"مستقبل الثقافة": طه حسين يقدم رؤيته للهوية المصرية متحديًا القومية العربية
فئة : مقالات
"مستقبل الثقافة":
طه حسين يقدم رؤيته للهوية المصرية متحديًا القومية العربية
مع انطلاقة القرن العشرين، ظهرت تساؤلات عديدة أثارت جدلًا واسعًا بشأن طبيعة الهوية المصرية، خاصة بعد تحقيق الاستقلال عام 1922، وإنهاء الحماية البريطانية على البلاد، وتوقيع المعاهدة البريطانية المصرية التي نصت على سحب القوات البريطانية باستثناء تلك اللازمة لحماية قناة السويس عام 1936. ظهرت دعوات حديثة في ذلك الوقت، تدعو إلى قطع الصلة بين مصر والغرب بشكل قاطع، مثل جماعة الرابطة الشرقية، في مسعى لإضفاء صفة العروبة وحصر مصر في محيطها اللغوي، متجاهلةً بذلك إرثها الثقافي العريق. أثارت هذه الأصوات مخاوف الأديب المصري الكبير طه حسين، مما دفعه إلى تدوين كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938، لكنه لم يكن يعلم أنه يكتب مستقبل الثقافة الذي لن يأتي.
مصر من الشرق أم من الغرب؟
يرى حسين أن الثقافة المصرية قد تجاوزت الفواصل الجغرافية بين الشرق والغرب، ويتبنى في كتابه نهجا تاريخيًا يستحضر ماضي مصر الممتد إلى أيام الإسكندر الأكبر الذي أضفى على مصر طابعًا يونانيا حضاريًا، مما جعل مدينة الإسكندرية تتبوأ مكانة بارزة كأهم عاصمة يونانية، ثم يستفيض في شرح التأثير الهائل للحضارة المصرية على الحضارة اليونانية والعقل اليوناني؛ ذلك التأثير الذي لم ينكره اليونانيون، بل افتخروا به أشد الافتخار، كما يتضح مما كتبه هيرودوت وغيره من الكتاب اليونانيين. لذلك، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقتصر الثقافة المصرية على الشرق فحسب. وبذلك، تتجلى صلة قوية بين مصر والثقافة الأوروبية، حيث يتشارك الجانبان في التأثر بالحضارة اليونانية، بل يمكننا أن نقول إن مصر أسهمت بدور عميق ومستدام في تشكيل الثقافة اليونانية التي منها نشأت الثقافة الغربية بأكملها.
لذلك، يتعجب حسين من الرؤية الاختزالية للهوية المصرية، قائلا: "فأما المصريون أنفسهم، فإنهم يرون أنهم شرقيون، ولا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي فقط، بل أيضًا معناه العقلي والثقافي. فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني من كونهم قريبين من اليوناني والإيطالي والفرنسي. لقد استطعت أن أفهم كثيرًا من الأخطاء وأفسر بعض الأوهام، لكنني لم أستطع قط، ولن أستطيع في يوم من الأيام، أن أفهم هذا الخطأ الشنيع أو أستوعب هذا الوهم الغريب" (ص22). أما العلاقة بين المصريين القدماء والبلاد الشرقية، فهي لم تتجاوز حدود هذا الشرق القريب، الذي نعرفه بفلسطين والشام والعراق، وهو الشرق الواقع ضمن حوض البحر الأبيض المتوسط. فمصر لم تتصل بدول مثل دول الخليج وإيران، بل عندما اجتاح الفرس أراضيها تصدت لهم حتى انتصرت في النهاية. كما يذكر حسين أن مصر ثارت على السلطان العربي ولم ترض بمحو هويتها، ولم تهدأ إلا بعد أن استعادت شخصيتها مع حكم ابن طولون.
وإضافة إلى ما قاله حسين، يجدر بنا إلقاء نظرة على الثقافة المصرية قبل هجرة المصريين إلى دول الخليج في عصر السادات، المعروف بعصر الانفتاح الاقتصادي. ففي تلك الفترة، شهدت دول الخليج ثورة اقتصادية متسارعة الوتيرة، نتيجة اكتشاف النفط، مما استدعى الحاجة إلى الأيدي العاملة. فتوجه المصريون إلى هناك، وعادوا بتقاليد ثقافية جديدة لم يعرفوها من قبل، كالفصل بين النساء والرجال في المجالس، على سبيل المثال لا الحصر.
اتحاد اللغة والدين.. هل يشكل أساسًا كافيًا لبناء هوية عربية متكاملة؟
يرى حسين أنه من السذاجة أن نؤسس الهوية بأكملها اعتمادًا على عاملي اللغة والدين وحدهما؛ فالحضارة تستلزم فصل الدين عن السياسة، وهو الإدراك الذي نضج لدى المسلمين بعد تجربتهم لدولة الخلافة، كما يتضح من استعادة القوميات مرة أخرى بعد القرن الرابع الهجري، والقطيعة التي قامت بين الدولة الأموية في الأندلس والدولة العباسية في العراق. كما فطن إلى تلك الحقيقة مسيحيو أوروبا إثر معاناتهم تحت راية الكنيسة في العصور الوسطى. ومع ذلك، يعتبر المصريون أنفسهم جزءًا من الشرق، ولا يلتفتون إلى أن "العقل المصري القديم لم يتأثر بالشرق الأقصى ولا بالشرق البعيد، قليلًا كان أم كثيرًا، بل نشأ مصريًا خالصًا" (ص24). فكيف تكون جزء من كل، وهي صاحبة التأثير الأعظم في الشرق والغرب، كما تخبرنا صفحات التاريخ؟
ويذهب حسين إلى أبعد من ذلك حين يؤكد أن الأديان لا تخرج الشعوب من عقلياتها الأولى. ويستشهد بانتشار المسيحية في أوروبا، وهي الديانة التي وُلِدت في الشرق، وانتقلت من بيت لحم إلى أوروبا، وأصبحت ديانة الأغلبية، ومع ذلك، لم يُعر الأوروبيون أنفسهم صفة الشرقيين، ولم تصبح أوروبا شرقية. "إذا صح أن المسيحية لم تمسخ العقل الأوروبي، ولم تخرجه عن يونانيته الموروثة، ولم تجرده من خصائصه التي جاءته من إقليم البحر الأبيض المتوسط، فيجب أن يصح أيضًا أن الإسلام لم يغر العقل المصري، أو لم يغري عقل الشعوب التي اعتنقته والتي كانت متأثرة بهذا البحر الأبيض المتوسط" (ص27).
الفصام الثقافي وما يترتب عليه من تداعيات
إن فصل العقلية المصرية عن جذورها الثقافية الحقيقية يحمل في طياته خطراً كبيراً، يتمثل في تعزيز مفهوم الاستقطاب، حيث يبدو وكأن المصريين وُلدوا "من طينة" مغايرة لتلك التي وُلد منها الأوروبيون (ص40)، مما يفتح المجال أمام الاستعلاء الثقافي، وخلق ذرائع للاستعمار. ويستشهد حسين، في هذا السياق، بنظرية بول فاليري التي تصف العلاقة بين الشرق والغرب كقطبين متضادين، لا يمكن أن يتوافقا بسبب الفجوات العميقة بينهما. فالاختلاف بين المصريين والأوروبيين، وفقاً لطه حسين، لا ينجم عن جوهر العقل أو طبيعته، بل عن التغييرات والظروف الزمنية التي جعلت الأوروبيين يبدؤون عصرهم الحديث في القرن الخامس عشر، بينما تأخرت مصر حتى القرن التاسع عشر بسبب الاحتلال العثماني، ولا ينكر الأوروبيون فضل الشرق عليهم قبل نهضتها.
بالإضافة إلى ذلك، ستصبح الهوية مجرد فكرة خيالية، غير واضحة المعالم، ولا ترتبط بالواقع، بل وأقرب إلى المسخ. فاعتبار مصر شرقية يترتب عليه أنها أقرب إلى الصين، والهند، واليابان من فرنسا وإنجلترا، وهو استنتاج مثير للسخرية ولا يستقيم للعقل. "وبعبارة موجزة جلية: أيهما أيسر على العقل المصري: أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي؟!" (ص18). كما يشير حسين إلى أن الحياة المادية في الطبقات المتوسطة وما فوقها تتسم بمظاهر أوروبية واضحة، كما أن نظام الحكم الديمقراطي الحديث هو نظام أوروبي في الأساس. وحتى أولئك الذين أرادوا الاستبداد من الحكام "كانوا يذهبون مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه أكثر مما كانوا يذهبون مذهب عبد الحميد وأمثاله" (ص34). فقضاة العرب القدماء لم يعرفوا النظم السياسية المتبعة حاليًا.
وختاماً: هل يتعارض الاعتزاز باللغة العربية مع الهوية المصرية؟
قد يبدو أمراً مدهشاً أن يكتب عميد الأدب العربي كتابًا ينفي من خلاله صفة العروبة عن مصر، وهو الذي لطالما دافع عن اللغة العربية وسلامة الأسلوب العربي، فهو من انتقد الكتاب الجدد لاستخدام اللغة العامية في أعمالهم، معتبرًا أن العامية لم ترتقِ بعد لتكون لغة أدبية. لكن حبه للغة العربية وحرصه على الحفاظ عليها كان يتوازى مع حرصه على فهم الهوية المصرية فهمًا صحيحًا. لذلك، أصّر حسين على أن هوية مصر ليست عربية أو شرقية بل مصرية خالصة، وذهب إلى أن مصر لا تنتمي إلى محيطها الثقافي العربي، بل إلى ثقافة البحر المتوسط؛ فقد كان حسين واعيًا تمامًا للفارق بين اللغة المكتسبة والأعراق الأصيلة للشعوب. فهناك عشرات الدول تتحدث باللغة الفرنسية كلغة رسمية، منها جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تحوي العدد الأكبر للسكان الناطقين بالفرنسية، وهي دولة إفريقية، ومع ذلك، لا أحد يعتبر الكونغو دولة فرنسية الهوية.