مراثي الطائفية... وأوهام النخب الطائفية
فئة : قراءات في كتب
تثير الإشكاليات الطائفية- اليوم- أسئلةً فاجعةً، ومواقف تضع الكثير من مفاهيمنا في نوبة عاصفة من الجدل والخلاف، مثلما ترهن وعينا الثقافي بتصورات غامضة وملتبسة يمتزج فيها التاريخي مع السردي والشعبوي مع المثيولوجي، فوسط ما تتركه هذه الإشكاليات من صراعات وأزمات يأخذ سياق التداول المفاهيمي بعدًا أخطر رعبًا، ويتلبّس الخطاب الثقافي بأقنعة الطوطم، إذ لا يبدو (التاريخ) آمنًا في متحفه، وفي مدوناته، وحتى في لاوعيه الجمعي، والعقل يجد مرجعياته ومصطلحاته ومفاهيمه أمام حرجٍ تفرضه الكثير من القوى النقلية، تلك الماكثة عند عتبات رجراجة، والتي تتوزع بين مثاليات القياس وفقه الجماعة، وبين إشكاليات التأويل والقراءة، مثلما تجد الهوية نفسها أمام فخاخ كثيرة، تتوزعها أوهام وثنائيات وتقاطعات تشوبها مظاهر القوة والضعف، الغياب والحضور، المجاهرة والتقية، الحاكمية والتبعية..
كتاب الباحث والشاعر محمد مظلوم (الطائفة والنخبة الطائفية- ولاء الجماعات في صراع الأمم) الصادر عن دار الجمل/ 2016 يتقصى سرائر الإشكالية الطائفية من خلال فك التباساتها التاريخية، ومقاربة إرثها في صراع الجماعات، وفي التداول الإسلامي....
المكاشفة العلمية في هذا المجال تفترض وعيًا، ومنهجًا، وبقدر ما سعى الكاتب مظلوم إلى تلمس الكثير من التعقيدات التاريخية والسردية التي تقف وراء النزعة الطائفية، فإنّه وضع منهجه التفكيكي كما يقترحه مشغلاً للقراءة، والمراجعة والحفر، إذ يبدو هذا الإجراء المنهجي قريبًا من معاينة الظواهر، عبر حفرها وتعرية مرجعياتها التاريخية والشعبوية التي باتت ضاغطة ومهيمنة في توصيف الصراعات، وفي التعرّف على الجماعات الأكثر تمثلاً لممارسة العنف الطائفي وتبرئته في آن معًا، إذ يتلازم الصراع بالجماعة عبر تأويل النص، وعبر إحاطة المقدس، وعبر صناعة مجال ثقافي وسياسي وديني تتضخم فيه الظواهر، وتتعاظم فيه الخلافات وعُصابات الكراهية والتأثيم والتكفير، وهي توصيفات لها أسانيد ومرجعيات نصوصية وفقهية، ولها أحكام في فتاوى الفقه وفي تواتر الحديث والأخبار..
الطائفية المذهبية مصطلح ومفهوم مفصلي في الكتاب، وبقدر تحوّله وتغوله، فإنّ الجدل الذي يثيره ينطلق من مرجعيات عصابية في البيئة العربية/ الإسلامية، ومن منظومة قاموس الحاكميات التي جمعت (الناسوت واللاهوت) وفرضت سطوة المقدس بوصفه جزءًا منها، ومن مركزيتها في السيطرة والرقابة والعنف، وفي توصيف الخصوم وتكفيرهم وزندقتهم وإخراجهم من الملة والأمة، حدّ أن (الاختلاف المذهبي الذي تحوَّل في تاريخ الصراع على السلطة إلى نزعة طائفية سياسية، ثمَّ إلى هيمنة خطيرة لثقافة التكاره التي شكَّلت عقائد متصادمة داخل تلك الثقافة التي يفترض أنّها «واحدة»، وأصبح ذلك الاختلاف المذهبي الذي بدأ ثقافيّاً ثم تسلَّل إلى وعي الطبقة السياسية، ليتدحرج نحو هاوية قاتلة توشك على ابتلاع الجميع، وهو يتمظهر راهناً في هذه الصراعات المحلية التي بدأت تنحو منحى الحروب الأهلية المتنقِّلة في الساحة العربية).
1- الطائفية ومحنة الهوية الثقافية..
ينحني الفصل الأول من الكتاب على مقاربة إشكالية لـ(ثالوث النخبة الطائفية) والتي تخص أصل الطائفة والهوية والثقافة، إذ يضعنا الباحث أمام تعقيدات هذه المقاربة، والإحالات الملتبسة لمفاهيمها، مثلما يضعنا أمام أطروحات ومرجعيات تتعلق بالأصل الاصطلاحي للطائفة، ولتمثلاتها على المستويين التاريخي والتوصيفي، وكذلك على المستويين النصوصي والوظائفي.
هذا التأطير المنهجي أعطى للمقاربة النقدية مجالاً للتعرّف على الكثير من الأصول التاريخية لمفهوم الطائفية، ولحمولاته التي تواترت داخل منظومات السلطة والجماعة، وضمن سياق الصراعات التي ارتبطت بأزمة العقل والنقل، وطبيعة المشاريع والهيمنات، إذ تحولت تلك الصراعات إلى نزعات للتغالب والتكاره والتأثيم، وظهرت على هامشها قوى أصولية متطرفة في فهمها وفي عنفها، وفي الترويج الدوغمائي لمفهوم الحاكمية، إذ تم إخضاع النص إلى قراءة محددة، وإخضاع المقدس إلى مرجعيات ضيقة، وهو ما تم توظيفه في إقصاء الآخر وتكفيره، حتى بات التاريخ الاسلامي محصورًا في مساحة ضيقة تتجوهر حول (الصراع الطائفي) بين الفرق والجماعات والأحزاب حيث تكون (الطائفة هي التحزُّب داخل الجماعات الواسعة، ونشير إلى أنّ أصل الجذر الدلالي لمفردة الحزب هو الطائفة بالمعاجم العربية).
وفي سياق الحديث عن مفاهيم الهوية والثقافة يُسلّط الباحث على العديد من المفارقات التي تتعلق بالمرجعيات اللسانية للمفهوم، لطرائق نطقه واستعماله وتداوله، إذ تعكس هذه المعطيات عطالة في التعرّف عليه عبر شواهد نصوصية في الموروث الصوفي والشعري العربي، فضلاً عن مقاربة العديد من المرجعيات الثقافية التي تضع الهوية بصفتها مصدرًا للكثير من الأزمات والتخندقات، فالباحث يستعين بأطروحات (داريوش شايغان) الذي قدّم في كتابه (أوهام الهوية) تصوُّراً للتناقض الحاد بين فكرة الهوية من جهة، وأطروحة الحداثة وراهن العولمة التي نعيشها من جهة ثانية. فضلاً عن أنّ الباحث يضعنا أمام مأزق الثقافة بوصفها الإشكالي، والتي لم تستطع أن تمنح مؤسساتها وقيمها حضورًا يوازي ما هو مكرس من مرجعيات دينية وطائفية، فبقطع النظر عن طبيعة المقاربات المتعددة للثقافة، فإنّها ظلت في سياق التاريخ العربي والإسلامي واقعةً تحت تأثيرات الكثير من المهيمنات الدينية والسلطوية، وحتى الطائفية بمعنى دقيق، ولم تستطع الحداثة بأطروحاتها وصدماتها أن تصطنع مرجعية مقابلة للمؤسسة الدينية والاجتماعية وهيمنة اللاوعي الجمعي بتشوهاته وأبويته وزيف قيمه وعلاماته، وهذا ما جعل المفهوم الثقافي مُغتَرِبًا و(مشروخًا) كما يسميه الباحث و(من هذا التنافس، أو التتثاقف اللا عضوي، نشأ مفهومٌ مشروخٌ للثقافة لا يمكن تفسيره إلا وفق ما كان قد ذكره أوجبيرن عن الثقافة المادية والثقافة التكيُّفية؛
الأولى: بوصفها عنصراً مدنيّاً عمرانيّاً تقنيّاً.
والثانية بوصفها رواسخ معرفية وذكريات حضارية وعادات وقيماً عميقة الجذور، تصطدم في لحظة ما حيث لا تعود الثنائية قادرة على التفاعل والتكيُّف الإيجابي لينشأ منها مفهوم «التخلُّف الثقافي» وهو المفهوم الذي أخذه الدكتور علي الوردي عن أوجبيرن نفسه وأطلق عليه مصطلح "التناشز الاجتماعي" أي معضلة التنافر بين رسوخ القيم وتوالي المنجزات).
2- الطائفية بين الجماعة والدولة..
يحمل الفصل الثاني العديد من المحاور (القفزة المعقَّدة من الجماعة إلى الدولة، المحافظون الجدُد والطائفيون الجدُد، هلوسات النخبة، و"ديانة" الغزاة.. ابن تيمية وابن المطهر معاصرين، الدولة العميقة بثياب الخلافة) والتي تضع المشكلة الطائفية في سياق تضخم الأزمة، وعبر خطورة ما تمثله من ظاهرة قابلة للتفجّر، وللتأثير في النسيج الاجتماعي، فالمشكلة الطائفية في هذا السياق ترتبط بالمشكلات الاجتماعية، والمشكلات السياسية والاقتصادية ومنظومات التعلّم و(اندماجها بمنظومات استقطاب إقليمية ومحلية (كما يرى الباحث) وهذا ما يجعل الطائفية بوصفها (الهوية الضيقة للجماعة) في سياق توليدي للكثير من مظاهر التصارع والتنافر، لاسيما داخل مراكز المدن، ذلك (أنّ نزعة البداوة في عموم مناطق العراق كانت تطغى على روح الدين، العشيرة قبل الإسلام، فسؤال الولاء لدى الجماعة البدوية يتركَّز حول النسب الرحمي الصريح وليس حول النسب الثقافي المعطى، أي داخل العصبية الأضيق والأكثف، وليس الأوسع، ولذلك تتركز الظاهرة الطائفية في المدن والمراكز التي تضمُّ أضرحة الرموز الروحية لكلِّ طائفة وكذلك مراكزها الثقافية التقليدية من مساجد وحوزات) وهذا ما يعني انعكاسها على هوية المؤسسات وعملها، وعلى أطر وسياقات العلاقات العامة، وحتى على مستوى تمثلات الدرس التعليمي في المدارس وآلية القبول بمعلوماته ومصادره، وعلى تقبّله لأطروحات السلطة ذاتها، إذ تمثل السلطة هنا مرجعية طائفية وليست وطنية، وهو ما بدا واضحًا بعد أحداث 2003.
صورة المثقف العراقي الليبرالي والقومي غير القارّة في الوجدان لم تجد لنفسها حضورًا بعد الأحداث، وربما ضعفت بشكل كبير بعد ظهور ملامح ناتئة لـ(المثقف الديني، والمثقف الطائفي) وللمثقف (الكهنوتي) الذي يفرض سلطته على المجالس، وعلى تدوير المعلومات والأفكار التي تخصّ أحداثا تاريخية، واستهلاكها، أو تهويل مرجعيات فقهية تقوم على مهيمنات التحريم والتأثيم والتكفير والتلويح بالعنف والطرد والمحو.
هذا المثقف بات هو التجسيد العلني لظواهر التسويق المعرفي والثقافي، ولتحديد أفكار التحول في المجتمع والجماعة، ولفرض فهم معين للتاريخ والبناء المؤسسي، وحتى على مستوى بناء الوحدات الثقافية والتعليمية والإعلامية في مؤسسات الدولة، حتى صار من الطبيعي (أن تتحوَّل الديمقراطية في واقع تراجيدي كهذا، إلى نقيضها النوعي، وأن تختزل الافتراضات المتعدِّدة لأنواع أنظمة الحكم التي قدَّمها الفلاسفة اليونانيون، وتحديداً سقراط وأفلاطون في حلول تناسبها، فتصبح الديمقراطية فريسةً سهلةً وسط تزاحم محموم لنخبة الشرف والثروة، "التيموقراطيين" المستفيدين من تصاعد العنف، وهيمنة الميلشيات للصعود نحو أمجادهم الشخصية، و"الأولغارشيين" الذين يغذون شهواتهم المتزايدة للإثراء، وكذلك زعماء الطوائف. مدعومين بأطروحات فقهاء الحداثة الطائفية).
3- الطائفية .. التاريخ الغامض والثنائيات القاتلة..
الفصل الثالث الذي حمل عنوان (الثنائيات القاتلة ..التاريخ الغامض لمحفل الكراهية) وجد في ثنائيات التقسيم الثقافي والتوصيفي مجالاً للكشف عن خطورة شيوع مثل تلك الثنائيات بوصفها تعبيرًا عن انقسام مجتمعي نفسي وطائفي، حمل معها الكثير من الصراع المدني، والكثير من الضحايا، والكثير من التزييف الذي رهن خطابه بأوهام التمظهرات التي أشاعها الصراع البويهي السلجوقي، والصفوي العثماني في العراق وفي إيران وفي الدولة العثمانية، فمفردات (النواصب والروافض، والتبشير والتكفير، والوهابية والشيخية) تحولت إلى يافطات وإلى مدارس ومرجعيات تؤدلج الصراع الاجتماعي وتُسيسه لصالح جماعات معينة، ولصالح السلطة ذاتها التي حاولت فرض نمط طائفي معين لهوية الدولة...
هذه الثنائيات القاتلة والمقتولة كرست عبر هيمنة (النخب الكهنوتية) على العقل الثقافي والسياسي الإسلاموي الأسس الهيكلية لـ(محفل الكراهية) والذي تضخم، وتحول إلى ظواهر ثقافية وفقهية مازلنا نعيش إلى اليوم رعبها وعنفها وأنماط سسيولوجيتها الإكراهية والدامية، فضلاً عن كونها كانت سببًا في قتل (ونفي) الكثير من الشعراء والفقهاء ممن اختلفوا في الولاء لهذه الجماعة أو تلك مثل علي بن الجهم والكميت الأسدي وعبد الله بن عمار البرقي، ومروان بن أبي حفصة، دعبل الخزاعي وغيرهم..
يقترح الباحث تقديم مرجعيات تاريخية وأسانيد تعزز قراءته لنشوء الظاهرة الطائفية، وانتقالها من حيز الجماعة والفرقة والعقيدة إلى حيز الدولة، وهنا مكن خطورتها، لأنّها ستقوم بإخضاع الكثير من المؤسسات والنُظم إلى أدلجة مغلقة، مثلما ستكون مصدرًا للتبشير بأفكاره والتكاره ورفض الآخرين، وهو ما بدا واضحًا في الاتجاه الوهابي الذي شرعن أحكام القتل والتعنيف، من منطلق الوعي الزائف بـ(الفرقة الناجية) وبولاية الأمر للحاكم..
4- الدولة الطائفية والولاء الملتبس..
في الفصل الرابع (الولاء الملتبس) يحاول الباحث وضع مسألة الدولة العراقية الجديدة تحت مشرح منهجه التفكيكي، مُتقصّيًا تعقيداتها وصراعاتها الداخلية وطبيعة القوى الجديدة التي تمثلت خطابها، فضلاً عن مقاربة الولاءات الغامضة والعميقة، والتي وجدت في المجال الطائفي تعبيرًا عن احتقاناتها القديمة، فضلاً عن استدعاء الكثير من إشكالات التاريخ وأوهامه، تلك التي (تقوم أساساً على نقض فكرة الدولة لصالح فكرة الولاية بمختلف تجلياتها الإمبراطورية والدينية، وعلى طمس الوطن في بحر الأمة بمختلف تجلياتها كذلك، وعلى تسييل مفهوم الشعب في ملل وطوائف وذمم وهويات ضيقة ومتضايقة بعضها من بعض).
مشكلة الدولة بدت هي الضحية الأكثر تراجيدية في سياق الفرض الطائفي للدولة ولصراعات الجماعات حولها، وعلى الرغم من أنّ الدستور العراقي قد حدد توصيفًا أقرب لمدنية الدولة، إلّا أنّ طبيعة الفاعلين الرئيسيين في مؤسسة الدولة ومرجعياتهم الطائفية والحزبية فرضت على الدولة نوعًا من الهوية المُغلقة، مقابل ما أفرزته من جماعات تتبنى العنف خطابًا طائفيًّا لفرض سيطرتها وتوجهاتها، تلك التي تركت الدولة واقعة تحت نوبات متتالية من الأزمات الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية..
الفصل السادس للكتاب يتعالق مع هذا الفصل في التعاطي مع تعقيدات المشهد، فالعنوان الذي حمل (الأضرحة والمفخَّخات ترسم جغرافيا الطوائف) يؤشر على مدى الخطورة التي باتت عليها النزعة الطائفية، على مستوى الجماعات والجهاد والهويات، وعلى مستوى الطقوس والتغايرات الديموغرافية داخل المجتمع، والتي فرضت وجودها وكأنّها نوع من (الهويات المُسورة)، فضلاً عمّا أشاعته من العنف العُصابي الذي طال أضرحة الأئمة العسكريين في سامراء، ومرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، فضلاً عن التجمعات السكانية والأسواق الشعبية والملاعب الرياضية والمقاهي والشارع الثقافي، ووفق تبريرات طائفية تتجذر فيها نزعة الكراهية للآخر، وهذا ما جعل الباحث أكثر واقعية في قوله بأنّ (الديموغرافيا الطائفية انتصرت على الديمقراطية، أو بالأحرى حلت كبديل نوعي لها. انسحبت من فكرة التعايش السلمي، إلى العيش في قوقعة الأمن الذاتي).
وفي الفصل السادس سعى الباحث لاستعادة أثر إرث السلطة القديمة في صناعة الرعب الطائفي، وعنوان المبحث (التركة الملعونة: طوائف الدكتاتور) قاربت صورة الدكتاتور بعد اعتقاله، وتضخم الوهم الذي ظل يعيشه، وعلى الرغم ممّا كان يعانيه العراقيون من رعب طائفي وصراع مجتمعي دامٍ، إلّا أنّ الأوهام التي ظلت مرتبطة بالدكتاتور كانت صاخبة في الأوساط الاجتماعية الشعبية، وأنّ محاكمته كشفت عن الكثير من المسكوت عنه، ومن تاريخ عميق للعنف السياسي والإبادة التي عانت منها الجماعات الشيعية والكردية..
حاول الباحث في الفصل السابع (اللعبة المستمرة أم نهاية العراق، من تشرشل - المس بيل، إلى بايدن- غيلب) إلى الكشف عن الإشكالات المرجعية لتأسيس الدولة العراقية في مرحلتيها عام 1921، وفي 2003 وهي التي ارتبطت بوقائع احتلالية، وبنوع من الصراع مع المحتل، فـ(خلال أكثر من ثمانية عقود خلت ظلت "الدولة" ترث المشكلات الاجتماعية، وتنافر الكتل والجماعات المحلية، وتمضي إلى أطوارها بلا جهد واضح لمعالجتها، فبدلاً من أن يتركز دور النظم المدنية على معالجة تلك المشكلات وتنظيف البيئة الحيوية لنشوء فكرة «الوطن» من ركام الصراعات التقليدية خارج النظم، وتهيئة القاعدة الأهلية القادرة على التواصل الداخلي والتفاعل مع تلك النظم المستحدثة وقابليتها على التكيف معها. نجد أنّ الدولة في نماذجها المعاصرة في منطقتنا عموماً والعراق تحديداً تعيد إنتاج تلك المشكلات لتصبح نوعاً من الوقود الحيوي الذي تستمد منه حركيتها وبذلك تبدو الدولة انعكاساً صوريًّا تقليديّاً للأزمات الموروثة).
وهذا بطبيعة الحال وضعنا أمام أزمة وجود هذه الدولة وضعف نظامها وبناها المؤسسية، مقابل الصعود المشوه للأصوليات الطائفية التي أسهمت في تكريس ثقافات العزل الديموغرافي، وتعميق الدوغما الإيديولوجية بين الجماعات، والابتعاد الحقيقي عن البحث عن مصير مشترك لها، أو حتى هوية جامعة، بل إنّها عمدت إلى صناعة المزيد من الأوهام الطائفية وتزييف العلاقة ما بين الفرد والمجتمع والدولة، وتخريبها، وكل هذا حدث ويحدث جرّاء تغوّل الظاهرة الطائفية وتوسيع مديات رعبها وإكراهاتها الثقافية والهوياتية في المجتمع الآخذ بالتشظي..