مفهوم الخروج من الدين
فئة : مقالات
مفهوم الخروج من الدين
في فلسفة مارسيل غوشي
سمية رطبي
« sortie de la religion ne signifie pas sortie de la
croyance religieuse, mais sortie d’un monde ou
la religion est structurante, ou elle commande
la forme politique des sociétés et où elle d »finit
l’économie du lien social »[1]
لا يمكن فصل مفهوم الخروج من الدين sortie de la religion عن سياق تعريف العلمانية الذي يرنو إليه مرسيل غوشي، وهو مفهوم يعود للتقليد الفيبري[2]؛ أي عندما تحدث عنه ماكس فيبر في كتابه "نزع الطابع السحري عن العالم" في مجال اهتمامه بسوسيولوجيا الأديان.
إلا أن فيبر اكتفى بالمعنى التقني من المفهوم؛ أي إنه قصد به القطع مع الدين كتقنية ووسيلة للخلاص، في حين أن مرسيل غوشي سيذهب بالمفهوم إلى أقصى مداه، إذ لا يعتبر الخروج من الدين، هو التخلي عن الدين أو الإله والكفر بوجوده، كما قد يتبادر إلى ذهن قارئ المفهوم لأول مرة، بل يعني به، إبعاد الدين، باعتباره ناظما للعلاقات السياسية والاجتماعية، ومتحكما فيها، حيث نجعل أمور الدين في درجة أخرى غير درجة السياسة الاجتماعية، والمسائل التي تربط بين الناس.
وكما نلمس الحضور الوازن لمعنى نزع الطابع السحري عن العالم، المقترن بمفهوم الخروج من الدين في الإنتاج الفكري لنيتشه، حيث يقدم لنا هذا الأخير السماء فارغة على عروشها بعد موت الإله، دون أن نغفل الإسهامات الأساسية التي قام بها المهتمون بالعلوم كمجال للبحث، وكمنهج لمقاربة الواقع، وفهم العالم وفق مبدأ الموضوعية بعيدا كل البعد عن الذاتية، والارتباط الديني.[3]
معنى الخروج من الدين
فالخروج من الدين، ليس إبعادا للدين، وتنحيته جانبا وكفى، بل هو وقْع وحدث يُحوِّلُ ويُغير نمط الدين نفسه، من داخل جوهره الأصلي وبنيته الداخلية، لذلك طعن مارسيل غوشي في القدرة التفسيرية لمفهوم كل من laïcisation و sécularisation؛ لأنهما لا يستطيعان إدراك هذا التحول. إنه يصف هذا التحول، كسيرورة تنتقل من الدين La religion كنظام، إلى الديني religieux le كتمظهر وتجلي لهذا النظام؛ ذلك أن تمظهر الديني لا علاقة له بالدين في جوهره وكنهه[4].
ويرى مرسيل غوشي أن المجتمعات التي نجحت في أن تخرج من نظام الدين، جعلته جزءا من البنية الفوقية superstructure بما تشمل من ثقافة، وقوانين، وموسيقى وفن.. بمعنى حصره في المجال الخاص فقط دون أن يشغل مكانة بارزة في الحياة العامة للأفراد. وهذا عكس المجتمعات السابقة للمرحلة الحديثة، إذ كان للديني دور محوري داخلها، إذ هو الذي يلعب دورا تنظيميا في حياة الناس وشؤونهم الاجتماعية والاقتصادية؛ أي إنه كان ينتمي للبنية التحتية الاجتماعية infrastructure[5].
ونلاحظ أن مفكرنا استعان بالمفاهيم الماركسية لشرح هذا التغيير الذي حصل؛ إذ كان الدين هو الركيزة والأساس المتين في تشكيل نمط عيش الأفراد وسلوكهم، لكن بعد الثورة على النظام الملكي، الذي يستمد شرعيته من السماء، وتنزيل إرادة الأفراد، غذا له دور آخر ثانوي، إذ أصبح جزءا من معادلة أخرى؛ أي جزءا من وعيهم الخاص وحياتهم الفردانية، على غرار الموسيقى والفن، ونظم العادات والتقاليد التي قد تحكم جماعة معينة.
لكن مارسيل غوشي يركز على ضرورة الرجوع بعجلة التاريخ إلى الوراء، وبالتحديد إلى حقبة تميزت بولادة ديانة جديدة ستقلب تاريخ الدين رأسا على عقب، يتعلق الأمر بالمسيحية.
المسيحية: دين الخروج من الدين
يعتبر مارسيل غوشي بزوغ الديانات التوحيدية مرحلة أساسية من مراحل التحولات الكبرى التي شهدها الميدان الديني، والتي أحدثت بدورها على حد تعبيره تعديلات مهمة في نمط التنظيم في المجتمع البشري.
إن المسيحية بالنسبة إليه تشكل ثورة بكل المقاييس؛ فهي دين الخروج من الدين، إذ تُشكل أهم مستجد في المسار الذي اتخذته الإنسانية، في طريقها إلى الفصل النهائي والقطعي بين الدين والسياسة.
ويَعتبر الدين المسيحي قطيعة جذرية لسببين أساسين؛ أولا فهي التي أحدثت تمفصلا جذريا في مرحلة العصر المحوري l’Age axial، وخصوصا في علاقتها مع اليهودية، التي تعتبر الرحم الذي انبثقت منه، ومن ناحية أخرى هذا الدين اعتبره مارسيل غوشي دين الخروج من الدين بتقديمه للشرط الأساسي لذلك، والمتمثل في اندماج المرئي باللامرئي والتحاق الأصل بالآني، وما إلى ذلك من الميادين التي كانت متناقضة ومفصول بعضها عن بعض فصلا تاما.[6]
وتشكل القطيعة التي شهدتها المسيحية في علاقتها مع اليهودية، استمرارا لهذه الأخيرة باستكمالها لفكرة المُنتظر المُنقد Le messianisme، والذي لعب دوره المسيح. إن هذه الفكرة بحد ذاتها لتُمثل حدثا- قطيعة؛ إذ إن المسيح رغم اعتباره المنقذ المُنتظر، إلا أنه كما سماه مارسيل غوشي المسيح المقلوب messie à l’envers، فهو خلافا لسابقيه من الأنبياء والرسل، لا يعلن النصر المحتوم والمنشود على محتل، ولا يجابه ظالما، ولا يحارب أو يؤسس جيشا.
إن المسيح توحيد للإلهي والإنساني، لا يحارب إلا بسلاح الحب، هو ملك لكن مملكته ليست في هذا العالم، عكس ذلك المُنتظر من طرف اليهود، الذي يعتبرونه ملكا للعالمين يحتل أعلى الهرم البشري، غير أن عيسى المسيح اتخذ موضعا مقلوبا هنا والآن على الأرض، فحتى مصيره لم يعد قهر أعدائه والنصر عليهم، لكنه اتجه صوب موته المحتوم مفتوحا العينين فاغر الفم[7].
يتعلق الأمر إذن حسب مارسيل غوشي بقلب للموقف والموقع، الذي أحدث شرخا كبيرا في بنية العقيدة، وسبّب تغيرات مشهودة على مستوى المذهب قاطبة.
ترتكز هذه القطيعة التي شكلتها المسيحية على عدة مرتكزات، أحاطها مارسيل غوشي باهتمامه، وسلط عليها الأضواء اللازمة لتبيان مدى أهميتها، في تاريخ الاجتماع البشري، وفي ما ستخلفه من آثار مستقبلية قد تصل إلى عصرنا هذا.
فالقطيعة المسيحية تنبني على عقيدة مختلفة تماما، عن سابقاتها من العقائد التي تتمثل في التجسيد، وعلى شعور نراه في الإيمان، وعلى جهاز بيروقراطي يتجسد في المؤسسة الدينية والأدوار التي تلعبها، وعلى وساطة سياسية محضة هي الملك بصفته حاكما مجسدا souverain incantateur.[8]
إن التجسيد عقيدة غيرت التاريخ السياسي للدين وزلزلته، إذ به تَوحد الإلهي مع الإنساني، وتحالف السماوي مع الأرضي واندمج الظاهر بالخفي، وتزاوج الماضي بالحاضر وتوج الثاني كأولوية.
إن هذا الحضور للإله في الأرض في هيئة بشرية، أعطى قيمة مضافة للأرضي، وعبّر عن اعتراف صريح بكرامة الأرض والإنسان، وإن هذا المرور من دِين بَرّانية الإله إلى دين حُضوره، أحدث تغيرات في رؤية الإنسان لنفسه، وللعالم، ولنمط تنظيم وجوده الذي يقتضي ـ كشرط أساسي ـ العيش في كنف المجتمع[9].
وبالتالي يمكن الحديث في هذا الصدد عن شرعنة لاستقلالية البشر في شؤونهم، وفي هيكلتهم لمجتمعهم، الأمر الذي فتح أبواب الحداثة الديمقراطية، وجعل الدخول إليها ممكنا، عبر إضفاء القيمة على المجال البشري، الذي أصبح التحكم فيه ممكنا نتيجة لبرانية الإلهي القصوى.
من الدين الخروج من الدين، إلى استقلالية الإنسان
لقد مرّ المجتمع الغربي عبر عدة مراحل قبل دخوله إلى عصر الدولة الحديثة، وقبل أن تبرز هذه الأخيرة، بالوجه الذي نعرفها به الآن، وبالوظائف التي أصبحت تشغلها في قلب هذه المجتمعات.
يركز مارسيل غوشي على سيرورة تاريخية، عرفت ثلاث مراحل رئيسة: تتلخص في عبارة من الدين الخروج من الدين، إلى استقلالية الإنسان دون غض الطرف عن ما رافق هذا المرور، من تغيرات جذرية، استهدفت العالم كله من تحديد معناه، إلى اختيار نمط تنظيمه وهيكلته.
وأولى هذه المراحل هي ما سماه مارسيل غوشي بثورة السياسي الدينية؛ وقد بدأت في نظره حوالي 1500 لتغطي القرن السادس العشر برمته، وخصوصا مع الإصلاح البروتستانتي، ومع انبثاق الدولة بصورتها الحديثة؛ كمفهوم وكسبب لوجودها بذاتها، انطلاقا من هذه الحقبة أضحى للدولة سيادة مطلقة، تمكنها من التحكم في كل الشؤون بما فيها علاقة الإنسان مع الله[10].
لقد تَقوّت الدولة وزاد نفوذها في هذه المرحلة رغم كونها تعود إلى ثلاثة آلاف عام قبل ولادة المسيح، إذ في خضم القرن السادس عشر ولد مَفهُومُها وتَصوُرها، لتعرف زمن الأوج في القرن المُوالي في إطار ما يسمى بدولة الحق الإلهي، التي جعلت العلاقة بين الملك والله علاقة مباشرة، وفي منزلة أعلى من الوساطة الكنسية.
إن كل هذه الأمور جعلت الدولة جهازا قويا ومتينا، قادر على ضمان السلم والتماسك الاجتماعيين، في فترة بلغت التمزقات والتطاحنات أوجها، وظهرت الانقسامات الدامية بوضوح، من خلال الحروب الدينية التي ميزت هذه الحقبة.
أما المحطة الثانية في هذه السيرورة، فهي الثورة التي شهدها السياسي على المستوى القانوني، فبعد الخروج من المرحلة الأولى، حيث برزت فكرة الدولة الجبارة ذات النفوذ الواسع، انبلج إشكال كبير، تمثل في شرعنة النظام السياسي الجديد، والجدير بالإشارة أن فلاسفة العقد الاجتماعي ركزوا على ضرورة أن يكون هذا الأخير نابعا من الأسفل؛ أي من الإنسان إلى الإنسان، وحافظا على الحقوق الذاتية للأفراد، ومستمدا قوته من مشاركة الجميع، في تأسيسه وفق منطق التعاقد وفكرة الحق الطبيعي[11].
وهكذا أصبحت السلطة التي كان هدفها الأسمى إخضاع الرعايا إلى معايير خارجية، أصبحت تسعى إلى ضمان تناسق النسيج الاجتماعي والتئام أجزائه الفردية.
أما ما لحق موجة الحق الطبيعي التي تُوجت بالثورات الحديثة، فليست إلا المرحلة الأخيرة من الصيرورة التاريخية، التي أدت حسب مارسيل غوشي إلى استقلالية المجتمعات الحديثة، ويتعلق الأمر بانبثاق التاريخ كفكرة، ونمط فريد من فهم هذا الأخير، نمط يتمركز أساسا على تنظيم الاجتماع البشري تنظيما عمليا، يرنو إلى التغيير والتقدم.[12]
وكنتاج لذلك، ظهرت مجتمعات يؤكد مارسيل غوشي أنها أنتجت نفسها، عِوض المجتمعات التي كانت تتحدد من طرف آخر غيري ما فوق طبيعي- بشري. عموما، وبعد الفصل الذي فرض نفسه بين الدولة والمجتمع المدني، أصبح هذا الأخير بوتقة تاريخانية، مما أدى إلى تقويته، وإلى نتائج كبيرة أهمها في نظر مفكرنا، هو ظهور الفردانية وتمهيد الطريق للدخول إلى عصر الليبرالية.
تمفصل بين الماضي والحاضر
إنها نقطة تحول وتمفصل بين الماضي والحاضر؛ كان أساس السلطة يفرض شرعيته من الله، من السماء ليرسخ التبعية في النظام الملكي، كنظام مطلق لا جدال فيه، وهكذا تتجذر التبعية في كل فروع المجتمع ومسالكه، لكن الثورات الحديثة، أعادتها إلى الأرض، وجعلت إرادة البشر هي أساس كل سلطة، فقد استتب الوعي بالتغيير، وأبرز تمظهره في سلطة منبعها متجذر من الأسفل، يقول مارسيل غوشي « Il incarnait ce qui nous dépasse ;il ne sera plus que le délégué de nos ambitions »[13] كانت السلطة تفرض نفسها من فوق إرادة المواطنين، لكن التحول الذي حصل جعلها تتخطى تلك القيود القديمة، لتصبح مُمثلة لرغبة الأفراد ورُآهم وإرادتهم الخاصة.
فقد خرجنا من التمثيل بواسطة الملكية لسلطة المطلق، إلى السلطة التي تمثيل نفسها بنفسها، دون إملاءات خارجية؛ فهي أضحت تعبر عن المجتمع ذاته، هنا سيادة روح النقد والفحص، والرؤية الممتدة إلى المستقبل؛ لأن ما يهم هو الاتجاه المقصود وليس التطلع للنمط الفكري القديم، فقد ثم إحلال المؤسسة العقلانية محل الهيبة الفائقة للطبيعة والايمان بالقدرات البشرية. [14]
ستجد الدولة نفسها مجبرة طوعا أو كرها على الانخراط في هذه الموجة التقدمية الهائلة، كيف لا تنضم إلى هذا العمل الجماعي المتميز من لدن الأفراد، ووظيفتها الأساس تتركز في الاهتمام بالمصلحة العامة وتدبير شؤونها، ودعم صرخات العقل المدوية، وثماره التي غذت متناثرة في كل مناحي الحياة العامة، فما عليها إلا أن تشمر على ساعديها، وتُنزّل قدراتها لخدمة التنوير.
قد يقول قائل إن هذه المهمة الجديدة التي وكلت للدولة، قد تخلق مبدأ سلطة مطلقة جديدة في حلة مختلفة، وهذا ممكن جدا لكن الإيمان بالتغيير وجب أن يكون مرفوق بإيمان الدولة نفسه؛ أي دولة جديدة تضع نصب أعينها مسار التقدم والحرية، مستعينة بمبادئ العقل وحدها، إن هذا المسار هو الذي ذهبت فيه فرنسا.[15]
ربما كانت السلطة السيدة تستمد شرعيتها من قُوتها، وثِقتها بالقوانين التي سنّتها، لكن سلطة الدولة الجديدة تأخذ إيمانها بالقوانين إلى أبعد الحدود، لتجعل قانون العقل شيء عام؛ فهي لا تحتكره لوحدها، بل ستعمل على تقاسمه مع الجميع، حتى يشعر كل واحد منهم بأنه يشارك تلك القواعد والقوانين بإرادته، يقول مارسيل غوشي: "بكلمة واحدة إن سياسية التقدم تجعل مبدأ السيادة قابلا لأن يتملكه المجتمع المحلي التي تديره ... إنه تحقيق العقل في القضايا البشرية وأعمالها"[16]. وقدرة الجماعة على تشكيل نفسها ساعد على تسريع وثيرة جديدة للخروج من الدين في سنة ألفين، بعد أن استطاعت خلق أدوات جديدة لتكريس استقلاليتها وحكمها الذاتي، الذي نضجت ثماره على طول قرن من الزمان، وإنها عملية متبادلة؛ إذ إن التحرر من الإطار الديني شكل نقطة ارتكاز أساسية، للدفع بمسألة السيادة إلى الأمام[17].
ويُعبِّر مفهوم الخروج من الدين عن حدث بارز يتمثل في ظهور الدولة الحديثة، التي تقر بالديمقراطية، وهو البروز الثاني في تاريخ الإنسانية، بعد ظهور الدولة في صيغتها الأولى التي عرفناها لأكثر من 1500 سنة[18].
كما يشير فيلسوفنا إلى أن هذا التحول ليس حدثا وقع وولى، بل هو سيرورة لازالت مستمرة إلى اليوم؛ ذلك أن المنسوب الديني في طريق التراجع والاضمحلال، وما يفتأ يصيب انتساب الأفراد إلى الكنائس، ودور هذه الأخيرة في الحياة الشخصية للناس.
وبالتالي انهيار صرح العبادات المنتظم، وتناقص العظات الدينية والإرشادات الربانية، ولم يعد للمؤسسات الكنسية أدنى دور في تحديد قواعد الإيمان ولا أركان العقيدة، فما بالك بفرضها، رغم إرادة الأفراد وخيراتهم، وتبعا لهذا فهي قد أضحت بعيدة كل البعد عن الشأن السياسي، والسلوك الأخلاقي للجماعات، إن الخروج من الدين جعل من المعتقد مسألة شخصية محضة، لا تخص سوى الفرد نفسه، فهو وحده له القدرة على تدبيرها وتنظيمها[19].
عندما نتحدث عن العلمانية كانفصال بين مجالين مختلفين، وجب أن نسلم بتداخلهما واندماجهما في ما سلف، وهذا لا يعني أن نفهم أنه تداخل عادل ومتساوي، والحق أن ميلاد الدولة الحديثة وظهورها، كدولة ذات نظم وقوانين منبعها الأفراد الواعين، كان أمرا صعبا وعسيرا، وغير ممكن دون تحول وتغير جذري في الخطاب الديني، مقارنة مع شكله البدائي، وهذا ما يؤكده مارسيل غوشي بناء على رصده وتحليليه، لعلاقة الدين بالدولة، ولا يجب أن نفهم من هذا في منظوره، أن التحولات التي قد تطرأ على الدين هي السبب، الذي أدى إلى بروز الدولة، لكن نقصد بذلك، أن نمط جديد من التنظيم الاجتماعي، وتحديد أهداف وغايات الجماعة، قد أحدث إعادة الصياغة في الما وراء[20].
لكن من جهة أخرى، وجب أن ننتبه إلى أن اكتمال قوام الدولة، أمر غير وارد، إلا في حالة ما قمنا بتصفية الدين « pas d’accomplissement de l’état sans liquidation de la religion »[21] فإذا كانت الدول الأولى تجد جذورها في الدين، فإن المنطق الداخلي، لِتُطَور الدولة قوتها، هو أن تقطع أية صلة وتهدم أي إسناد، أو اتكاء للمجتمع على ما لا ينبع من داخله، فأساس ازدهار الدولة هو مجتمعها نفسه، وهذا هو معنى الخروج من الدين، بمعنى إبعاد الدين عن التنظيم المجتمعي، ليكون تنظيما قوامه ارادة الأفراد انفسهم.
ففي كل الوقت الذي كانت سلطة الدولة تقدم نفسها، باعتبارها ممثل ووكيل لسلطة أخرى، هي السلطة الإلهية، فإن مهمتها لا يمكن أن تتجاوز نشر الفضيلة التي تحملها وتشكلها، وهنا ينحصر دورها، وتبقى كل قدرتها، وغاية وجودها الدائم مستمدة من الخارج، بناء عليه يمكنها أن تقدم فهما، أو تبرر وضعية من الوضعيات، أو تحدد تنظيم اجتماعي على شاكلة من الشاكلات.
إن مارسيل غوشي هنا يتحدث عن الدولة التي ظلت لعدة قرون تستمد أساس تنظيمها من الحق الإلهي، حيث لا يكون الملك في هذه الحالة سوى وكيل من الله على الأرض، دون أن يعير الاعتبار لإرادة المواطنين، ولا مصلحتهم الداخلية، فكل شيء منزل، وبالتالي، وجب أن يطبق كما اقترح هذا الوكيل[22].
ويعتبر فهم سيرورة الخروج من الدين مفتاحا لفك رموز كل التغيرات الكبيرة التي شهدها العالم في مرحلة الحداثة وما بعدها. وإن السؤال الذي طرح نفسه ولازال هو كيفية تمحيص منظومات الاختلاف والهوية والتفكير في الأسس التي تتمركز عليها.
فإذا ما أمعنا النظر في هذه الحقبة التي أراد غوشي تسليط الضوء عليها نجد أنها حقبة لا يمكن فهمها إلا بالرجوع إلى ما فات من أحداث تاريخية فعلت فعلها، وأحدثت تغيرات مفاهيمية ذات وطأة كبيرة، وذات تأثيرات بارزة قلبت بنية العالم رأسا على عقب[23].
فالسر ـ كل السر ـ لا يكمن في تحكم جزء في الكل ولا في جرف منظومة تحتية للمنظومة الكلية، ولا في ديكتاتورية خفية، تمارسها بنية تحتية معينة على البنيات الفوقية، بل يتعلق الأمر بتبيان كيف تَحول الاقتصاد مع تحول الكل، بنسبة معادلة له.
وانطلاقا من التحولات التي شهدها مع العلم بأنه يحتل موقعا استراتيجيا يزداد أهمية، ويمارس تأثيرات لا مناص منها عن الكل، يجب فهم الدخول إلى الحداثة وما بعدها مع كل ما حملته من ثورات بنيوية ومفاهيمية، أبرزها تبدل أوجه الديمقراطية، وما أصبحت تحمله من دلالات منافية لما كانت عليه، بعدما ثم الدفع بها إلى أوجها[24].
كل هذا لن يتم حسب مارسيل غوشي إلا بالعودة إلى سيرورة الخروج من الدين، وإعادة تعريف مفهوم الحداثة في ظله، وإعادة وزن ما كان يعنيه الدين في وجود المجتمعات، الأمر الذي سيمكن في نظره من فهم الانجرافات التي شهدها الإنسان، وهي تجري تحت أقدامه في حقبة مارست عليه كل الحقب تأثيراتها المتعددة، حيث لم يكن له إلا أن يقبل بثقل التاريخ والماضي، وتجارب الأولين [25].
زبدة القول، إن ما حدث سيمكننا من فهم ما يَحدُثُ الآن، ومن استشراف ما قد يقع مستقبلا، خصوصا إن كان هذا الذي وقع في الماضي، وإن كان بعيدا نسبيا، قطيعة مع شكل ساد وسيطر لقرون طويلة، وعدّ المنبع الأساسي لتنظيم الاجتماع البشري، والمشرعن الوحيد للهيمنة والمحدد الأوحد لمعنى وجود الإنسان ألا وهو الدين.
من التبعية إلى الاستقلالية
يتميز الاعتقاد الديني بارتباطه الوثيق بزمن الماضي، لدرجة يمكن القول إنه يرزح تحت سلطته، ويجعل العالم مدينا لقوى خفية ما فوق بشرية extrahumaines، في رسم سماته وتحديد معناه، وتبيان مكانة الإنسان فيه. لقد كان العالم مبنيا على ما سماه مارسيل غوشي بالتبعية L’hétéronomie، وهي ليست سوى تدخل الدين في انتظام المجتمعات البشرية، على أساس أن الناس لا دخل لهم في ما يعيشونه؛ لأنه قد وُضع وفُرض من السماء، وعلينا أن ننقله إلى الأجيال المقبلة، كما تلقيناه نحن من عند أجدادنا[26].
في مقابل الاعتقاد السياسي الذي يوحي إلى المستقبل، إلى عالم نال استقلاليته ، وأصبح يسوس نفسه بنفسه انطلاقا من إرادته هو، دون ما العودة إلى مصدر التبعية، وهو زمن عرف كل المجتمعات على أساس أنها نسبية ويعتريها التغير والصيرورة، وغذونا بصدد مجتمع يسلم بهذه التعددية وهذه السيرورة، وهذا التسليم يأتي في سياق الوعي التاريخي بالطابع المنتج للصيرورة producteur du devenir[27].
تهاوى النسق القديم بتحويل بوصلة الزمان من الماضي صوب المستقبل، نظريا وعمليا pratique et théorique كما شدد مارسيل على هذا، أمسى المجتمع الجديد يتوق إلى التّكون الذاتي تدريجيا، ويسعى إلى تنظيم إنتاجه الخاص، ومصدرا لمنبع لا ينضب من الإبداع، بعيدا كل البعد عن ما يسمى بالتنظيم ديني، وأصبحت الحكومة الحقيقية هي التي تحقق حاجات المجتمع وتسهر على خدمتها؛ أي الحكومة الليبرالية التمثيلية تحترم اختلاف المجتمع وتعدديته، كمختبر خلاق[28].
هنا تصنع سياسية جديدة، تربط بين المجتمع والحكومة، وتتلاءم مع حاجة الشأن العام.
وبالتالي يكفي أن نشير إلى انسدال الدين وخروجه من التنظيم الاجتماعي للأفراد، حتى يصفو المكان لقدرة الأفراد وأنشطتهم الفردية نحو القادم، والجرأة على فك لغز المستقبل، وإبداد غموضه وعتمته.
فقد تم التخلص من أنماط التفكير القديم، ونهاية نوع بعينه من حضور الدين في المجال العام، وتشارلز تايلر يلح أن ما انتهى ليس هو الدين بشكل عام، بل فقط شكل من أشكاله، هذا الشكل الذي كان من الصعب تخيل أو فهم سلطة سياسية، أو بعض الفاعليات العامة، من دون ردها وربطها بالله، لقد تم الحسم معه، ليبزغ فهم جديد للحياة الاجتماعية منظور لها من زاوية علمانية شديدة الارتباط بعالمنا الدنيوي، لكن هذا حدث دون أن ينتهي الدين بشكل عام؛ لأن أنواع الإيمان ظلت راسخة في قلوب المؤمنين والمعتقدين، إذن فقد فتح للدين حيزا جديدا في الحياة العامة.[29]
[1] Marcel Gauchet, La religion dans la démocratie, Gallimard, 1998; p 12
[2] نسبة إلى ماكس فيبر
[3] André Cloots, « Marcel Ghauchet et le désenchantement du monde. La place significative de la religion dans les transformations de la culture occidentale » (La démocratie à Bout de souffle ? une introduction critique à la philosophie politique de Marcel Gauchet), édité par Antoon Braeckman, Peeters, 2007, p, 30
[4] Marcel Gauchet, La religion dans la démocratie, p, p, 17, 18.
[5] Ibid, P, 13.
[6] Olivier Bobineau, Le religieux et le politique, suivi de Douze réponses de Marcel Gauchet, Desclée de Brouwer, 2010, p, 66
[7] ibid, p, 67
[8] Marcel Ghauchet, désenchantement du monde, une histoire politique de la religion, Gallimard, 1985. p, 156
[9] Olivier Bobineau, Le religieux et le politique, p, 71
[10] ibid, p, 80
[11] ibid, p, 84
[12] Olivier Bobineau, « Le religieux et le politique », p, 90
[13] Marcel Gauchet, La religion dans la démocratie, P, 15.
[14] مارسيل غوشيه، "نشأة الديموقراطية، الجزء الأول الثورة الحديثة"، ص،89
[15] نفس المصدر.
[16] نفس المصدر، ص، 90
[17] مارسيل غوشي: نشأة الديموقراطية، الجزء الأول الثورة الحديثة، ص، 30
[18] Marcel Gauchet, La condition politique, tel Gallimard, 2005. p, 17
[19] ibid, p, 21-22
[20] ibid. p, 85
[21] ibid
[22] ibid, p 86
[23] Marcel Gauchet, La démocratie contre elle-même, Gallimard, 2002, p, p, 14, 15.
[24] ibid.
[25] ibid.
[26] ibid, p, 93
[27] ibid.
[28] ibid, p, 96
[29] تشارلز تايلر، المتخيّلات الاجتماعية الحديثة، ترجمة الحارث النبهان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، بيروت 2015ص ص، 211-212