مفهوم السلطة في الفكر السياسيّ الغربيّ بين الفترتين الإغريقيّة والمسيحيّة
فئة : مقالات
يعد مفهوم السلطة واحدًا من المفاهيم النّظريّة ذات الصلاحيّة لتفسير ظاهرة الدولة؛ فثمّة شبه إجماع بين علماء الاجتماع السياسيّ على اعتبار الدولة ظاهرة سلطة أساسًا، وهي أعلى درجات تجريد السلطة السياسيّة من هذا المنظور العلميّ، حسب عبارة برتراند دو جوفنال. ويستدعي التقرير السابق تقريرًا ثانيًا لتفسير ظاهرة الدولة، يملك القدر نفسه من الصلاحيّة، ومؤدّاه أنّ مفهوم السلطة في الفكر الغربيّ، شأنه شأن بقيّة مفاهيمه السياسيّة، ارتبط برؤية الإنسان الغربيّ للكون، وبمسار تطوّرها؛ أي رؤية الإنسان التاريخي.
وتمكّن مقاربة التقريرين من منظور تاريخ الأفكار السياسيّة الذي يعدّ الفرنسيّ جان جاك شوفالييه من أبرز مؤسّسيه، من القول إنّ مفهوم السلطة خلاصة سيرورة تاريخيّة، شدّت مدلولاته التاريخيّة المتراكمة بعضها بعضا، ضمن أفق تاريخيّ قار موجّه للفكر الغربيّ برمّته، منذ أصوله اليونانيّة وصولاً إلى ابتكاره للشكل السياسي لتنظيم السلطة المسمّى دولة.
قد تثار في وجه تحديد القيمة الممثّلة لهذا الأفق شتّى الاحتجاجات التأويليّة للتاريخ، إلاّ أنّ ذلك لا يحجب الأهميّة التفسيريّة للتاريخ الغربيّ، للتأكيد الغربيّ على أنّ الأفق الذي شدّ تشكّل مفهوم السلطة في الفكر الغربيّ هو أفق الحريّة.
ومن المعلوم أنّ هذا الحكم قد يجد مستنداته في مركزيّة مفهوم الحريّة في السلف الإغريقي لهذا الفكر، بمدلوله الموافق لزمانيّة الحضارة الإغريقيّة، ولكنّ الاتّفاق الحاصل بين أبرز المفكّرين الغربيين المتخصّصين في ظاهرة الدولة، قد يمثّل حجّة تمدّه بدرجة عالية من السلطة كذلك. وفي هذا السياق، تترافد تصريحات جورج بوردو، وفيليب برو، وجون كاسيان بيليي، لتؤسّس لهذا الرّأي قدرًا ممكنًا من المشروعيّة. وفي هذا الإطار، يقول جورج بوردو: إنّ تاريخ السلطة في المجال الغربي هو تاريخ سعي إلى إزالة الشخصنة (dépersonnalisation) أدّى إلى سعي موازٍ إلى مأسستها، وبلغ ذلك قمّته في الدولة.
لا يختلف هذا التقرير عن نظير له في حديث فيليب برو عن أربعة تحوّلات كبرى في مسار تطوّر مفهوم السلطة، انشدّت في نظره إلى مأسسة السلطة وعلمنتها. أمّا جون كاسيان بيليي، فيؤكّد من جهته أنّ القيمة المحرّكة لهذه المأسسة هي الحريّة. والحقّ أنّه يمكن العثور على مؤيّدات هذه التجريدات التاريخيّة في مسار تطوّر مفهوم السلطة في الفكر الغربيّ، حسب تقسيماته المعروفة في تاريخ الأفكار السياسيّة التي يمكن الاكتفاء منها تقيّدًا بتاريخ ظهور الدولة في التنظير الملاحق للواقع بالمراحل الثلاثة التالية:
- الفترة الممتدّة من الأصول الإغريقيّة للفكر الغربيّ إلى الانقلاب المسيحيّ (ق 5 قم – ق 5م).
- فترة الملاءمة التيولوجيّة المسيحيّة: الأغسطينيّة (نسبة إلى القدّيس أغسطين) والأكوينيّة (نسبة إلى القدّيس توما الأكويني) (ق 5 م – 15م).
- فترة مأسسة السلطة بين الملكيّة والقوميّة (ق 15 – ق 18).
من الواضح أنّ هذا التقسيم لا يستحضر فترات لاحقة من تاريخ تطوّر عمليّة مأسسة السلطة في الفكر الغربي، في اتّجاه أخرجه عن مساره التحرّري، ممّا قد يسهم في إضعاف مصادرة مركزيّة مفهوم الحريّة في هذا المسار، كما وقع ذلك فترة تطبيقات الإيديولوجيات الاشتراكيّة في التجربة البلشفيّة والنازيّة والفاشيّة، إلاّ أنّ أعمق احتجاج قد يصاغ في وجه هذه المصادرة، قد يأتي من جهة الفترة المسيحيّة لهذا المفهوم، وذلك تبعًا لغموض الصلة بين الرؤيتين الميثولوجيّة الإغريقيّة للكون ذات الطبيعة الفلسفيّة العقليّة، والرؤية المسيحيّة الدينيّة ذات الطبيعة العقديّة الاعتقادية أو الإيمانيّة التصديقيّة.
ولقوّة الاعتراض الممكنة التي يمثّلها الانتقال بين الفترتين، تتوقّف هذه المقالة عند الفترتين الأوليتين من تاريخ مفهوم السلطة؛ أي الفترتين اليونانيّة والمسيحيّة، لتكشف تمفصل مفهوم الحريّة مع علمنة مفهوم السلطة ومأسسته في تاريخه الغربيّ.
1- مفهوم السلطة بين التفسيرين الفلسفي والمسيحيّ للكون:
مراحل ثلاثة يمكن أن تسطّر خطّ التواصل التاريخي لسيرورة الحريّة عبر آليّة علمنة السلطنة في هذه الفترة، تمثّل فيها المرحلة الإغريقيّة مرحلة تأصيل للحريّة داخل تأصيل ثانٍ للسلطة العلمانيّة، فرغم ثانويّة (dualisme) الرؤية الإغريقيّة للعالم، فإنّها احتفظت بارتكازها الإنسانيّ عبر تكريس المعنى الفلسفي للميثولوجيا المفسّرة للعالم، هذا التكريس مارسه الفكر الإغريقي من خلال المصادرة الثنائيّة على قدرة العقل البشريّ على الاكتشاف النّظري للأنموذج العلوي الكسمولوجي للحياة الفاضلة، وعلى حريّة الفرد واستقلاله. وقد ترجم ذلك في مستوى تصوّر السلطة إلى اعتبارها تطويرًا لإرادة عقلانيّة، وعملاً داخليًّا على الذات. وسواء نظر إليها سياسيًّا في مستوى المدينة أو أخلاقيًا في مستوى الفرد، تبعًا للمقايسة اليونانيّة والتراكب (imbrication) بين الأخلاقي والسياسي أو بين عالم الفرد وعالم المدينة كما تشرحهما نظريّة العدالة الأفلاطونيّة، فإنّ علمنة السلطة هنا تجري عبر الإيمان بدور العقل الفرديّ الحرّ في تكوين السلطة أو إنتاجها، سياسيًّا وأخلاقيًّا، وذلك بالصورة نفسها التي تجري بها إزالة الشخصنة عنها عند اشتراط تحريرها من إرادة الحاكم، لما يشترط في ممثّله الأمثل؛ أي الفيلسوف، من قدرة قصوى على الهيمنة على الذات أو السلطة عليها.
ولا ينبغي خلط هذا التمفصل الأخلاقي بين الحريّة والسلطة بنظيره المنجز بوساطة جون جاك روسّو، ثمّ إيمانوال كانط مبتكر مقولة الإرادة الطيّبة؛ فثمّة فارق كبير بينهما بمقدار ما يفصل تعريف أرسطو للإنسان بالعقل، وتعريفه من قبل روسّو بالحريّة والإرادة والمساواة، لكنّ بذور العقلنة والتحرّريّة الأكيدة فيه تسمح بالموافقة على اعتبار أن أرسطو علمانيٌّ قبل زمان العلمنة، كما يحلو للكثيرين وصفه.
وستمد الرواقية هذه البذور الأولى لمأسسة السلطة وعلمنتها بمحورتها حول العقل والحريّة رغم اختزاليّتها اليونانيّة، من مؤسّسيها (زينون( ق 3 قم)) إلى آخر ممثّليها (الإمبراطور الروماني مارك أوريل (ق 2م)) بالقدرة على التأقلم مع التحويل المسيحيّ لرؤية العالم؛ فالرواقيّون لم يهتمّوا بالتدخّل في المصير بتوجيه معيّن للسلطة. إنّ المعنى الأخلاقي الإغريقي للسلطة سيطرة على النفس، وتحقيقًا للنيّة الأخلاقيّة للأفعال يستعاد معهم، تمامًا كما تستعاد مركزيّة العقل بوصفه أداة اكتشاف الشروط الأخلاقيّة للسلطة في النظام الطبيعيّ الإلهيّ، بالمعنى الفلسفي الإغريقي للإلهيّ. لكنّ التحرير الرواقيّ للأخلاق من الارتباط بالقاعدة، لم يقوَ على مواجهة المعياريّة الإلهيّة للأخلاق المسيحيّة. ثمّة تحوّل رئيسيّ هنا وقع مع المسيحيّة في معنى الإلهيّ، جرى بمقتضاه تعليق العقل البشريّ بسلطة متخارجة مع العالم خالقة له، تتولّى تحديد طريق الخلاص، بكامل شروطه النظريّة الأخلاقيّة والسياسيّة. ومع هذا، فإنّ ما صاحبه من تجريد للإنسان من قدرة للسيطرة على نفسه دون مساعدة إلهيّة قابلة في الوقت نفسه لتمكينه من الاحتفاظ بالسلطة، وجرى ذلك في المسيحيّة عبر خاصيّة الإله المسيحي المتجسّد والمتوجّه إلى الإنسان، وعبر تنسيبها للسلطة البشريّة لمّا عدّتها نتيجة للخطيئة الإنسانيّة الأولى، وهو ما جعلها تفصل بين سلطة الملوك وسلطة الرّهبان.
وهكذا فرغم إدخالها مفهوم السلطة الإلهيّة، فإنّ المسيحيّة واصلت المشروع الإغريقيّ لعلمنة السلطة ودفعت بعناصر مأسستها في التقليد التيولوجيّ المسيحيّ، وهي تعتبرها ضرورة أملتها الخطيئة الأولى للبشريّة.
2- مفهوم السلطة في التيولوجيا السياسيّة الغربيّة:
إنّ العمل المميّز للمسيحيّة هو تشريع الوجود الواقعيّ للسلطة من داخل عمليّة تأسيس ارتباطها اللاّهوتيّ، ولئن تضمّنت المسيحيّة في نسقها الدينيّ هذا الازدواج الواقعيّ اللاّهوتيّ، لا سيما في عقيدة التثليث التي تربط بين الإنسانيّ والإلهيّ على نحو فريد، فإنّ أحداث التاريخ المسيحيّ وجّهت اللاّهوت الغربيّ، بوعي أو دون وعي، نحو تدعيم الاستقلال الواقعيّ للسلطة السياسيّة، في الوقت الذي أراد فيه تكريس أولويّة السلطة الإلهيّة.
وقد جرى ذلك عبر تنظيرين رئيسين للسلطة، بدايتهما في كتاب "مدينة اللّه" للقديس أغسطين (ق5م) الذي كان التعبير الرئيس عن الموقف السلبيّ المسيحيّ من السلطة البشريّة، ودفع من قبل الأغسطينيّة (نسبة إلى التطويرات المنجزة على فكر القديس أغسطين) في اتجاه تجاهل تخطئتها الأغسطينيّة (نسبة إلى القدّيس أغسطين)، وتكريس الطاعة المطلقة للدولة.
وكان الإصلاح الغريغواري (نسبة إلى البابا غريغوريوس السابع ( ق 11م)) التنظير اللاّهوتي التالي لاستقلال السلطة الدولتيّة، وهو يعمل من المنظور المسيحيّ الأغسطينيّ نفسه على فرض أولويّة السلطة الإلهيّة عليها. ولقد مثّل هذا العمل الثنائيّ للأغسطينيّة ثم الإصلاح الغريغواري الفتحة غير المقصودة التي نفذت منها السلطة السياسيّة الزمنيّة لتأسيس شرعيّتها.
وستمثّل الأحداث الفكريّة التالية استكمالاً لهذا التأسيس، تداولت على إنجازه الكريستولوجيا المسيحيّة، ثمّ النظريّة القانونيّة للقرن الثاني عشر؛ فقد أمدّته بأبرز حججه في سياق تمهيدها، ثمّ تشييدها لنظريّة الحقّ الإلهيّ للملوك التي أنشئت على حجّة قياس السلطة الملكيّة على ملوكيّة المسيح. وسيختم هذا النسق العلماني غير الإرادي للسلطة الزمنيّة بقرار الإيمان من قلب التيولوجيا المسيحيّة نفسها باستقلالها، وبدور العقل الإنسانيّ في تأسيسها، القرار الذي مثّل القدّيس توما الأكوينيّ أبرز تعبيراته التاريخيّة، بصرف النظر عن التطويرات اللاّحقة في بداية العصور الحديثة بهذا النسق العلمانيّ للسلطة في الفكر السياسيّ الغربيّ، في ترافق مع انهيار الرباط التوحيديّ المسيحيّ، وصعود فكرة الدولة القوميّة مبدأ سيّدًا لتنظيم الوجود الاجتماعيّ.
يمكن القول إنّ المرحلتين الإغريقيّة والتيولوجيّة المسيحيّة من تاريخ مفهوم السلطة في الفكر السياسيّ الغربيّ المنتج للدولة، مثّلتا مرحلة تأسيسيّة لنسق علمنة السلطة في ارتباط بأفق الحريّة.
فمن اللّوغوس اليونانيّ مبدأ منظّمًا للعالم إلى اللّوغوس المسيحيّ سلطة كامنة فيه خالقة له، تغيّر التفكير الغربيّ في السلطة، تبعًا لتغيّر معنى الخلاص، باعتباره بؤرة الأسئلة الإنسانيّة، إلاّ أنّه احتفظ بأمر أساسيّ ربطه بالإنسان بعقله وحريّته، وزرع فيه بذور علمنة دائمة، إذ بقي التفكير في السلطة جزءًا من النظريّة الضروريّة للخلاص.
* أنس الطريقي باحث تونسي