مفهوم الحقل الديني عند بيار بورديو


فئة :  مقالات

مفهوم الحقل الديني عند بيار بورديو

مفهوم الحقل الديني عند بيار بورديو

يستخدم الباحثون المنشغلون بالشأن الدينيّ، في علاقته بالمكان والسكّان، مفاهيم عديدة موزّعة بين علوم شتّى كالجغرافيا الثقافية وعلم الاجتماع الديني والأنثروبولوجيا الدينية، وهي مفاهيم موظّفة لفهم العلاقات الممكنة بين الأفكار الدينيّة من ناحية والسكّان والفضاءات التي يعيشون فيها من ناحية أخرى. ومن أشهر هذه المفاهيم؛ مفهوم المجال أو الفضاء (espace) ومفهوم التراب أو الأرض (territoire) ومفهوم المشهد (paysage) ومفهوم الحقل (champ). ويُعد المفهوم الأخير أكثرها وضوحا وأمتنها بناء لفرط ما بذله المفكّر الفرنسيّ بيير بورديو (Pierre Bourdieu) من جهود نظريّة وعمليّة كشفت عن دقّته ونجاعته في تفسير الكثير من مظاهر التفكير والسلوك الدينيّ في علاقتها بمختلف مظاهر الحياة، وفي ما يلي بيان لهذا المفهوم واستخداماته في أعمال بورديو.

1. مفهوم واحد بألفاظ عدّة:

يجد الباحثُ في قضايا الدين وعلاقاته بالمكان ألفاظا عدّة تتقارب في معانيها، ولكنّها تختلف باختلاف السياقات التي تستعمل فيها؛ فالجغرافيا الثقافية تستعمل لفظ الفضاء للتعبير عادة عن الأماكن المقدّسة كالمزارات ودور العبادة والأراضي التي يولد فيها الأنبياء ومن يرثهم، أو يقيمون فيها أو يدفنون بها، ويكون البحث في الفضاء الديني بهذا المعنى بحثا في خريطة ترسم المراكز الدينية في انتشارها على مساحة أو مساحات متعدّدة وفي منزلة كلّ مركز منها في علاقته بسائر المراكز. ويُستعمل لفظ الأرض عادة للتعبير عن مساحة ترابيّة قد تكون متّصلة أو منفصلة، عليها تُمارس جماعة بشريّة نفوذها بموجب ملكيّة ماديّة أو معنويّة مهما كانت هويّتها ومهما كان اعتقادها.[1] ولهذه المساحة، في ذهن الجماعة التي تسيطر عليها، وحدة ترابيّة ترتسم وفق صيغ عديدة قد تكون سرديّة، برواية قصص وأخبار عن صلة الأجداد بهذه الأرض وكيف امتلكوها وناضلوا لصدّ الغزاة عنها، وقد تكون فكريّة كأن تعتقد الجماعة أنّ لهذه الأرض قوّة غيبيّة تحميها أو ربّا يذود عنها، وقد تكون سياسيّة كأن تبسط الجماعة نفوذها على الأرض بقوّة عسكريّة ومدنيّة وتتّخذها وطنا.[2] أمّا لفظ المشهد الدينيّ، فيُستعمل للتعبير عن طقوس وممارسات دينيّة مرتبطة بالمكان، سواء كان ارتباطها به دائما أو مؤقّتا، وتُشكّل دُور العبادة المركزيّة والثانويّة حجر الأساس في رسم المشهد الدينيّ لما تضفيه عليه من أبعاد رمزيّة. ولا يختلف هذا المصطلح كبير اختلاف عن المصطلح الأوّل؛ إذ المجال والمشهد مصطلحان متعلّقان بالفضاءات التي تُمارس فيها الطقوس الدينيّة وخريطة انتشارها في المكان أساسا. أمّا مصطلح الأرض أو التراب، فيفيض عن حدود المعبد، ليشمل مساحات شاسعة مقدسة وغير مقدّسة، ولكنها في ذهن الجماعة التي تسيطر عليها وطن تختصّ به دون غيرها من الجماعات البشريّة.

ولئن كانت الحاجة إلى استعارة مفهوم الفضاء من الجغرافيا الثقافية أكيدة، لما في هذا المفهوم من تركيب بين عناصر طبيعيّة وأخرى ثقافيّة يمكن أن يقودنا إلى إدراك الحدود الفاصلة بين المذاهب المتنوّعة في الديانة الواحدة وعلاقة ذلك بالفضاء الذي يغلب عليه هذا المذهب دون غيره، فنحن نعتقد أنّ الجغرافيا الثقافية بمفاهيم الفضاء والأرض والمشهد غير قادرة على تفسير ما به يكون الشأن الديني في مجال جغرافيّ مّا، شأنا يُدار انطلاقا من تمثّل خاصّ لمعنى الوجود الاجتماعي عامّة ولمعنى الوجود الدينيّ على نحو خاصّ. وأمام هذا القصور النظري، يحتاج الباحث في العلاقة بين الدين والفضاء إلى دعم مفاهيم الجغرافيا الثقافية بمفهوم الحقل الديني كما صاغه بورديو. فأيّ معنى للحقل الدينيّ عنده؟ وما صلته بالفضاء الاجتماعي العامّ؟

2. من الفضاء إلى الحقل:

تُعدّ أعمال بورديو في تاريخ علم الاجتماع تجاوزا نقديّا لعدّة مقاربات كانت تختزل الوجود الاجتماعي، إمّا في بعده الاقتصادي، وما يعنيه ذلك من اختزال للعلاقات الاجتماعيّة في علاقات الإنتاج، وإمّا في بعده الفكريّ باعتبار المفكّرين طبقة من طبقات المجتمع لها القدرة على التحكّم في مسارات الوجود الاجتماعي، وإمّا في بعده المادّي الموضوعي وما ينجرّ عن ذلك من إهمال لما يجري في المجتمع من صراعات رمزيّة تفوق قيمته كلّ أشكال الصراع الأخرى، كالصراع الطبقي، وصراع الأجيال، والصراع السياسيّ.[3] فإذا كانت المقاربة الماركسيّة تنبني على اعتبار المجتمع وجودا ذا بنية انقسامية يحكمه قانون الصراع الطبقي بمحمولاته الاقتصادية، فإنّ مقاربة ماكس فيبر (Max Weber) تنظر إلى المجتمع باعتباره وجودا ذا بنية تراتبية يحكمه قانون المنافسة وتتمايز فيه التشكيلات الاجتماعية على أسس الجاه والسلطة والثروة. أمّا بيير بورديو، فقد رأى في هاتين المقاربتين عجزا عن فهم ما يجري في عمق الوجود الاجتماعي من علاقات بين مختلف مكوّناته هي في الحقيقة ما يمنحه القدرة على إعادة إنتاج نظامه باستمرار. ولقراءة هذا الوجود قصد الوقوف على ما به يعيد إنتاج نظامه، يبدو الصراع الطبقي والتفاوت الاجتماعي، وما خلفهما من تصوّرات مادّية ورمزيّة، مفهومين قاصرين عن استيعاب معنى الوجود الاجتماعي وإدراك ما به يكون قادرا على إعادة إنتاج نفسه، وهو ما دفع بيير بورديو إلى ابتكار تصوّر مختلف يكون الوجود الاجتماعي بمقتضاه فضاء اختلافيّا يتكوّن من مجموعة حقول مادّية ورمزية تتصارع عليها الجماعات لحيازة منزلة فيها من شأنها أن تزيد في مكاسبها ونفوذها. ومن هذه الحقول وما يدور حولها من صراعات يبدو الوجود الاجتماعي، باعتباره فضاء أقرب ما يكون إلى شبكة[4] تنتشر عليها جماعات تجري بينها صراعات شتّى لحيازة أكثر ما يمكن من أنواع الرأسمال التي توسّع باتريس بونفيتز (Patrice Bonnewitz) في شرحها[5]، مثل الرأسمال الاقتصادي والرأسمال الاجتماعي والرأسمال الرمزي والرأسمال الثقافي.

وقد نشأت حول مفهوم الفضاء الاجتماعي مفاهيم عدّة توضّحه، وتبرز مدلوله الخاص في سوسيولوجيا بورديو منها مفهوم الحقل. فإذا تمثّلنا المجتمع في صورة فضاء اختلافي، فهذا يقتضي بالضرورة أن يكون فضاء متعدّدا يتكوّن من فضاءات فرعيّة متباينة يسمّيها بورديو حقولا منها الحقل الاقتصادي والحقل الثقافي والحقل السياسيّ والحقل الديني. وليس الحقل عنده فضاء محدودا على نحو واضح ونهائيّ؛ لأنّه في واقع الأمر متّصل بما حوله من حقول منتشرة على شبكة الفضاء الاجتماعي العام وتجري بينه وبينها تفاعلات عدّة من شأنها أن تتسبّب في تقلّصها أو تمدّدها أو في ميلاد حقول جديدة لم يكن لها وجود على الشبكة من قبل.[6] وإذا كان لكلّ حقل فاعلون يعملون فيه، فهذا لا يعني أنّها حقول ثابتة أو منعزلة عن بنية الفضاء الاجتماعي العام وما يخترقها من صراعات بين جماعات تسعى، كلّ من موقعها، إمّا إلى فرض هيمنتها المادّية والرمزية وإمّا إلى صيانة وجودها وحماية هويّتها من كلّ خطر يهدّدها. وهذا يعني أنّ لكلّ حقل من حقول الفضاء الاجتماعي العام تاريخا خاصّا ضمن تاريخ أكبر هو تاريخ الفضاء الاجتماعي العام وما طرأ عليه من تحوّلات.[7]

في هذا الإطار النظريّ العام يتنزّل مفهوم الحقل الديني، وهو، كغيره من المفاهيم المجاورة له في معجم بورديو، يحتاج إلى بعض بيان لتوضيح مدلوله الدقيق ولاختبار نجاعته في تحليل الشأن الدينيّ وفهم آليّات اشتغاله والوقوف على ما يصله بسائر الحقول الاجتماعيّة أو يفصله عنها، وكيف يساهم معها في بناء الفضاء الاجتماعي العام ورسم استراتيجياته الكبرى. وقد اخترنا لتحليل هذا المفهوم أن ننطلق من أقدم نص لبورديو يشرح تاريخ الحقل الدينيّ ابتداء من لحظة تكوينه وصولا إلى لحظة باتت له فيها بنية خاصّة، [8] إضافة إلى بعض ما تركه من أعمال أخرى نعتقد أنّها تنطوي على نظريّة متكاملة في حقيقة الوجود الاجتماعي العام والأسس التي ينبني عليها، مستعينين على ذلك كلّه ببعض ما تيسّر لنا الاطلاع عليه من أعمال تحليليّة نقديّة حول بورديو ومنزلته في سلّم العلوم الاجتماعيّة.

3. مفهوم الحقل عند بورديو:

يرى بعض الدارسين أنّ للحقل في معجم بورديو معان عديدة، وهي على تعدّدها تتكامل في ما بينها لترسم حدوده وخصائصه وعلاقاته بما يجاوره.[9] ومن هذه المعاني أنّ الحقل فضاء مُهيكَل يتكوّن من جملة مواقع أو مراكز متفاوتة الدرجات يشغلها فاعلون يُصدرون مواقف لا تُعبّر بالضرورة عن أفكارهم الخاصّة بقدر ما تعبّر عن وجهة نظر المواقع التي يحوزونها. وهذا يعني أن الفاعلين في أيّ حقل من الحقول الاجتماعيّة يتكلّمون ويتصرّفون بما تقتضيه منزلتهم في سلّم الحقل الذي ينتمون إليه، وهو ما يجعلهم مُلزمين بحماية رأسمال الحقل الذي يعملون فيه. ويقتضي ذلك منهم أن يكونوا على دراية بمصالح هذا الحقل ورهاناته الخاصّة. ومن هنا، لا يكون الحقل حقلا حتّى يكون له رأسمال يختصّ به دون غيره من الحقول التي يتألّف منها الفضاء الاجتماعي العام. وإذا كان الرأسمال شرطا من شروط الحقل، فلا بدّ إذن من حمايته واستثماره في حدود ما تسمح به مجاري العادات أو ما يُسمّيه بورديو (habitus)، وهي السنن أو العادات المُنظّمة للعمل داخل الحقل[10].

هذا في مستوى البنية. أمّا في مستوى التاريخ، فالحقل نتاج مسار تاريخيّ يعكس علاقات القوى بين الفاعلين أفرادا أو مؤسّسات، وهو ما يجعله فضاء حيويّا يعجّ بشتّى أنواع الصراع في سبيل المحافظة على موازين القوى القائمة أو في سبيل إعادة ترتيبها لخلق موازين قوى بديلة. ويعتبر الصراع على موازين القوى ما به يتميّز الحقل تحديدا لكونه فضاء منفتحا تتمدّد حدوده، وتتقلّص تبعا لمقتضيات الصراع بين الفاعلين فيه، ولأنّ الصراع في واقع الأمر يدور حول حدود الحقل نفسه أي حول صلته بالحقول التي يؤلّف مجموعها الفضاء الاجتماعي العام.

وبالجمع بين المستويين البنيويّ والتاريخي، يبدو الحقل في معجم بورديو فضاء فرعيّا ذا رأسمال خاصّ، ويستقلّ بسنن تنظّم العمل فيه وتضبط قواعد الصراع بين مختلف الفاعلين قصد تحقيق الرهان الأسمى للحقل نفسه، وهو أن يوسّع حدوده ويزيد في رأسماله ليكون نفوذه داخل الفضاء الاجتماعي العام أقوى أثرا وأبعد مدى.

4. معنى الحقل الديني:

بناء على ما سبق بيانه، لابدّ أن يكون الحقل الدينيّ، باعتباره واحدا من مجموع الحقول التي يتألّف منها الفضاء الاجتماعي العامّ، مستقلاّ برأسمال لا يشاركه فيه أيّ حقل من الحقول الأخرى، وهو بالضرورة الرأسمال الدينيّ، ولابدّ، لإدارة هذا الرأسمال وتنميته، من فاعلين يستثمرونه وفق سنن معترف بها بُغية المحافظة على ثوابت الحقل نفسه من جهة وتقوية نفوذه في الفضاء الاجتماعي العام من جهة أخرى، ولا يكون ذلك طبعا إلاّ في إطار موازين قوى متغيّرة باستمرار.

إنّ هذا الوصف، وإن كان يضعنا في الإطار النظري العام الذي يتنزّل فيه مفهوم الحقل الدّيني، فهو لا يكفي لإدراك معنى الحقل الديني عند بيير بورديو لأنّ المطلوب منهجيّا أن نفكّر في ما به يكون حقل مّا من حقول الفضاء الاجتماعي العام حقلا دينيّا. نقول ذلك لأنّ كلّ محاولة لتعريف حقل من الحقول تتأسّس نظريّا على تمثّل الحدود الفاصلة بين هذا الحقل وذاك.[11] فكيف تمثّل بورديو حدود الحقل الديني؟ وما الذي يفصل هذا الحقل عن غيره من حقول الفضاء الاجتماعي العام؟

للإجابة عن هذين السؤالين، لابدّ من العودة إلى الأفكار التي بناها بورديو حول الدين؛ لأنّها في تقديرنا القاعدة الإبستمولوجيّة التي بُني عليها مفهوم الحقل الديني؛ إذ استوحى بورديو من ثقافته الفلسفيّة عموما ومن إرنست كسيرر (Ernest Cassirer) تحديدا فهما للدّين يجعله شكلا من الأشكال الرمزية. وقد اختار بورديو هذا التصوّر دون غيره من التصوّرات المتاحة لانشغال كسيرر المستمرّ بسؤال الثقافة والأشكال الرمزيّة، وهو سؤال منح صاحبه الفرصة لاكتشاف ما يختصّ به الوجود الإنساني عن أيّ وجود آخر. ومن هذا المنطلق، تسنّى لبورديو أن يفكّر في الدين باعتباره شكلا من الأشكال الرمزية على نحو ما أوضحه كسيرر حين اعتبر الدين لغة من بين لغات أخرى يستعملها الإنسان لتمثّل معنى وجوده. وحين يُفهم الدين على أنّه لغة، يكون في الوقت نفسه أداة لتحقيق التواصل ووسيلة لتحصيل المعرفة.[12] وهذا يعني أنّه يبني في أذهان البشر معنى حول ذواتهم، أفرادا وجماعات، وحول العالم الذي يعيشون فيه لأنّ الإنسان كما يقول كسيرر يتمثّل الأشياء كما تصوّرها اللغة.

وقد استطاع بورديو بفضل هذه الفلسفة أن يحدث لنفسه مسافة نظريّة تفصله عن أشهر الأفكار التي بناها علماء الاجتماع حول الدين سواء، باعتباره بنية ذهنيّة تتناسب مع البنى الاجتماعيّة وتلبّي وظائف لفائدة الوجود الاجتماعي كما يرى إميل دوركهايم (Emile Durkheim)، أو باعتباره إيديولوجيا تستخدمها الطبقات الاجتماعية المتصارعة لأداء وظائف سياسيّة كما يرى كارل ماركس (Karl Marx). لقد ظلّ الدين في حدود هاتين المقاربتين مجرّد وسيلة لتأمين وظائف اجتماعيّة أو سياسيّة، وحين يكون لغة من بين لغات أخرى ويكون قناة لتبادل المعاني ومرقاة لبلوغ الحقيقة يكون نظاما رمزيّا يساهم مع غيره من أنظمة الرمز في بناء الإدراك وصيغ التفكير في العالم.

أمّا في ما يتعلّق بمعنى الحقل الدينيّ وتاريخ تشكّله، فيرى بورديو أنّ اللحظة المفصليّة في تاريخ الأديان هي لحظة الانتقال من البداوة إلى الحضارة أو من العمران البدوي إلى العمران الحضري كما يقول ابن خلدون. ففي تلك اللحظة، تمّ الانتقال من نظام رمزيّ كان الإله فيه ربّا غليظا شديد العقاب يتصرّف في الكون كما يشاء، إلى نظام رمزيّ صار فيه الإله رحمانا رحيما وحاكما عادلا حكيما يحفظ نظام الكون ونظام المجتمع. وبالتوازي مع ذلك، حصل تقسيم العمل وتمّ الفصل بين العمل الذهني والعمل البدني. وهذا يقتضي أن يكون للشأن الدينيّ عاملون قيّمون عليه يديرونه في ما بينهم بأنفسهم ويعكفون على بلورة نظام الاعتقادات ونظام القيم. ولا يكون ذلك إلاّ بإنشاء هيئات تختصّ في إنتاج البضائع الدينيّة وتوزيعها. وبظهور الحاجة إلى الصنائع الدينيّة يظهر القائمون بأمور الدين وهم صنف من الناس نذروا حياتهم ليعلّموا الناس دينهم ويبيّنوا لهم أحكامه ويسوسوا به حياتهم.

ينشأ الحقل الديني إذن من حاجة العمران الحضري إلى صنائع دينيّة وهي عند بورديو، تماما كما يقول ابن خلدون، صنائع شريفة البضائع ولكنّها تختلف قليل اختلاف عن غيرها من الصنائع المشابهة لها؛ لأنّ أصحابها لا يقدرون على الاكتفاء بإنتاج البضائع الشريفة، ولأنّهم مطالبون أبدا بتحويلها إلى بضائع عموميّة يسهل على الناس أن يستوعبوها ويفيدوا منها. ومن جهة أخرى، يعمل القائمون بأمر الدين على تجريد غير هم من أصحاب الصنائع الشريفة، كالكتّاب والشعراء والمتفلسفين ومن في معناهم من المثقّفين، من كلّ صفة دينيّة وحرمانهم من الرأسمال الديني الذي بات خاصّا بهم دون غيرهم. وبهذا يشغل الحقل الديني حيّزا مستقلا داخل الفضاء الاجتماعي العامّ لاحتكار البضائع الدينيّة إنتاجا وتوزيعا واستهلاكا. ولمّا كانت البضائع الدينيّة بعضها خاصّ وبعضها عامّ فقد ترتّب على ذلك صنفان من المعرفة بها: معرفة عمليّة عامّة بقواعد الإيمان والسلوك يتساوى فيها عموم المؤمنين، ومعرفة نظريّة عالمة بالمتون يختصّ بها علماء الدين. ومنها تنشأ الفرق الكلاميّة والمدارس الفقهيّة والفلسفات الدينيّة، وهي كلّها نتاج تأويل متجدّد إمّا لإصلاح الحقل الدينيّ في ذاته وإما لإعادة بناء أنظمة الرمز في الفضاء الاجتماعي العام.

5. بنية الحقل الديني:

يقترن مفهوم البنية (structure) عند بورديو بمفهوم العادة أو الهابيتوس (habitus). والعادة عنده كما يشرحها جون فرنسوا دورتيه (Jean- François Dortier) هي حصيلة ما تلّقاه الفرد في طور التكوين من معارف وقيم فصارت محفورة في لاوعيه، ثمّ تظهر بعد ذلك في شكل مهارة حياتية أو قدرة على التأقلم والتطور الذاتي في المحيط الذي يحيا فيه، [13] وهي من هذه الناحية بنية عميقة كامنة في لاوعي الفرد أو هي كما يصفها بورديو بنية مبنيّة (structure structurée)، وبفضل هذه البنية الراسخة في أعماق الفرد وما تعنيه من تخزين لقواعد التفكير والسلوك داخل الحقل الذي ينتمي إليه، يقدر المرء مثلا على قول الشعر وفق السنن والقوانين التي تنظّم القول الشعريّ. وتبعا لذلك، فقواعد القول الشعري هي بنية مبنيّة. أمّا شعر الشاعر إذا أُجيز، فهو بنية بانية (structure structurante)، وقصّة أبي نواس مثال بارز على ذلك، فحين أراد أن يكون شاعرا وجب عليه أوّلا أن يحفظ ألف بيت، ثم وجب عليه ثانيا أن ينسى ما حفظه، فلمّا نسي سُمح له بقول الشعر.

من الواضح إذن أنّ بورديو يفكّر في علاقة الفرد بالحقل الذي ينتمي إليه كما فكّر من قبله علماء التحليل النفسي في علاقة الطفل بالأسرة التي ولد فيها، فكان لابدّ له من أن يستعير من التحليل النفسي ومن لاكان (Lacan) تحديدا مفهوم البيئة (l’ambiance) أو العادة (habitus) وأن ينقله إلى مجال علم الاجتماع ليستعين به على تجاوز التناقض بين المقاربتين الوضعيّة والذاتيّة في فهم العلاقة بين الأفراد والمجتمعات التي يولدون فيها وينمون.[14] وبفضل هذا المفهوم اكتشف بورديو الفرق بين البنيتين المبنيّة والبانية؛ فالأولى توضّح النفوذ الذي يمارسه الحقل الاجتماعي على الأفراد الذين ينتمون إليه، والثانية توضّح قدرة الأفراد على التأثير في ذلك الحقل لإعادة بنائه، سواء بتوسيع حدوده أو بإضافة قيم جديدة إلى رأسماله أو حتّى بابتكار نواميس بديلة عن النواميس القديمة التي كانت تتحكّم في الحقل الاجتماعي وفي الفاعلين فيه.

لقد احتجنا إلى بيان هذه المفاهيم وتبيين جذورها ليسهل علينا إدراك بنية الحقل الدينيّ كما يراها بورديو، وهي مبدئيّا بنية مزدوجة بانية مبنيّة في الوقت نفسه؛ لأنّ الفاعلين في الحقل الدينيّ، أفرادا كانوا أو مؤسّسات، يفكّرون ويتصرّفون بناء على ما ترسّخ في لاوعيهم من سنن ونواميس وعادات، ولكنّهم في الوقت نفسه يمتلكون من القدرات والمهارات ما به يقدرون على إعادة تشكيل الحقل الدينيّ الذي يعملون فيه، وهو ما يمنح هذا الحقل القدرة على التطوّر والاستمرار والتجدّد. فكيف رصد بورديو نظام العمل في الحقل الدينيّ؟

نجد في "تكوين الحقل الدينيّ وبنيته" (Genèse et structure du champ religieux) أفكارا كثيرة حول نظام العمل في الحقل الدّيني بعضها يتعلّق بأوجه العلاقة بين مكوّنات الحقل نفسه وبعضها الآخر بأوجه العلاقة بين الفاعلين في الحقل الدينيّ من جهة، والحقول الاجتماعيّة التي تشترك معه في بناء أنظمة الرمز من جهة أخرى. وبالنظر في مختلف هذه العلاقات التي توسّع بورديو في شرحها والاستدلال عليها بأمثلة من التاريخ الديني العام، يمكن القول إنّ نظام العمل في الحقل الدّينيّ مرتبط بطبيعة ما يسمّيه بورديو جهازا دينيّا (Appareil religieux)، وهو عبارة عن هيئات لإنتاج البضائع الدينيّة وتوزيعها أو لإعادة إنتاجها والمحافظة عليها. مقابل ذلك، يظهر المستهلكون للمنتجات الديّنيّة. فالجهاز الدينيّ يحتكر عمليّة الإنتاج ويضبط مسالك التوزيع وطرائق الاستهلاك، والمستهلكون يستعملون تلك المنتجات بما لديهم من معرفة عمليّة بطرائق استهلاكها. إنّ هذه القسمة في واقع الأمر شكل من أشكال تقسيم العمل الدّيني، حيث نجد من جهة من لهم معرفة عمليّة عموميّة بنظام الاعتقاد ونظام السلوك، ونجد من جهة أخرى من لهم معرفة نظريّة عالمة بأنظمة الاعتقاد والسلوك. وتجري بين الطرفين علاقات شتّى، فالطرف الأوّل يكتسب معرفته العمليّة بالدين عبر تبسيط المعرفة النظرية العالمة، وهذا عمل يختصّ به صنف من أصناف الهيئات المشرفة على إنتاج المعارف الدينيّة وتوزيعها، وهم بالضرورة أقلّ مرتبة في سلّم الجهاز الدّيني، ولكنّهم فوق عموم المستهلكين.

تلك هي بنية الحقل الدينيّ المجرّدة. وتظهر من خلفها أو من تحتها بنيات أخرى تعكس حيويّة الحقل الدينيّ وحدّة الاختلاف فيه. فبظهور فئة قليلة تحتكر الحقيقة الدينيّة وتخفيها، ولا تظهر شيئا منها إلاّ بمقدار، يتمّ إقصاء عدد لا بأس به من العاملين في الحقل الدينيّ سواء كانوا يحوزون معرفة نظريّة عالمة أو معرفة عمليّة عموميّة. أمّا من كانوا من أصحاب المعرفة النظريّة العالمة ولم يعترف لهم الجهاز الدينيّ القائم بمعرفتهم، فسيكونون حتما نواة لتشكيل جهاز دينيّ بديل مهمّته الأساسيّة إنتاج تأويل مختلف وفهم مغاير للحقيقة الدينيّة، وهذا عمل تنهض به في الغالب المدارس الكلاميّة. وأمّا من كانوا من أصحاب المعرفة العمليّة العموميّة، فسيجدون أنفسهم في صميم المعركة بين الجهاز الديني السائد والجهاز الدينيّ المناوئ له وستختلط عليهم السبل، فيميلون شيئا فشيئا إلى بناء نظام اعتقادات وقيم ينهل من كلّ معين ويأخذ من كلّ شيء بطرف بما في ذلك الأساطير، وهذا ما يسمّى عادة بالتديّن الشعبيّ.

نحن إذن أمام حقل دينيّ واحد برأسمال دينيّ مشترك ولكن بأجهزة دينيّة متعدّدة منها المركزيّ، وهو المهيمِن ومنها الهامشيّ، وهو المهيمَن عليه، ومنها المقصيّ خارج حدود الحقل، وهو غير المعترف به. وبهذا الشكل من أشكال الانبناء، يكون الحقل الدينيّ الحقل الأكثر تمثيلا للصراع على الرأسمال الرمزي في الفضاء الاجتماعي، باعتباره الأساس الذي يقوم عليه الأمن المادّي والروحي في كلّ المجتمعات. لذلك، يحتاج الحقل الدينيّ باستمرار إلى أن يعمل في اتجاهين اثنين. أمّا الاتجاه الأوّل، فنحو الدمج (inclusion) لاستيعاب أكثر ما يمكن استيعابه من أشكال النظر والعمل، ولا يتمّ ذلك إلاّ عبر تجديد الخطاب الديني وتوسيع دائرة الفهم، وهذا هو عمل التأويل خاصّة لما يتميّز به من سعي إلى إضفاء قدر من المعقوليّة والمشروعيّة الدينيّة على بعض وجوه النظر والعمل المستجدّة خارج حدود الجهاز الدينيّ المركزي، أو على بعض وجوه النظر والعمل الرسميّة التي لم تعد مناسبة لمجريات الواقع وتحوّلات التاريخ. وأمّا الاتجاه الثاني، فنحو الإقصاء (exclusion) لحماية الرأسمال الدينيّ من التلف، ولا يتمّ ذلك إلاّ عبر رسم حدود واضحة تفصل المقدّس عن المدنّس أو الحقّ عن الباطل، وهذا هو عمل اللاهوت نظريًّا وعمل أفراد الجماعة كلّهم مادّيّا بتجنيدهم للدّفاع عن مقدّساتهم والتضحية في سبيلها.

عملان اثنان في اتّجاهين مختلفين، ولكن من أجل رهان واحد، وهو حماية الرأسمال الديني والعمل على تنميته، وبشروط متشابهة، وهي أن يُفرز الحقل الديني من بين الفاعلين فيه، أفرادا أو مؤسّسات، من يكون مؤهّلا للتعبير عن الحقيقة الدينية المقدّسة بلغة جديدة ومن منظور جديد وهم في العادة زعماء الإصلاح الدّيني المنتصبون، إمّا لإصلاح الجهاز الدينيّ القائم وتنقيته ممّا أصابه من فساد أو جمود، وإمّا لإصلاح أنظمة الاعتقاد والسلوك بتطهيرها ممّا طرأ عليها من انحرافات أو بتعديلها لتناسب ما طرأ على المجتمع من تحوّلات. تلك هي شروط عمليّة الدمج. أمّا عمليّة الإقصاء، فقد تناولها بورديو في مستويين مختلفين؛ إذ نلاحظ أوّلا إقصاء لمن هم في الأصل خارج حدود الحقل الدينيّ، ولكنّهم تسلّلوا إليه ومضوا يعملون باسمه سرًّا، وهم الدجّالون المتاجرون بالدين خدمة لمصالحهم المادّية الخاصّة، وليس أقدر على مواجهتهم من الجهاز الدينيّ القائم لما بين يديه من نفوذ معنوي ومادّي على أفراد الجماعة الدينيّة. والإقصاء الثاني لمن همّ من العاملين في الحقل الدينيّ بنسف رأسماله وهدم أنظمة الاعتقاد والسلوك القائمة وابتداع رأسمال ديني بديل بأنظمة اعتقاد وسلوك مغايرة، وهم في العادة الأنبياء.

إنّ النبيّ، من منظور بورديو بخلفيّاته الفلسفية والسوسيولوجية، لا يمكن أن يكون إلاّ نتيجة اعتراض على نظام عمل الحقل الدينيّ وعلى رأسماله، ولا يمكن أن يظهر، إلاّ إذا بلغت أزمة الحقل الدينيّ ذروتها، ويحدث ذلك حين تُصاب أنظمة الرمز في الفضاء الاجتماعي بالعجز عن بناء تمثّل جديد لمعنى الوجود الإنساني. لذلك تكون النبوّة دائما إعلانا عن ثورة رمزيّة شاملة من داخل الحقل الدينيّ من أجل بناء معنى مختلف للوجود يضادّ المعنى السائد الذي أرسته الطبقات المهيمنة في شتّى الحقول الاجتماعيّة، ويرسي موازين قوى جديدة. ولذلك أيضا، يُتّهم الأنبياء في بداية دعوتهم بأنّهم سحرة أو دجّالون ويلقون مقاومة عنيفة من قِبل جميع الأجهزة الرمزية وفي مقدّمتها الجهاز الديني. وللاستدلال على ذلك قدّم بورديو أمثلة متنوّعة من تاريخ النبوّة، واستخلص منها الشروط اللازمة لكلّ نبوّة، وهي أن يقدّم النبيّ رسالته الجديدة بلغة فصيحة، وأن تنعقد دعوته على ما يحتاج إليه الناس في عصره من أجوبة على أسئلتهم الوجودية الكبرى بعد أن باتت الأجوبة القديمة غير مقنعة نظريّا وغير مجدية عمليّا، وهو ما يتطلّب وعيا عميقا بمطالب المجتمع الروحية والأخلاقية وقدرة على صياغتها في لغة فصيحة يقدرون على فهمها وتقدر على استمالتهم. ولن يكون ذلك متاحا إلاّ لمن حاز ما يكفي من الصفات ليكون شخصيّة كاريزميّة تجلب لنفسها الاحترام والإجلال. وبظهور دعوة النبيّ وانتصارها يختفي حقل دينيّ قديم بكلّ مكوّناته وتسقط أنظمة الاعتقاد والسلوك القديمة وتسقط معها أنظمة الرمز السائدة لينشأ حقل ديني جديد بفاعلين جدد وبرمزية جديدة ولكن بنظام العمل نفسه.

6. تقييم:

لا شكّ في أنّ سوسيولوجيا بورديو قد مكّنت العلوم الإنسانية المعاصرة من مفاهيم جديدة تساعدها على فهم الكثير ممّا يجري في مختلف أشكال الوجود الاجتماعي من ظواهر وعلاقات وما يعتمل فيه من أشكال الصراع. ويجد الباحث في الشأن الديني عند بورديو المفاتيح اللازمة لقراءة الظاهرة الدينيّة بمختلف أبعادها والكشف عن آليّات اشتغالها. ولئن لقيت نظريّات بورديو في الفضاء الاجتماعي بمختلف حقوله وفي الهيمنة بمختلف أشكالها وفي الرأسمال بمختلف أنواعه انتقادات من قِبل بعض زملائه، فقد عدّها الكثير من علماء الاجتماع خاصّة نظريّات ذات جدوى عالية؛ لأنّها مكّنت العلوم الاجتماعيّة من تجاوز الكثير من العقبات، سواء منها العقبات المتعلّقة بالمستويين المادّي والرمزي وأيّهما يقود الآخر، أو العقبات المتعلّقة بما بين الفرد والمجتمع من علاقات تأثير وتأثّر.[15] لقد كانت العلوم الاجتماعيّة الكلاسيكيّة تفكّر في الظواهر الاجتماعيّة على نحو يوهم بانفصال بعضها عن البعض الآخر أو بغلبة بعض منها على غيره من الأبعاد كالقول مثلا إنّ أنماط الإنتاج الاقتصادي تفسّر أنماط العيش والسلوك والتفكير أو العكس. وبفضل مفهوم الفضاء الاجتماعي وما يعنيه من تمثّل للوجود الاجتماعي على أنّه مجموعة حقول متمايزة، ولكنّها متجاورة متشابكة استطاع بورديو أن ينفذ إلى قاع ذلك الوجود، فاكتشف أنّه شبكة حقول تتبادل في ما بينها قيما ورؤى وأدوات عمل وأشكال انتظام، وتنتشر على هذه الشبكة مواقع يشغلها فاعلون يعملون بما تمليه عليهم مواقعهم من مواقف، ولكنّهم يمتلكون من المهارات ما يجعلهم قادرين على إعادة بناء الشبكة وإعادة توزيع العلاقات بين مكوّناتها. وحين نضيف إلى ذلك نظريّة السيطرة يكون الوجود الاجتماعي فضاء تتصارع فيه قوى متعدّدة مادّيّة ورمزية من أجل الهيمنة على مواقعه والتحكّم في مساراته.

الوجود الاجتماعي إذن فضاء اختلافي هيمنيّ تُبنى فيه العلاقات على أساس قوانين الغلبة، والشأن الدينيّ فيه، كغيره من الشؤون العامّة كالسياسة والاقتصاد والثقافة والتربية، يُدار في نطاق موازين القوى. وعلى هذا الأساس، لا يكون الوجود الدينيّ عنده سوى مظهر من مظاهر الوجود الاجتماعيّ، بل هو شكل من عدّة أشكال رمزيّة أخرى تتعاضد في ما بينها لتنتج ما يُسمّى الرأسمال الرمزي الذي به يستمرّ معنى الوجود الاجتماعي. وإذا كان الدين لا يخرج عن كونه نظاما من أنظمة الرمز وما يعنيه ذلك من أنّه نظام لإنتاج المعنى، فهو، من وجهة نظر أخرى، [16] شكل أوّلي من أشكال الوجود الاجتماعي والسياسي المبنيّ على الترابط بين أقوال أفراده وأعمالهم، وهذا ما يجعله تعبيرا عن هوية جماعيّة تتجلّى في أنماط القول والسلوك الموحّدة التي تجعل الأفراد ينصهرون في جماعة متناغمة مندمجة تتمثّل معنى وجودها تمثّلا لا هو بالوهميّ ولا هو بالعقلانيّ، بل وسط بينهما؛ لأنّه في الحقيقة انعكاس للعمل في الذهن يستدعي نظام حدس ينطوي في داخله على نظامين: نظام تأويل ونظام عمل.

وأن يكون الدين شكلا أوّليّا من أشكال الوجود الاجتماعي والسياسي هو غير أن يكون حقلا من حقول الفضاء الاجتماعي. فمن وجهة النظر الأولى، يُفهم الوجود الدينيّ على أنّه البذرة الأولى لكلّ وجود جماعيّ؛ إذ حيث تكون جماعة يكون دين، وهو بهذا المعنى ما به يتكوّن الوجود الاجتماعي؛ إذ لا يُعقل أن نتحدّث عن مجتمع ما لم يكن هناك ما يؤلّف بين أفراده، ويمنحهم الشعور بأنّهم رغم كثرتهم واحد. إنّ هذا الاعتقاد هو تحديدا ما يسبق كلّ شكل من أشكال الوجود الاجتماعي، وهو ما به يكون المجتمع. ومن وجهة النظر الثانية، ينحصر الدين ليكون حقلا من حقول المجتمع دون التفكير في ماهية هذا المجتمع وما به يكون أصلا. لقد أسقط بورديو هذا السؤال الفلسفي من حسابه لا لأنّه مجرّد سؤال ميتافيزيقي فحسب، بل لأنّ علم الاجتماع من وجهة نظره لا يعدو أن يكون طوبولوجيا اجتماعيّة (Topologie sociale)؛ أي إنّه علم لدراسة ما يطرأ على الفضاء الاجتماعي من تحوّلات تمنحه باستمرار صورا وأشكالا مختلفة. لذلك لم يتسنّ لبورديو أن يعتني بأصل الفضاء الاجتماعي أو بشكله الأوّلي وظلّ منشغلا بهذا الفضاء في صورته النهائيّة بعد أن باتت له عُقد (nœuds) وحدود (limites) دون أن يلتفت إلى ما به كانت العُقد والحدود عُقدا وحدودا.

إنّ التفكير في الظاهرة الدينيّة في حدود الظواهر الاجتماعية يُساعد حتما على إدراك ما بين الدين والسياسة والاقتصاد والفنّ من تفاعلات، ويمهّد السبيل لفهم مختلف الوظائف التي ينهض بها، كما أنّ التفكير في الدين في حدود الأنظمة الرمزية يُساعد على فهم المعاني التي يضفيها على الوجود الإنساني. ولكن الاكتفاء بهذا المنظور السوسيولوجي الثقافي سيحجب عنّا أهمّ بعد من أبعاد الدين، وهو أنّ الدين قبل أن يكون ظاهرة اجتماعية أو نظاما رمزيا، إنّما هو الشكل الأوّلي لكلّ أشكال الوجود الإنساني الأخرى، وهو إذن ما يمنح كلّ وجود آخر معنى وجوده.

خاتمة:

لقد تبيّن لنا، بعد النظر في معنى الحقل الدينيّ وبنيته عند بيير بورديو، أنّ للشأن الدينيّ في حدود هذه المقاربة السوسيولوجية الثقافيّة موقعا مستقلاّ في شبكة الفضاء الاجتماعي العام، وأنّه يمتلك، بموجب هذا الموقع الذي يحتلّه وبموجب اعتباره نظاما من أنظمة الرمز، رأسمالا يخصّه وبه ينفصل عن غيره من الحقول الاجتماعيّة، وأنّه يختصّ بجهاز دينيّ يعمل بآليتين اثنتين، وهما آليّة الدمج وآليّة الإقصاء، وأنّ الفاعلين فيه يعملون بما توجبه العادة، وإن كانت لهم القدرة على تكييف مهاراتهم بما يتلاءم مع منطق الحقل الدينيّ نفسه.

ولئن بدت لنا هذه المقاربة من بعض زواياها قديرة على النفاذ بنا إلى عمق الظاهرة الديّنيّة والتعامل معها على أنّها ظاهرة تقع في المستوى الثقافي من مستويات الوجود الاجتماعي، وأنّها تحيا بما يجري فيها من أوجه التفاعل بين مختلف عناصرها، وبينها وبين مكوّنات الفضاء الاجتماعي الأخرى، إلاّ أنّها في اعتقادنا مقاربة لا تتجاوز حدود ما تفرضه العلوم الاجتماعيّة من تصوّرات لمعنى الوجود الاجتماعي مفادها أنّ المجتمع فضاء واسع يتكوّن من جماعات أو فئات أو طبقات متفاوتة تتصارع في ما بينها بأدوات مادّية ورمزية لحيازة منزلة أعلى في سلّم الترتيب ولفرض رؤاها وقيمها على غيرها، وهي من هذا المنظور مقاربة لا يمكن لها أن تفكّر في الشأن الدينيّ إلاّ باعتباره شأنا مساويا لكلّ شأن آخر سواء من حيث هو شكل من الأشكال الرمزية أو من حيث هو حقل يديره جهاز خاصّ ويعمل بنظام ثابت، رغم تغيّر العاملين فيه. ولمّا كان الأمر على نحو ما وصفناه، فقد كان من الضروريّ أن ننبّه إلى ما في هذه المقاربة من تقصير إبستيمولوجي، رغم كلّ ما فيها من الجدوى المنهجيّة؛ إذ الوجود الدينيّ أبعد من أن يكون شكلا من أشكال الرمز، وأعمق من أن يكون حقلا من جملة حقول أخرى؛ لأنّه الشكل الأوّلي لكلّ أشكال الوجود الإنساني. ولذلك، يقتضي فهمه الذهاب إلى ما بعد السوسيولوجيا، وإن كانت طوبولوجيا كما أراد لها بورديو أن تكون.

 

المصادر والمراجع:

- Andras (Zempléni), à propos de « la construction religieuse du territoire », in: journal des africanistes, 1996, tome 66, fascicule 1 – 2, pp: 335 – 340

- Bonnewitz (Patrice), Premières leçons sur la sociologie de P. Bourdieu, Presses Universitaires de France, 2002, pp: 43 – 44

- Bourdieu (Pierre):

  • Espace social et genèse des "classes". In: Actes de la recherche en sciences sociales. Vol. 52-53, juin 1984
  • Genèse et structure du champ religieux. In: Revue française de sociologie, 1971. pp. 295-334
  • Stratégies de reproduction et modes de dominations. Actes de la recherche en sciences sociales, vol 105, décembre 1994, pp: 3 – 12

- Bourdieu (Pierre), avec Loïc J. D. Wacquant, Réponses. Pour une anthropologie réflexive, Le Seuil, Paris,

- Campiche (Roland), une approche sociologique du champ religieux, in: Revue de théologie et de philosophie, 120 (1988), pp: 123 - 136

- Clasters (Pierre), Archéologie de la violence, Édition numérique réalisée en août 2012 à partir de l’édition paru au éditions de l’Aube, 1999

- Debray (Régis), Critique de la raison politique ou l’inconscient religieux, Gallimard, 1981

- Dortier (Jean- François), les idées pures n’existent pas, in: Sciences Humaines, hors séries N°15, février- mars, 2012. (Ouverture).

- Le Bot (Jean-Michel), l'habitus entre sujet et personne. Presses universitaires de Rennes, 2000, pp.57-78

-Racine Jean-Bernard, Walther Olivier. « Géographie et religions: une approche territoriale du religieux et du sacré. » In: L'information géographique, volume 67, n°3, 2003, pp: 193 – 221

[1]. Zempléni Andras, « à propos de la construction religieuse du territoire », in: journal des africanistes, 1996, tome 66, fascicule 1 – 2, pp: 335 – 340

[2]. المرجع نفسه.

[3]. Bourdieu Pierre, espace social et genèse des "classes". In: Actes de la recherche en sciences sociales. Vol. 52-53, juin 1984. pp. 3-14

[4]. Bourdieu Pierre, avec Loïc J. D. Wacquant, Réponses. Pour une anthropologie réflexive, Paris, Le Seuil p: 72

[5].Bonnewitz Patrice, Premières leçons sur la sociologie de P. Bourdieu, Presses Universitaires de France, 2002, pp: 43 – 44

[6]. Bonnewitz Patrice, p: 52

[7]. Bourdieu Pierre, Stratégies de reproduction et modes de dominations. Actes de la recherche en sciences sociales, vol 105, décembre 1994, pp: 3 – 12

[8]. Bourdieu Pierre. Genèse et structure du champ religieux. In: Revue française de sociologie, 1971, 12-3. pp. 295-334

[9]. Claudette Lafaye, Sociologie des organisations, Paris, Nathan, 1996, pp: 97 -98

[10]

[11]. Campiche Roland, une approche sociologique du champ religieux, in: Revue de théologie et de philosophie, 120 (1988), pp: 123 -136.

[12]. Bourdieu Pierre. Genèse et structure du champ religieux.

[13]. Jean- François Dortier, les idées pures n’existent pas, in: Sciences Humaines, hors séries N°15, février- mars, 2012

[14]. للتّوسّع في هذه الفكرة انظر:

Jean-Michel Le Bot. l'habitus entre sujet et personne. Presses universitaires de Rennes, 2000, pp.57-78

https://halshs.archives-ouvertes.fr/halshs-00007168

[15]للتوسّع في ما تعرّضت له سوسيولوجيا بورديو من انتقادات انظر:

Patrice Bonnewitz, Premières leçons sur La sociologie de Pierre Bourdieu, Presses Universitaires de France, 1998, pp: 115 -122

[16]. Régis Debray, Critique de la raison politique ou l’inconscient religieux, Gallimard, 1981, p: 178- 180