محمد عبده وتطور الفكر الإصلاحي
فئة : مقالات
لم يتلاش الفكر الإصلاحي أو يتوقف بعد السيد جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/1838-1897م)، وكان من الممكن أن يشهد تراجعاً خطيراً، وتقهقراً شديداً، نتيجة الفراغ الكبير الذي تركه الأفغاني بعد غيابه، وذلك لكون أن الأفغاني مثل شخصية نادرة لا نظير لها، شخصية خيلت إلى المستشرق الفرنسي إرنست رينان (1823-1892م)، حينما التقى به في باريس سنة 1883م، أنه يشهد أمامه شخصية من نمط ابن سينا أو ابن رشد، مع ما ظهر له منه من حرية فكره، ونبالة شيمه وصراحته.
لكن الذي منع تقهقر الفكر الإصلاحي هو وجود الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م)، والدور الإصلاحي الكبير الذي نهض به بعد الأفغاني، ولو غاب الشيخ عبده قبل الأفغاني، لكانت وضعية الفكر الإصلاحي بعد الأفغاني مغايرة ومختلفة عما جرت عليه في ظل وجود الشيخ عبده، الذي مثل طورا مهما في أطوار تطور وتقدم الفكر الإصلاحي بعد الأفغاني.
وهذا يعني أن الفكر الإصلاحي بعد الأفغاني، لم يكن بلا ربان أو بلا زعيم أو بلا رمز أو بلا شخصية كبيرة ومؤثرة مع وجود الشيخ محمد عبده، الذي حافظ على دوره الإصلاحي وعلى تقدمه وتجدده، ولم تنطفئ شعلته بعد الأفغاني، بل زادت توقدا وإشعاعا، وتألقت شهرته التي غطت عليها من قبل بعض الشيء شخصية الأفغاني، حين كان صاحبا ورفيقا له، وملتزما بدربه ومسلكه في النهضة والإصلاح.
ومن جانب آخر، أن عودة الشيخ عبده إلى مصر من منفاه سنة 1889م، هي التي أدت إلى تعاظم دوره الإصلاحي الذي عرف به، وبقي يعرف به إلى اليوم، ولو لم تحصل هذه العودة لظلت شهرته أقل من الشهرة التي حظي بها، ولبقي تأثيره كما وكيفا وامتدادا دون المستوى الذي وصل إليه قطعا، فالدور الذي نهض به بعد عودته، لا يقارن بالدور الذي كان عليه خارج مصر بعد افتراقه عن الأفغاني.
وحينما عاد الشيخ عبده إلى بلده مصر، عاد وهو يحمل معه خبرات وتجارب ومعارف جديدة، عايشها ومارسها واكتسبها خلال الفترة التي أمضاها خارج مصر، وامتدت ست سنوات من نهاية سنة 1882م إلى بداية سنة 1889م، تنقل فيها ما بين بيروت وباريس، وزار خلالها سرا وعلنا العديد من العواصم الغربية والشرقية، واشتغل خلالها ومارس التدريس والكتابة والتأليف إلى جانب العمل بالصحافة والعمل السياسي وتأسيس الجمعيات، وصاحب فيها الأفغاني وعمل معه في تأسيس جمعية العروة الوثقى، وإصدار جريدة العروة الوثقى في باريس، كما التقى خلال هذه الفترة وتعرف وتحاور مع العديد من الشخصيات الفكرية والسياسية غربيين وشرقيين.
الأمر الذي يعني أن الشيخ عبده عاد إلى مصر بوعي وأفق جديدين، وشخصية جديدة، والأهم من ذلك أنه عاد إلى مصر لا ليخلد إلى الراحة، ويركن في بيته، ويبتعد عن الناس، ويتخلى عن دوره ونشاطه، ويعتزل الحياة العامة والشأن العام، بعد سنوات من النضال والكفاح والغربة، فقد عاد إلى بلده ليبدأ دورة جديدة من الفاعلية والحيوية والانخراط في قضايا الشأن العام.
ومع هذه العودة، مثل الشيخ عبده طورا جديدا في أطوار تجربته الفكرية والإصلاحية، وعد هذا الطور الذي امتد إلى عقد ونصف العقد ما بين (1889-1905م)، من أكثر الأطوار تألقا وتميزا في تجربة الشيخ عبده، وذلك من جهة إبراز ذاتيته، وإثبات وجوده، وتحقيق أثره وتأثيره.
ففي هذا الطور، أظهر الشيخ عبده شخصيته المستقلة، وتحددت بصورة ثابتة وواضحة اتجاهاته ومسلكياته الفكرية والإصلاحية، وكشف في هذا الطور أيضا عن منهجه وغاياته في التجديد والإصلاح الفكري والديني، كما أنه في هذا الطور ارتقى إلى أعلى المناصب الدينية حين أصبح مفتيا عاما للديار المصرية سنة 1899م.
والملاحظ أن الشيخ عبده قد ترك تأثيرا كبيرا وممتدا، جعل منه موضوعا لحقل من الدراسات التي لم تتوقف على اختلاف وتنوع ميادينها الفكرية والدينية والفلسفية والكلامية والتربوية والإصلاحية، ويشابه من هذه الجهة حال الفارابي وابن سينا في الأزمنة القديمة، والغزالي وابن رشد وابن خلدون في الأزمنة الوسيطة، والطهطاوي والأفغاني في الأزمنة الحديثة.
وأكثر ما تميز به الشيخ عبده أنه تمكن من تأسيس مدرسة فكرية وإصلاحية، عدت واحدة من أهم المدارس الفكرية التي ظهرت في مصر والعالم العربي الحديث والمعاصر، وضمت رجالا هم من ألمع الرجال الذين عرفتهم مصر في حقبتيها الحديثة والمعاصرة، وجميعهم كانوا من طبقة المصلحين والمجددين.
وحين توقف الدكتور عثمان أمين (1905-1978م)، في كتابه (رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده)، أمام هذه المدرسة في مصر، وجد أنها بحسب روادها وشخصياتها وتشعباتها، تنقسم في نظره إلى أربع مدارس هي: المدرسة الاجتماعية ورائدها قاسم أمين، والمدرسة السياسية ورائدها سعد زغلول، والمدرسة الدينية ورائدها الشيخ أحمدي الظواهري، والمدرسة الفلسفية ورائدها الشيخ مصطفى عبد الرازق.