزّم''؛ أي عندما تتأزّم المجتمعات وينتصر الخوف، عند ذلك تصبح الدّيمقراطية وسيلة لنقيضها، وبتلك الطّريقة صعد هتلر إلى السّلطة، وأيضا فعل موسوليني، وكذلك الجماعات اليمينيّة المتطرفة، وحتّى حركة النّهضة في تونس صعدت إلى الحكم بالدّيمقراطيّة، وكلّهم سواء؛ فالدّيمقراطيّة عندما تختزل في مجرّد إجراء، تُلغَى منها مبادئ الحرّيّة والمساواة، وتؤدّي إلى نقيضها، لذلك؛ أؤكّد على أنّ الحداثة أمامنا وليست وراءنا، وأن الدّيمقراطيّة - هي أيضًا - أمامنا وليست وراءنا، وكذلك العلمانيّة، وهي بالنّسبة إليّ انتصار لمبدأي الحرّيّة والمساواة ضدّ كلّ السلطات العقائديّة، أيًّا كانت العقيدة؛ ففي الاتّحاد السّوفياتيّ انتصرت العقيدة الماركسيّة، وباسم تلك العقيدة وقع الاعتداء على الحرّيّات، وكانت محاكمات ستالين وجرائمه، لذلك؛ لا يمكن أن نطرح العلمانيّة اليوم كما طرحت في القرن التاسع عشر؛ فهي ضدّ كلّ السّلطات العقائديّة (idéocratie)، مهما كانت العقيدة، ولا يمكن أن تطرح فقط ضدّ السّلطة الدّينية (Théocratie).
د. نادر الحمّامي: بهذا المعنى كأنك تعدّ الحركات الحداثيّة نفسها مساهمة - بطريقة ما - في عدم وصولنا إلى مبادئ حقوق الإنسان والحرّيّة والدّيمقراطيّة والعلمنة، وكأنّها تشكّل عائقًا كبيرًا في نظرك؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: تشويهات الحداثة من طرف الحداثيّين، وتشويهات العلمانيّة من طرف العلمانيّين، وتشويهات الدّيمقراطيّة من طرف أنصار الدّيمقراطيّة؛ هي معوقات للحداثة وللعلمانيّة وللدّيمقراطيّة.
د. نادر الحمّامي: وإذا كانت هذه هي المعوقات فينبغي عدم الاكتفاء بتغيير الذّهنية، وهذا ما تدعو إليه في النّظر إلى الحداثة باعتبارها صيرورة، ولكن أيضا وجب تغيير استراتيجية الخطاب؟
د. محمد الشريف فرجاني: والدي، مثلاً، شخصٌ أمّي كان يصلّي مذ كان عمره سبع عشرة سنة، كان يوما يصلّي الجمعة ويستمع إلى خطبة الإمام الذي كان يدعو لبن علي بالنّصرة على خصومه، وكنت من بين أولئك الخصوم، فأوقف أبي الصّلاة وخرج وأطبق باب الجامع وراءه، فتم استدعاؤه من طرف الشرطة، وسألوه لم فعل ذلك، فقال لهم: لأنني أريد أن أذهب إلى الجامع لأصلّي لا لأستمع إلى خطبة سياسية، وإذا لم تكفكم الإذاعات والتلفزة والجرائد والشُّعَب... فتريدون أن تلحقوا بها الجوامع، لكم ذلك ولكنّني سأصلّي في بيتي ولن أساهم في ذلك. لقد كانت ردّة فعله هذه عفويّة، وقد جاءه ابن عمّي الذي كان تابعا لحركة النهضة، ورأى في موقفه شجاعة وتجرّؤا على السّلطة، فقال له أبي أنتم تريدون أن تفعلوا الأمر ذاته، لذلك فأنا ضد بن علي وضدّكم أنتم. لذلك أقول إن الإنسان يمكن أن يكون مؤمنا وعلمانيا في الوقت نفسه. وإنّما انتصرت العلمانية في فرنسا عندما تحوّل جمهور المؤمنين الكاثوليكيين والبروتستانت واليهود، واليوم، المسلمين أيضًا، إلى مناصرين للعلمانيّة وللفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ؛ لأنّهم يرون الفصل تدنيسًا لمقدّساتهم، كما قال مفتي سلطنة عمان، إذن، يجب أن نقلع عن تصوّر العلمنة والحداثة والدّيمقراطيّة على أنها نماذج جاهزة نطبّقها بحذافيرها على المجتمع، وليس للمجتمع في ذلك ما يقول، وليس له دور واضح في المسألة.
د. نادر الحمّامي: لكن هل لمجتمعاتنا اليوم تلك البنية الذّهنيّة الّتي تساعدها على تمثّل مسائل العلمنة والحداثة والدّيمقراطيّة بشكل سليم، أم أنّ الإرادة السّياسيّة هي الّتي تقف دون أن تكون المجتمعات صاحبة قول في ذلك؟
د. محمّد الشّريف فرجاني: يجب أن نفكّر في الغد، ونعدّ معارك اليوم؛ هي الّتي تحدّد طبيعة الغد، وأنا شخصيًّا أعتقد أن ما نقوم به اليوم يدخل في تصوّر ما سيكون مستقبلًا، فهل كان بإمكاننا أن نجري هذا الحوار وننشره في المجتمعات الإسلاميّة منذ ست سنوات؟ لذلك؛ فأنا أعدّ ما يجري اليوم في المجتمع التونسيّ وفي المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، من صراعات ونقاشات حتّى مع السّلفيّين يُعدّ أمرًا مهمًّا، وأنا أفضّل أن أواجه السّلفيّين فكريًّا على أن أقضي عليهم مادّيًّا وأمنعهم من الكلام، ولا يمكن القضاء عليهم مادّيًّا، ونحن جرّبنا ذلك حتّى تاريخيًّا؛ فالبداية هي أن أقبل بهؤلاء ولا أعدّهم غرباء أو وافدين على المجتمع، فهم جزء من المجتمع، وهذه التّصوّرات للهويّة التّونسيّة وللهويّة الإسلاميّة: هي من صناعة الغرب ومن صناعة الاستعمار والإمبرياليّة، ففي النّهاية؛ هم منّا ووجب أن نتعامل معهم بأنّهم جزء من المجتمع، ولن تُبنى الدّيمقراطيّة ولا العلمانيّة ولا الحداثة إلّا بالتّعامل معهم ومقارعتهم فكريًّا دون التّنازل لهم.
د. نادر الحمّامي: لكنّك قلت: إنّ الانطلاق يجب أن يكون من الفرد، أليس كذلك؟
د. محمد الشريف فرجاني: نعم، يجب أن أبدأ بنفسي، ولا أنتظر مبادرة حزب سياسيّ، وعندما لا أقوم بهذا العمل بنفسي فبأي حقّ يمكن أن أطالب الآخرين به؟ فذلك وجب أن ينطلق من المفكّرين أنفسهم، ومن الجامعيين ومن الأساتذة والمثقفين، فماذا يفعل أولئك كلّهم؟ هم أنفسهم عندما يخرجون من فضاء نقاش مثل هذا الفضاء إلى فضاءات السّياسة يصبحون سياسيّين، ويصبح لديهم استعداد للتّوافق مع أيّ مبدأ يسمح لهم بالوصول إلى السّلطة، لذلك؛ فمن مميّزات الحداثة أنّها تفصل بين الحقول والمجالات، أنا - مثلًا - أقوم بعملي في الجامعة، ولا أفكّر في التّوظيف السّياسيّ أو الدّينيّ لخطابي، لذلك على رجل الدّين أن يقبل بأن الدّين هو حيّز من ضمن حيّزات أخرى، وليس أبدًا الحيّز الأوحد الذي يجب أن يهيمن ويستوعب كلّ الفضاءات الأخرى ويفرض قانونه، وعلى السّياسيّ - في المقابل - أن يفهم أنّ المجال السّياسيّ هو حيّز من ضمن حيّزات أخرى، والأمر نفسه بالنّسبة إلى رجل الاقتصاد، وغير ذلك، هذا هو الأمر الّذي يمكن أن يؤسّس للحداثة؛ فهي تنبني على القبول بكلّ هذه النسبيّات، وما يؤسّس لكلّ هذا هو القبول بمبدأي المساواة والحرّيّة.
د. نادر الحمّامي: إذن، الحداثة: هي نوع من القبول بكلّ النسبيّات، وبفصل المجالات عن بعضها، وربّما هذا إطار للتّفكير المشترك نحو إيجاد إستراتيجيّات جديدة للخطاب، ونحو تقريب هذه المفاهيم ووضعها في السّياقات الرّاهنة التي نعيشها اليوم، لأنّنا - في الحقيقة - تتوفّر لنا اليوم إمكانيّات للبحث أكثر ممّا كان متوفّرًا منذ سنوات، وما يؤسّس لكلّ هذا هما مبدآا الحرّيّة والمساواة؛ لذلك لا بدّ من توفّرهما، وربّما ستكون هذه أطرًا للعمل المشترك مستقبلًا معك أستاذ محمّد الشّريف فرجاني، وستكون هناك أعمال ومشاريع أخرى تجمعنا بكلّ تأكيد.
شكرًا جزيلًا.