مظاهر الأسطورة مرسيا إلياد

فئة :  قراءات في كتب

مظاهر الأسطورة مرسيا إلياد

مظاهر الأسطورة

مرسيا إلياد

ترجمة نهاد خياطة

ظهر الكثير من الباحثين في العالم العربي والإسلامي الذين اهتموا بتراث الحضارات القديمة، وبالأخص تراث ما بين النهرين أو بلاد الرافدين، وهي منطقة جغرافية تاريخية تقع في جنوب غرب آسيا. تعدّ من أولى المراكز الحضارية في العالم، وهي تقع حاليًا في العراق، وسوريا وتركيا ما بين نهري دجلة والفرات. وأشهر حضاراتها هي حضارة سومر وأكد وبابل وأشور وكلدان؛ إذ ظهرت الكثير من الأبحاث والدراسات باللغة العربية، اهتمت بقراءة وتحليل النصوص والرموز والمنحوتات التي خلفتها تلك الحضارات، وهي في مجملها تضم مختلف الأساطير، التي تكتنز بداخلها رؤية تلك الحضارات إلى العالم. ولكن التحدي المعرفي والمنهجي هنا يرتبط بالسؤال التالي: هل يتم استرجاع وفهم تلك الأساطير كما هي وكما فهمها أصحابها، أم إننا نسقط عليها مختلف تصوراتنا الأيديولوجية باسم العلم؟ مع العلم أن منطلقات مختلف الدارسين، منطلقات مختلفة ومتباينة.

فكرة الكتاب

مفهوم الأسطورة وفق ما هو وارد في معاجم اللغة العربية يفيد ما هو باطل وما هو ملفق، يقولُ ابن فارس في مُعجم مقاييس اللُغة: «(سَطَرَ) السِّينُ وَالطَّاءُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ مُطَّرِدٌ يَدُلُّ عَلَى اصْطِفَافِ الشَّيْءِ، كَالْكِتَابِ وَالشَّجَرِ، وَكُلِّ شَيْءٍ اصْطَفَّ. فَأَمَّا الْأَسَاطِيرُ فَكَأَنَّهَا أَشْيَاءُ كُتِبَتْ مِنَ الْبَاطِلِ فَصَارَ ذَلِكَ اسْمًا لَهَا، مَخْصُوصًا بِهَا. يُقَالُ سَطَّرَ فُلَانٌ عَلَيْنَا تَسْطِيرًا، إِذَا جَاءَ بِالْأَبَاطِيلِ»[1] وقال ابن منظور في لسان العرب «قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ؛ خَبَرٌ لابتداء مَحْذُوفٌ، الْمَعْنَى وَقَالُوا الَّذِي جَاءَ بِهِ أَساطير الأَولين، مَعْنَاهُ سَطَّرَهُ الأَوَّلون.. والأَساطِيرُ: الأَباطِيلُ. والأَساطِيرُ: أَحاديثُ لَا نِظَامَ لَهَا، وَاحِدَتُهَا إِسْطارٌ وإِسْطارَةٌ، بالكسر، وأُسْطِيرٌ وأُسْطِيرَةٌ وأُسْطُورٌ وأُسْطُورَةٌ، بِالضَّمِّ.. وسَطَّرَها: أَلَّفَها. وسَطَّرَ عَلَيْنَا: أَتانا بالأَساطِيرِ.. يُقَالُ: هُوَ يُسَطِّرُ مَا لَا أَصل لَهُ أَي يُؤَلِّفُ»[2]

المفهوم اللغوي للأسطورة يدور في مدار ما هو باطل وزائف ولا يوافق الواقع، وهذا المفهوم اللغوي قد ألقى بظلاله على مفهوم الأسطورة، بينما الأسطورة بوصفها نصا شفاهيا أو مكتوبا فيه تصوير، ما هي إلا عمل أدبي تحضر فيه مختلف المقومات الأدبية، وهي قصة تقليدية مُصاغة في قالب شعري يساعد على ترتيلها وتداولها شفاهه بين الأجيال، وفي الأعم أنها لا تُشير إلى زمنٍ مُحددٍ، وهي تتحدث في الأعم عن موضوعات كبرى ترتبط بما هو له علاقة بالوجود، وهي مسألة تثير اهتمام الإنسان منذ الأزل، من قبيل الموضوعات التي تتحدث عن الخلق والتكوين، وأصول الأشياء، والموت، والعالم الآخر... ولا تخلو مجمل الثقافات عبر العالم من مختلف الحكايات والتصورات التي تلامس هذه الموضوعات بمقاربات مختلفة أو متقاربة.

يحفر الكتاب في زاوية تقريب مفهوم الأسطورة، ففي جميع الأحوال هي نص إبداعي أدبي بمعزل هل هي حقيقة أم مفارقة للواقع، ولا شك أن النص الأدبي (الأسطورة) قد صحبته القداسة بمستوى عال جدا، من لدن الذين يحقق لهم أمور وجدانية، أو لهم منطلقات وجدانية جعلتهم ينظرون إلى النص (الأسطورة) من زاوية يحضر فيها مستوى عال من التقدير والقداسة، فضلا عن أن النص في الغالب لم يعرف له مؤلف ولا زمن التأليف، فهو ضارب في القدم وقد تناقلته الأجيال جيلا بعد جيل. فلغته لغة يطغى عليها الإيحاء والرمز والتخييل...ويحضر فيها ومن خلالها كل ما هو مفارق للواقع. كما أن الأسطورة ليست على منوال وقالب واحد من حيث الشكل والمضمون، فهي تتصف بالتنوع والتعدد. من جهة المواضيع ونظرتها إليها، ومن جهة طبيعة التصورات التي تقول بها.

الأسطورة مفارقة للنص الديني؛ لأن النص الديني يتضمن مرسل "الله" ورسالة "كتاب أو دعوة" ومرسل إليه "جمهور"، بينما الأسطورة في الأعم لا ينطبق عليها هذا الأمر.

والحقيقة أنه من الصعب إيجاد تعريف موحد للأسطورة "يَقبله جميع العلماء، ويكون في نفس الوقت في متناول غير أصحاب الاختصاص. ولعلنا نتساءل من ناحية أخرى، هل يمكن إيجاد تعريف «واحد» شامل لجميع نماذج الأساطير وجميع وظائفها، في جميع المجتمعات القديمة والتقليدية؟ الأسطورة واقعة ثقافية بالغة التعقيد، يمكننا أن نباشرها ونفسرها في منظورات متعددة، يُكمل بعضها بعضًا"[3]

يرى "مرسيا إلياد" أن "الأسطورة تروي تاريخًا مقدسًا؛ تروي حدثًا جرى في الزمن البدئي، الزمن الخيالي، هو زمن «البدايات». بعبارة أخرى، تحكي لنا الأسطورة كيف جاءت حقيقةٌ ما إلى الوجود، بفضل مآثر اجترحتها الكائنات العليا، لا فرق بين أن تكون هذه الحقيقة كليَّة كالكون مثلًا، أو جزئية كأن تكون جزيرة أو نوعًا من نبات أو مَسلكًا يسلكه الإنسان أو مؤسسة. فهي دائمًا سردٌ لحكاية «خلق»: تحكي لنا كيف كان إنتاج شيء، كيف بدأ وجوده. لا تتحدث الأسطورة إلا عما قد حدث فعلًا، عما قد ظهر في كل امتلائه. أما أشخاص الأساطير، ﻓ «كائنات عليا». نعرفهم بما قد صنعوه في الأزمنة القوية، ذات التأثير الفعال، وهي أزمنة «البدايات». فالأساطير تكشف، إذَن، عن الفعالية المبدعة لهذه الكائنات العليا، وتميط اللثام عن قدسية أعمالهم (أو عن مجرد كونها أعمالًا «خارقة»). باختصار، تصف الأساطير مختلف أوجه تفجر القدسي (أو «الخارق») في العالم. وليس كهذا التفجر للقدسي ما «يؤسس» للعالم حقًّا ويجعله على ما هو عليه اليوم"[4]

فهرست المواضيع

من أهم المواضيع التي توقف عندها المؤلف نذكر: بِنية الأساطير. الأصول وقوتها السحرية. أساطير وطقوس التجديد. إسكاتولوجيا وكوسموغونيا. إمكانية التحكم في الزمان. الميثولوجيا والأنطولوجيا والتاريخ. ميثولوجيا الذاكرة والنسيان. الأساطير في أوج عظمتها وحضيض انحطاطها. بقاء الأساطير وتخفيها.

علم الأساطير المقارن

الأسطورة يلفها الغموض والالتباس من جهتين: الجهة الأولى تتعلق بذات الأسطورة ومضمونها، كنص شفهي او مكتوب، فهي لا تراعي المنطق ونسق التفكير المنتظم، كما لا تراعي طبيعة ما عليه الوجود والطبيعة، وسنن ونواميس الحياة، وهي مسألة تجعل القارئ يسقط في مساحة واسعة من الغموض والالتباس وغياب وضوح المعنى، فالأسطورة كبنية لا تحترم عقل المتلقي، وهي مسألة تستدعي الكثير من الأسئلة من بينها، هل الأسطورة كانت تقصد أشياء في الزمن القديم كان المتلقي حينها يفهمها، بشكل ينسجم مع طبيعة التفكير لديه، وقد تغير كل ذلك عبر الزمن؟. أما الجهة الثانية: التي تجعل من الأسطورة ملتبسة، فيرتبط بكون الأسطورة أخذت اسمها من التخيُّل والوهم ومفارقة الواقع.

فمنذ أكثر من نصف قرن، أسس العلماء الغربيون لدراسة الأسطورة في منظور يختلف اختلافًا بيِّنًا عن منظور القرن التاسع عشر، مثلًا. فبدلًا من أن يتعاملوا مع الأسطورة، كما فعل مَن سبقهم من العلماء، بالمفهوم العادي للكلمة؛ أي بمعنى «حدوثة» أو «تلفيق» أو «تخيُّل»، فهموها مثلما كانت مفهومةً في المجتمعات القديمة، حين كانت الأسطورة، على العكس، تدل على «تاريخ حقيقي»، بالإضافة إلى أنها كانت نموذجًا يُحتذى، وقصة حافلة بالمعنى، يُنظر إليها بأعلى درجات الاعتبار لما تتصف به من قُدسية. لكن هذه القيمة الدلالية الجديدة التي مُنِحتها كلمة «الأسطورة» تجعل من استعمالها في اللغة الدارجة أمرًا يبعث على شيء من الالتباس؛ لأن هذه الكلمة تُستعمل اليوم بمعنى «التخيُّل» أو «الوهم» كما تُستعمل بالمعنى المتعارف عليه خصوصًا عند علماء الإثنولوجيا والاجتماع وتاريخ الأديان؛ أي بمعنى «المأثور المقدَّس، الوحي الأولي، النموذج المثالي»[5]

الأسطورة بشكل عام هي تأكيد بشتى الصيغ والمقاربات على ذلك المبدأ الذي مفاده أن "الجوهر يسبق الوجود"، وهي الفكرة ذاتها التي نجدها في الأديان السماوية؛ فالإنسان ليس سابق في الوجود، فوجوده ناتج عما سبقه من الوجود، وواجد الوجود هو الخالق جل وعلا، فهذه القيمة الأخلاقية في علاقة الخالق بالمخلوق، الواجد بالموجود، نجدها في الأسطورة توحي إليها بشكل مشت وغير منتظم. "لقد وصل الإنسان إلى ما هو عليه اليوم لأن سلسلة من الحوادث قد حدثت «في الأصل». وهذه الحوادث إنما ترويها الأساطير، وهي إذ تفعل ذلك فلكي تُفسر له كيف تُكوَّن على هذا النحو، ولماذا. وعند الإنسان الديني أن الوجود الحقيقي الأصلي إنما يبدأ في اللحظة التي يطَّلِع فيها على هذا التاريخ البدئي ويسلِّم بنتائجه. والتاريخ البدئي هو دائمًا تاريخٌ إلهيٌّ؛ لأن أشخاصه هم الكائنات العليا والأسلاف الميطيقيون. مثلًا، الإنسان فانٍ؛ لأن سلفًا ميطيقيًّا قد أضاع الخلود بغبائه، أو لأن كائنًا أعلى قرر أن ينتزعه منه، أو لأنه وجد نفسه، على أثر حادث ميطيقيٍّ معين، ممنوحًا في وقت واحد الجنس والموت… إلخ".[6]

المؤلف

مرسيا إلياد (-1986م) مؤرِّخ روماني وفيلسوفُ أديانٍ شهير وكاتبُ قصصٍ خيالية، وهو يُعَد أحدَ أكبر مؤسِّسي علم الأديان وتاريخه في الفترة المعاصِرة، وتميَّزت أغلبُ أبحاثه وأفكاره ورُؤاه بالطابع الفلسفي الديني العميق، وقد أسهمَت أعماله الفلسفية في ترسيخِ علم الأديان بشكلٍ كبير، كتب «إلياد» عددًا من المؤلَّفات الفلسفية التي حَظِيت بشعبيةٍ كبيرة، وأشهرها: «الشامانية: التقنيات العتيقة للنشوة»، و«الخيمياء الآسيوية»، و«دراسة في تاريخ الأديان»، و«الأسطورة والواقع»، و«السِّحر والعرافة والأنماط الثقافية»؛ هذا فضلًا عن أعماله الأدبية من روايات ومسرحيات، ونذكر منها: «الليالي البنجالية»، و«الغابة المحرَّمة»، و«إيزابيل ومياه الشيطان»، و«مراهِق قصير النظر»، و«الآنسة كريستينا»، ومسرحية «إيفيجينيا».

[1] ابن فارس، أبو الحسين أحمد (1979). معجم مقاييس اللغة. تحقيق عبد السلام محمد هارون. دار الفكر. ج. 3، ص ص.72-73

[2] ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم. لسان العرب. دار صادر - بيروت. ج. 4، ص. 363

[3] مرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد خياطة، مؤسسة هنداوي، 2024م، ص. 11

[4] نفسه، ص.14

[5] ص. 11

[6] نفسه، ص. 73