مفهوم الحاكمية عند سيد قطب بين جدل الديني والسياسي
فئة : مقالات
مفهوم الحاكمية عند سيد قطب بين جدل الديني والسياسي([1])
يُعدّ مفهوم "الحاكمية" وما يتفرع عنه من آراء وأطروحات من المفاهيم المحورية التي تشكل حقيقة التوجهات المختلفة للإسلام السياسي، ويتمحور حوله الكثير من أدبيات واجتهادات مفكري الحركات الإسلامية بمختلف مسمياتها وأحزابها.
وبمجرد أن توضع هذه المقولة على طاولة النقاش تبدو مقولة شائكة مراوغة متعددة المعاني، فتبدو في نظر الأصوليين الإسلاميين افتراض السيادة المطلقة لله في الكون، حيث لا مشرع سوى الله تعالى وحده، الذي يجب أن تخلص له القلوب جميعاً، وأن تعلن عبوديتها له وحده، وأن تتحرر من أي سلطان سوى سلطانه تعالى، ورفض كل شرع آخر غير شرع الله، لأنه خير من كل الشرائع والأنظمة التي وضعها سواه.
مفهوم الحاكمية من المفاهيم الزئبقية المغرية التي تستهوي الإنسان الثوري، وتستحوذ عليه، ويمكن توظيفه لخدمة أغراض شخصية وأخرى سياسية
أما مفهوم "الحاكمية" من وجهة نظر الليبراليين والعلمانيين والنقاد والمحللين السياسيين فليس سوى ظاهرة سياسية خالصة، يظهر فيها الدين كأداة للاحتجاج، نظراً لأنه أقرب الإيديولوجيات إلى قلوب الناس وعقولهم. ومن ثم يبدو "مفهوم الحاكمية لله" شعاراً هجومياً لتقويض الأنظمة القائمة التي تنقصها الشرعية وتفتقر إلى نظرية في السيادة.
وبين جدل الديني والسياسي يمكننا أن نتعرف على حقيقة "مفهوم الحاكمية" وما ينوء به من إشكاليات كما بدا عند سيد قطب، وهو واحد من أهم من أصَّلوا لهذا المفهوم في الفكر الديني المعاصر. فيتم مناقشة معنى "الحاكمية" في اللغة والاصطلاح، وما هي مبررات التيارات الدينية التي تنحاز لمقولة "الحاكمية"؟ وأين ينتهي الإلهي عند أصحاب "الحاكمية"؟ وأين يبدأ البشري؟ وهل تختلف دولة الحاكمية عن الدولة "الثيوقراطية" التي ظهرت في أوروبا في العصور الوسطى؟ وما موقف "الحاكمية" من الآخر؟ وما حقيقة الزعم السياسي أنّ أصحاب مفهوم "الحاكمية" يريدون أن يحطموا مملكة البشر لإقامة مملكة الله التي لا تعني سوى الانعزال والصعود نحو الهاوية؟ وما حقيقة موقف "الحاكمية" من الثقافة؟ وهل هي فعلاً ظاهرة سياسية محضة لتقويض الأنظمة القائمة؟ كلّ هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها، حتى يبدو مفهوم "الحاكمية" واضحاً لا يشوبه أي غموض من أي نوع.
1- معنى الحاكمية في اللغة والاصطلاح
لمّا كان مفهوم الحاكمية ما يزال يحتل مركز الصدارة داخل المنظومة الفكرية لكل حركات الإسلام السياسي، كان لا بدّ أن نحدد ما المقصود به على وجه الدقة؛ فلزم معالجته في اللغة والاصطلاح على النحو التالي:
الحاكمية لغةً مشتقة من مادة الفعل (حكم)، والفعل "حكم" ومشتقاته ورد في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، ولذلك تشكلت منه معانٍ متعددة، منها ما يفيد: التشريع والتحريم كقوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾[2]. أو ما يعني القضاء والفصل بين المتنازعين، ومنه قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾[3]. ومنها ما يعني القضاء والقدر كقوله تعالى: ﴿إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾[4]. ومنها ما يفيد معنى العلم والفقه والنبوّة؛ ومنه قوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ﴾[5]. أو ما يعني المنع والرد كقولنا "حكمت الدابة"، أو ما يفيد الإتقان والإحكام.
ومن هنا يمكننا القول مع أحد الباحثين إنّ الحاكمية لا تعني الحُكم؛ لأنّ هناك فرقاً جوهرياً بين مدلول الكلمتين؛ فالحكم مصدر قياسي يعبر عن الحدث كما هو، في حين أنّ الحاكمية مصدر صناعي يشير في آن واحد إلى الحكم والذات التي تقوم به، أي أنه يشمل الصفات المتعلقة به[6]. وهذا يقودنا إلى حقيقة معناها عند أهل الاصطلاح من العلماء الذين قدموا لها تعريفات متعددة يمكن حصرها في عدة معانٍ جامعة، منها: "الحكم على الأشياء من حيث كونها حلالاً أو حراماً". أو ما يعني "حكم الشرع دون اللجوء إلى تأويلات العقل". أو أنها "طاعة الله وحده، والالتزام بأوامره، ولا طاعة ولا التزام بأمر أحد إلا بأمر الله".
وكلّ هذه المعاني هي مجرد شرح وتفصيل لهذا المفهوم الزئبقي الذي يبدو مراوغاً في أغلب الأحيان، وخاصة عند سيد قطب رغم محاولاته لتحديده، فيرى أنّ مدلول "الحاكمية" في التصور الإسلامي لا ينحصر في تلقي الشرائع القانونية من الله وحده، والتحاكم إليها وحدها. بل إنّ شريعة الله تعني ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول السلوك، وأصول المعرفة أيضاً. ويتمثل في الاعتقاد والتصور - بكل مقومات هذا التصور - تصور حقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، وغيبه وشهوده، وحقيقة الحياة، غيبها وشهودها، وحقيقة الإنسان، والارتباطات بين هذه الحقائق كلها، وتعامل الإنسان معها. ويتمثل في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والأصول التي تقوم عليها، لتتمثل فيها العبودية الكاملة لله وحده، ويتمثل في قواعد الأخلاق والسلوك، في القيم والموازين التي تسود المجتمع، ويقوم بها الأشخاص والأشياء والأحداث في الحياة الاجتماعية. وفي هذا كله لا بدّ من التلقي عن الله، كالتلقي في الأحكام الشرعية ـ بمدلولها الضيق المتداول- سواء بسواء[7].
ثم يحاول تحديد هذه المفهوم المراوغ، فيرى أنّها: "إفراد الله سبحانه بالألوهية، والربوبية، والقوامة، والسلطان؛ إفراده بها اعتقاداً في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة"[8].
وهكذا تبدو الحاكمية - عند سيد قطب - اصطلاحاً يعني: السلطة والتحكم في الناس وتسييرهم وفق المنهج الإلهي في جميع شؤونهم، وإرغامهم على ذلك، واستمداد التشريعات والمناهج والنظم والموازين والعادات والتقاليد من الله وحده وتطبيق شريعته على كافة مناحي الحياة.
2- المبررات الدينية لمقولة الحاكمية
وقد ارتكز القائلون بمبدأ الحاكمية لتبرير اتجاههم هذا على تأويل معاني مجموعة من الآيات التي عضدت موقفهم، وحمّست الكثير من الشباب للانضمام إلى جماعاتها على اختلافها وتعددها، ومن هذه الآيات:
- ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾[9].
- ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾[10].
تمسك سيد قطب بمفهوم الحاكمية لم يكن دينياً بالأساس، ولكنه كان سياسياً بالدرجة الأولى
- ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[11].
- ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[12].
- ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾[13].
- ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [14].
وفي الحقيقة يبدو المعنى المستنبط للحاكمية من هذه الآيات غير محدد، فلا يُفهم منها أنها جميعاً تؤكد على فكرة الحاكم بالمعنى السلطوي، بل إنّ أغلبها يمكن حصره في نطاق الفصل في المنازعات التي تقع بين الناس. وهذا ما يبرر اختلاف الباحثين والمتخصصين بشؤون العقائد والإيديولوجيات الدينية ومنظوماتها الفكرية حول فكرة الحاكمية التي استخلصها سيد قطب من الآيات السالفة الذكر، والتي لم تحظ باتفاق أو إجماع المروجين لهذا الفكر السياسي الديني، فمنهم من أيّده ودعا إليه ومنهم من انتقده معيداً النص إلى أصله الأول، وحصره في مدلولاته المتطابقة مع ظهوره في لحظته التاريخية الأولى.
إذن لم يحسم سيد قطب دلالة المصطلح الدينية بشكل دقيق، ورغم ذلك وضع كلّ معارضيه من المسلمين وغير المسلمين في سلة المجتمع الجاهلي، وبالرغم من عدم فصله بين القطعي والظني، والمحكم والمتشابه، والدين والفقه، أو النص والاجتهاد إذا كان يقصد بالحاكمية الجانب السلطوي. كل ذلك يجعلنا نميل إلى أنّ الهدف من المصطلح هو هدف سياسي في المقام الأول يرمي إلى إسقاط النظام الحاكم القائم، وليس دينياً.
3- أين ينتهي الإلهي وأين يبدأ البشري في مفهوم الحاكمية؟
سؤال جوهري يضعنا في قلب مفهوم الحاكمية بمعناه الذي تبلور في الفكر الديني السياسي لسيد قطب، فيقول سيد قطب معبّراً عن حدود الحاكمية لله معتبراً إياها "الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرّد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، ذلك أنّ الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله. إنّ هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان المغتصب وردّه إلى الله، وطرد المغتصبين له، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم، فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مكان العبيد، إنّ هذا معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض"[15].
ويتضح من هذا النص القطبي معانٍ أربعة أساسية:
أولاً: إنه ليس لأحد من البشر نصيب من الحاكمية، فإنّ الحاكم الحقيقي هو الله، والسلطة الحقيقية مختصة لذاته تعالى وحده، والذين من دونه يأتمرون بأمره ويحتكمون إليه.
ثانياً: ليس لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع، فالتشريع أمر إلهي خالص.
ثالثاً: إنّ الدولة الإسلامية لا يُؤسّس بنيانها إلا على ذلك القانون الإلهي، أمّا الدولة التي تستند إلى القوانين الوضعية فلا تستحق طاعة الناس الذين يحكمونها بشرع غير شرع الله.
رابعاً: إنّ قيام مملكة الله في الأرض تتطلب إزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية.
يبدو أنّ الإسهام البشري في دولة الحاكمية غير موجود تماماً، "فقد اتسع مفهوم السياسة، بحيث يمكنه ببساطة أن يستوعب جميع الأنشطة من عبادات ومعاملات وجهاد، في إطار مفهوم سياسي لله والدين... فالله يصبح حاكماً، ومطلبه الأول هو إقامة الدولة الإسلامية. ويصبح كل مكون من مكونات الدين خاضعاً لهذه الرؤية السياسية، ومن ثم يصبح هدف إقامة الدولة حاضراً حضوراً تلقائياً في كل ركعة، ومناقشة ورياضة، وجمعية، ونظرة دون تشتت أو اضطراب"[16].
ورغم ذلك يحاول بعضهم تلمّس الوجود البشري في دولة الحاكمية، لكنها تبقى كلها مجرد ذر للرماد في الأعين؛ حيث الاجتهاد فيما لم يرد به نص أو في المصالح المرسلة، أو في استخراج الأحكام من نصوص الدين الكليّة الإجمالية والتي لا تخوض في التفاصيل المتغيرة بتغير الزمان والمكان والبشر.
ومع هذا فمن يقوم بذلك الاجتهاد؟ أليست هي طبقة محددة من علماء الدين؟ وهنا يستشعر سيد قطب حرج الوقوع في الدولة الثيوقراطية أو فيما كان يعرف في أوروبا بالحق الإلهي المقدس، فيرى أنّ "مملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال دين - كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم "الثيوقراطية" أو الحكم الإلهي المقدس، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مردّ الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة"[17].
ولكنه ينكر أن يكون بإمكان البشر حق التشريع المطلق أو المغفرة للناس، وفيما عدا ذلك تبقى ثيوقراطية سيد قطب تبعد دور البشر بدرجة واضحة وجليّة.
4- موقف الحاكمية من الآخر
الآخر عند أصحاب دعوى الحاكمية مفهوم فضفاض، فقد يتسع ليشمل المسلم وغير المسلم، لأنّه وفقاً لنظرية المجتمعات الجاهلة في مقابل المجتمعات المؤمنة الممتثلة لحاكمية الله، يقول سيد قطب: "إنّ الإسلام لا ينظر إلى العنوانات واللافتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات على اختلافها، إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة، وهي أنّ الحياة فيها لا تقوم على العبودية الكاملة لله وحده. وهي من ثمّ تلتقي ـ مع سائر المجتمعات الأخرى - في صفة واحدة، صفة الجاهلية"[18]. ومن ثم يرى أنهم، أولاً: "واهمون" فيما بدا لهم، وهم ثانياً: "كافرون". فما يدعي أحد أنّ المصلحة فيما يراه هو مخالفاً لما شرع الله، ثم يبقى لحظة واحدة على هذا الدين، ومن أهل هذا الدين[19]. وبناءً على النتيجة الثانية يجب الجهاد المسلح وقتال أهل الكفر حتى يدخلوا الإيمان. ومن ثم يعمل سيد قطب على رفض دعوى القائلين بالموقف الدفاعي للإسلام كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر، وإنّ الذين يلجؤون إلى تلمّس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية، في وقت لم يعد للمسلمين شوكة، بل لم يعد للمسلمين إسلام، إلا من عصم الله ممّن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل سلطان إلا من سلطان الله، ليكون الدين كله لله، فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام [20].
ومن ثم يقرر سيد قطب أننا بين دارين؛ دار الإسلام ودار الحرب، ثم يقف موقف العداء التام من غير المسلمين، اليهود والمسيحيين، سواء كانوا مواطنين في دولة الإسلام أو خارجها ويلزمهم بدفع الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
انطلق سيد قطب من قدسية الآيات التي تحدثت عن الحاكمية وهي حق، لكنه انتهى بها إلى ما هو باطل
5- موقف الحاكمية من الثقافة
يُفرّق سيد قطب بين ثقافتين: الثقافة الإسلامية والثقافة الجاهلية، فيرى أننا "اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كلّ ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً، هو كذلك من صنع هذه الجاهلية"[21].
ولا يجوز تلقّي الثقافة للمسلم في دولة الحاكمية إلا عن التصور الإسلامي ومصدره الرباني، تحقيقاً للعبودية الكاملة لله وحده. ولكنه يرى أنّه من الممكن أن يتلقّى المسلم في العلوم البحتة، كالكيمياء، والطبيعة، والأحياء، والفلك، والطب، والصناعة، والزراعة، وطرق الإدارة - من الناحية الفنية الإدارية البحتة - وطرق العمل الفنية، وطرق الحرب والقتال - من الجانب الفني - إلى آخر ما يشبه هذا النشاط.. يملك أن يتلقى في هذا كله عن المسلم وغير المسلم، وإن كان الأصل في المجتمع المسلم حين يقوم، أن يسعى لتوفير هذه الكفايات في هذه الحقول كلها، باعتبارها فروض كفاية، يجب أن يتخصص فيها أفراد منه، وإلا أثم المجتمع كله إذا لم يوفر هذه الكفايات، ولم يوفر لها الجو الذي تتكون فيه وتعيش وتعمل وتنتج[22].
أمّا فيما يختص بحقائق العقيدة، أو التصور العام للوجود، أو يختص بالعبادة، أو يختص بالخلق والسلوك، والقيم الموازين، أو يختص بالمبادئ والأصول في النظام السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو يختص بتفسير بواعث النشاط الإنساني وبحركة التاريخ الإنساني.. فلا يجوز تلقيه إلا من ذلك المصدر الرباني، ولا يتلقى في هذا كله إلا عن مسلم يثق في دينه وتقواه، ومزاولته لعقيدته في واقع الحياة. [23] وهكذا تبلورت وجهة نظر حاكمية سيد قطب من الثقافة بصفة عامة.
خاتمة: هل الحاكمية عند سيد قطب ظاهرة سياسية محضة؟
انطلق سيد قطب من قدسية الآيات التي تحدثت عن الحاكمية وهي حق، لكنه انتهى بها إلى ما هو باطل، فكونه يجعل كل من يخالف نظريته من المسلمين وغير المسلمين في بوتقة واحدة، وهي بوتقة المجتمع الجاهلي الذي يجب إعلان الجهاد المسلح ضده، فلا شكّ في أنها دعوى باطلة، تهدد أمن المجتمعات الإسلامية، وهي مفسدة، ودرء المفاسد في الدين مقدم على جلب المصالح. كما أنّ دعوته لتهافت مفهوم موقف الإسلام الدفاعي وأنّ من حق الإسلام أن يبدأ الهجوم على الجاهلية وإن لم تبادئه هي بالهجوم فهذه دعوى باطلة أخرى، وتتناقض مع صريح النص القرآني الذي يقول ﴿لَّا يَنهَاكُمُ اللهُ عنِ الَّذينَ لَم يُقَاتلوكُم فيِ الدّينِ ولَم يُخرِجُوكُم مّن دِيَارِكُم أَن تَبَرُّوهُم وَتُقسِطُوا إِليهِم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ﴾[24]. فهذا يعني أنّ سيد قطب قد تعامل مع بعض النصوص كما لو كانت نصاً نهائياً يمثل القواعد النهائية للدين. كما أنّ تعامله مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى لم يبعد كثيراً عن هذا؛ حيث رأى أنهم لا بُدّ أن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وتناسى ظروف العصر ومقتضيات ضرورات العصر الراهن؛ فهم قديماً كانوا يدفعون الجزية نظير دفاع المسلمين عنهم فيكفونهم شر الدفاع من قتل وجرح، أمّا الآن فأهل الكتاب يخدمون في الجيش الوطني ويدافعون عن البلاد مثلهم مثل المسلمين تماماً، ولذلك كان بإمكان سيد قطب أن يكيّف تأويل الآيات القرآنية التي استند إليها لتتلاءم مع روح العصر، تماماً مثلما فعل عمر بن الخطاب في منع إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وهو حد بنص قرآني، ولكنه رأى أنّ الإسلام لم يعد ضعيفاً ولكنه أصبح عزيزاً، فلا حاجة لمهادنة هؤلاء المؤلفة قلوبهم.
هذا فضلاً عمّا ينتج عن مقولة "الحاكمية" من تقسيم الناس إلى: "عارفين" لأحكام الله ومقاصده، و"جهلة" لا يعرفون شيئاً عن شريعة الله وأحكامه. يجب دعوتهم للخروج من ظلام الجاهلية والدخول في نور الدين حسب فهم أهل الحاكمية. وما ينتج عنه من تقسيم المجتمعات البشرية كلها إلى إسلامية وأخرى جاهلية، وما يستتبع ذلك من دعوة صريحة للتحريض على تغيير جميع المجتمعات لتصبح مطابقة لتصورات أصحاب هذه النظرية المتطرفة، ولو بالقوة حسب مقولة تغيير المنكر باليد، وموقف الإسلام الهجومي. هذا فضلاً عن موازاة خلق هيمنة لسلطة دينية- فقهية مطلقة، تحت شعار (الحاكمية لله)، الأمر الذي يصل بنا إلى مواقف لا تخدم نهضة مجتمعاتنا الإسلامية، بل تبعدها أكثر فأكثر عن الاستقرار والتنمية الشاملة. كما تُدخل هذه المجتمعات في حروب وصراعات دينية- طائفية ومذهبية خطيرة، وتكفير فئة لأخرى، بل وجعل الفرصة سانحة لخروج جماعات أخرى أكثر تطرفاً.
تؤدي فكرة الحاكمية إلى تقويض شرعية النظام القائم وتهاوي مؤسساته، مما يجعل منها ظاهرة سياسية أكثر منها دينية.
ولعل ذلك ما جعل إخوان سيد قطب في الجماعة يرفضون فهمه هذا لمفهوم الحاكمية، وهذا ما نجده عند القطب الإخواني الكبير الشيخ محمد الغزالي أو مرشد عام الإخوان ـ حينذاك - حسن الهضيبي الذي رفض تفسير قطب للحاكمية في كتابه (دعاة لا قضاة).
ولعل ذلك يحيلنا إلى أنّ سبب تمسك سيد قطب بمفهوم الحاكمية لم يكن دينياً بالأساس، ولكنه كان سياسياً بالدرجة الأولى؛ إذ كان الهدف منه إسقاط النظام الغاشم في مصر الذي سخّر كل مقومات الدولة في التنكيل بمخالفيه، بما فيهم سيد قطب نفسه، وكان لا بُدّ من مواجهة فكرية دينية لكسره وتحطيمه، فإذا كان عبد الناصر قد ملك قلوب المصريين ببناء السد العالي وبقوانين الإصلاح الزراعي واهتمامه بقضايا العدالة الاجتماعية ومساعدة الشعوب العربية على التحرر، فكان لا بُدّ من مواجهته وسحب شرعيته بما هو أقوى من ذلك، وليس أقوى في قلوب الناس من الدين، فكانت الحاكمية ذات المرجعية الدينية هي الوسيلة المناسبة لتحقيق أهداف سيد قطب الذي كان عنصراً فعالاً من عناصر ثورة يوليو 1952 ولم يجن سوى التنكيل والإقصاء، بينما فاز عبد الناصر ورفاقه بكلّ المميزات. لذلك كانت الحاكمية هي الأداة المثلى لسحب شريعته التي كان يستمدها من خارج النسق الإسلامي كالقومية والاشتراكية وغيرها.
وعلى ذلك تكون الحاكمية بذلك ذات بُعد سياسي أكثر منها مفهوماً دينياً. وبذلك تعود الحاكمية كما بدأت في حرب صفين، كما ينطبق عليها الآن أيضاً وصف الإمام علي لها قديماً بأنها: (كلمة حق يراد بها باطل). بالفعل فإنّ مفهوم الحاكمية من المفاهيم الزئبقية المغرية التي تستهوي الإنسان الثوري، وتستحوذ بسهولة عليه، ويمكن توظيفه لخدمة أغراض شخصية وأخرى سياسية. فالمفهوم يوحي بدلالات واسعة، تجعل الإنسان يرفض حاكمية البشر وضرورة الثورة عليهم ويؤمن بتكفير النظام القائم، وتكفير الحاكم والخروج عليه، واغتنام أموال الدولة، ومحاربة جيش الدولة وأجهزتها الشرطية، واعتبار الخدمة فيهما كفراً، وعصيان القضاء لأنه لا يحكم بما أنزل الله. وهكذا تؤدي فكرة الحاكمية إلى تقويض شرعية النظام القائم وتهاوي مؤسساته، مما يجعل منها ظاهرة سياسية أكثر منها دينية.
([1]) تم نشره في ملف بحثي بعنوان "مفاهيم ملتبسة في الفكر العربيّ المعاصر الملفّ البحثي الثاني: السيادة والحاكميّة"، بتاريخ 4 أبريل 2015، إشراف بسام الجمل، تنسيق أنس الطريقي.
[2] سورة يوسف، الآية 40
[3] سورة النساء، من الآية 58
[4] سورة يوسف، الآية 67
[5] سورة مريم، الآية 12
[6] أيمن الغندور: الحاكمية والعنف، مجلة الثقافة الجديدة، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد 291، عدد ديسمبر، ص 33
[7] سيد قطب: معالم في الطريق، القاهرة- بيروت، دار الشروق، الطبعة السادسة، 1979، ص ص 123، 124
[8] سيد قطب: معالم في الطريق، ص 48
[9] سورة المائدة، الآية 44
[10] سورة يوسف، الآية 40
[11] سورة النساء، الآية 65
[12] سورة المائدة، الآية 42
[13] سورة البقرة، 213
[14] سورة المائدة، الآية 50
[15] سيد قطب: معالم في الطريق، ص ص 59-60
[16] شريف يونس: سيد قطب والأصولية الإسلامية، القاهرة، دار طيبة، 1995، ص 210
[17] المصدر السابق، ص 60
[18] المصدر السابق، ص 93
[19] المصدر السابق، ص 93
[20] المصدر السابق، ص 73
[21] المصدر السابق، ص ص 17-18
[22] المصدر السابق، ص 126
[23] المصدر السابق، ص 127
[24] سورة الممتحنة، الآية 8