مفهوم الحرية في إتيقا سبينوزا
فئة : ترجمات
مفهوم الحرية في إتيقا سبينوزا([1])
ما يحدد مذهب الحرية السبينوزي، في أول تحليل، هو نقضُ الخطأ أو الوهم؛ فمنذ التذييل الخاص بالقسم الأول من كتاب ''الإتيقا'' يؤكد سبينوزا أن الاعتقاد في الحرية ينجم عن الجهل بالأسباب التي تَحْكُمُنا.
يُعَمِّق سبينوزا من قوله ويوضحه في ''لازمة'' القضية 35 من القسم الثاني من ''الإتيقا''. فلكي يُعرِّف جيّدًا البطلان (أو الخطأ)، بوصفه نقصًا في المعرفة، يأخذ مثال الحرية ويؤكد أنها «تتمثل في أن الناس لا يعرفون أي علة لفعلهم.» وكذلك فإن إدراك الشمس على بعد مائتي قدم ليس إلا خيالًا ناجمًا عن الجهل بعلل هذا الإدراك الفيزيولوجية.
يستند مذهب الحرية هذا على نسق سبينوزا الأنطولوجي والأنثربولوجي بِرُمَّتِه. إذا كان انتشار صفات الجوهر ضروريًّا، وإذا كانت إذن أحداث الطبيعة كلها خاضعة للحتمية، فإن الإنسان نفسه إذن يقوم بفعلٍ محتوم (مُحدَّد) على نحو صارم. وهذا أكثر صحة، حيث إن الجسم والنفس ليسا إلا فردًا واحدًا، واقع واحدٌ يمكن استيعابه، سواء على مستوى الفكر أو على مستوى الامتداد. إن نظامي القراءة هاذين يَحُولَان دون أي تفاعل بين الجسم والنفس، يقول سبينوزا: «لا الجسم بقادر على أن يدفع النفس إلى التفكير، ولا النفس بقادرة على أن تدفع الجسم إلى الحركة» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثالث، القضية 2).
بسبب مذهب التوازي المُوَحَّد هذا، المرسوم في ظل الضرورة الكونية، يمكن لسبينوزا أن يستأنف تصوره المركزي: «هكذا إذن فالتجربة لا تثبت بوضوح أقل من العقل أن الناس يعتقدون بأنهم أحرار لمجرد أنهم واعون بفعلهم فقط، وإنما لأنهم يجهلون الأسباب التي تتحكم فيهم. تُظهر التجربة أيضًا أن أوامر النفس ليست شيئًا آخر إلا الشهوات عينها، ومن ثم فإنها تتنوع تبعًا لحالات الجسم المختلفة.» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثالث، القضية 2، التعليق). يتبدى هنا، بشكل ضمني، نقدُ الثنائية الديكارتية الذي سيتم تناوله ضمن ''تقديم'' القسم الخامس من كتاب ''الإتيقا'': لأن تأكيد حرية الإرادة يستلزم ثنائية النفس والجسم فضلًا عن الجهل بنمط اتحادهما وتفاعلهما، فإنه يتعين دحض حرية الإرادة هذه ومعها هذا المذهب الثنائي في الوقت نفسه.
إذا كانت السبينوزية تُختزَلُ في هذه الحتمية الكونية؛ فلن يُفهَمَ تأثيرها على الثقافة الغربية، ولا نُمُوها الداخلي؛ أي البنية نفسها الخاصة بِـ ''الإتيقا''.
انطلاقًا من هذا الوعي، سيلاحظ القارئ الحديث أنه، في النص نفسه الذي أوردناه للتو، يشير سبينوزا إلى الشهوات؛ أي إلى الرغبة: إنها، في الحقيقة، هي الموضوع الرئيس في القسم الثالث من ''الإتيقا''. يتصل الأمر بمعرفة «الأهواء» للتصدي لِـ «العبودية». يبدو لنا مقصد سبينوزا الآن بشكل أوضح: يتعلق، بالنسبة إليه، بالتصدي لتصور خاطئ عن الحرية وتعويضه بمذهب خاص بالحرية الحقيقية يمكنه، بالفعل، أن يواجه بشكل ناجع وواقعي سلبية الانفعالية والعبودية. فضلًا عن ذلك، فإن القسم الرابع من كتاب ''الإتيقا'' ينتهي بوصف «الإنسان الحر»، في حين أن القسم الخامس يُحدد في الأخير الحرية والغبطة والخلاص.
فيمَ يتمثل إذن هذا التصور الجديد الخاص بالحرية؟ يعلن سبينوزا عن موقفه بخصوص ذلك منذ مطلع كتابه ''الإتيقا'' قائلًا: «يقال عن شيء ما إنه حرٌّ عندما يُوجَدُ بضرورة طبيعته وحدها، وعندما يكون فعله محكومًا بذاته فقط» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الأول، تعريفات، التعريف السابع). الحرية الجديدة إذن هي الاستقلال الداخلي. وفي هذا الصدد، فإن «الإله هو وحده علة حرة» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الأول، اللازمة 2 والتعليق). لكن مع ذلك، فإن تحليل الحرية البشرية هو الذي يوجد في أفق هذه التعريفات الأنطولوجية.
لا شك أنه «لا توجد في الروح أي إرادة مطلقة؛ أي حرة» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثاني، القضية 48). لكن ما تم دحضه بذلك هو فكرةُ المَلَكة، خصوصًا فكرةُ ملكةِ الإرادة التي ستكون متميزة عن الإثبات الذي تنطوي عليه كل فكرة (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثاني، القضية 49). دون الإشارة إلى أي ملكة يتبقى أنَّ الأفعال البشرية قادرة على أن تكون متطابقة أو غير متطابقة؛ أي نشيطة أو سلبية، يقول سبينوزا: «أقول إننا نفعل عندما ينتج في داخلنا أو خارجنا شيء ما نَكُونُ نحن علته المتطابقة؛ أي [...] عندما ينتج عن طبيعتنا، داخلنا أو خارجنا، شيء ما يمكن أن يَكُون مفهومًا بشكل واضح ومتميز بواسطة هذه الطبيعة وحدها» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الثالث، تعريفات، التعريف الثاني).
الحرية إذن هي الانسجام بين الفرد وفعله، وأن يَكُونَ من الممكن تفسير هذا الفعل أساسًا بواسطة طبيعة هذا الفرد. عندما تسمح «الماهية الجزئية» أو «تشكيل الجسم» (وهما تعبيران سبينوزيان) بالأخذ بعين الاعتبار الجزء الأكبر من الفعل اللذان يقومان به؛ يمكن القول إذن إن هذا الفعل حرٌّ. إنه حر لأن الفرد، هنا، هو «علته المتطابقة»؛ ومن ثم يكون هذا الفعل نفسه متطابقًا. إنه، في جزئه الأكبر، فعل مستقل ونابع من ذاته. وعلى عكس ذلك، فإن «العبودية» ستكون هي الاستلاب؛ أي تبعيةُ فردٍ ما إزاء عللٍ داخلية أو خارجية لا تدخل في تعريف ماهيته أو شخصيته. «أسمي عبوديةً العجز البشري عن التحكم في الانفعالات وكبحها، فباعتبار الإنسان خاضعًا للانفعالات، فإنه بالفعل، لا يخضع لنفسه وإنما يخضع للقدر ويكون تحت سلطانه لدرجة أنه غالبًا ما يجد نفسه مكرهًا على القيام بالأسوأ، رغم رؤيته للأفضل» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الخامس، التمهيد).
الحرية إذن هي عدم الخضوع إلا للذات. إن موضوع القسمين الرابع والخامس من كتاب ''الإتيقا'' هو بالضبط بناء طُرُق التحرر الحقيقي: فبمعرفة الانفعالات ونمط فعلها؛ أي بواسطة المعرفة الدقيقة بالعلاقة بين الرغبة والخيال، يمكن تحديد وسائل الفعل والتصرف في هذه الانفعالات والتحكم فيها؛ فمن خلال انفعالٍ أقوى (ومن ثم إذن من خلال السير في إثر الفرح) يمكن دومًا للانفعالات السلبية والرغبات غير المتطابقة أن تنهزم. هكذا ومن خلال المعرفة التي تنير الرغبة فقط سيكون بإمكان الفعل أن يصير مطابقًا للماهية الفردية وألا يخضع إلا لنفسه. إن معرفة الانفعالات ليست هي غاية الفعل الخاصة، بل إنها موجهة إلى بناء الاستقلال، وأن تجعل من الممكن «العيش أخيرًا تحت قيادة العقل؛ أي العيش بحرية والتمتع بحياة السعداء» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الرابع، القضية 54، التعليق).
بمجرد أن تتحدد الطُّرُق العقلانية التي ستقود إلى التحرر، يمكن لسبينوزا أن يرسم معالم «الإنسان الحر».
بشكل عام، «الإنسان الحر هو الذي يقوده العقل وحده» (سبينوزا، الإتيقا، القسم الرابع، القضية 68، البرهان). لقد قام سبينوزا بعرض متطلبات هذا العقل في التعليق الخاص بالقضية 18 من القسم الرابع من كتاب ''الإتيقا'' قائلًا: «[...] إنه لا يتطَّلب شيئًا يتعارض مع الطبيعة.» إنه يتطلب إذن (وهنا تكمن الحرية الحقيقية) «أن يحب كل واحد ذاته، وأن يبحث عن منفعته الخاصة باعتبارها نافعة له حقًّا»، وأن يتصرف، أخيرًا، على نحو جيد وأن يعيش في الفرح والاستقلال وإرضاء الذات.
إن نهاية القسم الرابع هي التي ستعطي بعض التدقيقات حول مضامين حرية الاستقلال هذه؛ فالقضايا من 67 إلى 73 تؤسس، فعلًا، لكي لا يفكر الإنسان الحر في شيء أقل من التفكير في الموت (67)، وأن تتمثل فضيلته في تجنب المخاطر بقدر ما تتمثل في تخطيه لها (69)، وأن يتحاشى حسنات الجهلة لكي لا يسقط في تبعيته لهم (70)، وأن الناس الأحرار هم وحدهم يكونون في غاية الامتنان لبعضهم البعض (71)، ويتصرفون دومًا بإخلاص (72)، وفي الأخير فإن «الإنسان الذي يقوده العقل يكون أكثر حرية في دولة، حيث يعيش تبعًا للقانون العام منه في العزلة، حيث لا يخضع إلا لنفسه» (73).
إذا كان الإنسان الحر، بتَبَنِّيهِ لهذه التصرفات جميعها، يبلغ أعظم كمال؛ فيمكن أن نفهم أخيرًا أن سبينوزا كان على صواب في تحديد الحرية والغبطة والخلاص؛ ما دام هذا الإنسان الحر ليس إلا الحكيم. يرتبط الرضا الداخلي الأعظم والفرح الأكبر بالمعرفة الأكثر تطورًا. وبشكل متناقض، يمكن القول إن الإتمام الحقيقي للرغبة بوصفها ماهية جزئية، بالنسبة إلى سبينوزا، هو الاستقلال الفَرِح للفرد، ومن ثم إذن هو الحرية.
([1]) Misrahi, Robert, «Liberté», in: 100 Mots sur l’Ethique de Spinoza, Editions Les Empêcheurs de penser en rond/ Le Seuil, Paris (2005). pp: 219- 225