معضلة الفتاوى
فئة : مقالات
أجازت دائرة الإفتاء العام في الأردن، بأن يأكل غيرُ المسلم من أضحية المسلم المستحبّة؛ وذلك باعتبارها هدية وحسن معاملة، مبينّة أن "الأحاديث النبوية الكثيرة حثّت المسلمين على الإحسان لجميع الناس، وخاصة الجيران والأقارب والأصحاب".
ورداً على سؤال بجواز إهداء غير المسلم أو الصدقة عليه من الأضحية، أوضحت دائرة الإفتاء بأنه "يُستحب للمسلم أن يشمل جيرانه ومعارفه من غير المسلمين في هداياه من الأضحية، وله في ذلك الأجر والمثوبة".
وعلى الرغم من أن السؤال قد يبدو عادياً، والجواب كذلك، إلا أن تفكير بعض الناس، ودفعهم إلى السؤال في مثل هذه القضايا التي تشترطها الطبيعة الإنسانية الفطرية، بعيداً عن الأديان والطوائف والتمذهبات والتحيّزات الأيديولوجيّة، يثير الاستغراب لجهة انحراف الطبيعة الإنسانيّة عن ينابيعها الأولى، وربما جفاف تلك الينابيع.
فأن يسأل إنسان إن كان من الجائز أن يقدّم طعام الأضحية لجاره المسيحيّ، مثلاً، الذي يشاركه المكان والفضاء والفسحة والتطلعات والألم والمسرّة، فهذا أمرٌ فظيع كالفظاعة نفسها التي تردّ بها دائرة الإفتاء على سؤال كهذا يجرّد الإنسان من معناه وجدواه، ويحيله إلى "كائن ديني"، يتصرّف في قضاياه الحميميّة والصميميّة والفطريّة وَفق إجازة دينية أو رخصة فقهية، كأنما الدين هاهنا يحرم الناس أن يتصرفوا بحسب سليقتهم أو طبيعتهم الأولى التي جُبلوا عليها قبل هطول مطر الأديان، وقبل أن تهبّ عواصفه المحمّلة بالغبار الذي يحجب رؤية العين والقلب معاَ..!
إن هذه الفتاوى تماثل في الأثر شقيقاتها الأخريات، في التبشير بالجنة والشهادة، واستسهال إطلاق أحكام التكفير على الخصوم من قبل المرجعيات الدينية في الفقهين السني والشيعي، وهو ما يجدّد الجدل حول التفسير الكلاسيكي للقرآن، من خلال استدعاء المقدّس، وتفعيل القوة اللاهوتيّة.
إن الحاجة أضحت ماسّة إلى بلورة وعي فقهيّ يجدّد روح الإسلام، اعتماداً على مناهج التأويل الحديثة التي تعيد الاعتبار للمقاصدية التي وضع أصولها، على نحو خلّاق، أبو إسحق الشاطبي (المتوفى سنة 790 هـ) في كتابه "الموافقات في أصول الشريعة"، والذي يعدّ محطة متقدّمة في التفكير الفقهي البرهانيّ الذي يتوسّل بالاستنتاج والاستقراء، وبناء الفقه في ضوء مقاصد الشرع، لا على الألفاظ، وخصوصاً ما اتصل بالنصوص القرآنية التي لم يرد فيها القطع والجزم، وإذ ذاك يتوجّب إعمال قواعد التأويل العقلي الذي يحترم كينونة الفرد، وينشد خيريّته، ويحفظ كرامته.
ولا غرو أن يكون الشاطبي معتَّماً عليه، وغيرَ رائج في أروقة الفقه السائدة حالياً، والتي تتّبع، على نحو شديد التزمّت، المنهج الشافعي في الاستنباط السطحي للمعاني من ظاهر النصوص الدينية، وبطلان التفكير فيما ورد بشأنه نصّ، والنصّ في عرف الشافعي تعدّى، كما هو معلوم، القرآن إلى السنة، من خلال تحويله اللانص إلى نصّ يمتلك من القوة التشريعيّة والطاقة الدلاليّة ما للنصّ الأصليّ وهو القرآن، بمعنى أن الشافعي وحّد بين الإلهيّ والبشريّ، وجعلهما على درجة متساوية من الإلزام.
وحتى لا نرتطم، كلَّ يوم، بما يجعلنا نتساءل مشدوهين مفتوحي الأفواه: أيها الحمقى ماذا فعلتم بالإسلام، يتعيّن الدفع باتجاه قراءة جديدة للدين تضعه في أفق التحوّلات الحضاريّة، قبل أن تصبح لفظة "مسلم" وجهَ العملة الآخر للرجعيّة والتخلّف والهمجيّة!
ويتعيّن أن تحتل مهمة تأويل خطاب التعايش بين البشر أولوية في نظرية التأويل الإسلاميّة المعاصرة، لأن عدم فهم تاريخيّة نزول الوحي، وعدم التعامل الخلّاق مع مفهوم الاجتهاد الذي يصوغ أولويات المسلمين، ويؤوِّل الخطاب القرآني، وبخاصة آيات الجهاد، تأويلاً يخدم مصالح المسلمين، ويحقّق المقاصد الكليّة للشريعة، من شأنه أن يجعل الإسلام في مهبّ الاحتراب المذهبي، وعواصف الفهم المتعسّر، أو المحاط بالالتباسات والشكوك والمخاوف. فهل تقديم جزء من أضحية العيد يحتاج إلى رأي فقيه. وهل يحتاج كما قال مظفر النوّاب "دم بهذا الوضوح إلى معجم طبقيّ كي يفهمه"؟!
لعل ما يمتاز به مبدأ "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة" الذي طرحه غرامشي، هو علوّ كعبه وموافقته أحوالَ المسلمين في العالم المعاصر. وهو مبدأ يتسلّل في أدبيّات المفكرين والنقّاد والمثقفين الدينيين الذين يحاولون وقف الانهيارات المتواصلة في المباني القيميّة الكبرى التي كانت عنوان الرسالة المحمديّة في تأسُّسها على العدل، والخير، والمساواة، والانعتاق، واحترام العقل وحقوق الإنسان.
ولا بد لهؤلاء من أن ينفصلوا عن تقديس الماضي بشكل مطلق، ويتوقّفوا عن استخدام الفتاوى لمصالح سياسية أو أغراض براغماتية تقرع طبول الحرب والاقتتال الأهلي وتنشر الفتنة، كمقدمة من أجل تجديد الفكر الديني وبنائه، وَفق مفاهيم الحداثة، التي هي في نظر أدونيس "انشقاق وهدم من حيث إنها تنشأ عن طرق معرفيّة لم تُؤْلف، وتطرح قيماً لم تؤلف. إن الانشقاق جزء عضويّ من الوحدة، لا يجوز أن نخاف منه، والهدم وجه آخر للبناء. وتتضمن الحداثة الرفض والتمرد من حيث إنها تتخلى عن التقليد، ومفهومات الأصول والأسس والجذور والمعايير الثابتة".
وقد جرت مقاربة مفهوم ترشيد الخطاب الفقهي كجزء أساسي من مشروع التجديد الديني في مستويات متعددة تركزت في مجملها على أهمية التجديد لمواجهة متطلبات العصر، و"إعادة اكتشاف الذات وَفق شروط الوعي العالمي الجديد المتميّز بمناهجة المعرفية، وليس الأيديولوجية، وهو لذلك تحوّل نوعي في البنية الثقافية والفكرية والاجتماعية للمجتمعات العربية. ليس التجديد الذي غايته المعاصرة مجرد تراكم كميّ لمستجدات تضاف إلى المجتمع القديم، إنه نهاية الاغتراب الحضاري بوضع الإنسان في سياق تاريخي ووجودي أشمل يُعيد العلاقة بينه وبين محيطه الكوني"، كما يؤكد ذلك إحميدة النيفر.
ومن الضروري أن يُنظر إلى دعوات "التجديد الديني" لا بوصفها "هرطقة وتجديفاً" وإنما باعتبارها حاجة ملحّة لوضع النصّ الديني في السياق التاريخي، والتعامل مع "ديالتيكه" الداخلي بطريقة جدليّة مبدعة تخرجنا من الرؤى المحنّطة التي تريد مقايسة الراهن على لحظة غابرة قبل أكثر من ألف عام، وهو ما يشكّل أكبر تهديد للنص الديني، ويعطّل طاقة التأويل العقلانية التي يشتمل عليها.
كما أن من شأن تجديد العقائد الدينية أن يؤدي، بالضرورة، إلى مراجعات لن تقلّ جذرية في مجال التشريع، "فإذا كانت قيمة الحرية تفرض أن يصبح الإيمان بالله مقدمة لتحرير الإنسان على الصعيد الفلسفي، فإنها على الصعيد التشريعي لم يعد معناها النقيض للعبودية، وبالتالي لم يعد وارداً، على سبيل المثال، الحديث عن قتل المرتد، واستتابة من بدا رأيه مغايراً للرأي السائد". وهذا لا يعني، كما يمضي إلى القول صلاح الدين الجورشي، "تحريض المسلمين على الخروج عن دينهم، ولكن هي دعوة لهم ليؤسّسوا إيمانهم على القناعة الشخصية والعقلية والروحية العميقة. وبالتالي ربط عملية التشريع بالقيم الإنسانية العليا التي يجب أن تُفهم بوصفها المقاصد العليا التي جاء من أجلها الإسلام".
ولأن الإسلام، كما بيّن حسن حنفي، ربط غاياته ومقاصده بالعدل والحرية واحترام العقل، فقد أضحى حائزاً على مقومات التنوير التي بمقدورها أن تحيي "المشروع النهضوي العربي بعد أن بدأ يتفكك ويتضاءل وتبهت معالمه. ويتمثل ذلك في تحرير الأرض، وأبناء الوطن من صنوف القهر والعسف، والطموح إلى تحقيق العدالة، وتحقيق وحدة الأمة، بدلاً من التفتت والتجزؤ والتناحر على الحدود، والقضاء على الأوطان باسم الأقليّات، والدفاع عن الهُويّة والأصالة ضد التغريب والتقليد، والتنمية المستقلة للموارد الطبيعية والقوى البشرية ضد التبعية".
فإذا كان النصّ القرآني والأحاديث النبوية الكثيرة قد حثّت المسلمين على الإحسان لجميع الناس، فإن أي سؤال في هذه الخصيصة يعني التشكيك في المبدأ الأصلي. كما أن الانحراف عن هذه الطبيعة الفطريّة البديهية، يستدعي اللجوء إلى "كتالوغ الفقه"، كما لو أنه خريطة طريق يعتقد مستخدمها أنها ترشده إلى الدرب السليم، لكنها في الواقع تعمّق متاهته، وتجذّر ضياعه!