مفهوم الإرهاب بين الدّلالة القرآنيّة الغائبة والتّداولية العربية المستضعفة
فئة : مقالات
مفهوم الإرهاب
بين الدّلالة القرآنيّة الغائبة والتّداولية العربية المستضعفة
ثمّة مفاهيم طغتْ عليها تصوّراتٌ دلاليّة معيّنة، وأُخذتْ على أنّها مسلّمة، لكنّ التّمعّن فيها بيّن أنّ هذه التصوّرات أوهامٌ دلاليّة ليس لها علاقة بطبيعتها الأصليّة؛ ومنها دلالة مفهوم الإرهاب في القرآن، التي يكشف البحث فيها عن دلالة جماليّة لا علاقة لها بما شاع عنها. وهذه قراءة إبستمولوجيّة لا علاقة لها بدين محدّد أو مذهب معيّن، إنّما هي قراءة تستند إلى أسس لغوية ونحوية وفقهية معلومة، لا تدع معها شكّاً من أنّ ثمّة دلالة أو دلالات قرآنيّة جماليّة غائبة أو مغيّبة بفعل اهتزاز الواقع العربي وضعف دلالاته الجماليّة والسياسة المتداولة.
الإرهاب:
حين يسمع أحدنا بهذه الكلمة (الإرهاب) ينسى أنها في أصلها اللغوي مصدر الفعل الرباعي (أَرهبَ) التي تعني في أصلها المعجمي: "التخويف والإفزاع"، وهي حالة أو حالات نفسية شعورية تعرفها الكائنات الحية (الحيوانية) ومتأصّلة في تركيبتها النفسية والبيولوجية، ولا تقتصر على البشر وحدهم، كما أنها وسيلة نفسية تلجأ إليها كلّ الكائنات من إنسان وحيوان، على المستويين الفردي والجماعي؛ أي يستخدمها الكائن الحيّ المتحرّكُ وسيلةً من وسائل الحياة والبقاء والوجود، وكذلك تستخدمها الجماعات الحية، حيوانات وبشراً، وسيلة لحماية وجودها الجماعي وتحصيناً لهذا الوجود وضماناً لسلامته أو لبقائه. وهذا يعني أنّ الإرهاب ممارسة حيويّة طبيعيّة. لكنّ التّمايز الأخلاقي البشري يأتي في الفروق في ممارسة هذا النوع الغريزي من النشاط الحيوي، مثله مثل أي نشاط حيوي آخر؛ فقد يكون نشاطاً أخلاقيًّا أو ضروريًّا، وقد يكون نشاطاً سلوكيًّا عدوانيًّا اعتدائيًّا. حتى الحب- مثلاً- قد يصير ممارسة اعتدائيّة حين يجنح إلى التملّك.
إن السّامع بهذه الكلمة في حاضرنا العربيّ المعاصر سيتّجه ذهنه إلى معناها السّياسي الدولي المعطى من كلمة (terrorism) وما تثيره فيه من رؤى وأفكار ووجهات نظر، علاوة على تلك الصور البلاغية من استعارات ومجازات متضاربة؛ كلّها أو معظمها ذات دلالات كولونياليّة معاصرة.
وحقًّا لا غرابة في المعطى المعجمي لكلمة (الإرهاب) العربية، ولا غرابة، كذلك، في المعاني التي تعطيها كلمة (terrorism) الأعجميّة. لكنّ العجب يتأتى من جمع معطيات الكلمتين في دلالة مفهوميّة واحدة؛ أي ثمّة تمحّل إبستمولوجي في جعل دال (الإرهاب) مقابلاً وترجمة لدال (terrorism).
في الإرهاب القرآني – تأصيل إبستمولوجي:
ليس للدلالة المعجميّة المعطاة من كلمة (الإرهاب) ومشتقّاتها أي إشكال إبستمولوجي مع المعطيات السياسية والدلالات المفهوميّة، على الرغم من التباينات الأخلاقية والفروق الرمزية بينها؛ فهي تباينات وفروق ومعطيات ما كان لها أن تثير إشكالاً إبستمولوجيًّا مهمًّا، لولا الارتباط العقدي الديني القرآني، حيث وردت ملاقيات هذا المصدر في الاشتقاق في مواطن عدّة من آي الذكر الحكيم. وهذا ما يجب التّوقّف عنده قليلاً:
فكلمة الإرهاب (مصدر الفعل الرباعي: أَرْهَبَ) لم ترد مطلقاً في القرآن، إنّما الذي ورد من مشتقّات هذا المصدر، هو الفعل المضارع (تُرهبونَ)، في سورة الأنفال، الآية الستين (60): ﴿وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل تُرْهِبُون به عدوّ الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم﴾.
أمّا ما يلاقي هذا المصدر في الاشتقاق، فقد وردت تقلّبات المادّة المعجميّة (رهب) في القرآن سبع مرّات (7)؛ أي مشتقّات مصدر الفعل الثلاثي المجرّد (رهب: الرّهبة/ والرُّهب) وهي على النحو الآتي: ﴿فارهبوني﴾ (البقرة: 40) / ﴿واَسْتَرْهَبُوهم﴾ (الأعراف: 116) / ﴿لربهم يَرْهَبُون﴾ (الأعراف: 154) / ﴿فأيّاي فارْهبُوني﴾ (النحل: 51) / ﴿ ويدعوننا رغباً ورَهَبَاً﴾ (الأنبياء: 90) / ﴿واضمم إليك جناحك من الرَّهب﴾ (القصص: 32) / ﴿لأنتم أشدّ رهبة في صدورهم من الله﴾ (الحشر: 13).
ثمّ جاء من ذات الأصل الثلاثي نوعان من الأسماء: اسم الذات الجمعي (﴿رُهبان: المائدة82، التوبة31، 34﴾) واسم المعنى (﴿رَهبانيّة: الحديد27﴾).
إذن، هي اثنتا عشرة مرّة (12) في القرآن. مرة واحدة من الفعل الرباعي (تُرهبون)، والبقيّة من الثلاثي (رهب)، وهي على ثلاثة مستويات دلالية:
1- تَرهب: فعل اتّصافي يكون الفاعل فيه هو مَن يتّصف بالرّهبة ويكتسبها؛ أي إنّ الفاعل النحوي هو المفعول الدلالي، والمفعول النحوي هو الفاعل الدلالي: (رهب العبدُ ربَّهُ).
2- تُرهِبونَ: فعل رباعي مزيد زيادة التعدية، حيث يكون الفاعل النّحوي هو الفاعل الدلالي، ويكون المفعول النحوي هو المفعول الدلالي؛ أي إنّ الفاعل يُدخِل الرّهبة في روع المفعول: (أرهب فلان فلاناً). على خلاف المستوى الأول (الأصل الثلاثي السابق) وهو ما سيتّضح في المستوى الدلالي الثّالث.
3- الرّهبة والرّهبانيّة والرُّهبان: وهذه صيغة اسميّة تكون قاسماً مشتركاً بين المستويين السابقين.
فالرهبة أمام ثلاث حالات دلاليّة: إمّا أن يقع تأثيرها في المفعول بفعل الفاعل كما هي في المستوى الثاني (الرباعي المزيد) وهنا تفيد الزيادةُ الصرفيةُ المتجسّدةُ في (أ) التعديةِ تفيد إدخالَ الرهبةِ في روع المفعول بفعل الفاعل (التي هي الإرهاب)، وإمّا أن يقع تأثيرها في الفاعل بتأثير المفعول، وإمّا أن يقع تأثيرها في الفاعل من دون أن يُشترط فعل فاعل مغاير؛ أي يكون الفاعل والمفعول واحداً دلالةً، على مستوى الحقيقة الدلالية، من دون أن يكون ثمّة عمل نحوي للمفعول؛ بمعنى أنّه هنا لا يكون أي إجبار أو إرغام عمليّ دلالي من المفعول (ترهّب العبدُ ربَّه أو لربِّه). وهذه تنطبق كذلك على الصّيغة الاسميّة الثّانية المشتقّة من المستوى الثالث (الرُّهبان/ من الرَّهبانيّة التي هي من الرّهبة). فهي من الفعل (تَرهّب) التي تدلّ في أصلها على المطاوعة للفعل المزيد (رهّب) الذي تدلّ فيه زيادة التّضعيف على المبالغة. هذا من ناحية الصّيغة الصّرفيّة والدلالة النحوية، لكنّها على مستوى الدلالة الدينية تدلّ هي الأخرى على توحّد الفاعل والمفعول في حضور الفاعل فقط، وهي تعني التّعبّد والتّنسّك: (ترهّب فلان) أي هي حالة نفسيّة تأمليّة طوعيّة، ليست بفعل فاعل خارجي.
هذه المستويات الثلاثة تصير مستويين فقط على صعيد الدّلالة الإبستمولوجيّة القرآنيّة.
1- مستوى الفصل بين الفاعل والمفعول، حين يتوافق المستويين النحوي والدلالي (أي الشكلي والمعنوي)، وهو الفعل المشتقّ من المصدر الرباعي (تُرهبون: من الإرهاب: تُرهبون عدوَّ الله).
2- مستوى المزج بين الفاعل والمفعول، حين يتمّ إلغاء الفاعل على الحقيقة، حيث يصير الفاعل مفعولاً ولا يُحتاج فيه إلى فاعل خارجيّ؛ هنا يصير الفاعل داخليًّا وتصير العمليّة كلّها نفسيّة من دون الحاجة إلى عمليّة ظاهرة محسوسة ناتجة عن فعل فاعل خارجيّ. وهذا المستوى ينطبق على الفعل الثلاثي (تَرهبون) وعلى الاسم المشتقّ من الثلاثيّ (الرُّهبان: رهبَ العبدُ اللهَ) وكذلك على (الرَّهبانيّة: ترهّب العبد لله) التي هي صيغة من صيغ الاشتقاق عن الثلاثي (الرّهبة والرُّهب: تَرهبون اللهَ).
هذا يعني أنّه وردت في القرآن دلالتان في الرّهبة والإرهاب، وهما: رَهَبَ وأَرهب؛ الأولى بفعل اكتساب ذاتيّ يَرهب فيها الفاعل النّحوي المفعول النّحويّ، وهي في جميع شواهدها من القرآن كانت محصورة في رهبة العبد من خالقه (أو رهبةُ العبدِ خالقَه)؛ أي لم ترد إلا ويكون الحال فيها (يَرهب الإنسانُ اللهَ)، وهي الأكثر وروداً، بل هي كلّ ما ورد باستثناء شاهد وحيد في موطن وحيد من القرآن (الأنفال: 60) يمثّل الدّلالة الثانية (الإرهاب)، حيث يُوقع الفاعلُ النحوي أثرَ الرّهبة في روع المفعول النحويّ. وهنا جاءت الدلالة على النحو الآتي: يُرهِبُ فيها المؤمنون (المسلمون) أعداءَ الله وأعداءهم الظاهرين المجاهرين بالعداوة والمتخفّين الماكرين(1).
في فقه الإرهاب القرآني- تحليل جمالي:
بعد الأخذ بعين الاعتبار تلك الإيضاحات النحوية والصرفية التي لا مشاحّة فيها- كما نظنّ- لأنّها تستند إلى مسلّمات الأصول النحوية والقواعد الصّرفيّة؛ فلا بدّ بعد ذلك من تحليل الدلالة الفقهيّة لهذا الفعل، بوجهيه العملي والنفسي، المترتّبة على الدلالات السياقية والنسقية (النحوية والإبستمولوجية) المعطاة من مادّة (رهب) بحسب مواطنها السّابقة في القرآن.
في جميع السياقات القرآنية التي تتحدّث عن الرّهبة والرّهب والإرهاب والتّرهّب، نجد أنّها جميعاً يجمعها قاسم مشترك واحد: (رهبة الله)؛ أي أن يقرّ في الرّوع رهبةٌ من الله خوفاً وهيبة. وثمّة مرّة وحيدة فقط وردت (رهبة الإنسان) لكنّها وردت في موقع الذّمّ. في سورة (الأعراف: 116) حيث رَهِب النّاس السَّحَرة بدجلهم وزيفهم. وكذلك وردت مرّتين تشترك فيها (رهبة الله ورهبة الإنسان) وهما كذلك في موقع الذّمّ: الأولى في سورة (الحشر: 13)، حيث يرهب المنافقون المسلمين أكثر من رهبتهم الله؛ وذلك لأنّهم قوم لا يفقهون. أمّا الثانية، فهي في سورة (الأنفال: 60) التي توحّد بين أعداء الله وأعداء المسلمين، وفيها تشترك رهبة الله ورهبة الإنسان. وعليه، فإنّها كسابقتها في سورة الحشر، فهم يَرهبون المسلمين لزيف معتقدهم، وكأنّ غياب الآية يقول: لو كانوا صادقين لما رهبوا إلّا الله. ولذلك، فهي المرّة الوحيدة التي يصرّح فيها ويؤذن بإرهاب بشر ما. وهي ما سنقف عند دلالتها الإرهابيّة القرآنيّة بعد حين، لكنّ الفارق بين الآيتين أنّها في سورة الحشر يكون الحضور والتقديم فيها لرهبة الإنسان (المسلمين) والتأخير لرهبة الله، كونَ صيغة التفضيل في (أشدّ) تفيد الاشتراك، بينما في سورة الأنفال يكون الحضور لرهبة الإنسان: (المسلمين)، والغياب لرهبة الله، كونَ الله والمسلمين يشتركون في عداوة المرهوبين مع تقديم عداوة الله على عداوة المسلمين في سياق العطف.
وأمّا الرهبانيّة والرهبان، فقد وردت في مواطن ذكرناها سابقاً، وهي، كما بيّنا، تنتمي إلى المستوى الثاني من الدلالة الإبستمولوجيّة؛ إذ يكون الفاعل مفعولاً على الحقيقة من دون الحاجة إلى فاعل خارجيّ. والرهبانية من الترهّب التي هي التّعبد والتنسّك، ولذلك ذكر المفسرون في تفسير الآية (82) من سورة المائدة: ﴿ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً﴾ أنّ القسيسين هم الخطباء والعلماء، وأمّا الرهبان، فهم العُبّاد الذين اعتزلوا الناس وتفرّغوا لعبادة الخالق، خوفاً ورهبة(2). وقد نصّ ابن كثير على أنّ الرّاهب هو العابد، مشتقّ من الرّهبة والخوف.
وقد ورد ذكر الرهبان أربع مرّات: في مرّة واحدة تمّ الإطراء عليهم (المائدة: 82). ومرّة تمّ ذمّ المترهبنين نفاقاً (التوبة: 34). ومرّة على نحو حياديّ لكنّه ذمّ من يتّخذهم أرباباً من دون الله، وقد ساوى بينهم وبين المسيح في هذه الآية في اتخاذهم آلهة يُعبَدون. وأمّا ما يمكن عدّها آية فصلاً بخصوص الرّهبانية، فهي ما جاء في سورة الحديد (الأية: 27) حيث بيّن أنّ الرهبنة من ابتداع أهل الكتاب ولم يفرضها الله عليهم، لكنّه قبلها منهم شرط أن تكون ﴿ابتغاء رضوان الله﴾. ثمّ تبيّنُ الآيةُ أنّ معظمهم لم يرعها حقّ رعايتها. ثمّ تختم الآية بالفصل في حقّ الرّهبانية وحقيقتها: ﴿فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون﴾. فالقرآن يعطي إشارة كليّة جامعة توحي بلمز خفيف لحالة الرّهبنة لكنها تقدّر للصادقين منهم رهبنتهم.
المجاز الكلي والجملة الثقافية للإرهاب القرآني:
تبقى الإشارة الصريحة والأهمّ للإرهاب هي ما جاء في سورة الأنفال، في الآية المذكورة آنفاً (60). فهي المرّة الوحيدة التي يذكر فيها الفعل الرباعي (تُرْهِبون) المشتقّ من مصدره (إرهاب)، وهي الآية التي تتطابق في صيغتها الشكليّة الصرفية مع الترجمة المتداولة لـ: (terrorism) المصطلح ذائع الصّيت، وهي كذلك المرّة الوحيدة التي يأذن فيها الله، تصريحاً وأمراً، للمسلين بالإرهاب. لكنّ السؤال: أي نوع من الإرهاب وما هي ماهيّته وكيفيّته...؟
أوّلاً: تبيّنَ ممّا سبق أنّ القرآن يقدّم نوعين من الرّهبة: (رهبة جمالية وأخرى قبحية)؛ فيحصر الرهبة الجمالية على الله، وهي الرّهبة الصادقة التي لا تكبّر فيها ولا تزييف ﴿وأنهم لا يستكبرون﴾ (المائدة: 82)، وهي التي تكون صادرة عن النّفس، (التزام ذاتي: ﴿ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوانه﴾)، وليست ناتجة عن إجبار بشريّ، بدليل ذمّ الذين يَرْهَبون الخلقَ أكثر من ربّ الخلق (الحشر: 13)، حيث جعلها آيةً على نفاقهم. ثم يُرينا القرآن النوع الآخر من الرهبة (الرهبة القبحية): (رهبة الإنسان) وهي رهبة حقيرة لا تصدر إلا عن المنافقين والكذبة والذين لا يفقهون حقيقة الإيمان الصحيح. ولذلك فقد جاء في الحديث: "لا يحقّر أحدكم نفسه" وعندما سئل الرسول عن كيفية تحقير المرء نفسه بينّ أنه: خشية الناس والله يقول: "فإياي كنت أحقّ أن تخشى". وقد ذكره ابن كثير في معرض تفسير الآية: (81) التي تسبق آية القساوسة والرّهبان سابقة الذكر من سورة المائدة. وهذا ما تؤكّده، نصّاً، آيتان من آيات الرّهبة في القرآن الكريم. وهما: ﴿وأيّاي فأرهبونِ﴾ (البقرة: 40)، و﴿فأيّاي فأرهبون﴾ (النحل: 51)؛ إذ يمكن أن تُعدّ هذه العبارة المكرّرة في مكانين التي تقيد الرهبة وتحصرها على الله أنّها الجملة الثقافية النوعية لمعنى الإرهاب وجوهره في القرآن. وقد فسّرها المفسّرون بأنّ معناها هو خشية الله: فارهبوني أي فاخشوني(3).
ثانياً: إن المقصود من الرهبة كما سلف قبلُ هي الخشية. وهذا مؤكّد لغة، وكذلك سياقاً لأنّه ينسجم مع المجاز الكلّي للقرآن. بدليل سورة الأحزاب (الآية: 37): ﴿وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه﴾. وخشية الله تكمن في تقواه والاستحياء منه؛ ومن هنا نفهم كيف أنّ بعضهم أوّلَ معنى الحياء في الآية: ﴿إنّ الله لا يستحي (وفي قراءة أخرى: لا يستحيي) أن يضرب مثلاً بعوضة فما فوقها﴾ (البقرة: 26) بأنّ لا يستحي معناه لا يخشى؛ وعليه فقد أوّلوا الآية السابقة (وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه)؛ بمعنى "وتستحيي الناس والله أحقّ أن تستحييه" وقيل: "الاستحياء بمعنى الخشية والخشية بمعنى الاستحياء"(4).
ثالثاً: يتبيّن لنا من كلّ ما سبق أنّ الرّهبة في القرآن هي مجاز كلّي عن معنى (الهيبة أو المهابة) بلغة حاضرنا المعاصر، وهو ما تؤكّده الآية الأهمّ في هذا الموضوع، آية الإرهاب في سورة (الأنفال: 60)؛ لأنّها كانت تخاطب المؤمنين المسلمين بخصوص معركة بدر، بحسب قول المفسّرين، وهم يوم ذاك قلّة مستضعفة ليسوا من ذات الشّوكة، وهذا ما نصّت عليه الآية السّابعة: ﴿وتَوَدُّون غير ذات الشّوكة تكون لكم﴾. فقد كانوا جماعة صغيرة تتناوشها مخاطر ذوي القربى وأهل اللسان من قريش وقبائل العرب الأخرى، وتنتظرها مخاطر أكبر من قطبي الوجود آنذاك (الفرس والرّوم)؛ وعليه، فقد جاءهم الأمر والتّوجيه بإعداد العدّة على قدر الاستطاعة: ﴿ما استطعتم﴾ من قوّة ورباط (تُرهِبون الأعداء) فتهابكم جموعهم القادمة لمهاجمتكم، وتهابكم قوى أخرى من خلفها أنتم لا تضعونها في حسبانكم الآن: ﴿وآخرين لا تعلمونهم﴾. وعليه، فهي بلغة العصر أشبه بتوجيهات عُليا تصدر عن أصحاب الرّأي في بلد صغير لأخذ الاحتياطات وإعداد ما يلزم لحفظ السيادة والاستقلالية ولتحقيق المنعة في مواجهة تهديدات معلنة أو متوقّعة من دول عظمى محيطة بها أو قريبة منها؛ كأن يكون بياناً سياسيًّا وعسكريًّا مشتركاً تصدره القيادة العليا في البحرين القريبة من إيران، أو في هونغ كونغ المحاطة بالصين، أو في بنما المجاورة للولايات المتحدة الأمريكية.
رابعاً: إنّ هذه الآية مقيّدة بآية تالية لها متّصلة معها مربوطة بها برباط العطف (واو العطف): ﴿وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنّه هو السميع العليم﴾. وهو تقييد عام لا استثناء فيه حتّى لو كان فيه ما يشي بخديعة: ﴿وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله﴾. وصلح الحديبية يقطع بثبات هذا التقييد.
ولذلك، فقد رفض كلّ من ابن كثير والزمخشري أن تكون آية السلم منسوخة بآية السيف أو بغيرها من آيات القرآن. قال الأوّل: "فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص"، ورأى الثاني قاطعاً "أنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله".
وثمّة ملمح آخر يؤكّد عدم النسخ، بل يقوّي السلم أبداً، وهو -كما أشرنا- أنّ آية السلم مربوطة بما قبلها من آية الإرهاب برباط العطف النسقي الذي يدلّ على أنّهما بحكم التّوجيه الواحد أو الحكم الواحد.
إن المجاز الكلّي للقرآن يؤكّد أنّ السّلم مقدّم على الحرب والرّحمة أولى من الشدّة؛ وذلك بدليلين: الأوّل السياق القرآني العام في معظم آياته، وفي مقدار التفاوت بين المساحة التي تشملها آيات الرحمة وآيات الشدّة، والثاني خاصّ بسياق آيات الرّهبة الاثنتي عشرة السابقة الذي يؤكّد ذمّ المرهوب لغير الله ويقيد رهبة الله بكونها وازعاً أخلاقيًّا داخليًّا.
فالإرهاب القرآني يمكن عدّه مجازاً بلاغيًّا مرسلاً، علاقته السّببية، كونه سبباً إلى السلم الذي هو الغاية والمنتهى؛ هذه الغاية التي تحتاج أحياناً إلى صناعة هيبة ذاتيّة تجعل القوى الكبيرة تحترم وجود الصغيرة وتحترم مكانتها. وهذا قانون سياسي دوليّ معمول به ومسلم بأخلاقيّته في جميع المواثيق الدولية، بل الإرهاب يكون في تجاهل بعض القوى هذا الحقّ من حقوق الهيبة المصان تجسيداً وتمثيلاً بالاستقلالية والمنعة واحترام ثقافتها وتوجهاتها وسياستها؛ وعليه يجب قراءة تصرّف قوى اليوم العظمى من منظور المفهوم الدلالي الإبستمولوجيّ لـ: (terrorism)، وليس من مفهوم (الإرهاب) بدلالته العربية المستضعفة اليوم لضعف واقع حاملها العربي.
خاتمة:
لقد صاغت منظمة المؤتمر الإسلامي على مستوى وزراء الخارجية في مؤتمرها الذي عقد في (أواغادوغو) من 28/6/ إلى 1/7/1999م، معاهدةً لمكافحة الإرهاب، تتضمّن اثنتين وأربعين مادّة (42) تؤكّد فيها، وفي مادّتها الأولى "شريعتنا الإسلاميّة السّمحاء تنبذ كلّ أشكال العنف والإرهاب وخاصّة ما كان منه قائماً على التّطرّف". ولقد فعل كذلك المجلس الفقهي الأعلى الذي عُقد في عمّان (الدورة السابعة عشرة) حين أكّد رفض الإسلام لكلّ أشكال الإرهاب والتّطرّف المنصوص على تفاصيلها في مواثيق منظمة حقوق الإنسان الدولية.
وخيراً فعلوا حين نفوا الإرهاب بصيغته المتعارف عليها وأدانوها، لكنّهم كانوا أحسن حالاً لو رفضوا المصطلح (الإرهاب) الذي يتطابق شكلياً ويتقاطع تداولياً مع (ترهبون القرآنيّة). حينها كانوا سيبرّئون عقيدتهم من إشكال إبستمولوجيّ هي بعيدة عنه، وكانت ستكون بغنى عنه لو أنّ حامليها على قدر أهل الغنى والعزم والمكارم. لكنّه مفهوم أُخضع لعمليّة استئصال وانتزاع من أصله الجمالي الأوّل؛ فهو بصيغته القرآنيّة ذو معنى جماعي جاء لضبط الأمن وتحقيق الأمان ومنعاً للعدوان والظلم.
المراجع
1) جاء في كشّاف الزمخشري أنّ بعضهم قرأها بالتّشديد (تُرهّبون).
2) ينظر كشاف الزمخشري. ج9/418. وكذلك تفسير ابن كثير. ص850- 852 [نسخة إلكترونية مدمجة].
3) ينظر تفسير الطبري (جامع البيان. ج1/598-599).
4) ينظر المصدر نفسه. ج1/427